الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نهاية الحياة البشرية
للدكتور أحمد شوقي إبراهيم
إن خلق الإنسان سر من أسرار الخلق. . ومن أسرار الفطرة التي فطر الله خلقه عليها.. وليست معرفة سر خلق الإنسان ميسورة لعلومنا التجريبية قط.. وبالتالي فإن فهمنا لبدء حياة الإنسان ونهايتها أكثر صعوبة على فهمنا وأبعد يسرًا ومنالًا.
ولا شك أن هذا الموضوع سيفتح باب الاجتهاد على مصراعيه، إلا أنه يجب أن يكون أي اجتهاد في الرأي، مؤسسًا على الحق المبين الذي جاء به الوحي الإلهي في القرآن والسنة.. وينبغي قبل الحديث عن بداية الحياة البشرية ونهايتها أن نحاول التعرف على الإنسان الذي هو موضوع القضية.
فمن هو الإنسان؟
قال الدكتور الكسيس كاريل المتوفى سنة 1944م (1)"إن علوم التشريح والفسيولوجيا والكيمياء والنفس والاجتماع وغيرها من العلوم لم تعطنا نتائج قطعية في ميادينها عن ماهية الإنسان، وإن الإنسان الذي يعرفه العلماء ليس إلا إنسانًا بعيدًا جدًا عن الإنسان الحقيقي، فالإنسان كائن مجهول لنفسه وسيظل جهلنا به إلى الأبد".
وقال أيضًا "إن معرفتنا بالإنسان لا زالت معرفة بدائية" وقال دوكاس "إن الإنسان الحقيقي لا نعرف عنه شيئًا". ولقد سبق كل ذلك في علم الله تبارك وتعالى.. لذلك يتحدى البشر ويرد الله عز وجل عليهم في سورة الإنسان بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} . (2)
والإنسان كما علمنا من الوحي الإلهي في القرآن والسنة، ليس جسمًا فحسب، بل هو نفس وروح أيضًا.. وهنا اختلف العلماء في معرفة الإنسان.. فالأطباء يعرفونه جسمًا وخلايا، يتعرض للصحة والمرض.. وعلماء النفس يرونه شعورًا ولا شعور.. والجميع لا يدركون كنه النفس البشرية وأسرارها.. ولا يعلمون عن الروح إلا ما أخبرنا به القرآن والسنة من حق..
ولما كانت بداية حياة الإنسان ونهايتها متعلقة تعلقًا وثيقًا، بكل من الجسم والنفس والروح والعقل والقلب، فينبغي على الباحث في هذا الموضوع أن يتعرف على كل هذه المكونات في الإنسان أولًا، حتى يتمكن بعد ذلك من أن يفهم متى تبدأ حياة الإنسان ومتى تنتهي.؟
(1) الإنسان ذلك المجهول للدكتور الكسيس كاريل
(2)
تفسير القرطبي الجزء 12 ص 109
فماذا عن حياة الجسم وموته؟
خلق جسم الإنسان من طين هذه الأرض لأن كل مكونات الجسم موجودة في تراب هذه الأرض.. وجعله الله تعالى نطفة ثم علقة فمضغة فعظامًا فلحمًا، ثم نفخ فيه الروح وبذلك صار "خلقًا آخر" كما قال ابن عباس والشعبي وأبو العالية والضحاك ثم بعد ذلك صار في الحياة الدنيا بشرا..
وجسم الإنسان مكون من خلايا. وخلايا الجسم تموت وتحيا.. كل خلية لها أجل مسمى.. تموت بعده وتنتهي وتحل محلها خلايا جديدة. (1) وذكر بعض الباحثين أن 125 مليون خلية تموت في جسم الإنسان كل دقيقة وتحل محلها خلايا جديدة.. وتتساقط الخلايا من الجسم كما تتساقط أوراق الشجر الميتة من أشجارها.. وأن الذرات التي تكون جسم أي إنسان منا غير موقوفة عليه.. فهي تأتي له من مصادر شتى.. وبعد أن تغادر الجسم تذهب إلى مصادر شتى كذلك. (2)
فجسم الإنسان يموت ويحيا ثم يموت ويحيا في الحياة الدنيا، وهو حي يرزق.. إذن فسر الحياة غير متعلق بموت الجسم أو حياته. (3) وهذه حقيقة ينبغي أن نلتفت إليها في بحثنا عن بدء حياة الإنسان ونهايتها.
ما هي النفس البشرية ومتى تحيا ومتى تموت؟
- اختلف العلماء بشأنها.. فهل هي كائن منفصل عن الجسم والروح؟
- أم هي كائن نشأ من التقاء الروح بالجسد؟
ونرجح أن النفس البشرية شيء غير الروح البشرية، لأن الروح ذكرت في القرآن والسنة تنفخ في الجسد، ولم تذكر النفس.. كذلك فالنفس تأمر بالخير والشر.. أما الروح فهو الخير الخالص لأنه من أمر الله.. فأوجب ذلك أن تكون النفس البشرية غير الروح البشرية على قدر ما نعلم.
