المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

156 -

عن عبد الله رضي الله عنه (قال وكيع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وقال ابن نمير سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول)"من مات يشرك بالله شيئا دخل النار" وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة".

157 -

عن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم، رجل فقال: يا رسول الله! ما الموجبتان؟ فقال "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار".

158 -

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار".

159 -

عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال "أتاني جبريل عليه السلام. فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق".

160 -

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، وهو نائم. عليه ثوب أبيض. ثم أتيته فإذا هو نائم. ثم أتيته وقد استيقظ. فجلست إليه. فقال:"ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وإن زنى وإن سرق" ثلاثا. ثم قال في الرابعة "على رغم أنف أبي ذر" قال: فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر.

ص: 306

-[المعنى العام]-

المؤمن الكيس من جمع بين الخوف والرجاء، يخاف الآخرة ويخاف الخاتمة والمصير وعدل ربه، ويخاف محاسبته على ما قدمت يداه، واضعا نصب عينيه قوله تعالى:{فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} [الزلزلة: 7 - 8]{يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه} [آل عمران: 30].

ويرجو رحمة ربه التي وسعت كل شيء، ويطمع في فضل الله وإحسانه {وهو الغفور الودود ذو العرش المجيد} [البروج: 14 - 15].

وقد جاءت النصوص الإسلامية بمجموعة تبعث على الخوف في نفوس المؤمنين فتدفع إلى العمل الصالح، وتقوي العزائم وتشحذ الهمم، كقوله جل شأنه:{فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون} [الماعون: 4 - 7]. {ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم} [المطففين: 1 - 5]. {ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده كلا لينبذن في الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم موصدة في عمد ممددة} [الهمزة: 1 - 9]. {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون} [التوبة: 34 - 35].

ويقول صلى الله عليه وسلم: "أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار" ومر صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة بين الناس".

كما جاءت النصوص بمجموعة تنشر الطمع والرجاء في عفو الله، وتجعل أبواب الجنة مفتوحة أمام عامة المؤمنين، بل أمام العصاة منهم وتجعل أبواب النار محجوبة عمن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. يقول جل شأنه:{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 53]. {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء: 110]. ويقول تعالى في الحديث القدسي: "عبدي. لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة".

وهذا أبو ذر يحدثنا فيقول: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثوب أبيض وهو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال:"ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة"، واستعظم أبو ذر دخول الجنة للعصاة، ودفعته شدة نفرته من المعاصي أن يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيدخل الجنة من قال لا إله إلا الله وإن زنى وإن سرق؟ وأجابه صلى الله عليه وسلم: نعم يدخل الجنة وإن زنى وإن سرق. وزادت غرابة

ص: 307

أبي ذر فأعاد: وإن زنى وإن سرق؟ وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم الجواب: وإن زنى وإن سرق، يكرر أبو ذر استفهام التعجب ثلاثا ويكرر رسول الله صلى الله عليه وسلم جواب الرجاء، ويختم ثالث أجوبته بقوله: على رغم أنف أبي ذر. ويهز أبو ذر رأسه متعجبا، ويخرج ممسكا بأنفه وهو يردد "على رغم أنف أبي ذر".

كما جاءت النصوص أيضا بطرف يجمع بين الخوف والرجاء. يقول جل شأنه في صفة المؤمن: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه} [الزمر: 9]. ويقول: {غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير} [غافر: 3].

وبهذا يرسم الإسلام الطريق الصحيح، خوف يجعل السابقين لا يأمنون العاقبة، ويدفع عمر بن الخطاب [وهو المبشر بالجنة وقصورها وحورها] إلى أن يقول: لئن نادى مناد أن كل الناس يدخلون الجنة إلا واحدا لخشيت أن أكون ذلك الواحد. ويدفع أبا بكر [حبيب حبيب الله] إلى أن يقول: لا آمن مكر الله ولو كانت إحدى قدمي في الجنة.

ورجاء يجعل العاصي الذي لم يعمل خيرا قط وعمل عمره بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيكون من أهل الجنة.

نعم. الطريق الصحيح خوف ورجاء، وعمل وأمل، فمن اقتصر على الخوف وأنكر الرجاء كان قانطا من رحمة الله، يائسا من روح الله. و {إنه لا ييئس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87].

ومن اقتصر على الرجاء، وطرح الخوف من الله وحسابه كان جاهلا، مغترا، مستهترا بوعيد الله.

وما أحسن جواب ابن منبه حين قيل له: أليس مفتاح الجنة لا إله إلا الله؟ قال: بلى.

