الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(83) باب رفع الأمانة
244 -
عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر. حدثنا "أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. ثم نزل القرآن. فعلموا من القرآن وعلموا من السنة". ثم حدثنا عن رفع الأمانة قال: "ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل الوكت. ثم ينام النومة فتقبض الأمانة من قلبه. فيظل أثرها مثل المجل. كجمر دحرجته على رجلك. فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء (ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله) فيصبح الناس يتبايعون. لا يكاد أحد يؤدي الأمانة حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا. حتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان". ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت. لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه علي ساعيه. وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا.
-[المعنى العام]-
من علامات الساعة رفع الأمانة بين الأفراد، وإهدارهم حقوق بعضهم بعضا، وبين الحكام والمحكومين وسيطرة الولاة على حقوق الرعية.
وقد ورد في الصنف الثاني قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة قيل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" وفي الصنف الأول حديث حذيفة الذي يربط الأمانة بقوة الإيمان، فحيث نزل الإيمان في القلوب، وثبت في النفوس، واستوثق بقراءة القرآن والتفقه فيه، ورسخ بالسنة والعمل بها، تحققت الأمانة، وتمكنت، وأصبح الدين مانعا من الخيانة، وحائلا بين شهوات النفس والشيطان وبين حقوق الآخرين.
أما حيث يضعف الدين، وتغلب الشهوات، وتسيطر المادية، فإن الأمانة ترتفع من النفوس، كما يرتفع النور من القلوب، ويحل محل هذا النور الإلهي الران والغشاوة، وينكت في القلب نكتة سوداء، وكما بدأ الإسلام غريبا سيعود غريبا، وستقل الأمانة، حتى لا يكاد الأمين يوجد، وحتى تسري بذكره
الركبان، وحتى يقال إن في مكان كذا رجلا أمينا، وترى الرجل فيعجبك منظره وقوته وذكاؤه، فإذا ما عاملته وجدته خائنا غير أمين.
إن الخيانة مرض ووباء ينتقل بالعدوى، وإذا كانت بعض المواطن الإسلامية اليوم لا تزال تحتفظ بقدر من الأمانة، فإن اتصالها بالخائنين سيؤدي بها عما قريب إلى رفعها، وإن من العجيب أن الأمانة ارتفعت بين المسلمين، بينما تمسك بها وحافظ عليها كثير من الكفار في عصرنا الحديث، حتى أصبح المسلمون صورة سيئة للإسلام، وما الأمانة المادية المالية إلا صورة من صور الأمانة المشروعة، التي تتمثل في أمانة الله لدى خلقه، فالعين أمانة، والأذن أمانة، واللسان أمانة، والتكاليف الشرعية أمانة، كل ذلك طلب صاحبها وخالقها أن يحافظ عليها، وأن توضع وتستعمل في مواضعها المشروعة، فمن خالف فقد ضيع الأمانة وإذا كان حذيفة رضي الله عنه وهو المتوفى سنة ست وثلاثين من الهجرة قد أسف على الأمانة ونعى على المسلمين ضياعها، فمن لها اليوم ينعاها ويبكي عليها؟ اللهم رحمتك وهدايتك وتوفيقك فليس لنا اليوم سواك.
-[المباحث العربية]-
(عن حذيفة) بن اليمان، ولاه عثمان على المدائن، وقتل عثمان وهو عليها، وبايع لعلي، وحرض على المبايعة له، والقيام في نصره ومات في أوائل خلافته، وحديثه هذا إنما ساقه - والله أعلم - بالمدائن وليس بالمدينة لكثرة الأمناء بها حينئذ من الصحابة والتابعين، وكانوا يتجرون فلا يصح أن يقال: إلا فلانا وفلانا.
(حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين) معناه: حدثنا حديثين في الأمانة وإلا فروايات حذيفة كثيرة في الصحيحين وغيرهما، قال صاحب التحرير: وعني بأحد الحديثين قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، وبالثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة .... إلخ، وقيل: هذان حديث واحد، ولعل الثاني في حديث عرض الفتن الآتي في الباب التالي.
(فنزلت في جذر قلوب الرجال)"الجذر" بفتح الجيم وكسرها، الأصل في كل شيء، وذكر الرجال للتغليب، ونزولها في جذر قلوب الرجال كناية عن خلق الله تعالى في تلك القلوب قابلية التزام حفظها.