وقال الإمام أبو حامد الغزالي المتوفى 505هـ. عن النفس البشرية: (4)"إن النفس هي الأصل الجامع للصفات المذمومة في الإنسان" وروى البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أعدى عدوك النفس التي بين جنبيك)) .
(1) سنريهم آياتنا للدكتور أحمد شوقي إبراهيم.
(2)
العلوم الذرية الحديثة في التراث الإسلامي (لأحمد عبد الوهاب)
(3)
الإسلام يتحدى: وحيد الدين خان.
(4)
إحياء علوم الدين الجزء 3 ص 4 للإمام أبي حامد الغزالي
وروى الإمام أحمد والترمذي عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المجاهد من جاهد نفسه)) .
ونفس الإنسان هي سر الحياة فيه.. وهي حقيقة الإنسان وذاته. والحيوان يعيش بنفس حيوانية.. وقد يكون بالإنسان نفس حيوانية ونفس إنسانية كما سنبين فيما بعد..
وتوصف النفس البشرية بأوصاف تختلف أحوالها. (1) فإذا زايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات، سميت "بالنفس المطمئنة" وإذا لامت صاحبها على تقصيره في عبادة الله، سميت "بالنفس اللوامة" وإذا أذعنت لشهوات الجسم، سميت "بالنفس الأمارة بالسوء".
وذكرت النفس في القرآن في 295 موضعًا.
- والنفس متعلقة بالجسم وداخلة فيه، كما وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم إذ قال:((النفس التي بين جنبيك)) ولكنها ليست مادية.. وإذا التقت بالجسم دبت فيه الحياة.. وإذا فارقته انتهت من الإنسان الحياة.. كما قال تعالى {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) } .
والنفس هي التي تموت.. وهي التي تقتل.. وليس الجسم.. لأن الجسم يحيا ويموت وسر الحياة باقٍ في الإنسان.. وقد يموت الجسم فيصبح غير صالح لوجود النفس والروح فيه.. إلا أن الموت هو موت النفس كما قال الله عز وجل في سورة الكهف: {قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} .
وفي سورة آل عمران / 145 يقول عز وجل: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا} ويقول عز وجل في سورة العنكبوت / 57 {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} والحيوان فيه حياة ففيه إذن نفس حيوانية.. والإنسان حي في بطن أمه قبل نفخ الروح فيه ففيه نفس حيوانية أيضًا.. أما بعد نفخ الروح فيه فإنه يصير خلقًا آخر بشرًا له نفس بشرية أو تأخذ نفسه الصفة البشرية.
فبدء حياة النفس بتكون النطفة ونهايتها بخروجها من الجسم ورجوعها إلى خالقها.
(1) إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي جزء 3 ص 4
ما هي الروح البشرية؟
جاء لفظ الروح في القرآن الكريم في عشرين موضعًا وله مدلولات كثيرة:
جاء بمعنى جبريل كما في سورة مريم/ 17 في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} .
وجاء بمعنى القرآن كما في سورة الشورى/ 51 في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} .
وجاء بمعنى الوحي الإلهي كما في سورة النحل / 2 في قوله تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} .
وجاء بمعنى الروح البشرية كما في سورة الحجر/ 29 في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) } .
فالروح في أي معنى من معانيه هو من أمر الله عز وجل.. ولا يحيط بعلمه إلا الله تعالى، لذلك جاء لفظ الروح بصفة شاملة بمعنى الوحي وجبريل والروح البشرية في سورة الإسراء/ 85 في قوله تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .
وقال الإمام أبو حامد الغزالي: الروح هي اللطيفة العالمة المدركة في الإنسان وهو أمر رباني عجيب تعجز أكثر العقول والأفهام عن إدراك حقيقته. (1)
وقال الإمام الشعراني: (لم يبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تكلم عن حقيقة الروح مع أنه سئل عنه؛ فنمسك عن الحديث عنها أدبًا) .
وقال الإمام الجنيد: (إن الروح شيء استأثر الله تعالى بعلمه ولا يجوز لأحد البحث عنه أكثر من أنه موجود) .
ولا تخضع الروح للعلم التجريبي أبدًا.. ومن هنا فليس لها من مصدر للعلم من علوم البشر.. وليس له من مصدر وحيد إلا ما جاء بالوحي الإلهي في القرآن والسنة.. فينبغي إذن أن نأخذ من الوحي الإلهي العلم عن الروح بدون نقاش لأن علومنا التجريبية تعجز عن أن تكون طرفًا في هذا النقاش.
(1) إحياء علوم الدين: جزء 3 ص 4
ما هو قلب الإنسان؟.. وهل لو توقف القلب عن النبض توقفت الحياة؟
ليس القلب الذي ينبض في صدر الإنسان هو الذي جاء ذكره خاصة في القرآن والسنة
…
وإنما جاءت كلمة القلب لتعني الوعي والعقل وذكر الإمام الغزالي أن القلب يطلق على معنيين:-
1-
أحدهما: العضو الذي يضخ الدم الموجود في الجانب الأيسر في الصدر ويتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية وهذا القلب موجود في البهائم.. بل هو موجود للميت.. وهو قطعة لحم لا قدر فيه.
