الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(82) باب الوالي الغاش لرعيته
240 -
عن الحسن قال: عاد عبيد الله بن زياد معقل بن يسار المزني في مرضه الذي مات فيه. فقال معقل: إني محدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو علمت أن لي حياة ما حدثتك، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة".
241 -
عن الحسن، قال: دخل عبيد الله بن زياد على معقل بن يسار وهو وجع، فسأله فقال: إني محدثك حديثًا لم أكن حدثتكه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا يسترعي الله عبدا رعية، يموت حين يموت وهو غاش لها، إلا حرم الله عليه الجنة" قال: ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم؟ قال: ما حدثتك، أو لم أكن لأحدثك.
242 -
عن الحسن، قال: كنا عند معقل بن يسار نعوده، فجاء عبيد الله بن زياد، فقال له معقل: إني سأحدثك حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر بمعنى حديثهما.
243 -
عن أبي المليح، أن عبيد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه، فقال له معقل: إني محدثك بحديث لولا أني في الموت لم أحدثك به. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة".
-[المعنى العام]-
قدم عبيد الله بن زياد أميرا على البصرة من قبل معاوية، قدم غلاما سفيها، يسفك الدماء سفكا شديدا، ولا يرعى حرمات الناس: ولا يقيم حدود الله، وخشي الناس من ظلمه وبطشه، ولم يجرؤ أحد
أن يصارحه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من قربت منيته، روي أن عبد الله بن مغفل المزني دخل عليه ذات يوم فقال له: انته عما أراك تصنع. فقال له: وما أنت وذاك؟ فلما خرج ابن مغفل إلى المسجد قال له أصحابه: لم صنعت ما صنعت؟ ولما كلمت هذا السفيه على رءوس الناس؟ فقال: إنه كان عندي علم، فأحببت ألا أموت حتى أقول به على رءوس الناس. ثم قام. فما لبث أن مرض مرضه الذي توفي فيه فأتاه عبيد الله بن زياد يعوده، فوعظه بمثل الحديث الذي معنا.
وهذا معقل بن يسار، الصحابي الجليل، قد مرض مرضه الأخير يعوده أصحابه وفيهم الحسن البصري، ثم يدخل عليهم عبيد الله بن زياد يعوده ويسأله الدعاء له، فيقول له معقل: سأحدثك حديثًا ما حدثتك به من قبل، ولولا أني في عداد الموتى ما حدثتك به. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم، إلا حرم الله عليه الجنة. قال له عبيد الله بن زياد موبخا ومهددا: لم لم تحدثني بهذا قبل اليوم؟ قال له: لم أكن لأفعل، ولو علمت أن حياتي ستمتد بعد مرضي هذا ما حدثتك به، فخرج عبيد الله يضحك ساخرا من معقل، غير عابئ بما حدث به، وبلغ معقل الأمانة، ولقي ربه راضيا مرضيا.
-[المباحث العربية]-
(عن الحسن) البصري.
(عاد عبيد الله بن زياد) ابن أبيه، الذي يقال له: زياد بن أبي سفيان.
(في مرضه الذي مات فيه) كانت وفاة معقل بالبصرة فيما بين الستين إلى السبعين من الهجرة، في خلافة يزيد بن معاوية.
(قال معقل) مخاطبا عبيد الله بن زياد.
(إني محدثك حديثا)"حديثا" مفعول به ثان لمحدث.
(لو علمت أن لي حياة ما حدثتك) أي لو علمت أن حياتي تطول بعد مرضي هذا ما حدثتك خوفا من بطشك.
(ما من عبد)"ما" نافية و"من" زائدة، لتأكيد النفي و"عبد" مبتدأ.
(يسترعيه الله رعية) السين والتاء للصيرورة، أي يصيره الله راعيا لرعية، والجملة صفة (عبد) وفي رواية (استرعاه).
(يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته) جملة "وهو غاش" في محل النصب على الحال من "يموت" وهذا القيد هو المقصود في الجملة وجملة "يموت" صفة ثانية لعبد.
(إلا حرم الله عليه الجنة)"إلا" ملغاة، والجملة خبر "عبد".
