المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص) - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

205 -

عن ابن شماسة المهري، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت. فبكى طويلا وحول وجهه إلى الجدار. فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. إني كنت على أطباق ثلاث. لقد رأيتني وما أحد أشد بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني. ولا أحب إلي أن أكون قد استمكنت منه فقتلته. فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار. فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك. فبسط يمينه. قال فقبضت يدي. قال "ما لك يا عمرو؟ " قال قلت: أردت أن أشترط. قال "تشترط بماذا؟ " قلت: أن يغفر لي. قال "أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله؟ " وما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه. وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالا له. ولو سئلت أن أصفه ما أطقت. لأني لم أكن أملأ عيني منه. ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة. ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها. فإذا أنا مت، فلا تصحبني نائحة ولا نار. فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شنا ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور. ويقسم لحمها. حتى أستأنس بكم. وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي.

-[المعنى العام]-

كان عمرو بن العاص داهية العرب رأيا وعقلا ولسانا، وكان عمر بن الخطاب إذا كلم رجلا فلم يفهم كلامه قال: سبحان من خلقك وخلق عمرو بن العاص. أسلم سنة ثمان قبل فتح مكة، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على سرية نحو الشام، ثم أرسل له مددا من مائتي فارس فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فكان أمير هذه الحملة التي سميت بغزوة ذات السلاسل.

ولي مصر عشر سنين وثلاثة أشهر، أربعة من قبل عمر، وأربعة من قبل عثمان، وسنتين وثلاثة

ص: 396

أشهر من قبل معاوية، واشترك مع معاوية في حرب علي، وهو صاحب فكرة رفع المصاحف في موقعة صفين وموقفه مشهور في التحكيم.

في سنة ثلاث وأربعين من الهجرة، وهو ابن تسعين سنة، حضرته الوفاة، فأحصى ماله، فوجده: من الذهب (325000) ثلاثمائة وخمسة وعشرين ألف دينار، ومن الفضة (2000000) ألفي ألف درهم، (أي مليوني درهم) وضيعة كبيرة قيمتها (10000000) عشرة آلاف ألف درهم (أي عشرة ملايين درهم) فنظر إلى هذا المال الوفير ثم قال: ليتك بعرا، وليتني مت في غزوة ذات السلاسل، لقد دخلت في أمور ما أدري ما حجتي فيها عند الله تعالى، أصلحت لمعاوية دنياه، وأفسدت آخرتي، عمي عني رشدي حتى حضر أجلي. ودخل عليه في هذه الحال بعض أصحابه، وبجواره ابنه، فبكى طويلا، وحول وجهه إلى الجدار يخفي ما به من أسى وحسرة، وما يذرف من بكاء، فجعل ابنه عبد الله يخفف عنه، ويربت بيديه على كتفيه، ويقول: لا تحزن يا أبتاه. فإنك قادم على رب غفور رحيم، يقبل الحسنات ويعفو عن السيئات. أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنك من الصالحين؟ أما قال فيك رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص" وقال فيك: "عمرو بن العاص من صالحي قريش"؟ فكفكف عمرو دموعه عن عينيه، وأقبل بوجهه على زائريه، ثم قال: لست أعد للقاء ربي من أعمال صالحات أفضل من شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

وقد مررت في حياتي بثلاث مراحل، مرحلة كلها شر، ومرحلة كلها خير، ومرحلة خليطة لا أدري غلبة خيرها لشرها أو شرها لخيرها.

أما المرحلة الأولى: فقد كانت أيام كفري، وكنت أشد الناس بغضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت أتمنى حينذاك أن أتمكن من قتله فأقتله، فلو كنت مت على هذه الحال لكنت من أهل النار.

