المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

172 -

عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس منا من ضرب الخدود. أو شق الجيوب. أو دعا بدعوى الجاهلية". هذا حديث يحيى وأما ابن نمير وأبو بكر فقالا "وشق ودعا" بغير ألف.

173 -

عن الأعمش بهذا الإسناد وقالا "وشق ودعا".

-[المعنى العام]-

إن الله خلق الإنسان هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا مسه الخير منوعا، لكنه جل شأنه أمره أن يعالج هذه الطباع بما يتفق وقواعد الشريعة السمحة، ليكون له بذلك الأجر، أمره بالصبر عند البلاء، والاستسلام للقضاء، كما أمره بالشكر على السراء، والحمد على الرخاء. عند ذلك يكون مؤمنا كاملا، ويكون حاله خيرا كله، إن أصابه شر صبر فكان له بذلك الأجر، وعوضه الله خيرا، وإن أصابه خير شكر فكان له بذلك الأجر، وزاده الله فضلا.

أما الجزع والهلع، والقنوط والتسخط ومظاهر ذلك من لطم الخدود وشق الجيوب والتلفظ بما يغضب الله، فإنه لا يرد المصاب، ولا يغير الواقع ولا يخفف الآلام النفسية، بل يشعل نار الحزن والأسى، ويورث غضب الله وسخطه وعذابه.

روى البخاري: أن بنت النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت إليه تقول: إن ابنا لي قبض، فائتنا. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرئ السلام ويقول: إن لله ما أخذ، ولله ما أعطى، وكل عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب.

هكذا يعلمنا الإسلام الإيمان بالله، والإيمان بالقدر خيره وشره. ولو آمنا بأن أموالنا وأولادنا وديعة عندنا، بل نحن في دنيانا وديعة يستردها الله متى شاء، ولا اعتراض على المالك عند استرداده وديعته، ولا حق لنا في الهلع على وديعة يأخذها صاحبها، لو آمنا بذلك، وعملنا بمقتضى هذا الإيمان، لكانت لنا البشرى، مصداقا لقوله تعالى:{وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 155 - 157].

ص: 333

-[المباحث العربية]-

(من ضرب الخدود) الخد: جانب الوجه، وللإنسان خدان، ولعل جمع "الخدود" على قول من يرى أن الجمع فوق الواحد. أو أن الإفراد في فاعل "ضرب" مراعاة للفظ "من" والمعنى على الجمع، فكأنه قال: من ضربوا الخدود، ومقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة آحادا، فيؤول المعنى إلى من ضرب الخد، والمقصود من ضرب الخدود: لطم الإنسان خد نفسه على سبيل الهلع والجزع عند المصائب، فلا يشمل ضرب الإنسان خد غيره، فهو من قبيل العام المخصوص بحكم العرف، وإطلاق الخد لأنه الغالب، وإلا فضرب بقية الوجه داخل في ذلك.

-[(أو شق الجيوب)]-

الجيب: ما يفتح من الثوب لإدخال الرأس منه، والمراد بشقه: إكمال فتحته إلى الآخر، أو زيادتها على وجه الهلع والتسخط.

وفي الرواية الثانية "وشق الجيوب" بالواو، وهي بمعنى "أو" لأن من فعل واحدة من الثلاث داخل في الوعيد، والتبري يقع بكل واحد من المذكورات، لا بمجموعها.

(ودعا بدعوى الجاهلية) أي بدعوى أهل الجاهلية كما جاء في بعض الروايات، والمراد بالجاهلية: ما كان في الفترة قبل الإسلام، والمراد بدعواها: ما كانوا يفعلونه من النياحة، وندبة الميت والدعاء بالويل والثبور، كما سيأتي.

-[فقه الحديث]-

قال الحافظ ابن حجر: ليس المراد به (أي بقوله: ليس منا) إخراجه عن الدين، ولكن فائدة إيراده بهذا اللفظ: المبالغة في الردع عن الوقوع في مثل ذلك، كما يقول الرجل لولده عند معاتبته: لست منك ولست مني أي ما أنت على طريقتي.

وقال ابن المنير: الأولى أن يقال: المراد أن الواقع في ذلك يكون قد تعرض لأن يهجر ويعرض عنه، فلا يختلط بجماعة السنة تأديبا له على استصحابه حالة الجاهلية التي قبحها الإسلام.

