المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(2) باب أمور الإسلام - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(2) باب أمور الإسلام

(2) باب أمور الإسلام

7 -

عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خمس صلوات في اليوم والليلة" فقال: هل علي غيرهن؟ قال: "لا. إلا أن تطوع، وصيام شهر رمضان" فقال: هل علي غيره؟ فقال: "لا. إلا أن تطوع" وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزكاة" فقال: هل علي غيرها؟ قال: "لا. إلا أن تطوع" قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلح إن صدق".

8 -

عن طلحة بن عبيد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث نحو حديث مالك غير أنه قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" أو "دخل الجنة وأبيه إن صدق".

-[المعنى العام]-

بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أخذ نور الإسلام ينتشر في صحراء نجد من أفواه المؤمنين، وأخذ شعاعه يشق طريقه إلى صدور أهل البوادي فتطمئن له قلوبهم ويسلمون، ثم يدفعهم حب الاستطلاع والرغبة في الاستيثاق مما وصلهم من التعاليم، والحرص على الاستزادة من أمور الدين، والظمأ الباعث على الارتشاف من المنبع الأصلي لنهر الخير، كل ذلك كان يدفع الكثير منهم إلى القدوم إلى المدينة للقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هؤلاء الوافدين صاحب القصة في الحديث، رجل من أهل البادية، قدم من السفر، أشعث أغبر، منتفش الرأس، منتشر الشعر، بعيد العهد بالنظافة والرفاهية، سأل عن المسجد النبوي فقصده، ورأى فيه جماعة من الناس يجلسون، فنادى من بعيد. أيكم محمد؟ أين محمد لأسأله عن أمور الإسلام؟

وسمع طلحة بن عبيد الله راوي الحديث وسمع من معه من الصحابة دوي الصوت وجلبة الرجل القادم، ولم يتبينوا ما يقول حتى دنا منهم وهو يردد: أين محمد؟ أريد أن يدلني على شرائع الإسلام وتعاليمه، فأشاروا له على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، ثم قال: يا محمد. لقد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا

ص: 34

الله وأنك رسول الله، وأحب أن أعلم منك ما يجب علي، ماذا علي من الصلوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في كل يوم وليلة. قال الرجل: هل علي صلاة غيرها؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس عليك غيرها لكن لك أن تتطوع بما تشاء من صلاة. قال الرجل: فماذا علي من صوم؟ قال صلى الله عليه وسلم: صيام شهر رمضان من كل عام. قال الرجل: هل علي صيام غيره؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس عليك صيام غيره، لكن لك أن تتطوع. قال الرجل: فماذا علي من زكاة؟ فبين له صلى الله عليه وسلم ما يجب عليه من زكاة. فقال الرجل: هل علي من زكاة غير ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: ليس عليك زكاة غيرها، لكن لك أن تتطوع بما تشاء من صدقات.

وطفق الرجل يسأل عما يجب عليه من شرائع الإسلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجيبه، فلما اكتفى قام مدبرا وهو يقول: والله لا أزيد على ما وجب علي شيئا ولا أنقص منه شيئا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن صدق هذا الرجل فيما قال، ووفى بما التزم دخل الجنة وكان من المفلحين الفائزين.

-[المباحث العربية]-

(جاء رجل) لم يرد اسمه، وزعم القاضي عياض أن البخاري سماه، وأنه ضمام بن ثعلبة السعدي، وجزم ابن بطال وآخرون بذلك اعتمادا على إيراد مسلم لقصة ضمام عقب هذا الحديث، ولأن في كل منهما أن الرجل بدوي، وأنه قال: لا أزيد على هذا ولا أنقص، ويقوي هذا الزعم، وأنهما حديث واحد أن ابن سعد وابن عبد البر وجماعة لم يذكروا لضمام إلا هذا الحديث.

لكن القرطبى رد هذا الرأي بأن من سماه البخاري ضماما هو الرجل الآتي في حديث أنس. وقال: ودعوى أنهما قصة واحدة دعوى فرط، وتكلف شطط من غير ضرورة، اهـ.

(من أهل نجد) النجد ما ارتفع من الأرض، والغور ما انخفض منها، وصحراء نجد معروفة شرق الحجاز، سميت نجدا لارتفاعها. والغور المقابل لها تهامة.