(وهو وجع) بفتح الواو وكسر الجيم، أي متألم من مرضه، والجملة حال من "معقل".
(فسأله) أي سأل عبيد الله معقلا رضي الله عنه عن حاله، والأولى أن يقال: سأله الدعاء له، فإن معقلا كان من أهل الفضل الذين يزارون ويطلب دعاؤهم.
(قال: ألا كنت حدثتني هذا قبل اليوم)؟ "ألا" في الأصل للتحضيض وهي هنا للتوبيخ.
(كنا عند معقل بن يسار نعوده) جملة "نعوده" في محل النصب على الحال من الضمير المستكن في خبر "كان".
(لولا أني في الموت) في الكلام مضاف محذوف، أي في مرض الموت وفي مقدماته.
(ثم لا يجهد لهم)"يجهد" بفتح الياء وسكون الجيم وفتح الهاء أي يجتهد، وفي القاموس: جهد كمنع جد واجتهد، وفي رواية "ثم لا يجد" بكسر الجيم وتشديد الدال من الجد ضد الهزل.
(وينصح) في القاموس: نصحه ونصح له. وقال المازري: النصيحة مشتقة من نصحت العسل إذا صفيته، يقال: نصح الشيء إذا خلص، ونصح له القول إذا أخلصه له، أو مشتقة من النصح وهي الخياطة بالمنصحة وهي الإبرة، والمعنى: أنه يلم شعث رعيته بالنصح كما تلم المنصحة، ومنه التوبة النصوح، كأن الذنب يمزق الدين، والتوبة تخيطه. وقال الخطابي: النصيحة كلمة جامعة، معناها حيازة الحظ للمنصوح له.
-[فقه الحديث]-
في سبب عدم تحديث معقل قبل مرضه. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: إنما فعل هذا لأنه علم قبل هذا أنه ممن لا ينفعه الوعظ، كما ظهر منه مع غيره، ثم خاف معقل من كتمان الحديث، ورأى تبليغه، أو فعله لأنه خافه لو ذكره في حياته، لما يهيج عليه هذا الحديث ويثبته في قلوب الناس من سوء حاله. اهـ.
قال النووي: والاحتمال الثاني هو الظاهر، والأول ضعيف، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط باحتمال عدم قبوله. اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر: سبب ذلك هو ما وصفه به الحسن البصري من سفك الدماء، إذ جاء في بعض الروايات (لولا أني ميت ما حدثتك) فكأنه كان يخشى بطشه، فلما نزل به الموت أراد أن يكف بذلك بعض شره عن المسلمين. اهـ.
وهذا هو السبب الراجح، ويضم إليه الرغبة في براءة الذمة من كتمان العلم، وبذل النصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بكل ما يستطيع المؤمن.
أما تحريم الجنة على الراعي الغاش لرعيته ففيه التأويلان المتقدمان في أمثاله.
أحدهما: أنه محمول على المستحل.
والثاني: معناه حرم الله عليه دخولها مع الفائزين السابقين، ومعنى التحريم هنا المنع. قاله النووي.
ويؤيد التأويل الثاني الرواية الرابعة، إذ فيها:"إلا لم يدخل معهم الجنة".
وهذا مبني على أن الله سينفذ عليه وعيده، ولا يرضى عنه المظلومين.
وأما حقيقة غش الرعية فتحصل بظلمه لهم بأخذ أموالهم، أو سفك دمائهم، أو انتهاك أعراضهم، أو حبس حقوقهم، أو ترك تعريفهم ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم أو بإهمال إقامة الحدود فيهم وردع المفسدين منهم، أو ترك حمايتهم وحماية حوزتهم، أو مجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم، فإنما استرعاه الله ليرعى شئونهم ويعينهم، ويستر عوراتهم، ويسد خلاتهم، ويدفع المضار عنهم، ويجلب المنافع لهم، ويوقر كبيرهم، ويرحم صغيرهم، ويحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه.
فمن قلب القضية وضيع ما استرعاه الله أو خانهم أو ظلمهم فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا} [الفرقان: 27 - 28].
والله أعلم