وقيل: المعنى ليس على ديننا الكامل، أي إنه خرج من فرع من فروع الدين وإن كان معه أصله. حكاه ابن العربي. قال الحافظ ابن حجر: ويظهر لي أن هذا النفي يفسره التبري في رواية البخاري "برئ منه النبي صلى الله عليه وسلم" وأصل البراءة: الانفصال من الشيء، وكأنه توعده بألا يدخله في شفاعته مثلا.

وقال المهلب: قوله "أنا بريء" أي من فاعل ما ذكر وقت ذلك الفعل [أي الموت]، ولم يرد نفيه عن الإسلام. اهـ.

ثم قال الحافظ ابن حجر: وكأن السبب في تحريم ما ذكر ما تضمنه ذلك من عدم الرضا بالقضاء،

ص: 334

فإن وقع التصريح بالاستحلال مع العلم بالتحريم، أو تسخط مثلا بما وقع، فلا مانع من حمل النفي على الإخراج من الدين. اهـ.

وأعتقد أن هذه الثلاثة: (ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعوى الجاهلية) إنما قصد بها التمثيل لا الحصر، لأنها هي التي كانت شائعة في هذه البيئة آنئذ، فيلحق بها ما يجري في هذه الأيام في بعض البلاد من دهان الوجه بالنيلة واللون الأزرق، وخنق الرقبة بالثياب والإمساك بطرفي الثوب بين اليدين والولولة به، ورفع التراب على الرأس، ونحو ذلك من مظاهر السخط وعدم الرضا بالقضاء. وهل يدخل في ذلك لبس السواد فوق مدة الحداد المشروعة، وترك الشعر بدون حلق، وتحريم أنواع من الأطعمة ونحوها من مظاهر الحزن؟ الظاهر: لا، وإن كان ذلك مخالفا للشرع أيضا.

وقد كانت النياحة في الجاهلية مظهرا من مظاهر حب الميت وتقديره والاعتزاز به، بل كان بعض الموتى يوصي بالمبالغة فيها قبل موته، حتى قال طرفة بن العبد:

إذا مت فانعيني بما أنا أهله

وشقي علي الجيب يا ابنة معبد

كما كان النساء يجامل بعضهن بعضا بالنياحة، وتلتزم الواحدة منهن رد ما قدمت الأخرى من النياحة عند مصيبتها، فشدد الرسول صلى الله عليه وسلم النهي عن النياحة، وكان فيما يأخذه على النساء عند البيعة ألا ينحن. وقال فيما رواه مسلم:"النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب".

أما البكاء من غير نوح فقد رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد يظن أن الرثاء، وذكر مآثر الميت ومحامده من المنهي عنه في قوله:"ودعا بدعوى الجاهلية". وليس الأمر كذلك، لأن المقصود بدعوى الجاهلية ألفاظ الأسى والتحسر التي كانت تصاحب المصيبة، والصراخ والعويل والندبة والدعاء بالويل والثبور.

لكن مواساة الميت بالحديث الحسن عنه، وبتعداد فضائله، فلا شيء فيه، فقد ورد "اذكروا محاسن موتاكم" على ألا يكون في ذلك إثارة الشجن، أو بعث الحسرة، أو تجديد الأحزان بعد فوات الأوان، ولشرح الحديث صلة وثيقة بالحديث الآتي، فليتبع.

والله أعلم

ص: 335

تابع باب ليس منا من ضرب الخدود

174 -

عن أبي بردة بن أبي موسى. قال: وجع أبو موسى وجعا فغشي عليه. ورأسه في حجر امرأة من أهله. فصاحت امرأة من أهله. فلم يستطع أن يرد عليها شيئا. فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بريء من الصالقة والحالقة والشاقة.

175 -

عن عبد الرحمن بن يزيد وأبي بردة بن أبي موسى قالا: أغمي على أبي موسى وأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة. قال: ثم أفاق. قال: ألم تعلمي (وكان يحدثها) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "أنا بريء ممن حلق وسلق وخرق".

176 -

عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث غير أن في حديث عياض الأشعري: "قال ليس منا" ولم يقل "بريء".

