الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر الْمَسَاجِد الْعَظِيمَة فِي الْعَالم
أعلم أَن الله سبحانه وتعالى فضل من الأَرْض بقاعا اختصها بتشريفه وَجعلهَا مَوَاطِن الْعِبَادَة يُضَاعف فِيهَا الثَّوَاب وينمو بهَا الأجور وَأخْبرنَا بذلك على ألسن رسله وأنبيائه لطفا بعباده وتسهيلا لطرق السَّعَادَة لَهُم وَكَانَت الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة هِيَ أفضل بقاع الأَرْض حسب مَا ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ وَهِي مَكَّة وَالْمَدينَة وَبَيت الْمُقَدّس
أما الْبَيْت الْحَرَام الَّذِي بِمَكَّة فَهُوَ بَيت إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام أمره الله ببنائه وَأَن يُؤذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ إِلَيْهِ فبناه هُوَ وَابْنه إِسْمَاعِيل كَمَا نَصه الْقُرْآن وَقَامَ بِمَا أمره الله فِيهِ وَسكن إِسْمَاعِيل بِهِ مَعَ هَاجر وَمن نزل مَعَهم من جرهم إِلَى أَن قبضهما الله ودفنا بِالْحجرِ مِنْهُ
وَبَيت الْمُقَدّس بناه دَاوُد عليه السلام وَسليمَان أَمرهمَا الله بِبِنَاء مَسْجده وَنصب هياكله وَدفن كثير من الْأَنْبِيَاء من ولد إِسْحَاق عليه السلام حواليه
وَالْمَدينَة مهَاجر نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم أمره الله تَعَالَى بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا وَإِقَامَة دين الْإِسْلَام بهَا فَبنى مَسْجده الْحَرَام بهَا وَكَانَ ملحده الشريف فِي تربَتهَا فَهَذِهِ الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة قُرَّة عين الْمُسلمين ومهوى أفئدتهم وعظمة دينهم وَفِي الْآثَار من ففضلها ومضاعفة الثَّوَاب فِي مجاورتها وَالصَّلَاة فِيهَا كثير مَعْرُوف فلنشر إِلَى شَيْء من الْخَبَر عَن أولية هَذِه الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة وَكَيف تدرجت أحوالها إِلَى أَن كمل ظُهُورهَا فِي الْعَالم
فَأَما مَكَّة فأوليتها فِيمَا يُقَال أَن آدم صلوَات الله عَلَيْهِ بناها قبالة الْبَيْت
الْمَعْمُور ثمَّ هدمها الطوفان بعد ذَلِك وَلَيْسَ فِيهِ خبر صَحِيح يعول عَلَيْهِ وَإِنَّمَا إقتبسوه من مَحل الْآيَة فِي قَوْله {وَإِذ يرفع إِبْرَاهِيم الْقَوَاعِد من الْبَيْت وَإِسْمَاعِيل} ثمَّ بعث الله إِبْرَاهِيم وَكَانَ من شَأْنه وشأن زَوجته سارة وغيرتها من هَاجر مَا هُوَ مَعْرُوف وَأوحى الله إِلَيْهِ أَن يتْرك ابْنه إِسْمَاعِيل وَأمه هَاجر بالفلاة فوضعهما فِي مَكَان الْبَيْت وَسَار عَنْهُمَا وَكَيف جعل الله لَهما من اللطف فِي نبع مَاء زَمْزَم ومرور الرّفْقَة من جرهم بهما حَتَّى احتملوهما وَسَكنُوا إِلَيْهِمَا ونزلوا مَعَهُمَا حوالي زَمْزَم كَمَا عرف فِي مَوْضِعه فَاتخذ إِسْمَاعِيل بِموضع الْكَعْبَة بَيْتا يأوي إِلَيْهِ وأدار عَلَيْهِ سياجا من الدوم وَجعله زربا لغنمه وَجَاء إِبْرَاهِيم صلوَات الله عَلَيْهِ مرَارًا لزيارته من الشَّام أَمر فِي آخرهَا بِبِنَاء الْكَعْبَة مَكَان ذَلِك الزرب فبناه واستعان فِيهِ بإبنه إِسْمَاعِيل ودعا النَّاس إِلَى حجَّة وَبَقِي إِسْمَاعِيل سَاكِنا بِهِ وَلما قبضت أمه هَاجر وَقَامَ بنوه من بعده بِأَمْر الْبَيْت مَعَ أخوالهم من جرهم ثمَّ العماليق من بعدهمْ وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك وَالنَّاس يهرعون إِلَيْهَا من كل أفق من جَمِيع أهل الخليقة لَا من بني إِسْمَاعِيل وَلَا من غَيرهم مِمَّن دنا أَو نأى فقد نقل أَن التبابعة كَانَت تحج الْبَيْت وتعظمه وَأَن تبعا كساها الملاء والوصائل وَأمر بتطهيرها وَجعل لَهَا مفتاحا وَنقل أَيْضا ان الْفرس كَانَت تحجه وتقرب إِلَيْهِ وَإِن غزالي الذَّهَب اللَّذين وجدهما عبد الْمطلب حِين احتفر زَمْزَم كَانَا من قرابينهم وَلم يزل بجرهم الْولَايَة عَلَيْهِ من بعد ولد إِسْمَاعِيل من قبل خؤولتهم حَتَّى إِذا خرجت خُزَاعَة وَأَقَامُوا بهَا بعدهمْ مَا شَاءَ الله ثمَّ كثر ولد إِسْمَاعِيل وانتشروا وتشعبوا إِلَى كنَانَة ثمَّ كنَانَة إِلَى قُرَيْش وَغَيرهم وَسَاءَتْ ولَايَة خُزَاعَة فَغَلَبَتْهُمْ قُرَيْش على أمره وأخرجوهم من الْبَيْت وملكوا عَلَيْهِم يَوْمئِذٍ قصي بن كلاب فَبنى الْبَيْت وسقفه بخشب الدوم وجريد النّخل قَالَ الْأَعْشَى