وأما المرحلة الثانية: فمرحلة إسلامي الصادق، وعملي الصالح وصحبتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ابتدأت يوم أن ألقى الله الإيمان في قلبي، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منشرحا مسرورا فقلت: يا رسول الله ابسط يدك أتلقاها بيدي لأبايعك على الإسلام، فلما مد يده صلى الله عليه وسلم قبضت يدي، خوفا أن أبايع بشيء لا أستطيعه، فقال صلى الله عليه وسلم: ما لك يا عمرو؟ ولماذا قبضت يدك؟ قال: فقلت: إني أردت أن أشترط قبل البيعة. قال: ما هو الشرط الذي تريده؟ قلت: أن يغفر لي ما قدمت من ذنوب قبل الإسلام. قال صلى الله عليه وسلم: اعلم يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله من المعاصي، وأن الهجرة من المصر فرارا بالدين تهدم ما قبلها من المعاصي، وأن الحج المبرور يهدم ما قبله من المعاصي، قال: فبايعت وأسلمت، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إلى قلبي، وأجلهم وأعظم في عيني، وأصبحت لا أستطيع أن أرفع عيني فيه إجلالا له وتقديسا، بل لو سئلت أن أصفه ما استطعت، لأني لم أكن أملأ عيني منه، رهبة منه واحتراما له وإعظاما، ولو أنني مت على هذه الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة.

وأما المرحلة الثالثة: فكانت مرحلة انشغالي بالحياة الدنيا، وبسياسة الحكم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، توليت فيها أشياء، وعملت فيها أعمالا، لا أدري ما حالي فيها؟ ولا بماذا أجيب ربي عليها حين

ص: 397

يسألني؟ إنني أطمع في عفو الله، وسندي الوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ثم أوصيكم -إذا أنا مت- أن تمنعوا النائحة من مصاحبتي، امتثالا لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ولا تصحب جنازتي نار- كما كانت عادة أهل الجاهلية - رجاء ألا أكون من أهل النار، فإذا دفنتموني فصبوا شيئا من التراب علي صبا، فليس جنبي الأيمن أحق بالتراب من جنبي الأيسر، ثم انتظروا حول قبري دقائق ولحظات، قدر ما ينحر بعير ويقسم لحمه، لأستأنس بكم، وأستجمع نفسي لما أجيب الملكين السائلين، رسولي ربي إلى قبري.

ثم خرج أصحابه الذين جاءوا لعيادته، وبقي هو وابنه، فقال لابنه: ائتني بجامعة (أي برباط من قماش) فشد بها يدي إلى عنقي، ففعل، ثم رفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إنك أمرتني فعصيت، ونهيتني فتجاوزت، وأن محمدا عبدك ورسولك، ثم وضع إصبعه في فمه كالمفكر المتندم حتى مات، رحمه الله وغفر له، وزاد في إحسانه، وتجاوز عن سيئاته، فإنه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

-[المباحث العربية]-

(وهو في سياقة الموت) بكسر السين، أي حال حضور الموت، وفي القاموس: ساق المريض شرع في نزع الروح.

(أما بشرك)"أما" بتخفيف فتحة الميم، قيل: هي اسم بمعنى حقا، وقيل: كلمتان، الهمزة للاستفهام، و"ما" اسم في موضع النصب على الظرفية بمعنى حقا، كذا في المغني.

فالمعنى: حقا بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أحقا بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ والاستفهام للتقرير.

(فأقبل بوجهه) أي أقبل على ابنه وعلى الحاضرين بوجهه بعد أن كان موليا نحو الحائط.

(إن أفضل ما نعد) بضم النون وكسر العين، أي أفضل عمل ندخره للقاء الله.

(كنت على أطباق ثلاث) أي على حالات ثلاث، وأنت ثلاثا على إرادة معنى الأطباق.

(وما أحد أشد بغضا)"ما" نافية تعمل عمل "ليس" و"أحد" اسمها و"أشد" منصوب خبرها، و"بغضا" تمييز، والجملة في محل النصب على الحال، والرؤية بصرية، والمعنى: لقد رأيت نفسي في هذه الحالة.

(فلأبايعنك) اللام إما لام الطلب، والفعل مجزوم، وإما لام التعليل والفعل منصوب، فإن كانت للطلب فإسكانها بعد الفاء والواو أكثر من تحريكها، وإن كانت للتعليل فهي مكسورة. ولكن وقوع الفاء قبلها يقوي كونها للطلب.

(تشترط بماذا) قال النووي: هكذا ضبطناه، بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة داخلة على

ص: 398

المفعول به للتأكيد، ويجوز أن تكون غير زائدة مع تضمين "تشترط" معنى فعل يتعدى بالباء نحو تحتاط، أي تحتاط بماذا؟ .

(الإسلام يهدم ما كان قبله) الهدم في الأصل إسقاط البناء وإزالته فالهدم هنا استعارة لعدم المؤاخذة، والمعنى: الإسلام يسقط المؤاخذة على ما كان قبله من ذنوب.

