المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

212 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} [البقرة: 284] قال فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بركوا على الركب. فقالوا: أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق. الصلاة والصيام والجهاد والصدقة. وقد أنزلت عليك هذه الآية. ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير. فلما اقترأها القوم ذلت بها ألسنتهم. فأنزل الله في إثرها {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} [البقرة: 285] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى. فأنزل الله عز وجل: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (قال: نعم) {ربنا ولا تحمل علينا

ص: 411

إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} (قال: نعم){ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} (قال: نعم){واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} (قال: نعم)[البقرة: 286].

213 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت هذه الآية {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} [البقرة: 284] قال، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخل قلوبهم من شيء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم "قولوا: سمعنا وأطعنا وسلمنا" قال، فألقى الله الإيمان في قلوبهم. فأنزل الله تعالى:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (قال: قد فعلت){ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} (قال: قد فعلت){واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا} (قال: قد فعلت)[البقرة: 286].

-[المعنى العام]-

لما نزل قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} امتلاكا حقيقيا وتصرفا كاملا، وامتلاك غيره امتلاك صوري مؤقت (وإن تبدوا) وتظهروا وتعلنوا (ما) يجول (في أنفسكم) ودواخلكم (أو تخفوه) وتضمروه (يحاسبكم به الله) الذي لا تخفى عليه خافية (فيغفر لمن يشاء) منكم بالفضل والرحمة (ويعذب من يشاء) بالحق والعدل (والله على كل شيء قدير) لا يحول دون غفرانه أو عقابه شيء.

لما نزلت هذه الآية عظم ذلك واشتد على الصحابة، إنها تنذر بالمحاسبة على ما في النفس، وعلى خطرات القلوب، وأنى لهم التحكم فيها؟ وكيف يستطيعون دفعها؟ لقد همهم الأمر وغمهم، وأزعجهم هذا الحكم وأقض مضاجعهم، وقالوا: لئن آخذنا الله بهذا لنهلكن، وذهب جماعة منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فسلموا، ثم جثوا وبركوا على الركب، وسكنت أعضاؤهم، وخشعت أبصارهم، وقالوا: هلكنا يا رسول الله، قال: وما ذاك؟ قالوا: كلفنا الله بما نستطيع من صلاة وصيام وجهاد وصدقة ففعلنا، لكن قد أنزلت عليك آية لا نطيقها، ولم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأسلوب، وخشي أن يفتح عليهم باب الرضا ببعض الأحكام وعدم الرضا بالبعض الآخر، فأغلق الباب بحزم، وقال: أتريدون أن تقولوا كما قالت اليهود والنصارى، حين قالوا بشأن تكاليفهم: سمعنا وعصينا؟ لا تقولوا شق علينا كذا، ولكن قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

فرجعوا يقرءون الآية ثم يقولون: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، وبعد فترة من الزمان، وبعد أن لانت ألسنتهم بالآية وانصاعت نفوسهم لها، واستسلموا لأمر ربهم فيها، نزل قوله تعالى تخفيفا عنهم:{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} قال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} فاستجاب الله لهم وقال: قد فعلت قالوا: {ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} قال الله: قد فعلت واستجبت. قالوا: {ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قال: قد فعلت واستجبت، وأكرم الله هذه الأمة بما لم يكرم به من قبلها، وثبت إيمان الصحابة رضوان الله عليهم، وأحسن إليهم، وأثنى عليهم بقوله {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله} رضي الله عنهم ورضوا عنه وشملنا بعفوه وكرمه إنه سميع مجيب.

ص: 412

-[المباحث العربية]-

(قال: فاشتد ذلك) أعاد لفظة "قال" لطول الكلام، فإن أصله: لما نزلت اشتد ذلك، فلما طال حسن إعادة لفظ " قال" وقد جاء مثله في القرآن الكريم، في قوله تعالى:{أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} [المؤمنون: 35] فأعاد "أنكم". والفاء في "فاشتد" عاطفة على محذوف، لأن جواب "لما" لا يلحقه الفاء، والتقدير: لما نزلت عقلنا معناها فاشتد ذلك.

