المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

142 -

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال "الصلاة لوقتها" قال قلت: ثم أي؟ قال "بر الوالدين" قال قلت: ثم أي؟ قال "الجهاد في سبيل الله" فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه.

143 -

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال قلت: يا نبي الله! أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال "الصلاة على مواقيتها" قلت: وماذا يا نبي الله؟ قال "بر الوالدين" قلت: وماذا يا نبي الله؟ قال "الجهاد في سبيل الله".

144 -

عن أبي عمرو الشيباني قال: حدثني صاحب هذه الدار (وأشار إلى دار عبد الله) قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال "الصلاة على وقتها" قلت: ثم أي؟ قال "ثم بر الوالدين" قلت: ثم أي؟ قال "ثم الجهاد في سبيل الله" قال: حدثني بهن، ولو استزدته لزادني.

وحدثنا شعبة بهذا الإسناد مثله. وزاد: وأشار إلى دار عبد الله وما سماه لنا.

145 -

عن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أفضل الأعمال (أو العمل) الصلاة لوقتها، وبر الوالدين".

-[المعنى العام]-

وفي مجال التنافس في الخير، والسؤال عن أفضل القربات يسأل عبد الله بن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ وأي الطاعات أحب إلى الله؟ ويجيبه صلى الله عليه وسلم: أحب الأعمال إلى

ص: 273

الله المحافظة على أداء الصلوات في مواقيتها، قال ابن مسعود: ثم ماذا من أعمال الصالحات أحب إلى الله؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بر الوالدين ورعاية أمورهما والإحسان إليهما. قال: ثم أي الأعمال بعد بر الوالدين؟ قال: الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام ونشره بين الأمم.

وكان ابن مسعود يرغب في الاسترسال في أسئلته حرصا على الاستزادة من العلم ومعرفة أبواب الخير، لكنه استشعر أو خاف ملل الرسول صلى الله عليه وسلم فسكت شفقة منه عليه، وهو يعلم أنه لو سأل زيادة لأجيب.

فرضي الله عن ابن مسعود وعن سائر الصحابة الذين قال الله فيهم {يحبهم ويحبونه} [المائدة: 54] وصلى الله عليه وسلم على من قال فيه ربه {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128].

-[المباحث العربية]-

(أي العمل أفضل) وفي الرواية الثانية "أي الأعمال أقرب إلى الجنة" وفي الرواية الثالثة "أي الأعمال أحب إلى الله" والظاهر أن السؤال كان بالصيغة الأولى، والصيغتان الثانية والثالثة من تصرف الرواة، والرواية بالمعنى والتعبير بالملزوم بدل اللازم.

(الصلاة لوقتها) اللام للابتداء كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78].

أي الصلاة لابتداء وقتها، وقيل: للاستقبال كقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1].

أي الصلاة مستقبلة وقتها، وقيل: بمعنى "في" أي الصلاة في وقتها. ورواه الدارقطني بلفظ "لأول وقتها" وقال النووي عنها: إنها ضعيفة.

وفي روايتنا الثانية: الصلاة على مواقيتها" وفي روايتنا الثالثة كرواية البخاري "الصلاة على وقتها" ويمكن أن يفهم من هذه الرواية أن المقصود أول وقتها، من حيث إن لفظة "على" تقتضي الاستعلاء على جميع الأوقات، فيتعين أول الوقت.

والتحقيق أن الاستعلاء المفهوم من لفظ "على" إنما يدل على تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه، ولا يدل على أول الوقت، فالمراد التمكن من أدائها في أي جزء من أجزاء وقتها.

(ثم أي) قيل: الصواب أنه غير منون، لأن السائل ينتظر الجواب، والتنوين لا يوقف عليه، فتنوينه ووصله بما بعده خطأ، فيوقف عليه وقفة لطيفة، ثم يؤتى بما بعده، وهو مضاف تقديرا، والمضاف إليه محذوف لفظا، والتقدير: ثم أي العمل أفضل، فيوقف عليه بلا تنوين.

(بر الوالدين) قال أهل اللغة: بررت والدي - بكسر الراء- أبره- بضمها مع فتح الباء- برا، وأنا بر به - بفتح الباء- وبار، وجمع البر الأبرار وجمع البار البررة، والبر ضد العقوق.