-[المعنى العام]-

مرض أبو موسى الأشعري وقت أن كان أميرا للبصرة من قبل عمر بن الخطاب، وبلغ به المرض حد الإغماء والغيبوبة وعدم التيقظ الكامل، وكان في حجر امرأة من نسائه فاسترخت أعضاؤه، وثقلت رأسه وأغمض عينيه، وانزعجت امرأته التي أقبلت في هذه الحالة، فصرخت باكية، ورفعت صوتها صائحة، وتنبه أبو موسى بعض التنبه لهذا الصياح لكنه لم يستطع أن ينهرها، ولم يقو لسانه على التحرك بكلمة، فلما أفاق وسري عنه ما كان به من غيبوبة قال لها: ألم أعظك وأعلمك أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الصائحة والحالقة شعرها والشاقة جيبها؟ وتبرأ من فعلهن؟ يا هذه، إني بريء من عاقبة صياحك، إني بريء مما تبرأ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد. وانزجرت امرأته، وعوفي أبو موسى من مرضه، وعاش بعده زمنا طويلا، رضي الله عنه وأرضاه.

ص: 336

-[المباحث العربية]-

(وجع أبو موسى وجعا) وجع -بكسر الجيم-: أصابه وجع وألم. وأبو موسى هو الأشعري وقوله: "وجعا" مفعول مطلق مؤكد للفعل أي وجع وجعا بالغا.

(فغشي عليه) بضم الغين وكسر الشين، وفي الرواية الثانية "أغمي على أبي موسى" ومعناهما واحد، أي أصابته غيبوبة من شدة المرض.

(ورأسه في حجر امرأة من أهله) جملة حالية، "حجر" بفتح الحاء وكسرها لغتان.

(فصاحت امرأة من أهله) أي صرخت ببكاء، وهذه المرأة غير السابقة، فإن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت الثانية غير الأولى، يؤيده الرواية الثانية "وأقبلت امرأته أم عبد الله" فالتي صاحت أم عبد الله، والتي حملت رأسه في حجرها أم أبي بردة.

(فلم يستطع أن يرد عليها شيئا) من الكلام إما لشدة الوجع، وإما لغيبوبته، وهو الأنسب لقوله:"فلما أفاق".

(أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم أصل البراءة: الانفصال، والمراد منها هنا التخلي والبعد عن التبعية والإثم، وكان الظاهر أن يقول:"ممن برئ" كما قال في الرواية الثانية: "ممن حلق". قال النووي: كذا هو في الأصول "مما" وهو صحيح، أي من الشيء الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(بريء من الصالقة) وهي التي تصرخ وتصيح، وترفع صوتها بالبكاء عند المصيبة والصالقة والسالقة -بالصاد والسين- لغتان، ومنه قوله تعالى:{سلقوكم بألسنة حداد} [الأحزاب: 19] وعليه صحت الرواية الثانية "أنا بريء ممن حلق وسلق" وحكي عن ابن الأعرابي: أن الصلق ضرب الوجه، والأول هو الذي عليه أهل اللغة.

(والحالقة) هي التي تحلق شعرها عند المصيبة.

(والشاقة) هي التي تشق ثوبها عند المصيبة، أي والشاقة جيبها، وهو المراد من الخرق في الرواية الثانية، إذ خرق الثوب شقه.

(تصريح برنة) بفتح الراء وتشديد النون، والرنة: صوت مع البكاء فيه ترجيع.

(ألم تعلمي) مفعولا "تعلمي" محذوفان، أي ألم تعلمي ما حدثتك به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعيد الصالقة؟ والاستفهام تقريري أي: أقري بأنك تعلمين، وأني علمتك.

(وكان يحدثها) وكان قبل الإغماء قد حدثها مرارا، فالتعبير بالمضارع للتجدد.

ص: 337

(أنا بريء ممن حلق) أي بريء من فعلهن، أو من إثمهن وما يستوجبن من عقوبة، أو من عهدة مالزمني بيانه من الحرمة، ويجوز أن يراد به ظاهره، أي أنا منفصل عن فاعل هذه الأمور ويصح أن يكون كناية عن الزجر والتحذير من الفعل، كما تقول لابنك: أنا بريء منك إذا فعلت كذا.