(حَلَفت بثوبي رَاهِب الدَّيْر وَالَّتِي
…
بناها قصي والمضاض بن جرهم)
ثمَّ أصَاب الْبَيْت سيل وَيُقَال حريق وتهدم وأعادوا بناءه وجمعوا النَّفَقَة لذَلِك من أمولهم وانكسرت سفينة بساحل جدة فاشتروا خشبها
للسقف وَكَانَت جدرانه فَوق الْقَامَة فجعلوها ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا وَكَانَ الْبَاب لاصقا بِالْأَرْضِ فجعلوه فَوق الْقَامَة لِئَلَّا تدخله السُّيُول وَقصرت بهم النَّفَقَة عَن إِتْمَامه فقصروا عَن قَوَاعِده وَتركُوا مِنْهُ سِتَّة أَذْرع وشبرا أداروها بجدار قصير يُطَاف من وَرَائه وَهُوَ الْحجر
وَبَقِي الْبَيْت على هَذَا الْبناء إِلَى أَن تحصن ابْن الزبير بِمَكَّة حِين دَعَا لنَفسِهِ وزحفت إِلَيْهِ جيوش يزِيد ين مُعَاوِيَة مَعَ الْحصين بن نمير السكونِي وَرمى الْبَيْت سنة أَربع وَسِتِّينَ فَأَصَابَهُ حريق يُقَال من النفط الَّذِي رموا بِهِ على ابْن الزبير فَأَعَادَ بناءه أحسن مِمَّا كَانَ بعد أَن اخْتلفت عَلَيْهِ الصَّحَابَة فِي بنائِهِ وَاحْتج عَلَيْهِم بقول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لعَائِشَة رضي الله عنها لَوْلَا قَوْمك حديثو عهد بِكفْر لرددت الْبَيْت على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم ولجعلت لَهُ بَابَيْنِ شرقيا وغربيا فهدمه وكشف عَن أساس إِبْرَاهِيم عليه السلام وَجمع الْوُجُوه والأكابر حَتَّى عينوه وَأَشَارَ عَلَيْهِ ابْن عَبَّاس بِالتَّحَرِّي فِي حفظ الْقبْلَة على النَّاس فأدار على الأساس الْخشب وَنصب من فَوْقهَا الأستار حفظا للْقبْلَة وَبعث إِلَى صنعاء فِي الْفضة والكلس فحملها وَسَأَلَ عَن مقطع الْحِجَارَة الأول فَجمع مِنْهَا مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ ثمَّ شرع فِي الْبناء على أساس إِبْرَاهِيم عليه السلام وَرفع جدرانها سبعا وَعشْرين ذِرَاعا وَجعل لَهَا بَابَيْنِ لاصقين بِالْأَرْضِ كَمَا روى فِي حديه وَجعل فرشها وارها بالرخام وصاغ لَهَا المفاتيح وصفائح الْأَبْوَاب من الذَّهَب
ثمَّ جَاءَ الْحجَّاج لحصاره أَيَّام عبد الْملك وَرمى على الْمَسْجِد بالمنجنيقات إِلَى أَن تصدعت حيطانها ثمَّ لما ظفر بِابْن الزبير شاور عبد الْملك فِيمَا بناه وزاده فِي الْبَيْت فَأمره بهدمه ورد الْبَيْت على قَوَاعِد قُرَيْش كَمَا هِيَ الْيَوْم وَيُقَال انه نَدم على ذَلِك حِين علم صِحَة رِوَايَة ابْن الزبير لحَدِيث عَائِشَة
وَقَالَ وددت أَنِّي كنت حملت أَبَا خبيب فِي أَمر الْبَيْت وبنائه مَا تحمل فهدم الْحجَّاج مِنْهَا سِتَّة أَذْرع وشبرا مَكَان الْحجر وبناها على أساس قُرَيْش وسد الْبَاب الغربي وَمَا تَحت عتبَة بَابهَا الْيَوْم من الْبَاب الشَّرْقِي
وَترك ساترها لم يُغير مِنْهُ شَيْئا فَكل الْبناء الَّذِي فِيهِ الْيَوْم بِنَاء ابْن الزبير وَبِنَاء الْحجَّاج فِي الْحَائِط صلَة ظَاهِرَة للعيان لحْمَة ظَاهِرَة بَين البنائين وَالْبناء متميز عَن الْبناء بِمِقْدَار اصبع شبه الصدع وَقد لحم