ص: 274

(فما تركت أستزيده)"أن" المصدرية مقدرة، أو الفعل "أستزيده" مسبوك بمصدر من غير سابك على غير قياس، والمصدر مفعول "تركت" والتقدير: فما تركت الاستزادة منه إلا إشفاقا عليه.

(إلا إرعاء عليه) بكسر الهمزة وإسكان الراء وبالعين المهملة ممدود، ومعناه إبقاء عليه ورفقا به، وفي رواية الترمذي "فسكت عني رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني" فكأنه فهم منه السآمة، فسكت.

(حدثني بهن) مقول عبد الله بن مسعود، وفيه تقرير وتأكيد لما تقدم من أنه باشر السؤال وسمع الجواب.

(ولو استزدته) يريد من هذا النوع، وهو مراتب أفضل الأعمال.

-[فقه الحديث]-

قال ابن بطال: في الحديث أن البدار إلى الصلاة في أول أوقاتها أفضل من التراخي فيها، لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب. اهـ.

وقد اعترض ابن دقيق العيد على قول ابن بطال وقال: ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا، وكأن المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء. اهـ وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم، ولفظ "أحب" يقتضي المشاركة في الاستحباب، فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت. وأجيب على التعقيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال، فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارج وقتها من معذور كالنائم والناسي، فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم، ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبا، لكن إيقاعها في الوقت أحب. اهـ. فتح الباري.

ونحن مع ابن بطال في أن أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها لأن مجموع الروايات ["الصلاة لوقتها" و"الصلاة على مواقيتها" و"الصلاة على وقتها"] ترجح أن اللام للابتداء أو للاستقبال كما قلنا، لتتوافق مع الاستعلاء المأخوذ من "على" وتبعد أن اللام بمعنى "في" خصوصا وقد جاء التصريح بأول الوقت" الصلاة في أول وقتها" فيما أخرجه الحاكم والدارقطني والبيهقي عن علي بن حفص الذي قال عنه الحافظ ابن حجر: إنه شيخ صدوق من رجال مسلم: وهذا لا يمنع فضل الصلاة في وقتها، لكن الصلاة في أول وقتها أفضل من الصلاة في آخر وقتها ومن جميع الأعمال.

أما بر الوالدين فقد وضحه القرآن الكريم بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا} [العنكبوت: 8]. وبقوله: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} [الإسراء: 23، 24].

ص: 275

واقتضت الآيات الوصية بالوالدين والأمر بطاعتهما ولو كانا كافرين إلا إذا أمرا بالشرك فتجب معصيتهما في ذلك، عملا بقوله تعالى:{وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا} [لقمان: 15].

وقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: حلفت أم سعد لا تكلمه أبدا حتى يكفر بدينه، قالت: زعمت أن الله أوصاك بوالديك، فأنا أمك وأنا آمرك بهذا فنزلت {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما} [العنكبوت: 8].

وفي رواية: "قالت أمه: يا سعد لن آكل ولن أشرب حتى أموت، فتعير بي بين العرب، فيقال لك: يا قاتل أمه. فقال سعد: يا أماه. والله لقد علم العرب أنني أبر الناس بأمي، ولكن لو أن لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما رجعت عن ديني".

وقد اختلف العلماء في تقديم حق الأم في البر على الأب، فذهب الجمهور إلى أن للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البر، أخذا من الحديث الصحيح أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقال: "يا رسول الله. من أحق بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك" ومن الحديث الصحيح أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب فالأقرب".

قال الجمهور: وكان ذلك لصعوبة الحمل، ثم الوضع، ثم الرضاع. فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك في قوله تعالى:{ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها ووضعته كرها وحمله وفصاله ثلاثون شهرا} [الأحقاف: 15] فسوى بينهما في الوصاية وخص الأم بالأمور الثلاثة.

ونقل بعضهم عن مالك أنهما في البر سواء، أخذا مما روي عنه أنه سأله رجل قال: طلبني أبي فمنعتني أمي؟ قال مالك: "أطع أباك ولا تعص أمك" قال ابن بطال: هذا يدل على أنه يرى أن برهما سواء، إذ قال الليث حين سئل عن المسألة بعينها، قال: أطع أمك، فإن لها ثلثي البر، قال الحافظ ابن حجر: والصواب رأي الجمهور.

