الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكر فِي التَّارِيخ
لَا يخفى أَن فن التَّارِيخ من الْفُنُون الَّتِي يتداولها الْأُمَم والأجيال وتشد إِلَيْهِ الركائب والرحال وتسمو إِلَى معرفَة السوقة والأغفال وتتنافس فِيهِ الْمُلُوك والأقيال ويتساوى فِي فهمه الْعلمَاء والجهال إِذْ هُوَ فِي ظَاهره لَا يزِيد على أَخْبَار عَن الْأَيَّام والدول والسوابق من الْقُرُون الأول تنمي فِيهَا الْأَقْوَال وتضرب فِيهَا الْأَمْثَال وتطرف بهَا الأندية إِذا غصها الاحتفال وَتُؤَدِّي إِلَيْنَا شَأْن الخليقة كَيفَ تقلبت بهَا الْأَحْوَال واتسع للدول فِيهَا النطاق والمجال وعمروا الأَرْض حَتَّى نَادَى بهم الارتحال وحان مِنْهُم الزَّوَال وَفِي بَاطِنه نظر وَتَحْقِيق وتعليل للكائنات ومباديها دَقِيق وَعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فَهُوَ لذَلِك أصيل فِي الْحِكْمَة عريق وجدير بِأَن يعد فِي علومها خليق وَأَن فحول المؤرخين فِي الْإِسْلَام قد استوعبوا أَخْبَار الْأَيَّام وجمعوها وسطروها فِي صفحات الدفاتر وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الْبَاطِل وهموا فِيهَا أَو ابتدعوها وزخارف من الرِّوَايَات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تِلْكَ الْآثَار الْكثير مِمَّن بعدهمْ واتبعوها وأدوها إِلَيْنَا كَمَا سمعوها وَلم يلاحظوا أَسبَاب الوقائع وَالْأَحْوَال وَلم يراعوها وَلَا رفضوا ترهات الْأَحَادِيث وَلَا دفعوها فالتحقيق قَلِيل وطرف التَّنْقِيح فِي الْغَالِب كليل والغلط وَالوهم نسيب للْأَخْبَار وخليل والتقليد عريق فِي الْآدَمِيّين وسليل والتطفل على الْفُنُون عريض وطويل ومرعى الْجَهْل بَين الْأَنَام وخيم ووبيل وَالْحق لَا يُقَاوم سُلْطَانه وَالْبَاطِل يقذف بشهاب النّظر شَيْطَانه والناقل إِنَّمَا هُوَ يملي وينقل والبصيرة تنقد الصَّحِيح إِذا تمقل وَالْعلم يجلو لَهَا صفحات الصَّوَاب ويصقل
وَقد دون النَّاس فِي الْأَخْبَار وَأَكْثرُوا وجمعوا تواريخ الْأُمَم والدول فِي الْعَالم وسطروا وَالَّذين ذَهَبُوا بِفضل الشُّهْرَة وَالْأَمَانَة الْمُعْتَبرَة واستفرغوا دواوين من قبلهم فِي صُحُفهمْ الْمُتَأَخِّرَة هم قَلِيلُونَ لَا يكادون يجاوزون عدد الأنامل وَلَا حركات العوامل مثل ابْن اسحق والطبري وَابْن الْكَلْبِيّ وَمُحَمّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَسيف بن عمر الْأَسدي والمسعودي وَغَيرهم من الْمَشَاهِير المتميزين عَن الجماهير وَإِن كَانَ فِي كتب المَسْعُودِيّ والواقدي من المطعن والمغمز مَا هُوَ مَعْرُوف عِنْد الْإِثْبَات ومشهور بَين الْحفظَة والثقات إِلَّا أَن الكافة اختصتهم بِقبُول أخبارهم واقتفاء سُنَنهمْ فِي التصنيف وَاتِّبَاع آثَارهم والناقد الْبَصِير قسطاس نَفسه فِي تزييفهم فِيمَا ينقلون أَو اعتبارهم فللعمران طبائع فِي أحوله ترجع إِلَيْهِ الْأَخْبَار وَتحمل عَلَيْهَا الرِّوَايَات والْآثَار ثمَّ إِن أَكثر التواريخ لهَؤُلَاء عَامَّة المناهج والمسالك لعُمُوم الدولتين صدر الْإِسْلَام فِي الْآفَاق والممالك وتناولها الْبعيد من الغايات فِي المآخذ والمتارك