ويعرض هَا هُنَا أشكال قوي لمنافاته لما يَقُوله الْفُقَهَاء فِي أَمر الطّواف ويحذر الطَّائِف عَن أَن يمِيل على الشاذروان الدائر على أساس الْجدر من أَسْفَلهَا فَيَقَع طَوَافه دَاخل الْبَيْت بِنَاء على أَن الْجدر إِنَّمَا قَامَت على بعض الأساس وَترك بعضه وَهُوَ مَكَان الشاذروان وَكَذَا قَالُوا فِي تَقْبِيل الْحجر الْأسود لابد من رُجُوع الطَّائِف من التَّقْبِيل حَتَّى يَسْتَوِي قَائِما لِئَلَّا يَقع بعض طَوَافه دَاخل الْبَيْت وَإِذا كَانَت الجدران كلهَا من بِنَاء الزبير وَهُوَ إِنَّمَا على أساس إِبْرَاهِيم فَكيف يَقع هَذَا الَّذِي قَالُوهُ وَلَا ومخلص من هَذَا إِلَّا بأ أحد أَمريْن إِمَّا أَن يكون الْحجَّاج هدم جَمِيعه وَأَعَادَهُ وَقد نقل ذَلِك جمَاعَة إِلَّا أَن العيان فِي شَوَاهِد الْبناء بالتحام مَا بَين بنائين وتمييز أحد الشقين من أَعْلَاهُ عَن الآخر فِي الصِّنَاعَة يرد ذَلِك وَإِمَّا أَن يكون ابْن الزبير لم يرد الْبَيْت على أساس إِبْرَاهِيم من جَمِيع جهاته وَإِنَّمَا فعل ذَلِك فِي الْحجر فَقَط ليدخله فَهِيَ الْآن مَعَ كَونهَا من بِنَاء ابْن الزبير لَيست على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم وَهَذَا بعيد وَلَا محيص من هذَيْن وَالله تَعَالَى أعلم
ثمَّ أَن مساحة الْبَيْت وَهُوَ الْمَسْجِد كَانَ فضاء للطائفين وَلم يكن عَلَيْهِ جدر أَيَّام النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَأبي بكر من بعده ثمَّ كثر النَّاس فَاشْترى عمر رضي الله عنه دورا هدمها وزادها فِي الْمَسْجِد وأدار عَلَيْهَا جدارا دون الْقَامَة وَفعل مثل ذَلِك عُثْمَان ثمَّ ابْن الزبير ثمَّ الْوَلِيد بن عبد الْملك وبناه بعمد الرخام ثمَّ زَاد فِيهِ الْمَنْصُور وَابْنه الْمهْدي ووقفت الزِّيَادَة واستقرت على ذَلِك لعهدنا
وتشريف الله لهَذَا الْبَيْت وعنايته بِهِ أَكثر من أَن يحاط بِهِ وَكفى من ذَلِك أَن جعله مهبطا للوحي وَالْمَلَائِكَة ومكانا لِلْعِبَادَةِ وَفرض لَهُ شَعَائِر الْحَج ومناسكه وَأوجب لحرمه من سَائِر نواحيه من حُقُوق التَّعْظِيم وَالْحق مَا لم يُوجِبهُ لغيره فَمنع كل من خَالف دين الْإِسْلَام من دُخُول ذَلِك
الْحرم وَأوجب على دَاخله أَن يتجرد وَمن الْمخيط إِلَّا إزارا يستره وَحمى العائذ بِهِ والراتع فِي مسارحه من مواقع الْآفَات فَلَا يرام فِيهِ خَائِف وَلَا يصاد لَهُ وَحش وَلَا يحتطب لَهُ شجر وحد الْحرم الَّذِي يخْتَص بِهَذِهِ الْحُرْمَة من طَرِيق الْمَدِينَة ثَلَاثَة أَمْيَال إِلَى التَّنْعِيم وَمن طَرِيق الْعرَاق سَبْعَة أَمْيَال إِلَى الثَّنية من جبل الْمُنْقَطع وَمن طَرِيق الطَّائِف سَبْعَة أَمْيَال إِلَى بطن نمرة وَمن طَرِيق جدة سَبْعَة أَمْيَال إِلَى مُنْقَطع العشائر هَذَا شَأْن مَكَّة وخبرها وَتسَمى أم الْقرى وَتسَمى الْكَعْبَة لعلوها من إسم الكعب وَيُقَال لَهَا بكة
قَالَ الْأَصْمَعِي لِأَن النَّاس يبك بَعضهم بَعْضًا إِلَيْهَا أَي يدْفع
وَقَالَ مُجَاهِد بَاء بكة أبدلوها ميما كَمَا قَالُوا لازب ولازم لقرب المخرجين
وَقَالَ النَّخعِيّ بِالْبَاء الْبَيْت وبالميم الْبَلَد
وَقَالَ الزُّهْرِيّ بِالْبَاء لِلْمَسْجِدِ كُله وبالميم للحرم وَقد كَانَت الْأُمَم مُنْذُ عهد الْجَاهِلِيَّة تعظمه والملوك تبْعَث إِلَيْهِ بالأموال والذخائر ككسرى وَغَيره وقصة الأسياف وغزالي الذَّهَب مَعْرُوفَة
وَقد وجد رَسُول الله صلى الله عليه وسلم حِين افْتتح مَكَّة فِي الْجب الَّذِي كَانَ فِيهِ سبعين ألف أُوقِيَّة من الذَّهَب مِمَّا كَانَ الْمُلُوك يهْدُونَ للبيت فِيهَا ألف ألف دِينَار مكرره مرَّتَيْنِ بِمِائَتي قِنْطَار وزنا
وَقَالَ لَهُ عَليّ بن أبي طَالب يَا رَسُول الله لَو استعنت بِهَذَا المَال على حربك فَلم يفعل ثمَّ ذكر لأبي بكر فَلم يحركه هَكَذَا قَالَ الْأَزْرَقِيّ وَفِي البُخَارِيّ بِسَنَدِهِ إِلَى وَائِل قَالَ جَلَست إِلَى شيبَة بن عُثْمَان وَقَالَ جلس إِلَى عمر بن الْخطاب فَقَالَ هَمَمْت أَن لَا أدع فِيهَا صفراء وَلَا بَيْضَاء إِلَّا قسمتهَا بَين الْمُسلمين قلت مَا أَنْت بفاعل قَالَ وَلم قلت لم يَفْعَله صاحباك فَقَالَ هما اللَّذَان يَقْتَدِي بهما وخرجه أَبُو دَاوُد ابْن مَاجَه وَأقَام ذَلِك المَال إِلَى أَن كَانَت فتْنَة الْأَفْطَس وَهُوَ الْحسن بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن عَليّ العابدين سنة تسع وَتِسْعين وَمِائَة حِين غلب على مَكَّة عمد إِلَى الْكَعْبَة فَأخذ مَا فِي خزائنها