ولكن ليس مفتاح إلا له أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك وما أسنان المفتاح إلا العمل مع الإيمان.

جعلنا الله من المؤمنين العاملين، الراجين الخائفين، إنه سميع مجيب.

-[المباحث العربية]-

(من مات يشرك بالله شيئا) جملة "يشرك" حال من فاعل "مات" و"شيئا" مفعول به، أي يشرك معبودا كالأصنام أو مفعول مطلق، أي إشراكا ما، وفي رواية "من مات وهو يدعو من دون الله ندا" قال القرطبي: الشرك أن يتخذ مع الله شريكا في الإلهية، لكن صار نفي الشرك بحكم العرف عبارة عن الإيمان الشرعي.

(وقلت أنا) الضمير المنفصل تأكيد للضمير المتصل.

(ومن مات) معطوف على محذوف، تقديره: قلت أنا: من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، حاكيا الأولى منشئا الثانية.

ص: 308

(ما الموجبتان) بكسر الجيم، أي ما هي الكلمة أو الخصلة الموجبة للجنة؟ والكلمة أو الخصلة الموجبة للنار؟

(من لقي الله) أي من مات، كما ورد في بعض الروايات.

(فبشرني أنه)"أن" وما دخلت عليه في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف (وحذف الجار قبل "أن" مطرد) أي فبشرني بدخول من مات

الجنة.

(من أمتك) أي من أمة الإجابة، ويحتمل أن يكون أعم من ذلك، أي من أمة الدعوة.

(قلت: وإن زنى وإن سرق) قال ابن مالك: لا بد من تقدير أداة الاستفهام، والتقدير: أو إن زنى دخل الجنة؟ وقدر غيره: أيدخل الجنة وإن زنى؟ وحذف جواب الشرط مبالغة للعلم به وتتميما لمعنى الإنكار.

(قال: وإن زنى وإن سرق) جواب الشرط محذوف للعلم به، أي وإن زنى وإن سرق دخل الجنة.

(على رغم أنف أبي ذر)"رغم" بفتح الراء وضمها وكسرها، وقوله:"وإن رغم أنف أبي ذر" هو بفتح الغين وكسرها، ذكره الجوهري، وهو التراب، فمعنى أرغم الله أنفه ألصقه بالرغام، أي أذله، ومعنى "على رغم أنف أبي ذر" أي على ذل منه لوقوع الأمر مخالفا لما يريد، وقيل معناه: على كراهة منه، فهو من قبيل الكناية، أي إطلاق اللفظ وإرادة لازم معناه.

-[فقه الحديث]-

قد يبدو لأول وهلة أن موضوع هذا الحديث قد سبق ذكره في الجزء الأول في باب "من مات على التوحيد دخل الجنة" ولكن بعد إمعان النظر يتضح أن ذكره هناك كان القصد منه جانب الرجاء، وإن تعرض هناك بالتبع إلى جانب الخوف، وذكره هنا مقصود منه جانب الخوف وإن كان سيتعرض لجانب الرجاء على سبيل التبعية.

وقد روينا في فقه الحديث هناك قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" وقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله بهما عبد غير شاك إلا دخل الجنة" وقوله: "ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة". وقوله لأبي هريرة: "من لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة". وقوله: "حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله يبغي بذلك وجه الله".

وقلنا: لما كان موضوع هذه الأحاديث يتعلق بالعصاة من المسلمين كان من الضروري بيان المذاهب في حكمهم، وموقف كل مذهب من هذه الأحاديث ونحوها:

ص: 309

1 -

وقد ذهب الخوارج إلى أن المعصية تضر الإيمان، وتجعل صاحبها كافرا مخلدا في النار، وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

2 -

وذهب المعتزلة إلى أن العاصي بالكبيرة مخلد في النار، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا بأنه كافر وإن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله.

وهذه الأحاديث تدفع هذين المذهبين وتردهما، وحديث أبي ذر الذي معنا قاطع في إبطالهما، مبعد تأويلاتهما الزائفة.

3 -

وذهب غلاة المرجئة إلى أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وهذه الأحاديث وما معنا هنا وإن كان ظاهرها في مجموعها يوافقهم لكن في بعضها ما يرد عليهم، كقوله:"غير شاك" وقوله: "مستيقنا بها قلبه" وقوله: "وهو يعلم أن لا إله إلا الله" كل هذه النصوص ترد ما ذهبوا إليه، وتوجب اعتقاد القلب، فضلا عن الآيات القاطعة بأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

4 -

وقال بعضهم: إن مجرد معرفة القلب نافعة وإن لم ينطق بالشهادتين، وظاهر قوله في بعض الروايات، "وهو يعلم" يؤيدهم لكن يعارضهم لفظ "من كان آخر كلامه" ولفظ "من قال" ولفظ "ما من عبد قال" إذ فيها طلب القول. وجمعا بين الأحاديث وجب القول بأنه لا ينفع الاعتقاد وحده، ولا ينفع النطق وحده.

