المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

180 -

عن أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار. قال أبو ذر: خابوا وخسروا. من هم يا رسول الله؟ قال "المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب".

181 -

عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة: المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه. والمنفق سلعته بالحلف الفاجر. والمسبل إزاره".

182 -

عن شعبة قال سمعت سليمان بهذا الإسناد وقال "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم".

-[المعنى العام]-

من قبيل المعاملة بنقيض القصد، وجعل العقوبة من جنس العمل، يحدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جزاء ثلاثة من العاصين، ويعرض وعيدهم عرضا يثير في نفوس المستمعين المؤمنين مشاعر الغضب عليهم واللهفة إلى معرفة جريرتهم، فيقول صلى الله عليه وسلم: ثلاثة أصناف من المذنبين الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله يغضب الله عليهم يوم القيامة، لا يباليهم باله، يعرض عنهم ولا يكلمهم، ولا يرحمهم ولا يطهرهم من ذنوبهم، ولا يغفر لهم سيئاتهم، ويعذبهم على كبيرتهم عذابا أليما. وينصت الصحابة ينتظرون، من هم هؤلاء الأصناف؟ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بدلا من أن يجيب لهفتهم يعيد العبارة مرة ثانية: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم. ويتطلع الصحابة إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو مغضب، وكلهم آذان صاغية، وقلوب واعية في انتظار معرفة هؤلاء الفاسقين، وكلهم إعظام لذنبهم، وإكبار لجرمهم، ومرة ثالثة يكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم العبارة: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم.

ص: 344

ويشتد شوق الصحابة إلى معرفتهم، ولا يستطيعون بعد ذلك صبرا، فيقول أبو ذر رضي الله عنه: خابوا خيبة كبرى وخسروا خسرانا مبينا، من هؤلاء يا رسول الله؟

ويجيبه صلى الله عليه وسلم: هؤلاء هم: المسبل إزاره أو ثوبه أو رداءه إعجابا بنفسه وكبرا على غيره، وخيلاء بين الناس، يكسر قلب الفقراء ويتعالى على من حوله من العباد فيذله الله يوم القيامة، ويهينه ويحقره جزاء وفاقا.

والمنان كثير المن، الذي لا يعطي عطية إلا ويمن بها على من أعطاه فيبطل ثواب عطيته، ولا يعطيه ربه يوم القيامة من فضله ورحمته.

والمستهتر باسم ربه عز وجل، يحلف به ابتغاء عرض الحياة الدنيا، يشتري بعهد الله ويمينه ثمنا قليلا.

{أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} [آل عمران: 77].

-[المباحث العربية]-

(ثلاثة) مبتدأ، سوغ الابتداء به وهو نكرة ملاحظة الإضافة أو الوصف، أي ثلاثة أشخاص، أو ثلاثة من الناس.

(لا يكلمهم الله يوم القيامة) أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات وبإظهار الرضى، بل بكلام أهل السخط والغضب، كقوله:{اخسئوا فيها ولا تكلمون} [المؤمنون: 108] وقوله لمانع فضل الماء: "اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك" وقريب من هذا قول جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم، وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية، وقيل: عدم تكليمه لهم كناية عن الإعراض عنهم.

والتقيد بيوم القيامة لأنه يوم المجازاة، وبه يحصل التهديد والوعيد.

(ولا ينظر إليهم) النظر إذا أضيف إلى المخلوق صح أن يكون كناية، لأن من اعتد بالشخص التفت إليه، فنقول: نظرة يا سيدي، ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن هناك نظر، ولما كان النظر على الحقيقة هو تقليب الحدقة، والله منزه عن ذلك، كان إسناد النظر إليه تعالى مجازا عن الرحمة والإحسان، لأن من نظر إلى متواضع رحمه، ومن نظر إلى متكبر مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر، فالمعنى: لا يرحمهم، بإطلاق السبب وإرادة المسبب.

وقيل عدم نظره تعالى كناية عن الإعراض عنهم، فيكون تأكيدا للإعراض عن طريق نفي تكليمهم.

(ولا يزكيهم) أي لا يطهرهم من ذنوبهم، فلا يغفر لهم، وقال الزجاج: لا يثني عليهم.

ص: 345

(ولهم عذاب أليم) مؤلم فعيل بمعنى اسم الفاعل، قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعيي الإنسان ويشق عليه، قال: وأصل العذاب في كلام العرب من العذب، وهو المنع، وسمي الماء عذبا لأنه يمنع العطش، فسمي العذاب عذابا لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه، ويمنع غيره من مثل فعله.

وفائدة ذكر هذه الجملة بعد ما قبلها: التخويف بالعذاب البدني بعد التهديد بالعذاب الروحي.

(فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرار)"فقرأها" أي قرأ هذه الجملة وأعادها ثلاث مرات تنبيها على اهتمامه، وإدخالا للرهبة في نفوس المخاطبين ليحذرهم.

(قال أبو ذر: خابوا وخسروا) جملتان خبريتان لفظا ومعنى، أو خبريتان لفظا دعائيتان معنى، والأول أقرب.

(المسبل) المفعول محذوف في هذه الرواية، مذكور في الرواية الثانية "المسبل إزاره" والإزار: هو الثوب الذي يربط في الوسط ويغطي نصف الجسم الأسفل، وذكر الإزار على سبيل المثال: فغيره من القميص والثوب والجبة وغيرها لها حكمه، وإنما خصه بالذكر لأنه كان غالب لباسهم، وإسبال الإزار: إرخاؤه وتطويله وجره، وسيأتي شرحه في فقه الحديث.

(والمنان) المن: تقرير النعمة على من أسديت إليه، والمنان: صيغة مبالغة، ولذا فسره في الرواية الثانية بأنه "الذي لا يعطي شيئا إلا منه".

(والمنفق سلعته بالحلف الكاذب) السلعة والمتاع ما يتجر به، ويقال: نفقت السلعة نفاقا راجت، وأنفق السلعة روجها.

والحلف الكاذب هو المراد من الحلف الفاجر الوارد في الرواية الثانية.

-[فقه الحديث]-

إسناد الحكم إلى هؤلاء الثلاثة لا يمنع من إسناده إلى غيرهم، كما سيأتي في الحديث التالي.

وترتيب هؤلاء الثلاثة ليس على سبيل التدرج التصاعدي أو التنازلي من ناحية الإثم، فإنهم ذكروا في الرواية الثانية بترتيب يغاير ترتيبهم في الرواية الأولى.

أما درجة الإثم فكما سبق تتبع الآثار والأخطار المترتبة على كل معصية. وإليك الكلام عن كل واحد منهم:

فالمسبل إزاره المرخي له إما أن يكون إسباله لمجرد العرف والعادة، وإما أن يكون لستر عيب، وإما أن يكون لغير قصد، وإما أن يكون بدافع الكبر والخيلاء.

ص: 346

ولا شك أن المقصود في الحديث هو الأخير، يدل على ذلك رواية البخاري "لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطرا" وروايته "لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء" وروايته "من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" فقال أبو بكر: يا رسول الله. إن أحد شقي إزاري يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لست ممن يصنعه خيلاء". (وكان أبو بكر رجلا نحيفا لا يكاد يمسك إزاره بوسطه).

ففي هذه الأحاديث دلالة على أن التحريم لإسبال الثوب قاصر على ما إذا كان على وجه الكبر والخيلاء، وأما الإسبال لغير خيلاء فظاهر الروايتين اللتين نحن بصدد شرحهما أنه حرام أيضا، لكن التقييد فيما ذكرت من الأحاديث الصحيحة دل على أن الإطلاق في الزجر الوارد في ذم الإسبال محمول على المقيد، فلا يحرم الجر والإسبال إذا سلم من الخيلاء.

وقد نص الشافعي على الفرق بين الجر للخيلاء ولغير الخيلاء، وقال: والمستحب أن يكون الإزار إلى نصف الساق، والجائز بلا كراهة ما تحت نصف الساق إلى الكعبين، وما نزل عن الكعبين ممنوع منع تحريم إن كان للخيلاء، وإلا فمنع تنزيه، لأن الأحاديث المطلقة الواردة في الزجر عن الإسبال يجب تقييدها بالإسبال للخيلاء. اهـ.

والتحقيق أن جر الثوب لغير الخيلاء مكروه، قال بعضهم: لما فيه من الإسراف، وقال آخرون: لما فيه من التشبه بالنساء (أي المحافظات على تعليم الشرع في الصدر الأول) وقال آخرون: لتعرضه للنجاسة. وقال آخرون: لما فيه من مظنة الخيلاء.

ونقول: إنه مكروه لمجموع هذه العلل.

ولا يخفى أن جر الثوب خيلاء ما هو إلا مظهر من مظاهر الكبر المذموم الذي سبق شرحه قبل ثمانية أحاديث، فليراجع هناك، فإنه لا يخلو من فوائد وزيادات، والله أعلم.

وأما المن ففيه يقول الله تعالى {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [البقرة: 262] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لَاّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 264].

فالمن ولو لم يتكرر مبطل للصدقة، محبط لأجر العطية، لما فيه من إيذاء المعطى له وإذلاله، وإشعاره بفضل غيره عليه، وضعته بالنسبة لمن أعطاه، مع أن المنة كلها لله والمعطي هو الله، ولو شاء لجعل المعطي آخذا، والآخذ معطيا.

أما إذا تكرر المن، وكان شأن المعطي كلما أعطى شيئا من به فهو حرام، ومن الكبائر لورود الوعيد الشديد عليه، وكون المنان أحد الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.