وَقَالَ مَا تصنع الْكَعْبَة بِهَذَا المَال مَوْضُوعا فِيهَا لَا ينْتَفع بِهِ نَحن أَحَق بِهِ نستعين بِهِ على حربنا وَأخرجه وَتصرف فِيهِ وَبَطلَت الذَّخِيرَة من الْكَعْبَة من يَوْمئِذٍ ذكر ذَلِك كُله ابْن خلدون فِي تَارِيخه وَفِي كتَابنَا رحْلَة الصّديق إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق من شَأْن الْكَعْبَة وَمَكَّة ومناسك الْحَج وَالْعمْرَة مَا يُغني
قَالَ القَاضِي مُحَمَّد بن عَليّ الشَّوْكَانِيّ فِي إرشاد السَّائِل إِلَى دَلِيل الْمسَائِل عمَارَة المقامات بِمَكَّة المكرمة بِدعَة بِإِجْمَاع الْمُسلمين أحدثها شَرّ مُلُوك الجراكسة فَرح بن برقوق فِي أَوَائِل الْمِائَة التَّاسِعَة من الْهِجْرَة وَأنكر ذَلِك أهل الْعلم فِي ذَلِك الْعَصْر وَوَضَعُوا فِيهِ مؤلفات وَقد بيّنت ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع ويالله الْعجب من بِدعَة يحدثها من هُوَ من شَرّ مُلُوك الْمُسلمين فِي خير بقاع الأَرْض كَيفَ لم يغْضب لَهَا من جَاءَ بعده من الْمُلُوك المائلين إِلَى الْخَيْر لَا سِيمَا وَقد صَارَت هَذِه المقامات سَببا من أَسبَاب تَفْرِيق الْجَمَاعَات وَقد كَانَ الصَّادِق المصدوق ينْهَى عَن الإختلاف والفرقة ويرشد إِلَى الإجتماع والألفة كَمَا فِي الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة بل نهى عَن تَفْرِيق الْجَمَاعَات فِي الصَّلَوَات وَبِالْجُمْلَةِ فَكل عَاقل متشرع يعلم أَنه حدث بِسَبَب هَذِه الْمذَاهب الَّتِي فرقت فرق الْإِسْلَام مفْسدَة أُصِيب بهَا الدّين وَأَهله وَأَن من أعظمها خطرا وأشدها على الْإِسْلَام مَا يَقع الْآن فِي الْحرم الشريف من تَفْرِيق الْجَمَاعَات ووقوف كل طَائِفَة فِي مقَام من هَذِه المقامات كَأَنَّهُمْ أهل أَدْيَان مُخْتَلفَة وَشَرَائِع غير مؤتلفة فَإنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون
وَأما رفع المنارات فَأصل وَضعهَا لمقصد صَالح وَهُوَ إسماع الْبعيد عَن مَحل الآذان وَهَذِه مصلحَة مسوغة إِذا لم تعارضها مفْسدَة فَإِن عارضتها مفْسدَة من الْمَفَاسِد الْمُخَالفَة للشريعة فَدفع الْمَفَاسِد مقدم على جلب الْمصَالح كَمَا تقرر ذَلِك فِي الْأُصُول وَأما تشتيد الْبُنيان وَرَفعه فَوق حَاجَة الْإِنْسَان فقد ورد النَّهْي عَنهُ والوعيد عَلَيْهِ وَثَبت أَنه صلى الله عليه وسلم أَمر بهدم بعض الْأَبْنِيَة وَلَيْسَ ذَلِك مُجَرّد بِدعَة بل خلاف مَا أرشد إِلَيْهِ الشَّارِع انْتهى كَلَامه
وَأما بَيت الْمُقَدّس وَهُوَ الْمَسْجِد الْأَقْصَى فَكَانَ أول أمره أَيَّام
الصابئية مَوضِع الزهرة وَكَانُوا يقربون إِلَيْهِ الزَّيْت فِيمَا يقربونه يصبونه على الصَّخْرَة الَّتِي هُنَاكَ ثمَّ دثر دلك الهيكل واتخذها بَنو إِسْرَائِيل حِين ملكوها قبْلَة لصلاتهم وَذَلِكَ أَن مُوسَى صلوَات الله عَلَيْهِ لما خرج ببني إِسْرَائِيل من مصر لتمكينهم بَيت الْمُقَدّس كَمَا وعد الله أباهم إِسْرَائِيل وأباه إِسْحَاق من قبله وَأَقَامُوا بِأَرْض التيه أمره الله باتخاذ قبَّة من خشب السنط عين بِالْوَحْي مقدارها وصفتها وهياكلها وتماثيلها وَأَن يكون فِيهِ التابوت ومائدة بصحافها ومنارة بقناديلها وَأَن يضع مذبحا للقربان وصف ذَلِك كُله فِي التَّوْرَاة أكمل وصف فَصنعَ الْقبَّة وَوضع فِيهَا تَابُوت الْعَهْد وَهُوَ التابوت الَّذِي فِيهِ الألواح المصنوعة عوضا عَن الألواح الْمنزلَة بالكلمات الْعشْر لما تَكَسَّرَتْ وَوضع المذبح عِنْدهَا