(فعلموا من القرآن وعلموا من السنة) في رواية البخاري "علموا من السنة" والمراد من السنة ما يتلقونه عن النبي صلى الله عليه وسلم واجبا كان أو مندوبا.
(ثم حدثنا عن رفع الأمانة) المراد برفع الأمانة إذهابها وحدها أو إذهاب الأمناء وقبضهم، بحيث يكون الأمين معدوما أو شبه معدوم. والأمانة ضد الخيانة، وقيل الفرائض والتكاليف، وسيأتي توضيح هذا البحث في فقه الحديث.
(ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة) بعض القبض، وذكر النوم كناية عن ذهابها في الغفلة وضعف العقيدة والإيمان، وليس المراد أنها تقبض في الليل دون النهار، وفي القاموس: قبض مبني للمجهول: مات، فشبه ذهاب الأمانة بالموت.
(فيظل أثرها مثل الوكت) بفتح الواو وسكون الكاف، الأثر اليسير، وقيل: السواد اليسير، وقيل: أثر النار من السواد في اللون. وأصل "يظل" معناه يعمل بالنهار، ثم أطلق على كل وقت، وهي هنا على بابها، لأنه ذكر الحالة التي تكون بعد النومة، والمعنى: أن الأمانة تذهب حتى لا يبقى منها إلا الأثر الخفيف الذي يشبه الوكت في ظاهر البدن.
(فيظل أثرها مثل المجل) بفتح الميم وسكون الجيم وفتحها. لغتان، والمشهور الإسكان، يقال: مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلا بفتحها أيضا ومجلت يده بفتح الجيم تمجل بضمها مجلا بسكونها لغتان مشهورتان، والمجل: ارتفاع في الجلد يظهر في اليد من العمل بفأس أو نحوها، وفي الرجل بسبب الحذاء ونحوه، ويصير مثل القبة، ويمتلئ بالماء.
(كجمر دحرجته على رجلك) أي كأثر جمر، أو كمكان جمر، ففي الكلام مضاف محذوف.
(فنفط فتراه منتبرا) نفط بفتح النون وكسر الفاء: انتفخ، وانتبر الجرح وانتفط إذا ورم وامتلأ ماء، قال النووي: ولم يقل نفطت مع أن الرجل مؤنثة، إما أن يكون ذكر "نفط" إتباعا للفظ الرجل، وإما أن يكون إتباعا لمعنى الرجل، وهو العضو. اهـ. ولكننا قلنا سابقا: إن في الكلام مضافا محذوفا، تقديره: كمكان جمر دحرجته على رجلك فنفط، ففاعل نفط يعود على مكان دحرجة الجمر وليس على الرجل.
قال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نورها، وخلفته ظلمة كالوكت، وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها، ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله، حتى يؤثر فيها، ثم يزول الجمر، ويبقى التنفط، وأخذه الحصى ودحرجته إياه أراد به زيادة البيان وإيضاح المذكور.
(فيصبح الناس يتبايعون) أي يبيعون ويشترون.
(لا يكاد أحد يؤدي الأمانة) تصوير لقلة الأمانة وندرتها، وقرب رفعها نهائيًا.
(حتى يقال: إن في بني فلان أمينا) في رواية البخاري (فيقال) وهذا تصوير ثان وكناية عن ندرة الأمين.
(حتى يقال للرجل ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله)(ما أجلده) أي ما أقواه وأصلبه،
و"ما أظرفه" أي: ما أحسن وجهه وهيئته ولسانه، و"ما أعقله" أي: ما أقوى عقله وذهنه وتفكيره وتمييزه الحسن من القبيح.
(وما في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان) الخردل نبات له حب أسود مقرح، صغير جدا، يضرب به المثل في الصغر بين الحبوب والواحدة خردلة، وليس المقصود من حبة الخردل هنا وزنها على الحقيقة، بل المراد المبالغة في الصغر، وهل المراد من الإيمان الأمانة باعتبارها لازمة له، أو حقيقة الإيمان؟ سيأتي توضيحه في فقه الحديث.
(ولقد أتى علي زمان) يقصد زمان الصدر الأول في الإسلام.