(وما كنت أطيق أن أملأ عيني)"أطيق" بضم الهمزة من أطاق و"عيني" بتشديد الياء على التثنية.

(ثم ولينا أشياء) بفتح الواو، وكسر اللام مع تخفيفها، من ولي الأمر إذا قام به، والمراد من الأشياء ولايته المتقدمة وما حصل له فيها، وما سبقها من أمور السياسة والدنيا.

(فلا تصحبني نائحة ولا نار) كانت النساء النائحات الصائحات يتبعن الجنائز، فنهى الإسلام عن ذلك، وليس مقصود عمرو رضي الله عنه النهي عن مصاحبتهن الجنازة فحسب، بل النهي عن النياحة عليه مطلقا. وكان أهل الجاهلية يحملون النار والمشاعل مع الجنازة.

(فشنوا علي التراب شنا) قال النووي: ضبطناه بالسين المهملة وبالشين المعجمة والشن والسن: الصب، وقيل: السن الصب في سهولة، والشن التفريق.

(قدر ما تنحر جزور) بفتح الجيم، وهي من الإبل وفي القاموس: الجزور البعير حان له أن يذبح.

-[فقه الحديث]-

-[يؤخذ من الحديث]-

1 -

ترجية المحتضر بذكر أحاديث الرجاء وصالح عمله، ليموت وقد غلب عليه الرجاء، وقد استحبه وفعله كثير ممن يقتدى بهم، قال المعتمر لابنه: يا بني، حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا أحسن الظن به. وروي مثل ذلك عن ابن حنبل، ثم إن الرجاء يجلب محبة الله تعالى التي هي غاية السعادة، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وفي الحديث القدسي "أنا عند حسن ظن عبدي بي".

2 -

إن الإسلام يهدم ما كان قبله من المعاصي، وفيه تفصيل: أما الحربي إذا أسلم لم يؤاخذ بما كان قبل الإسلام من حق الله تعالى أو حق البشر، فلا يقتص منه، ولا يضمن مالا أهلكه لمسلم قبل إسلامه، ولو حلف فأسلم فلا حنث عليه، ولو زنى ثم أسلم سقط عنه الحد، واختلفوا فيمن أسلم وتحت يده مال استولى عليه حال كفره، فقال مالك: يبقى له، لهذا الحديث، ولأن له شبهة الملك، لقوله تعالى:{فلا تعجبك أموالهم} [التوبة: 55] وقال الشافعي: يرد ما تحت يده من مال إلى صاحبه، لأنه كالغاصب، واتفقوا على نزع ما أسلم عليه من أسرى المسلمين، لأن الحر لا يملك.

ص: 399

وأما الذمي فلا يسقط إسلامه ما وجب عليه من دم أو مال أو غيرهما، لأن حكم الإسلام جار عليه.

3 -

أن الهجرة والحج يهدمان ما قبلهما، لكنه قيل: إنهما يهدمان الصغائر دون الكبائر، والأظهر أنهما إن خلصا وقبلا هدما الكبائر، وإلا لم يكن لذكرهما فائدة، فهدم الصغائر ليس مقصورا عليهما، بل يحصل بالوضوء وبالصلاة وباجتناب الكبائر.

4 -

ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم من توقير الرسول صلى الله عليه وسلم وإجلاله وحبه.

5 -

امتثالهم للنهي عن النائحة، ووصيتهم بمنعها قبل موتهم، وقد سبق قريبا حكم النائحة وأن النياحة حرام.

6 -

النهي عن مصاحبة النار للجنازة، وحكمها الكراهة، وعلل بخوف التشاؤم من المصير إلى النار، وقيل: لمخالفة أهل الجاهلية الذين كانوا يفعلونه تغاليا.

7 -

استحباب صب التراب في القبر، وهل ينثر التراب فوق الكفن؟ أو فوق اللحد؟ قيل وقيل، وقال بعضهم: لا يؤخذ من الحديث أن شن التراب سنة، إذ لم يرد فيه إلا وصية عمرو هذه، وغايتها أنها مذهب صحابي.

8 -

يؤخذ من قوله "ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ويقسم لحمها" استحباب المكث عند القبر بعد الدفن نحو ما ذكر لما ذكر.

9 -

وأنه لا يقعد على القبر بخلاف ما يعمل في بعض البلاد.