وعهد الله إِلَى مُوسَى بِأَن يكون هَارُون صَاحب القربان ونصبوا تِلْكَ الْقبَّة بَين خيامهم فِي التيه يصلونَ إِلَيْهَا ويتقربون فِي المذبح أمامها ويتعرضون للوحي عِنْدهَا وَلما ملكوا الشَّام وَبقيت تِلْكَ الْقبَّة قبلتهم ووضعوها على الصَّخْرَة بِبَيْت الْمُقَدّس وَأَرَادَ دَاوُد عليه السلام بِنَاء مَسْجده على الصَّخْرَة مَكَانهَا فَلم يتم لَهُ ذَلِك وعهد بِهِ إِلَى ابْنه سُلَيْمَان فبناه لأَرْبَع سِنِين من ملكه ولخمسمائة سنة من وَفَاة مُوسَى وَاتخذ عمده من الصفر وَجعل بِهِ صرح الزّجاج وغشى أبوابه وحيطانه بِالذَّهَب وصاغ هياكله وتماثيله وأوعيته ومنارته ومفتاحه من الذَّهَب وَجعل فِي ظَهره قبرا ليضع فِيهِ تَابُوت الْعَهْد وَهُوَ التابوت الَّذِي فِيهِ الألواح وَجَاء بِهِ من صهيون بلد أَبِيه دَاوُد تحمله الأسباذ والكهونية حَتَّى وَضعه فِي الْقَبْر وَوضعت الْقبَّة والأوعية والمذبح لكل وَاحِد حَيْثُ أعد لَهُ من الْمَسْجِد وَأقَام كَذَلِك مَا شَاءَ الله ثمَّ خربه بخت نصر بعد ثَمَانمِائَة سنة من بنائِهِ وأحرق التَّوْرَاة والعصا وصاغ الهياكل ونثر الْأَحْجَار
ثمَّ لما أعادهم مُلُوك الْفرس بناه عَزِيز نَبِي بني إِسْرَائِيل لعهده بإعانة بهمن ملك الْفرس الَّذِي كَانَت الْولادَة لبني إِسْرَائِيل عَلَيْهِ من سبي بخت نصر وحد لَهُم فِي بنائِهِ حُدُود دون بِنَاء سُلَيْمَان بن دَاوُد عليهما السلام فَلم يتجاوزوها ثمَّ تداولتهم مُلُوك اليونان وَالْفرس وَالروم واستفحل
الْملك لبني إِسْرَائِيل فِي هَذِه الْمدَّة ثمَّ لبني خسمان من كهنتهم ثمَّ لصهرهم هيرودوس ولبنيه من بعده وَبني هيردوس بِبَيْت الْمُقَدّس على بِنَاء سُلَيْمَان عليه السلام وتأنق فِيهِ حَتَّى أكمله فِي سِتّ سِنِين فَلَمَّا جَاءَ طيطش من مُلُوك الرّوم وغلبهم وَملك أَمرهم خرب بَيت الْمُقَدّس ومسجدها وَأمر أَن يزرع مَكَانَهُ ثمَّ أخذُوا الرّوم بدين الْمَسِيح عليه السلام ودانوا بتعظيمه ثمَّ اخْتلف حَال مُلُوك الرّوم فِي الْأَخْذ بدين النَّصَارَى تَارَة وَتَركه أُخْرَى إِلَى أَن جَاءَ قسطنطين وتنصرت أمة هيلانة وَارْتَحَلت إِلَى الْمُقَدّس فِي طلب الْخَشَبَة الَّتِي صلب عَلَيْهَا الْمَسِيح بزعمهم فَأَخْبرهَا القساسة بِأَنَّهُ رمى بخشبة على الأَرْض وَألقى عَلَيْهَا القمامات والقاذورات فاستخرجت الْخَشَبَة وَبنت مَكَان تِلْكَ القمامات كَنِيسَة القمامة كَأَنَّهَا على قَبره بزعمهم وَخَربَتْ مَا وجدت من عمَارَة الْبَيْت وَأمرت بطرح الزبل والقمامات على الصَّخْرَة حَتَّى غطاها وخفي مَكَانهَا جُزْءا بزعمها لما فَعَلُوهُ بِقَبْر الْمَسِيح ثمَّ بنوا بِإِزَاءِ القمامة بَيت لحم وَهُوَ الْبَيْت الَّذِي ولد فِيهِ عِيسَى عليه السلام وَبَقِي الْأَمر كَذَلِك إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام وَحضر عمر لفتح بَيت الْمُقَدّس وَسَأَلَ عَن الصَّخْرَة فأري مَكَانهَا وَقد علاها الزبل وَالتُّرَاب فكشف عَنْهَا وَبنى عَلَيْهَا مَسْجِدا على طَرِيق البداوة وَعظم من شانه مَا أذن الله من تعظمه وَمَا سبق من أم الْكتاب فِي فَضله حسب مَا ثَبت ثمَّ احتفل الْوَلِيد بن عبد الْملك فِي تشييد مَسْجده على سنَن مَسَاجِد الْإِسْلَام بِمَا شَاءَ الله من الاحتفال كَمَا فعل فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَفِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ وَفِي مَسْجِد دمشق وَكَانَت الْعَرَب تسميه بلاط الْوَلِيد وألزم ملك الرّوم أَن يبْعَث الفعلة وَالْمَال لبِنَاء هَذِه الْمَسَاجِد وَأَن ينمقوها بالفسيفساء فأطاع لذَلِك وَتمّ بناؤها على مَا اقترحه ثمَّ لما ضعف أَمر الْخلَافَة أَعْوَام الْخَمْسمِائَةِ من الْهِجْرَة فِي آخرهَا وَكَانَت فِي ملكة العبيديين خلفاء الْقَاهِرَة من الشِّيعَة واختل أَمرهم زحف الفرنجة إِلَى بَيت الْمُقَدّس فملكوه وملكوا مَعَه عَامَّة ثغور الشَّام وبنوا على الصَّخْرَة المقدسة مِنْهُ كَنِيسَة كَانُوا يعظمونها ويفتخرون ببنائها حَتَّى إِذا اسْتَقل صَلَاح الدّين ابْن أَيُّوب الْكرْدِي بِملك مصر وَالشَّام ومحا أثر الْعِيدَيْنِ وبدعهم زحف إِلَى الشَّام وجاهد من كَانَ بِهِ من الفرنجة حَتَّى غلبهم على بَيت الْمُقَدّس وعَلى