5 -

ومذهب أهل السنة - وهو الذي يعنينا، ونحرص على عدم تعارضه مع الأحاديث وهو الذي نؤمن بأنه الحق- أن العاصي الذي يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله مستيقنا بها قلبه، هو مؤمن وإن ارتكب الكبائر، ومصيره الجنة وإن عوقب بالنار على ذنوبه ويقولون:

بما أن النصوص تظاهرت ودلت دلالة قطعية على أن بعض العصاة المؤمنين يعذبون فإنه ينبغي ألا تؤخذ أحاديث الباب على ظاهرها ولا على عمومها، وأنه ينبغي أن تحمل محملا يتفق والنصوص المتظاهرة القطعية.

وللوصول إلى هذه الغاية تعددت توجيهاتهم، فمنهم من قال:

أ - إن هذه الأحاديث كانت قبل نزول الفرائض، وينسب هذا القول إلى ابن المسيب كما يعزى إلى ابن شهاب قوله: ثم نزلت بعد ذلك الفرائض وأمور نرى الأمر قد انتهى فمن استطاع ألا يغتر فلا يغتر.

وفي هذا القول نظر. بل قال النووي: إنه ضعيف باطل لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة، وهو متأخر الإسلام، أسلم عام خيبر سنة سبع باتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرة، وكانت الصلاة وأكثر الواجبات قد تقرر فرضها، ويؤيد النووي في رد هذا القول ذكر الزنا والسرقة في حديث أبي ذر.

ب - وقال بعضهم: إن مطلق هذه الأحاديث مقيد بمن عمل عملا صالحا، لقوله تعالى:

ص: 310

{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا

} {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [الكهف: 107 - 110].

جـ- وقال بعضهم: إن مطلق هذه الأحاديث مقيد بمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، تائبا مقبول التوبة ثم مات على ذلك.

قال بعض المحققين: قد يتخذ من أمثال هذه الأحاديث ذريعة إلى طرح التكاليف وإبطال العمل ظنا أن ترك الشرك كاف، وهذا يستلزم طي بساط الشريعة وإبطال الحدود، وأن الترغيب في الطاعة، والتحذير عن المعصية لا تأثير له، فلا ينبغي التمسك بأحاديث الرجاء وحدها لأنه -وقد ثبت كذلك أحاديث الخوف - يجب ضم بعضها إلى بعض فإنها كلها حينئذ في حكم الحديث الواحد فيحمل مطلقها على مقيدها ليحصل العمل بجميع ما في مضمونها.

د - وقيل: إن أحاديث الباب خرجت مخرج الغالب، إذ الغالب أن الموحد يعمل الطاعات ويجتنب المعاصي، فكأنه قال: الغالب والشأن فيمن قال: لا إله إلا الله مخلصا أن يدخل الجنة وتحرم عليه النار.

هـ- وأظهر الأقوال وأحراها بالقبول أن المراد من دخول الجنة في الأحاديث أنه المآل عاجلا أو آجلا، من غير دخول النار للبعض وبعد دخول النار للبعض الآخر، من غير دخول النار لمن مات تائبا مقبول التوبة، أو سليما من المعاصي، أو شمله عفو الله ورحمته، وبعد دخول النار لمن أذنب وأخذ بذنبه، ففي الحديث:"من قال لا إله إلا الله نفعته يوما من الدهر، أصابه قبل ذلك ما أصابه".

قال النووي: مذهب أهل السنة بأجمعهم أن أهل الذنوب في المشيئة، وأن من مات موقنا بالشهادتين يدخل الجنة، فإن كان دينا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة الله، وحرم على النار، وإن كان من المخلطين بتضييع الأوامر أو بعضها، وارتكاب النواهي أو بعضها ومات عن غير توبة فهو في خطر المشيئة، وهو بصدد أن يمضي عليه الوعيد إلا أن يشاء الله أن يعفو عنه فإن شاء أن يعذبه فمصيره الجنة.