-[فقه الحديث]-

هذا الحديث أصل عظيم في النهي عن المنكر، والخروج من تبعة الوقوع فيه، وإذا كان الخلاف بين العلماء قد بلغ حده في تأثر الميت ببكاء أهله، وتعذبه بصراخهم بناء على الأحاديث الواردة في ذلك، فإنه مما لا شك فيه أن واجب المؤمن تحذير أهله من الوقوع في المنكر الذي يتوقع منهم أن يقعوا فيه، وإلا كان عليه تبعة التقصير في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ولنعرض لبعض النصوص في عذاب الميت ببكاء أهله، ثم نعود إلى تحقيق الموضوع:

روى البخاري: تحت باب قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6] قال عبد الله بن عمر، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الميت ليعذب ببكاء أهله" وعن عمر: أنه قال: يا صهيب. أتبكي علي وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه"؟ وفي رواية أنه قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي" وعن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من ينح عليه يعذب بما نيح عليه".

وعن ابن عمر عن أبيه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الميت يعذب في قبره بما نيح عليه".

وروى مسلم: أن حفصة بكت على عمر-حين طعن- فقال: مهلا يا بنية، ألم تعلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"؟

وعن ابن عمر قال: لما طعن عمر أغمي عليه، فصيح عليه، فلما أفاق قال: أما علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الميت ليعذب ببكاء الحي"؟

من مجموع هذه الروايات يفهم أن الميت يعذب ببكاء الحي، وعارضت عائشة في ذلك، وخصته بالكافرين، متمسكة بقوله تعالى:{ولا تزر وازرة وزر أخرى} [فاطر: 18] ومع أن تفصيل القول في هذه المسألة سيأتي في كتاب الجنائز فحاصل ما يقال فيها:

1 -

أن البكاء من غير نوح مرخص فيه شرعا، أخذا بما رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا يحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم.

وقال عمر حين قيل له إن النساء يبكين. قال: دعهن يبكين على أبي سليمان (يعني خالد بن الوليد) ما لم يكن نقع (أي تراب على الرأس) أو لقلقة (ترديد صوت النياحة) وإذا رخص في البكاء بدون نوح لم يعذب الميت به باتفاق. فتحمل أحاديث التعذيب بالبكاء على النوح.

ص: 338

2 -

أن النوح وضرب الخدود وشق الجيوب والحلق ونحوها من مظاهر الهلع منكرات إن أوصى الميت بها عذب على هذه الوصية باتفاق.

3 -

وأن من أوصي بها، ولم يتبرأ منها، وكانت في حياته من سننه يرضى بها، عذب بعد موته بفعل أهله لها، وعليه جمهور العلماء، وليست حينئذ من وزر غيره، بل من وزره.

4 -

وأن من لم يكن يرضى بها في دنياه، لكنه أهمل النهي عنها، والتبري من فاعلها، وهو يعتقد -أو يظن- أنهم سيفعلونها عذب بفعلها، لأنه أهمل النهي عن المنكر مع القدرة عليه وتوقع وقوعه، ولعل هذه الأحوال الثلاث (الثانية والثالثة والرابعة) داخلة في قوله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [التحريم: 6] ولعلها المرادة من أحاديث: يعذب الميت ببكاء أهله، ومن الحديث الذي رواه أحمد مرفوعا "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه؟ واناصراه؟ واكاسياه! جبذ الميت (أي جذب) وقيل له: أنت عضدها؟ أنت ناصرها! أنت كاسيها؟ ".

ورواه الترمذي بلفظ "ما من ميت يموت، فتقوم ناديته، فتقول: واجبلاه، واسنداه؟ أو شبه ذلك من القول إلا وكل به ملكان يلهذانه (أي يضربانه بمجمع اليد في الصدر والحنك) يقولان له: أهكذا كنت"؟

5 -

أما إذا نهاهم وتبرأ من فعلهم قبل موته، أو كان لا يظن أنهم يفعلون ذلك، فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، نعم قد يتعذب ويتألم بفعلهم إذا أحس به -وهو يشعر بخفق نعالهم -تألم المؤمن بسبب فعل غيره للمنكر، ويمكن أن يحمل قول من قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله على من كان له فيه تسبب، ومن قال: إنه لا يعذب ببكاء أهله على من ليس كذلك.

والله أعلم

ص: 339