مَا كَانُوا ملكوه من ثغور الشَّام وَذَلِكَ لمحو ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة من الْهِجْرَة وَهدم تِلْكَ الْكَنِيسَة وَأظْهر الصَّخْرَة وَبنى الْمَسْجِد على النَّحْو الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ الْيَوْم لهَذَا الْعَهْد وَلَا يعرض لَك الأشكال الْمَعْرُوف فِي الحَدِيث الصَّحِيح أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَن أول بَيت وضع فَقَالَ مَكَّة قيل ثمَّ أَي قَالَ بَيت الْمُقَدّس قيل فكم بَينهمَا قَالَ أَرْبَعُونَ سنة فَإِن الْمدَّة بَين بِنَاء مَكَّة وَبَين بِنَاء بَيت الْمُقَدّس بِمِقْدَار مَا بَين إِبْرَاهِيم وَسليمَان لِأَن سُلَيْمَان بانيه وَهُوَ ينيف على الْألف بِكَثِير وَاعْلَم أَن المُرَاد بِالْوَضْعِ فِي الحَدِيث لَيْسَ الْبناء وَإِنَّمَا المُرَاد أول بَيت عين لِلْعِبَادَةِ وَلَا يبعد أَن يكون بَيت الْمُقَدّس عين لِلْعِبَادَةِ قبل بِنَاء سُلَيْمَان بِمثل هَذِه الْمدَّة وَقد نقل أَن الصابئية بنوا على الصَّخْرَة هيكل الزهرة فَلَعَلَّ ذَلِك أَنَّهَا كَانَت مَكَانا لِلْعِبَادَةِ كَمَا كَانَت الْجَاهِلِيَّة تضع الْأَصْنَام والتماثيل حوالي الْكَعْبَة وَفِي جوفها والصابئية الَّذين بنوا هيكل الزهرة كَانُوا على عهد إِبْرَاهِيم عليه السلام فَلَا تبعد مُدَّة الْأَرْبَعين سنة بَين وضع مَكَّة لِلْعِبَادَةِ وَوضع بَيت الْمُقَدّس وَإِن لم يكن هُنَاكَ بِنَاء كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف وَأَن أول من بنى بَيت الْمُقَدّس سُلَيْمَان عليه السلام فَفِيهِ حل هَذَا الْإِشْكَال
وَأما الْمَدِينَة وَهِي الْمُسَمَّاة بِيَثْرِب فَهِيَ من بِنَاء يثرب بن مهلائل من العمالقة وملكها بَنو إِسْرَائِيل من أَيْديهم فِيمَا ملكوا من أَرض الْحجاز ثمَّ جاورهم بَنو قيلة من غَسَّان وغلبوهم عَلَيْهَا وعَلى حصونها ثمَّ أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالْهِجْرَةِ إِلَيْهَا لما سبق من عناية الله بهَا فَهَاجَرَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ أَبُو بكر وَتَبعهُ أَصْحَابه وَنزل بهَا وَبنى مَسْجده وبيوته فِي الْموضع الَّذِي كَانَ الله قد أعده لذَلِك وشرفه فِي سَابق أزله وآواه أَبنَاء قيلة ونصروه فَلذَلِك سموا الْأَنْصَار وتمت كلمة الْإِسْلَام من الْمَدِينَة حَتَّى علت على الْكَلِمَات وَغلب إِلَى قومه وَفتح مَكَّة وملكها وَظن الْأَنْصَار أَنه يتَحَوَّل عَنْهُم إِلَى بَلَده فأهمهم ذَلِك فخاطبهم رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَأخْبرهمْ أَنه غير متحول حَتَّى إِذا قبض رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ ملحده الشريف بهَا وَجَاء فِي فَضلهَا من الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة مَا لَا خَفَاء بِهِ وَوَقع الْخلاف بَين الْعلمَاء فِي تفضيلها على مَكَّة وَبِه قَالَ مَالك رحمه الله لما ثَبت عِنْده فِي ذَلِك من النَّص الصَّرِيح عَن رَافع بن خديج أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمَدِينَة خير من