وعندي أن بعض الأمهات في بعض البلاد متخلفات العقل، قاصرات في التفكير، قد تأمر ابنها بما يضر دينه ودنياه، وتنهاه عما يصلح حاله. قد تأمره بزواج قريبتها وهو لا يهواها وليست بكفء لحاله، وقد تنهاه عن الزواج لمجرد حرصها على إبقائه في أحضانها، فطاعة الأم، وكذا طاعة الأب -بعد كمال رشد الابن- ليست على الإطلاق.

ومع هذا ينبغي على الابن أن يعمل على إرضائهما، مع المحافظة على ما يصلحه في الدين والدنيا.

ولا يتعارض هذا الرأي مع بر الوالدين، ولا مع توقف الجهاد على إذن الأبوين، لأن الجهاد الذي يتوقف على إذن الوالدين هو فرض الكفاية، والذي يصير غير واجب على من له

ص: 276

أبوان إذا قام به غيره. وبر الوالدين واجب عيني، فصح توقف هذا الجهاد على إذنهما. على أن هذا الجهاد يحرم الأبوين من البر زمنا قد يطول، بخلاف عصيان بعض أوامرهما لمصلحته، فإنه لا يحرمهما من البر والإحسان، ولا من طاعتهما في تعليماتهما الأخرى. وستأتي تتمة لهذا البحث في شرح الحديث الذي يلي الحديث الآتي.

أما عدم ذكر الإيمان بالله في الحديث فقد أجاب عنه ابن دقيق العيد حيث قال: الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية، وأراد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب، فلا تعارض بين هذا الحديث وبين حديث أبي هريرة السابق.

أما تقديم الصلاة على البر فلأن الصلاة شكر لله والبر شكر للوالدين، وشكر الله مقدم على شكر الوالدين، موافقة لقوله تعالى:{أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير} [لقمان: 14].

وأما تقديم البر على الجهاد فلأن المراد من الجهاد هنا غير فرض العين، وهو يتوقف على إذن الوالدين. بل يقدم بر الوالدين عليه، فقد روى النسائي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"يا رسول الله .. أردت الغزو وجئت لأستشيرك. فقال: هل لك من أم؟ قال: نعم قال: الزمها" ولمسلم عن عبد الله بن عمرو في نحو هذه القصة "ارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما" ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو" ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما" ولأبي داود أيضا "ارجع فاستأذنهما، فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما".

قال جمهور العلماء: يحرم الجهاد إذا منع الأبوان أو أحدهما، بشرط أن يكونا مسلمين، لأن برهما فرض عين عليه، والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن.

قال الحافظ ابن حجر بعد أن ساق هذه الأحاديث: واستدل بهذا على تحريم السفر بغير إذنهما، لأن الجهاد إذا منع مع فضيلته فالسفر المباح أولى. نعم إن كان سفره لتعلم فرض كفاية ففيه خلاف. اهـ.

قال الطبري: إنما خص صلى الله عليه وسلم هذه الثلاثة بالذكر لأنها عنوان على ما سواها من الطاعات، فإن من ضيع الصلاة المفروضة حتى يخرج وقتها في غير عذر مع خفة مؤونتها عليه، وعظم فضلها، فهو لما سواها أضيع، ومن لم يبر والديه مع وفور حقهما عليه، كان لغيرهما أقل برا، ومن ترك جهاد الكفار مع شدة عداوتهم للدين، كان لجهاد غيرهم من الفساق أترك.

فظهر أن الثلاثة تجتمع في أن من حافظ عليها كان لما سواها أحفظ، ومن ضيعها كان لما سواها أضيع. اهـ.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم]-

1 -

أن أعمال البر يفضل بعضها بعضا.

2 -

جواز السؤال عن مسائل متعددة في وقت واحد.

ص: 277

3 -

الرفق بالعالم والتوقف عن الإكثار عليه خشية الملل.

4 -

ما كان عليه الصحابة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم والشفقة عليه.

5 -

ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من إرشاد المسترشدين ولو شق عليه.

6 -

وفيه حسن المراجعة في السؤال.

7 -

وفيه جواز إخبار الإنسان عما لم يقع أنه لو كان كذا لوقع كذا.

8 -

ويؤخذ من قول الراوي "وأشار إلى دار عبد الله وما سماه لنا" أن الإشارة تنزل منزلة التصريح إذا كانت مفهمة معينة المشار إليه مميزة له عن غيره.

والله أعلم

ص: 278