(ثم بركوا على الركب) جلسة الخضوع والاستسلام والضراعة.

(أي رسول الله)"أي" بفتح فسكون حرف لنداء البعيد أو القريب أو المتوسط، على خلاف في ذلك.

(كلفنا من الأعمال ما نطيق) بضم النون من أطاق، و"ما" موصول مفعول ثان لكلفنا، وعائد الصلة مفعول "نطيق" محذوف، والجار والمجرور المتقدم متعلق بنطيق، والتقدير: كلفنا ما نطيقه من الأعمال.

(الصلاة والصيام والجهاد والصدقة) بدل من الموصول، أو بيان له، والتقدير: كلفنا الصلاة والصيام والجهاد والصدقة فقمنا بما كلفنا.

(أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين) الاستفهام إنكاري توبيخي، أي لا ينبغي ولا يصح أن تريدوا ذلك، والمراد من الكتابين التوراة والإنجيل.

(غفرانك ربنا) قال الفراء: "غفرانك" مصدر وقع في موضع أمر فنصب، والمعنى مغفرتك أي فاغفر لنا، والطلب للدعاء، و"ربنا" منادى بحذف حرف النداء.

(فلما اقترأها القوم) في القاموس: قرأ القرآن تلاه كاقترأه. اهـ.

ومن المعلوم أن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى. أي قرأها القوم بمشقة وصعوبة.

(ذلت بها ألسنتهم) أي هانت ولانت بها ألسنتهم.

(فأنزل الله في إثرها) بكسر الهمزة مع إسكان الثاء، وبفتح الهمزة والثاء لغتان. وضمير "إثرها" يعود إلى الآية التي اشتدت عليهم {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير}

(فلما فعلوا ذلك) أي استجابوا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم وقرءوا الآيتين.

{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} أي إلا طاقتها، وقيل: إلا دون طاقتها، والوسع الطاقة والجهد.

ص: 413

{ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} أي إن جهلنا وفعلنا الخطأ عن اجتهاد.

{ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا} "إصرا" ثقلا، وقيل: الإصر الأمر الغليظ الصعب، وقيل: شدة العمل وما غلظ على بني إسرائيل. وتفسيره بالعهد تفسير باللازم، لأن الوفاء بالعهد شديد، والمراد بالذين من قبلنا بنو إسرائيل، وقد حرم عليهم الطيبات بظلمهم، قيل: وكانوا إذا أذنبوا بالليل وجدوا ذلك مكتوبا على أبوابهم.

{ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} أي لا تثقلنا من العمل بما لا نطيق فتعذبنا.

{واعف عنا} أي عن ذنوبنا، تقول: عفوت عن ذنبه إذا تركته ولم تعاقبه.

{واغفر لنا} أي استر على ذنوبنا، ولا تفضحنا، والغفر: الستر.

{فانصرنا على القوم الكافرين} أي أظهرنا عليهم في الحجة والحرب وإظهار الدين.

(دخل قلوبهم منها شيء) ليس المراد من الشيء الشك والارتياب، وإنما المراد منه ما فسر به في الرواية الأولى، أي دخل قلوبهم شيء من الحرج والمشقة والاستعظام.

(لم يدخل قلوبهم من شيء) فاعل "يدخل" ضمير يعود على "شيء" الأولى، والتقدير: لم يدخل قلوبهم مثله من شيء قبل هذا الشيء، وهذا استعظام لما دخل في قلوبهم.

-[فقه الحديث]-

ظاهر قوله في الرواية الأولى "فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} " أن في الآيتين نسخا، وعليه أكثر المفسرين، لأن الراوي قد روى النسخ ونص عليه لفظا ومعنى، وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه، وبالتاريخ بأن يكون الناسخ متأخرا زمنا عن المنسوخ، وهما مجتمعان في هذه الآية، ومعنى هذا أن الآية الأولى أفادت مؤاخذة الله إياهم وتكليفهم بما لا يملك من الخواطر، وأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإيمان والسمع والطاعة، فلما فعلوا ذلك وألقى الله الإيمان في قلوبهم رفع الله الحرج عنهم ونسخ هذا التكليف، ورفع هذا الثابت المستقر.