مَكَّة نقل ذَلِك عبد الْوَهَّاب فِي المعونة إِلَى أَحَادِيث أُخْرَى تدل بظاهرها على ذَلِك وَخَالف أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله وأصبحت على كل حَال ثَانِيَة الْمَسْجِد الْحَرَام وجنح إِلَيْهَا الْأُمَم بأفئدتهم من كل أَوب فَانْظُر كَيفَ تدرجت الْفَضِيلَة فِي هَذِه الْمَسَاجِد المعظمة لما سبق من عناية الله لَهَا وتفهم سر الله فِي الْكَوْن وتدريجه على تَرْتِيب مُحكم فِي أُمُور الدّين وَالدُّنْيَا وَأما غير هَذِه الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة فَلَا نعلمهُ فِي الأَرْض إِلَّا مَا يُقَال من شَأْن مَسْجِد آدم عليه السلام بسر نديب من جزائر الْهِنْد لكنه لم يثبت فِيهِ شَيْء يعول عَلَيْهِ وَقد كَانَت للأمم فِي الْقَدِيم مَسَاجِد يعظمونها على جِهَة الدّيانَة بزعمهم مِنْهَا بيُوت النَّار للْفرس والهند والصين وهياكل اليونان وبيوت الْعَرَب بالحجاز الَّتِي أَمر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بهدمها فِي غَزَوَاته
وَقد ذكر المَسْعُودِيّ مِنْهَا بُيُوتًا لسنا من ذكرهَا فِي شَيْء إِذْ هِيَ غير مَشْرُوعَة وَلَا هِيَ على طَرِيق ديني وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا وَلَا إِلَى الْخَبَر عَنْهَا وَيَكْفِي فِي ذَلِك مَا وَقع فِي التواريخ فَمن أَرَادَ معرفَة الْأَخْبَار فَعَلَيهِ بهَا وَالله يهدي من يَشَاء سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يشركُونَ ذكر ذَلِك كُله ابْن خلدون
وَقد عَقدنَا فصلا فِي التَّفَاضُل بَين مَكَّة وَالْمَدينَة فِي كتَابنَا رحْلَة الصّديق إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق وَذكرنَا فِيهِ أَنه قَالَ مُحَمَّد بن عَليّ الشَّوْكَانِيّ فِي نيل الأوطار شرح منتقى الْأَخْبَار بَعْدَمَا ذكر أَدِلَّة الْفَرِيقَيْنِ بالبسط أَن الإستيعاب بِبَيَان الْفَاضِل من هذَيْن الْمَوْضِعَيْنِ الشريفين كالإشتغال بِبَيَان الْأَفْضَل من الْقُرْآن الْكَرِيم وَالنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالْكل من فضول الْكَلَام الَّذِي لَا يتَعَلَّق بِهِ فَائِدَة غير الْجِدَال وَالْخِصَام وَقد أفْضى النزاع فِي ذَلِك وَأَشْبَاه إِلَى فتن وتلفيق حجج واهية كاستدلال الْمُهلب على أَفضَلِيَّة الْمَدِينَة بِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أدخلت مَكَّة وَغَيرهَا من الْقرى فِي الأسلام فَصَارَ الْجَمِيع فِي صَحَائِف أَهلهَا وبأنها تَنْفِي الْخَبيث كَمَا ثَبت فِي الحَدِيث الصَّحِيح وَقد أُجِيب عَن هذَيْن الإستدلالين فِي مَوْضِعه انْتهى
وَعَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد الْمَسْجِد الْحَرَام ومسجدي هَذَا
وَالْمَسْجِد الْأَقْصَى مُتَّفق عَلَيْهِ وَصُورَة هَذَا الحَدِيث نفي وَالْمرَاد بِهِ النَّهْي كَأَنَّهُ قَالَ لَا يَسْتَقِيم شرعا أَن يقْصد الْمَسَاجِد أَو الْبِقَاع الْأُخْرَى بالزيارة إِلَّا هَذِه الْبِقَاع الثَّلَاثَة لاختصاصها بِمَا اخْتصّت بِهِ من المزايا الَّتِي شرفها الله تَعَالَى بهَا وَقَالَ أهل الْأُصُول خبر الشَّارِع آكِد من الْأَمر وَالنَّهْي وَقد اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث جمع من أهل الْعلم أكبرهم شيخ الْإِسْلَام أَحْمد بن تَيْمِية رضي الله عنه وأرضاه على منع السّفر للزيارة إِلَى مشَاهد الْأَنْبِيَاء والأولياء ومقابر الْمَشَايِخ والأصفياء وَهُوَ استنباط حسن المسلك وَبِه قَالَ مَالك إِمَام دَار الْهِجْرَة وَالْقَاضِي عِيَاض وَمن خَالفه فِي ذَلِك أَو طعن عَلَيْهِ لم يَأْتِ بِمَا يشفي العليل ويروي الغليل وَقد بسطنا الْكَلَام على هَذَا الحَدِيث فِي مؤلفاتنا بسطا لائقا ومهدناه مهدا فائقا فَمن شَاءَ الإطلاع على مباحثه فَعَلَيهِ مسك الختام شرح بُلُوغ المرام وَأَمْثَاله فَفِيهِ مقنع وبلاغ وَالَّذين لم يبلغُوا معشار مَا آتَاهُ الله من الْعلم وَالْعَمَل قد أَقَامُوا عَلَيْهِ الطامة الْكُبْرَى فِي هَذِه الْمَسْأَلَة وَأَخَوَاتهَا وَلَهُم فِي ذَلِك قلاقل وزلازل قَدِيما وحديثا لَيْسَ هَذَا مَوضِع ذكرهَا وَالْحق الَّذِي لَا محيص عَنهُ هُوَ مَا دلّ عَلَيْهِ حَدِيث الْبَاب بِظَاهِرِهِ وَله شَوَاهِد من الْأَخْبَار الصَّحِيحَة والْآثَار المأثورة