(وما أبالي أيكم بايعت) من المبايعة بالخلافة، أو من البيع والشراء.
التحقيق سيأتي بيانه في فقه الحديث، و"أيكم" بالنصب مفعول مقدم لبايعت، والجملة معمول "أبالي" والمعنى: كنت في هذا الزمان لوثوقي بوجود الأمانة في الناس، أقدم على مبايعة من اتفق، من غير بحث عن حاله.
(لئن كان مسلما) أي لئن كان من بايعته مسلما، وأخذ حقي خطأ.
(ليردنه علي دينه) أي ليرجعنه دينه وأمانته إلي بحقي، ويحول بينه وبين الخيانة.
(ليردنه علي ساعيه) أي الوالي عليه، فإنه أيضا كان يقوم بالأمانة في ولايته، فيستخرج حقي منه، وأكثر ما يستعمل الساعي في ولاة الصدقة ويحتمل أن يراد به هنا الذي يتولى قبض الجزية.
(وأما اليوم فما كنت لأبايع منكم إلا فلانا وفلانا) يحتمل أن يكون ذكره بهذا اللفظ، وأبهم لعدم جرح المخاطبين بما يعادل اتهامهم بالخيانة، ويحتمل أن يكون قد سمى اثنين من المشهورين بالأمانة إذ ذاك، فأبهمهما الراوي، والأول، هو الظاهر، لأنهم إنما يبهمون في الذم، أما في الوصف بالمدح فلا داعي للإبهام، ولكن إبهامه هو ليحسن كل من المخاطبين الظن بنفسه، والمعنى: لست أثق بأحد أأتمنه على بيع ولا شراء إلا فلانا وفلانا.
-[فقه الحديث]-
قال الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} [الأحزاب: 73].
قال صاحب التحرير: الأمانة المذكورة في الحديث هي الأمانة المذكورة في الآية، وهي عين الإيمان، فإن استمكنت في القلب قام بأداء ما أمر به، واجتنب ما نهي عنه.
وقال ابن التين: الأمانة كل ما يخفى ولا يعلمه إلا الله من المكلف، وعن ابن عباس: هي الفرائض التي أمروا بها ونهوا عنها، وقيل: هي الطاعة، وقيل: هي التكاليف، وقال ابن العربي: المراد بالأمانة في حديث حذيفة الإيمان، وتحقيق ذلك فيما ذكر من رفعها: أن الأعمال السيئة لا تزال تضعف الإيمان، حتى إذا ما تناهى الضعف لم يبق إلا أثر الإيمان وهو التلفظ باللسان والاعتقاد الضعيف في ظاهر القلب، وقال حذيفة هذا القول لما تغيرت الأحوال التي كان يعرفها على عهد النبوة والخليفتين فأشار إلى ذلك بالمبايعة، وكني عن الإيمان بالأمانة، وعما يخالف أحكامه بالخيانة. اهـ.
فالأمانة في قول جميعهم: الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب.
وما الأمانة في الأموال إلا جزئية من جزئيات الأمانة في معناها الشرعي العام.
أما المبايعة المذكورة في الحديث فالمراد منها المبادلة بالبيع والشراء. قال النووي: حمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمور الدين. قال صاحب التحرير، والخطابي: وهذا خطأ من قائله، وفي الحديث مواضع تبطل قوله، منها قوله:"ولئن كان نصرانيًا أو يهوديًا" ومعلوم أن النصراني واليهودي لا يعاقد على شيء من أمور الدين. اهـ.
وقد يشكل على حديث حذيفة أن ظاهر قوله: "وأنا أنتظر الآخر" يفيد أن الأمانة لم ترفع، وأنه ينتظر رفعها، وقوله:"أما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانا وفلانا" يفيد أنها قد رفعت، وفي هذا تعارض.
وقد أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر، فقال: إن آخر الحديث يدل على قلة من ينسب للأمانة بالنسبة إلى حال الأولين، فالذين أشار إليهم بقوله:"ما كنت لأبايع إلا فلانا وفلانا" هم من أهل العصر الأخير الذي أدركه، والأمانة فيهم بالنسبة إلى العصر الأول أقل، وأما الذي ينتظره، فإنه حيث تفقد الأمانة من الجميع إلا النادر.
والله أعلم.