وقال الزين ابن المنير: حديث أبي ذر ونحوه من أحاديث الرجاء التي أفضى الاتكال عليها ببعض الجهلة إلى الإقدام على الموبقات، وليس هو على ظاهره، فإن القواعد استقرت على أن حقوق الآدميين لا تسقط بمجرد الموت على الإيمان، ولكن لا يلزم من عدم سقوطها ألا يتكفل الله بها عمن يريد أن يدخله الجنة، ومن هنا رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي ذر استبعاده.

والحديث الأول (حديث ابن مسعود) وقع كذلك في أصول صحيح مسلم وصحيح البخاري "وقلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" ووجد في بعض أصول مسلم المعتمدة عكس هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، وقلت أنا: ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار".

ص: 311

قال الحافظ ابن حجر: والصواب رواية الجماعة (أي الرواية الأولى) لأن جانب الوعيد ثابت بالقرآن، وجاءت السنة على وفقه، فلا يحتاج إلى استنباط، ولا يصح أن يقول فيه: وقلت أنا: فالمرفوع الوعيد والموقوف الوعد.

والظاهر أن ابن مسعود استنبط جملة الوعد (وهو لم يسمعها) من جهة أنه ليس إلا جنة أو نار، فإذا انتفت إحداهما وجبت الأخرى. وقال القاضي عياض: لم يسمع ابن مسعود من النبي صلى الله عليه وسلم إلا إحداهما، وضم إليها ما علمه من كتاب الله تعالى ووحيه، أو أخذه من مقتضى ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم اهـ ومعنى هذا أن ابن مسعود لم يسمع الرواية الثانية المذكورة في حديثنا (رواية جابر) التي ذكرت اللفظين.

قال الإمام النووي: وهذا الذي قاله القاضي عياض فيه نقص حيث إن اللفظين قد صح رفعهما من حديث ابن مسعود، فالجيد أن يقال: سمع ابن مسعود اللفظين من النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ الأخرى. فرفع المحفوظة وضم إليها الأخرى، وفي وقت آخر حفظ الأخرى، ولم يحفظ الأولى مرفوعة فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، فهذا جمع ظاهر بين روايتي ابن مسعود، وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظين.

قال الحافظ ابن حجر تعقيبا على قول النووي: هذا الذي قاله محتمل بلا شك، لكن فيه بعد مع اتحاد مخرج الحديث، فلو تعدد مخرجه إلى ابن مسعود لكان احتمالا قريبا. اهـ.

وحكمه صلى الله عليه وسلم على من مات يشرك بالله شيئا بدخول النار هو على عمومه بإجماع المسلمين، فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق بينه وبين الكتابي (اليهودي والنصراني) وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها، ثم حكم بكفره لجحده ما يكفر جحده وغير ذلك. ذكره النووي.

والحكمة في اقتصار أبي ذر على الزنا والسرقة من بين الكبائر الإشارة إلى جنس حق الله تعالى وحق العباد، وكأن أبا ذر استحضر قوله صلى الله عليه وسلم:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" لأن ظاهره معارض لظاهر هذا الحديث كما أنه ثبت لديه الوعيد بدخول النار لمن عمل بعض الكبائر، وبعدم دخول الجنة لمن عمل بعض الكبائر أيضا، فلهذا استغرب الحكم ووقع منه الاستفهام.

-[ويؤخذ من الحديث]-

1 -

أن أصحاب الكبائر من المؤمنين لا يخلدون في النار.

2 -

أن غير الموحدين لا يدخلون الجنة.

3 -

ومن الرواية الخامسة يؤخذ استحباب لبس الثوب الأبيض، وقد أخرج أحمد "عليكم بالثياب

ص: 312

البيض فالبسوها فإنها أطيب وأطهر" وفي رواية: (فإنها من خير ثيابكم) وفائدة وصف أبي ذر لثوب النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: "أتيته وهو نائم" "ثم أتيته وقد استيقظ" الإشارة إلى استحضاره القصة بما فيها ليدل ذلك على إتقانه لها.

4 -

وفيه المراجعة في العلم بما تقرر عند الطالب في مقابلة ما يسمعه مما يخالف ذلك.

5 -

وفيه تقوى أبي ذر، واستعظامه المعاصي، وشدة نفرته من معصية الله وأهلها، وليس فيه كراهة أبي ذر لدخول العاصي الجنة، ولا ممانعة منه لذلك، وإنما صور بهذه الصورة لحرصه على الطاعات.

6 -

وفيه أن الطالب إذا ألح في المراجعة يزجر بما يليق به أخذا من قوله: "على رغم أنف أبي ذر".

والله أعلم

ص: 313