(وَعين الرِّضَا عَن كل عيب كليلة
…
وَلَكِن عين السخط تبدي المساويا)
وفْق الله إِخْوَاننَا من الْمُسلمين إِلَى القَوْل الْحق وَالْعَمَل الصدْق على مُرَاد الله فِي كِتَابه الْعَزِيز وَمُرَاد رَسُوله فِي السّنة المطهرة وجنبنا وإياهم عَمَّا لم يرد فِيهِ نَص من الْقُرْآن والْحَدِيث أَو لم يقل بِهِ سلف الْأمة وأئمتها أَو لم يعْمل بِهِ أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ باحسان وَكم من آيَة وَسنة دلّت على الإتباع ونهت عَن التَّقْلِيد والإبتداع وَهِي لَا تخفى على من عرف دواوين الْإِسْلَام ومارس الْفرْقَان وَلَكِن مفاسد الْجَهْل والتعصب أَكثر من إِن تضبط أَو تحيط بهَا الأذهان وَكم للعلما من كتب ضخمة ورسائل جمة فِي هَذَا الشَّأْن فِي لِسَان الْعَرَب والعجم تدفع بهَا أهل الْإِيمَان فِي صُدُور النَّاكِثِينَ والمارقين من أهل الطغيان فَمن قدر الله
السَّعَادَة فِي الْأَزَل يوفق لَهَا وَيكون علمه لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلا وَمن جعله شقيا فِي علمه فَهُوَ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ سَبِيلا
(وَلَا بُد من شكوى إِلَى ذِي مروة
…
يواسيك أَو يسليك أَو يتوجع)
وَهَذَا زمَان جَاءَ فِيهِ الْجَهْل وحلي مذاقه وَذهب عَنهُ الْعلم برمتِهِ وطاب فِرَاقه لَا ترى وَاحِدًا من ألف يحزن على عقباه إِنَّمَا يبكي كل وَاحِد مِنْهُم على دُنْيَاهُ فهم {الَّذين ضل سَعْيهمْ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم يحسبون أَنهم يحسنون صنعا} حَتَّى نبعث فرقة لعهدنا هَذَا فِي مملكة الْهِنْد نقُول بالملة النيجيرية وَتَنصر النَّصَارَى وتخذل الْمُسلمين بأدلة واهية وشكوك شيطانية وحجج داحضة وَلها دعاة فِي دِيَارهمْ يدعونَ ضعفاء الْعُقُول وسفهاء الأحلام إِلَى قبُول قَوْلهَا وتحسين فعلهَا وَمَا هِيَ بِأول فتْنَة حدثت فِي الأسلام أَو قَارُورَة كسرت فييه فكم من دجاجلة كَاذِبَة خاطئة ظَهرت قَدِيما فِي الْملَّة الحقة وَكم بلغت الشَّرِيعَة الصادقة من أيديها الْفَاسِدَة وآرائها الكاسدة أَنْوَاع المحن وَالْمَشَقَّة وتلألأ رونقها فِي بَدْء الْولَايَة ثمَّ أدْرك الله سبحانه وتعالى ثأرها على أَيدي حماة الدّين القويم وسالكي الصِّرَاط الْمُسْتَقيم السَّادة القادة وأنجز وعده وَنصر حزبه وَصدق رَسُوله وَعَبده فِيمَا قَالَ لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق حَتَّى يَأْتِي أَمر الله فرحم الله عبدا أبْصر الْحق حَقًا وَاتبعهُ وَرَأى الْبَاطِل بَاطِلا واجتنبه وانتصف من نَفسه كَمَا انتصف من غَيره وَلم يبال بِقبُول الْحق ورده وآثر الْحق على الْخلق وَنصر الله وَرَسُوله فِي إتباع كِتَابه وَسنة رَسُوله وَلم يُقَلّد آراء الرِّجَال وَلم يلْتَفت إِلَى كتب القيل والقال وَأخذ الدّين من حَيْثُ أَخذه السّلف الصلحاء واقتبس الْأَنْوَار من مشكوة مصابيح السّنة الْبَيْضَاء وَعلم أَن الرَّأْي ثلمة فِي مَكَان الدّين وتحريف فِي سواذج الشَّرْع الْمُبين وَإِنَّمَا الْقَضَاء مَا قضى الله بِهِ وَالرَّسُول فِي الْكتاب وَالسّنة على أَلْسِنَة الفحول من أهل الْقُرْآن والْحَدِيث جُهَيْنَة الْأَخْبَار وعيبة الْآثَار ودارسي الرّقّ الْمنزل من السَّمَاء وآخذي
السّنَن من رجال الصدْق والصفاء ورواة الْعِزّ والْعَلَاء وعاملي الصَّالِحَات ومقدمي الرِّوَايَات على الصناعات وَأُولَئِكَ حزب الله إِلَّا أَن حزب الله هم المفلحون وَتلك حزب الشَّيْطَان أَلا أَن حزب الشَّيْطَان هم الخاسرون وَالله يهدي إِلَى الْحق من يَشَاء اللَّهُمَّ كن لي حَيْثُمَا كنت وَلَا تشمت بِي الْأَعْدَاء