ص: 347

قال القرطبي: المن غالبا يقع من البخيل والمعجب، فالبخيل تعظم في نفسه العطية وإن كانت حقيرة في نفسها، والمعجب يحمله العجب على النظر لنفسه بعين العظمة وأنه منعم بماله على المعطى وإن كان الآخذ أفضل منه في نفس الأمر، وموجب ذلك كله الجهل ونسيان نعمة الله فيما أنعم به عليه، ولو علم مصيره لعلم أن المنة للآخذ لما له من الفوائد. اهـ.

نعم لو تدبر المنان ما من بعطيته، إذ لولا الآخذ ما تطهر ماله، ولما دفع الله عنه الضر بصدقته، ولما حصل على الثواب الذي يحصل عليه بالعطاء.

وقد روى الطبراني من حديث ابن عمر مرفوعا "ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا".

نعم، لو تدبر المنان ما أحس بالعجب والعظمة، وأنه أفضل من الآخذ، فقد قال ابن حبان: اليد المتصدقة أفضل من السائلة، لا الآخذة بغير سؤال، إذ محال أن تكون اليد التي أبيح لها استعمال فعل (أي الأخذ) أن تكون باستعماله دون من فرض عليه إتيان شيء فأتى به، أو تقرب إلى ربه متنفلا، فربما كان الآخذ لما أبيح له أفضل وأورع من الذي يعطي. اهـ.

وأما المنفق سلعته بالحلف الكاذب فقد ارتكب أربع كبائر: الحلف الكاذب، والتغرير بالمسلم، وأخذ المال بغير حق، والاستخفاف بحق الله. وفيه يقول تعالى:{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77].

وقد أوضحت الروايات بعض صور إنفاق السلعة بالحلف الكاذب فجاء في رواية البخاري "ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر، فحلف بالله لقد أعطى بها كذا وكذا فصدقه فأخذها، ولم يعط بها" وفي رواية "ورجل ساوم رجلا سلعة بعد العصر فقال: والله الذي لا إله غيره لقد أعطيت بها" وفي رواية "فحلف له بالله لأخذها (أي لقد أخذها) بكذا، فالبائع سلعته بالحلف الكاذب قد يحلف أنه اشتراها بكذا، وهو على غير ذلك، وقد يحلف أنه عرض عليه ثمنا لها كذا وكذا، وهو على غير ذلك.

والمشتري المروج للسلعة المشتراة بالحلف الكاذب قد يحلف أنه اشترى مثلها بكذا وهو على غير ذلك، وقد يحلف أنه عرض عليه مثلها بكذا وهو على غير ذلك. فكل هذه الصور داخلة في قوله صلى الله عليه وسلم:"والمنفق سلعته بالحلف الكاذب" وهناك من الأحاديث ما يعم لفظه هذه الصور وغيرها، ففي البخاري "من حلف على يمين صبر (هي التي تلزم ويجبر عليها حالفها) يقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" وفي رواية "وهو عنه معرض" وفي رواية "إلا أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة".

فمروج سلعته بالبيع أو الشراء بغير حق مقتطع مال المسلم بغير حق كالمغتصب والسارق، وإن اختلفت طرق الحصول على هذا المال الحرام.

وتخصيص "بعد العصر" في بعض الروايات للتغليظ والتنبيه على زيادة الجرم فهو وقت فضيلة

ص: 348

وشرف، تعظم فيه الجريمة فتعظم عليه العقوبة، لكن هذا الوعيد ليس قاصرا على من حلف بعد العصر، للروايات الكثيرة المطلقة الواردة فيه، كالروايتين اللتين نحن بصدد شرحهما، ولا يقال: إن المطلق هو الذي يرد إلى المقيد لأنه كلما ثبت الوعيد على إنفاقها بالحلف الكاذب مطلقا ثبت على إنفاقها بعد العصر بدون عكس.

وإذا كان الحلف صدقا بغير ضرورة منهيا عنه بقوله تعالى: {ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم} [البقرة: 224] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بررة" كان الحلف كذبا للتغرير بالمسلم من أشد المحرمات ومستحقا فاعله للوعيد الشديد.

-[ويؤخذ من الحديث]-

1 -

تحريم جر الثوب للرجال، أما النساء فقد استثنين من الوعيد حين فهمت أم سلمة أن الزجر عن الإسبال عام، فقالت: يا رسول الله فكيف تصنع النساء بذيولهن؟ فقال: يرخين شبرا. فقالت: إذا تنكشف أقدامهن. قال فيرخينه ذراعا، لا يزدن عليه.

2 -

الوعيد على المن والإيذاء على العطية.

3 -

التحذير من الحلف لترويج السلعة وتزويرها في نظر الآخرين.

والله أعلم.

ص: 349