وأنكر بعضهم النسخ في الآية من وجهين:

الأول: أن الآية خبر، والنسخ لا يدخل في الأخبار.

الثاني: أن النسخ يصار إليه إذا تعذر الجمع وبناء الكلام بناء صحيحا، ولم يمكن رد إحدى الروايتين إلى الأخرى، مع أن الجمع غير متعذر، إذ قوله تعالى:{وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} عموم يصح أن يشتمل على ما يملك من الخواطر وما لا يملك، فخصص هذا العموم بالآية الثانية، وبما يملك من الخواطر، ويكون معناها: إن تبدوا ما في أنفسكم مما هو في وسعكم وتحت كسبكم أو

ص: 414

تخفوه يحاسبكم به الله إلخ، ولكن لما كان اللفظ مما يمكن أن تدخل فيه الخواطر التي ليست في الوسع أشفق الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم فبين الله لهم ما أراد بالآية، وخصصها ونص على حكمه وأنه لا يكلف نفسا إلا وسعها، والخواطر ليست هي ولا دافعها في الوسع، بل هي أمر غالب، وليست مما يكتسب، فكان في هذا البيان فرجهم، وكشف كربهم، فتكون الآية الأولى محكمة مخصوصة.

ثم إنه يمكن أن تكون محكمة مخصوصة بيقين المسلمين ونفاق الكافرين. فكأنه قال: إن تبدوا ما في أنفسكم من يقين أو نفاق يحاسبكم به الله.

ثم إنه يمكن أن تكون محكمة وعلى عمومها، وأن الله يحاسب عباده على ما عملوا وعلى ما أضمروا فيغفر للمؤمنين، ويأخذ أهل الكفر، فقد روي عن ابن عباس، قال: لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: إني أخبركم بما أكننتم في أنفسكم، فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الشك والريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، فذلك قوله تعالى:{فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء} [البقرة: 284] وهو أيضا قوله: {ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225] فالمحاسبة وإن وقعت لكن لا تقع المؤاخذة.

ويقول هذا الفريق: إن المراد بقوله: "نسخها الله" أزال ما تضمنته من الشدة بالتخصيص أو بالبيان، وكثيرا ما يطلق المتقدمون عليهما لفظ النسخ.

وقد أجاب مدعو النسخ عن هذين الوجهين، فقالوا عن الأول:

إن الآية وإن كانت خبرا فإنه خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس، والتعبد بما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بأن يثبتوا عليه وأن يلتزموه وينتظروا لطف الله في الغفران، وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، فينسخ ذلك عنهم برفع الحرج.

وعن الثاني: أن قولهم إن النسخ يصار إليه إذا تعذر البناء كلام صحيح، لكنه فيما لم يرد فيه النص بالنسخ، فإن ورد وقفنا عنده، نعم اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي رضي الله عنه: نسخ كذا بكذا، هل يكون حجة يثبت بها النسخ أو لا يثبت؟ لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله، فلا يكون نسخا حتى ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وأخيرا قال الواحدي: والمحققون يختارون أن الآية محكمة غير منسوخة. والله أعلم.

هذا وقد أخذ بعضهم من الحديث جواز التكليف بما لا يطاق، محتجا باستعاذتهم منه، بقوله:{ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} ولا يستعيذون إلا بما يجوز التكليف به. ورد هذا القول بأن معنى ذلك ما لا نطيقه إلا بمشقة، أما قولهم: "كلفنا ما نطيق وقد أنزلت عليك آية لا نطيقها، فمرادهم أيضا كلفنا ما نطيق بيسر، وقد أنزلت عليك آية لا نطيقها إلا بمشقة. فلا حجة فيه على جواز التكليف بما لا يطاق.

[خاتمة] قال أبو إسحاق الزجاج: هذا الدعاء الذي في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخر سورة البقرة أخبر الله تعالى به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وجعله

ص: 415

في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ ويدعي به كثيرا. اهـ.

وقد روى مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" قيل: كفتاه من قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه المكروه فيها. والله أعلم.

(ملحوظة) لشرح هذا الحديث صلة وثيقة بالحديث الآتي، فليراجع.

ص: 416