(ثائر الرأس) أي متفرق شعر الرأس، منتشره ومنتفشه، شأن من ترك الرفاهية وسافر في الصحراء، وفيه إشارة إلى أنه إنما جاء لهذه الغاية فبادر إليها، و"ثائر" بالرفع صفة لرجل وقيل: يجوز نصبه على الحال من رجل بناء على مجيء الحال من النكرة إذا وصفت، أو حال من ضميره في متعلق الجار والمجرور، واعترض بأن "ثائر الرأس" مضاف إلى معرفة فلا يقع صفة للنكرة، ولا يقع حالا، وأجيب بأن إضافته لفظية لا تفيد تعريفا.

وفي الكلام مضاف محذوف تقديره: ثائر شعر الرأس.

(نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) روي "نسمع" و"نفقه" بالنون المفتوحة فيهما، وروي بالياء المضمومة فيهما، والأول أشهر، و"ما" موصولة، وعائد الصلة محذوف و"دوي الصوت" شدته وارتفاعه وتكرره ومنه دوي النحل، وإنما لم يفهموا ما يقول لأنه نادى من بعد متعجلا السؤال، فلما دنا فهم كلامه، لهذا قال:

ص: 35

(حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام) و"حتى" غاية لمجيئه وإقباله والمعنى: أقبل إلى أن دنا، و"إذا" فجائية، وتختص بالجمل الإسمية، ولا تحتاج إلى جواب. قيل: هي حرف، وقيل: ظرف مكان وقيل: ظرف زمان للحال لا الاستقبال.

(خمس صلوات في اليوم والليلة) ظاهره عدم التطابق بين السؤال والجواب، ولهذا قيل: إن الرجل كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه إنما كان يسأل عن شرائع الإسلام وأموره، فقيل له: أمور الإسلام خمس صلوات

وكذا. وكذا.

وفي رواية: "أخبرني ماذا فرض الله علي من الصلاة"؟ و"خمس" يجوز فيه الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي هي خمس صلوات، والنصب على أنه مفعول لفعل محذوف، والتقدير: فرض الله خمس صلوات.

(لا. إلا أن تطوع) بتشديد الطاء وأصله تتطوع بتاءين، فأدغمت التاء في الطاء.

والاستثناء قيل: منقطع، ومعناه: لا يجب عليك شيء غيرهن، لكن يستحب لك التطوع، وقيل: متصل، والمعنى: لا يجب عليك شيء غيرهن إلا ما شرعت فيه من التطوع فيجب عليك إتمامه، وفي المسألة خلاف فقهي طويل سيأتي في فقه الحديث.

(وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة) هذا من قول الراوي كأنه نسي ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والتبس عليه الأمر فجاء بهذه العبارة. قال الأبي: وفيه صحة نقل الحديث بالمعنى، ورد عليه بعضهم بأن من قال: قرأ فلان الفاتحة لا يصدق عليه أنه نقل المقروء لا لفظا ولا معنى.

(أفلح وأبيه إن صدق) الفلاح الظفر وإدراك البغية، والعرب تقول لكل من أصاب خيرا مفلح، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، والتقدير:"إن صدق في قوله فقد أفلح" وفيه دليل على جواز إطلاق الصدق في الخبر المستقبل، خلافا لمن قصره على الخبر في الماضي وخص المستقبل بالوفاء.

(أو دخل الجنة وأبيه إن صدق) كلمة "أو" للشك من الراوي أي اللفظين قاله صلى الله عليه وسلم.

-[فقه الحديث]-

استدل الحنفية والمالكية بالحديث على أن الشروع بالتطوع يوجب إتمامه، تمسكا بأن الأصل في الاستثناء أن يكون متصلا، ويوضح القرطبي وجه الاستدلال بقوله: نفى الحديث وجوب شيء آخر إلا ما تطوع به، والاستثناء من النفي إثبات، ولا قائل بوجوب التطوع فيتعين أن يكون المراد إلا أن تشرع في تطوع فيلزمك إتمامه، ورد عليهم بأن الاستثناء هنا من غير الجنس بقرينة أن التطوع

ص: 36

لا يقال فيه: عليك، وقد علم أن التطوع ليس بواجب، وبقرينة ما رواه النسائي وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أحيانا ينوي صوم التطوع ثم يفطر، وفي البخاري أنه صلى الله عليه وسلم أمر جويرية بنت الحارث أن تفطر يوم الجمعة بعد أن شرعت فيه، فدل على أن الشروع في العبادة لا يستلزم الإتمام إذا كانت نافلة، بهذا النص في الصوم والقياس في الباقي.