وَمن هَؤُلَاءِ من استوعب مَا قبل الْملَّة من الدول والأمم وَالْأَمر العمم كالمسعودي وَمن نحى منحاه وَجَاء من بعدهمْ من عدل عَن الْإِطْلَاق إِلَى التَّقْيِيد ووقف فِي الْعُمُوم والإحاطة عَن الشأو الْبعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أَخْبَار قطره وَاقْتصر على أَحَادِيث دولته ومصره كَمَا فعل أَبُو حَيَّان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بهَا وَابْن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول الَّتِي كَانَت بالقيروان ثمَّ لم يَأْتِ من بعد هَؤُلَاءِ إِلَّا مقلد وبليد الطَّبْع وَالْعقل أَو متبلد ينسج على ذَلِك المنوال ويحتذى مِنْهُ بالمثال وَيذْهل عَمَّا أحالته الْأَيَّام من الْأَحْوَال واستبدلت بِهِ من عوائد الْأُمَم والأجيال فيجلبون الْأَخْبَار عَن الدول وحكايات الوقائع فِي العصور الأول صورا قد تجردت عَن موادها وصفاحا انتضبت من أغمادها ومعارف تستنكر للْجَهْل بطارفها وتلادها إِنَّمَا هِيَ حوادث لم تعلم أُصُولهَا وأنواع لم تعْتَبر أجناسها وَلَا تحققت فصولها بكررون فِي موضوعاتهم الْأَخْبَار المتداولة بِأَعْيَانِهَا أتباعا لمن عَنى من الْمُتَقَدِّمين بشأنها ويغفلون أَمر الأجيال الناشئة فِي ديوانها بِمَا أوعز عَلَيْهِم ترجمانها فتستعجم صُحُفهمْ عَن بَيَانهَا ثمَّ إِذا
تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أَخْبَارهَا نسقا محافظين على نقلهَا وهما أَو صدقا لَا يتعرضون لبدايتها وَلَا يذكرُونَ السَّبَب الَّذِي رفع من رايتها وَأظْهر من آيتها وَلَا عِلّة الْوُقُوف عِنْد غايتها فَيبقى النَّاظر متطلعا بعد إِلَى افتقاد أَحْوَال مبادئ الدول ومراتبها مفتشا عَن أَسبَاب تزاحمها أَو تعاقبها باحثا عَن الْمقنع فِي تباينها أَو تناسبها حسب مَا ذكر ابْن خلدون فِي مُقَدّمَة تَارِيخه
ثمَّ جَاءَ آخَرُونَ بإفراط الِاخْتِصَار وذهبوا إِلَى الِاكْتِفَاء بأسماء الْمُلُوك والاقتصار مَقْطُوعَة عَن الْأَنْسَاب وَالْأَخْبَار مَوْضُوعَة عَلَيْهَا أعداد أيامهم بحروف الْغُبَار كَمَا فعله ابْن رَشِيق فِي ميزَان الْعَمَل وَمن اقتفى هَذَا الْأَثر من المهمل وَلَيْسَ يعْتَبر لهَؤُلَاء مقَال وَلَا يعد لَهُم ثُبُوت وَلَا انْتِقَال لما أذهبوا من الْفَوَائِد وأخلوا بالمذاهب الْمَعْرُوفَة للمؤرخين والعوائد
وَمن أحسن مَا ألف فِي فن التَّارِيخ وَأجْمع مَا جمع فِيهِ تَحْقِيقا وإتقانا فِي كتب الْقَوْم بعد سبر أغور الأمس وَالْيَوْم كتاب العبر وديوان الْمُبْتَدَأ الْخَبَر فِي أَيَّام الْعَرَب والعجم والبربر وَمن عاصرهم من ذَوي السُّلْطَان الْأَكْبَر لقَاضِي الْقُضَاة فَإِنَّهُ أنشأ فِي التَّارِيخ كتابا وَرفع بِهِ عَن أَحْوَال الناشئة من الأجيال حِجَابا وفصله فِي الْأَخْبَار وَالِاعْتِبَار بَابا بَابا وَأبْدى فِيهِ لأولوية الدول والعمران عللا وأسبابا وبناه على أَخْبَار الْأُمَم الَّذين عمروا الْمغرب فِي تِلْكَ الْآثَار وملأوا أكناف النواحي مِنْهُ والأمصار وَمَا كَانَ لَهُم من الدول الطوَال والقصار وَمن سلف من الْمُلُوك وَالْأَنْصَار سلك فِي ترتيبه وتبويبه مسلكا غَرِيبا واخترعه من بَين المناحي مذهبا عجيبا وَشرح فِيهِ من أَحْوَال الْعمرَان والتمدن وَمَا يعرض فِي الِاجْتِمَاع الإنساني من الْعَوَارِض الذاتية مَا يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ويعرفك كَيفَ دخل أهل الدول من أَبْوَابهَا حَتَّى تنْزع من التَّقْلِيد يدك وتقف على أَحْوَال من قبلك من الْأَيَّام والأجيال وَمَا بعْدك ثمَّ من أحسن التواريخ المختصرة كتاب الْمُخْتَصر فِي أَحْوَال الْبشر لأبي الفدا إِسْمَاعِيل صَاحب حماة الْملك الْمُؤَيد وَكتاب المواعظ وَالِاعْتِبَار فِي بَيَان الخطط والْآثَار للمقريزي رحمه الله وَقد طالعناها على هَذِه الْمقَالة وأضفنا إِلَيْهَا أَشْيَاء وَالله يهدي إِلَيْهِ من يَشَاء