10 -

استدل به بعضهم على جواز قسمة اللحم المشترك ونحوه من الأشياء الرطبة تحريا من غير وزن ولا كيل.

11 -

ويؤخذ من قوله "حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي" أن الميت يحيا في القبر.

12 -

ويسمع ويستأنس بمن حول القبر.

13 -

وأخذ بعضهم منه مشروعية القراءة عند القبر، لأنه إذا استأنس بهم فبالقرآن أولى.

14 -

وفيه حجة لفتنة القبر وسؤال الملكين فيه، وهو مذهب أهل الحق، وإنما كان طلب عمرو رضي الله عنه حجة في ذلك لأنه لا يقوله إلا عن توقيف.

والله أعلم.

ص: 400

تابع باب الإسلام يهدم ما قبله

206 -

عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن ناسا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا. وزنوا فأكثروا. ثم أتوا محمدا صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إن الذي تقول وتدعو لحسن. ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة! فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} [الفرقان: 68] ونزل: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} [الزمر: 53].

-[المعنى العام]-

حكمة جليلة وحكم رحيم، حكمة بالغة وتشريع سمح كريم يتجسم في أن الإسلام يجب ما قبله، ويرفع المؤاخذة عن معاصي الجاهلية لمن أسلم، لقد تجمع أناس من مشركي مكة، وقالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان، وقتل النفس التي حرم الله لم يغفر له، فكيف نسلم ونهاجر وقد عبدنا مع الله إلها آخر؟ وقتلنا النفس التي حرم الله؟ ثم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إن الذي تقوله وتدعو إليه لحسن، ولو أن عندك لما عملنا في جاهليتنا كفارة لأسلمنا، فنزل قوله تعالى:{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له} [الزمر: 54، 53]. ونزل قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما} [الفرقان: 68 - 70] فاطمأنوا وآمنوا، وآمن مثلهم خلق كثير.

نعم، حكمة بالغة، لو أن الإسلام أوجب مؤاخذتهم لما دخلوا في الدين، لو أنهم أيسوا من رحمة الله، وقنطوا من قبولهم ومسامحتهم لبقوا على كفرهم وانخرطوا في معاصيهم وطغيانهم، لو أن "وحشيا" قاتل حمزة لم يطمئن إلى العفو ما أسلم، ولما حسن إسلامه، ولما قتل مسيلمة، بل ربما كان عونا لمسيلمة على هدم الإسلام، تماما كالرجل الذي قتل تسعة وتسعين ثم سأل راهبا: هل لي من توبة؟ فلما قيل له: لا توبة لك قتل الراهب فأكمل به المائة، وما دفعه إلى ذلك إلا يأسه وعدم الرجاء في المصير، ألا أن باب السماء مفتوح لكل من عصى، وإن الله يمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويمد يده بالليل، ليتوب مسيء النهار، و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87].

ص: 401

-[المباحث العربية]-

(قتلوا فأكثروا) المفعول محذوف أي قتلوا أنفسا فأكثروا القتل.

(إن الذي تقول وتدعو لحسن) مفعول "تقول" ومعمول "تدعو" محذوفان، وهما عائد الصلة، والتقدير: إن الذي تقوله وتدعو الناس إليه لحسن.

(ولو تخبرنا أن لما عملنا كفارة) جواب "لو" محذوف، تقديره: لأسلمنا أو "لو" للتمني أي: نتمنى أن تخبرنا أن لما عملنا كفارة.

{يلق أثاما} أي عقوبة، وقيل: نكالا، وقيل جزاء إثمه، وقيل: هو واد في جهنم.

-[فقه الحديث]-

ذكرنا في فقه الحديث السابق حكم الكافر الحربي إذا أسلم، وكذا حكم الذمي، وبعض أحكام أخرى، ونزيد هنا أن العلماء اختلفوا في النصراني يزني ثم يسلم، وقد شهدت عليه بينة من المسلمين، فحكي عن الشافعي أنه لا حد عليه ولا تغريب، لقول الله تعالى:{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} [الأنفال: 38].

وقال أبو ثور: إذا أقر وهو مسلم أنه زنى وهو كافر أقيم عليه الحد.