كما رد عليهم ردا إلزاميا بأن الاستثناء من النفي عندهم ليس للإثبات بل مسكوت عنه، وقوله:"إلا أن تطوع" استثناء من قوله: "لا" أي لا فرض عليك غيرها.

كما أنهم لا يقولون بفرضية الإتمام، بل بوجوبه، واستثناء الواجب من الفرض منقطع لتباينهما.

وقد أورد على الحديث إشكالات نعرضها مع الإجابة عليها.

الأول: كيف أجاب صلى الله عليه وسلم عن السؤال عن الإسلام بما أجاب مع أن أساس حقيقة الإسلام الشهادتان؟

وأجيب بأنه يحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر له الشهادتين فلم يسمعهما الراوي لبعد موضعه، أو لم ينقله لشهرته.

والأولى أن يقال: إنما لم يذكر له الشهادة لأنه علم أنه يعلمها، أو علم أن السؤال ليس عن حقيقة الإسلام، بل عن شرائعه الفعلية، فأجاب بتعاليم الإسلام العملية.

الثاني: لماذا لم يذكر الحج؟ وكيف نوفق بين ما هنا وبين ما جاء في بعض الروايات من عدم ذكر الصوم؟ وفي بعضها من عدم ذكر الزكاة، وفي بعضها بزيادة صلة الرحم، وفي بعضها بزيادة أداء الخمس؟ .

وأجيب بأنه لم يذكر الحج لأنه لم يكن فرض بعد، أو أن الراوي اختصره.

واختلاف الروايات بالزيادة والنقص كثيرة في الأحاديث، فإن أمكن حمل كل منها على واقعة خاصة، واختلاف الإجابات عن السؤال الواحد لاختلاف السائلين ومراعاة أحوالهم. إن أمكن هذا الحمل كان خيرا وإلا حمل على تفاوت الرواة الحفظ والضبط، وذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح لما عرف من أن زيادة الثقة مقبولة.

الثالث: كيف أثبت له الفلاح بما ذكر مع أنه مرتبط باجتناب المنهيات ولم تذكر؟

وأجيب بأن المنهيات لم تكن شرعت بعد، ورد هذا الجواب بأن السؤال كان بالمدينة وبعد أن شرعت أكثر المنهيات. والجواب الحق هو أنه ورد في الروايات الصحيحة عبارة "فأخبره بشرائع الإسلام" فأفادت أنه ذكر له ما يجب فعله وما يجب اجتنابه وإن اقتصرت بعض الروايات.

الرابع: كيف أثبت له الفلاح إن صدق فيما التزم به، وقد التزم عدم الزيادة؟ .

وأجيب بأن إثبات الفلاح له راجع إلى عدم النقص فقط كأنه قال: أفلح في قوله لا أنقص إن وفى.

ص: 37

وقيل: إن السائل كان وافد قومه، يتعلم ويعلمهم، فقصد نفي الزيادة والنقص في التبليغ كأنه قال: لا أزيد في الإبلاغ على ما سمعت ولا أنقص في تبليغ ما سمعت منك إلى قومي، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.

وقيل: كان كلام الرجل على سبيل الكناية والمبالغة في التصديق والقبول، والمعنى قبلت قولك فيما سألتك عنه قبولا لا أزيد عليه سؤال أحد، ولا أنقص عنه بالقبول، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.

وقيل: يحتمل أنه أراد لا أزيد عليه بتغيير حقيقته، فلا أجعل الظهر خمسا مثلا ولا أنقص ما وجب، فقال صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.

ويعكر على هذه الإجابات كلها قول الرجل في رواية البخاري في كتاب الصيام "والذي أكرمك لا أتطوع شيئا ولا أنقص مما فرض الله علي شيئا".

والأحرى بالقبول أن يقال: إن المراد من الفلاح النجاة من النار مصداقا لقوله تعالى: {فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز} [آل عمران: 185] ومصداقا لرواية "دخل الجنة وأبيه إن صدق" التي تعد مفسرة للفلاح في الرواية الأخرى.

ولا شك أن المتمسك بالفرائض ناج وإن لم يفعل النوافل، وليس في الكلام أنه إذا أتى بزائد على ذلك لا يكون مفلحا، لأنه إذا أفلح بالواجب ففلاحه بالمندوب مع الواجب أولى، كما أنه ليس في الكلام ما يمنع من أن يكون غيره أكثر منه فلاحا. وإنما ترك صلى الله عليه وسلم أمره بالسنن وأقره على الاكتفاء بالواجب مع أن المواظب على ترك النوافل مذموم، لقرب عهده بالإسلام حتى يأنس، وينشرح له صدره ويحرص على الخير.

الخامس: كيف نوفق بين قوله صلى الله عليه وسلم هنا "أفلح وأبيه إن صدق" وبين قوله صلى الله عليه وسلم "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم"؟

وأجيب بأنه يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى، وقيل: إن في الكلام هنا مضافا محذوفا، والأصل -ورب أبيه- ونقل العيني عن بعض مشايخه أنه يحتمل أن الحديث "أفلح والله" فقصر الكاتب اللامين، ولم يكن نقط، فقرئت:"وأبيه" وهذا الاحتمال مردود، لأن اعتماد النقل والرواية كان على النطق لا على الخط، ولو تطرق هذا الاحتمال لزعزعت الثقة بالروايات الصحيحة، وقال الحافظ ابن حجر: غفل القرافي فادعى أن الرواية بلفظ "وأبيه" لم تصح، لأنها ليست في الموطأ. وكأنه لم يرتض الجواب، فعدل إلى رد الخبر مع أنه صحيح لا مرية فيه. اهـ.

وأحرى الإجابات بالقبول أن قوله صلى الله عليه وسلم "أفلح وأبيه إن صدق" ليس حلفا، إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامهم غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف، لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به سبحانه وتعالى، فهي بمثابة قولهم: تربت يمينك.

ص: 38

-[ويؤخذ من الحديث]-

1 -

أن وصف الراوي صاحب القصة بما ظاهره غير محبوب ليس من قبيل الغيبة ما دام على غير وجه التنقيص، فقد وصفه الراوي بثائر الرأس للتوثيق بالرواية.

2 -

أن الصلاة ركن من أركان الإسلام وأنها خمس صلوات في اليوم والليلة، ولم يرد أسماء هذه الصلوات ولا عدد ركعاتها لاشتهار ذلك عندهم بطريقة عملية.

3 -

أنه لا يجب شيء من الصلوات في كل يوم وليلة غير الخمس. أما القائلون بوجوب الوتر، والقائلون بأن صلاة العيد فرض كفاية فلهم أن يجيبوا بأنها لم ترد في الحديث لأنها لم تكن شرعت بعد.

4 -

أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق الأمة، وهذا مجمع عليه.

5 -

أن الصوم ركن من أركان الإسلام وهو شهر في كل سنة، وأنه لا يجب صوم يوم عاشوراء أو غيره، وهذا مجمع عليه الآن، والخلاف في كون صوم يوم عاشوراء كان واجبا قبل فرض صيام رمضان أو لم يكن واجبا.

6 -

أن الزكاة أيضا ركن من أركان الإسلام.

7 -

جواز الحلف بغير استحلاف ولا ضرورة، ولا يقال: كيف أقره صلى الله عليه وسلم على حلفه وقد ورد النكير على من حلف ألا يفعل خيرا؟ لأن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، وهذا جار على الأصل من أنه لا إثم على غير تارك الفرض.

8 -

في الحديث رد على المرجئة، لأن قوله "أفلح إن صدق" قد علق الفلاح على صدقه في التزام العمل وعدم النقص، ومفهومه أنه إن قصر لم يفلح، وهذا خلاف مذهبهم، ولهم أن يجيبوا بأنه لا عبرة بالمفهوم، وأن هدف الحديث إثبات الفلاح لمن فعل، لا نفيه عمن قصر.

والله أعلم

ص: 39