أما المرتد إذا أسلم، وقد فاتته صلوات، وأصاب جنايات، وأتلف أموالا، فقيل حكمه حكم الكافر الأصلي إذا أسلم، لا يؤاخذ بشيء مما أحدثه في حال ارتداده.

وقال الشافعي: يلزمه كل حق لله وللآدمي، بدليل أن حقوق الآدميين تلزمه، فوجب أن تلزمه حقوق الله تعالى.

وقال أبو حنيفة: ما كان لله يسقط، وما كان للآدمي لا يسقط.

قال ابن العربي: وهو قول علمائنا، لأن الله تعالى مستغن عن حقه والآدمي مفتقر إليه. ألا ترى أن حقوق الله عز وجل لا تجب على الصبي، وتلزمه حقوق الآدميين؟

هذا ما يخص الكافر إذا أسلم، أما المؤمن إذا عصى فقد استدل بعضهم بعموم الآيتين الواردتين في الحديث على غفران جميع الذنوب صغيرها وكبيرها. سواء تعلقت بحق الآدميين أو لا، والمشهور عند أهل السنة أن الذنوب كلها تغفر بالتوبة، وأنها تغفر لمن شاء الله ولو مات من غير توبة، لكن حقوق الآدميين إذا تاب صاحبها من العود إلى شيء من ذلك تنفعه التوبة من العود، وأما بخصوص ما وقع منه فلا بد له من رده إلى صاحبه أو محاللته منه. نعم في سعة فضل الله ما يمكن أن يعوض

ص: 402

صاحب الحق عن حقه، ولا يعذب العاصي بذلك، ويرشد إليه عموم قوله تعالى:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48].

وشذ ابن عباس عن قول الجمهور، فقال: إن المؤمن إذا قتل مؤمنا متعمدا لا توبة له.

هذا هو المشور عن ابن عباس، فقد روى البخاري عن سعيد بن جبير قال: سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قوله تعالى: {فجزاؤه جهنم} [النساء: 93] قال لا توبة له، وعن قوله جل شأنه:{والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 68] قال: كانت هذه في الجاهلية.

وروى أحمد والطبري والنسائي وابن ماجه عن سالم بن أبي الجعد قال: كنت عند ابن عباس بعد ما كف بصره، فأتاه رجل، فقال: ما ترى في رجل قتل مؤمنا متعمدا قال: جزاؤه جهنم خالدا فيها، وساق الآية إلى "عظيما" قال: لقد أنزلت في آخر ما نزل، وما نسخها شيء حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمل عملا صالحا ثم اهتدى؟ قال: وأنى له التوبة والهدى؟

قال الحافظ ابن حجر: وقد حمل جمهور السلف وجميع أهل السنة ما ورد من أحاديث تخليد القاتل في النار، وعدم قبول توبته، حملوه على التغليظ، وصححوا توبة القاتل كغيره وقالوا: معنى قوله: {فجزاؤه جهنم} أي إن شاء الله أن يجازيه، تمسكا بقوله تعالى في سورة النساء:{إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ومن الحجة في ذلك حديث الإسرائيلي الذي قتل تسعة وتسعين ثم أتى تمام المائة، فقال له: لا توبة لك فقتله، فأكمل به مائة، ثم جاء آخر، فقال: ومن يحول بينك وبين التوبة. الحديث. وهو مشهور، وإذا ثبت ذلك لمن قتل من غير هذه الأمة، فمثله لهم أولى، لما خفف الله عنهم من الأثقال التي كانت على من قبلهم. اهـ.

وفي تفسير قوله تعالى: {إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} [الفرقان: 70] قيل: يبدلهم الله إيمانا من الشرك، وإخلاصا من الشك، وإحصانا من الفجور، وقيل: التبديل عبارة عن الغفران، والغفران من الحسنات، ومعنى هذين القولين أن السيئات لا تبدل كل منها بحسنات، لكن روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن السيئات تبدل بحسنات" وعليه قال القرطبي: لا يبعد في كرم الله - إذا صحت توبة العبد أن يضع مكان كل سيئة حسنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ "أتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن". وهذا قول وجيه ينسجم مع عفو الكريم، صاحب الفضل والجود، الذي دعا إلى مقابلة الإساءة بالإحسان، فقال:{فمن عفا وأصلح فأجره على الله} [الشورى: 40]: وقال: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا} [النور: 22] وقال: {والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين} [آل عمران: 134].

والله أعلم

ص: 403