2-
المعنى الثاني: هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق.. وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان. والقلب هو المدرك العالم العارف من الإنسان وهو المخاطب والمطالب.. وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته بالقلب الجسماني.
وأن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام، والأوصاف بالموصوفات، وأننا إذا أطلقنا لفظ القلب، فإننا نعني به هذه اللطيفة الربانية. ويمكننا أن نذكر أوصافها وأحوالها. ولكننا لا نستطيع أن نذكر حقيقتها في ذاتها.. ويمكن أن يكون القلب هو عقل الإنسان وفكره، فلم تذكر كلمة العقل في القرآن وذكر القلب للدلالة عليه.
وذكر الصحاح أن كلمة " قلب " تعني العقل.. كما قال الله تعالى في سورة ق {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} .
وجاء في تفسير القرطبي: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} قال: لمن كان له عقل يتدبر به فكنى بالقلب عن العقل.. وقيل لمن كان له نفس مميزة، فعبر عن النفس البشرية بالقلب.
وقال الفيروز أبادي في القاموس المحيط: القلب هو الفؤاد والعقل ومحض كل شيء.. كما في قوله تعالى {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} أي من كانوا مرضى في عقولهم وأفكارهم، وفي سورة الشعراء/ 192 يقول الله عز وجل {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } ، أي على وعيك وإدراكك وفكرك وعقلك.
وفي سورة الكهف: 27 {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} .
وفي سورة التغابن/11 {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وفي سورة آل عمران / 8: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} .
وكما جاء ذكر القلب بمعنى العقل، فقد جاء ذكر المصدر بمعنى النفس.. كما في سورة الأحزاب / 31 {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي نفسيته مريضة.
وقوله تعالى في سورة الناس / 5 {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}
أي في نفوس البشر.
وفي سورة يونس/ 56 {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} أي وشفاء لما في النفوس.
وفي سورة الحج/ 45 جاءت آية ذكرت القلب والصدر معًا في قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} قلوب يعقلون بها: أي عقول إدراكات يعقلون بها.
ولكن تعمى القلوب التي في الصدور: أي العقول التي هي نفس الإنسان.
وقال مجاهد في شرح هذه الآية (1) إن لكل إنسان أربع أعين: عينان في رأسه لدنياه وعينان في قلبه لآخرته فإن عميت عينا رأسه وأبصرت عينا قلبه فلم يضره عماه شيئًا، وإن أبصرت عينا رأسه وعميت عينا قلبه فلم ينفعه نظره شيئًا
…
وقال ابن عباس: لما نزل قوله تعالى {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} .
قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله فأنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ فنزل قوله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي من كان في هذه أعمى بقلبه عن الإسلام فهو في الآخرة في النار.
فالقلوب التي في الصدور هي اللطيفة الواعية المدبرة في النفس البشرية وقال ابن كثير (2) في شرح هذه الآية: ليس العمى عمى البصيرة إن كانت القلوب الباصرة سليمة، فإنها لا تنفذ إلى العبر ولا تدري ما الخبر.
(1) تفسير القرطبي الجزء 12 ص 77
(2)
ابن كثير الجزء 3 ص 227
وقال الزمخشري: في شرحه لهذه الآية الكريمة: (1){لِهِمْ قُلُوبُ} أي لهم عقول يعقلون ما يجب أن يعقل من التوحيد ويسمعون ما يجب سماعه من الوحي، والمعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى في القلب استعارة، فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب ونفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين، وفضل تعريف، ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار..".
وقوله تعالى: {الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} زيادة في التوكيد على أن العمى ليس عمى الأبصار ولكنه عمى القلوب، وقد استعمل كلا اللفظين، "القلوب""الصدور" استعارة للدلالة على الوعي والإدراك في النفس البشرية، وذكر البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((لا يزال قلب الكبير شابًا في اثنتين: حب المال وطول الأمل)) .. وواضح أن كلمة القلب هنا معناها الحسن والإدراك.
وروى مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر)) في قلبه أي: في نفسه..
وروى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((القلوب أوعية بعضها أوعى من بعض فإن سألتم الله عز وجل أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل)) وواضح من الحديث أن القلب والقلوب هي الوعي والعقل والإدراك وليس القلب الذي يضخ الدم في الصدر.
وروى أبو داود عن أسامة بن زيد قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الحرقات فنذروا بها فهربوا فأدركنا رجلًا فلما غشيناه قال: (لا إله إلا الله) فضربناه حتى قتلناه فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة)) فقلت: يا رسول الله إنما قالها مخافة السلاح فقال صلى الله عليه وسلم: ((أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم لا
…
من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة ومازال يقولها حتى وددت أني لم أسلم إلا يومئذ)) .
(1) الجزء 3 ص 17
نفهم من ذلك أن القلب الذي ذكر بالقرآن والسنة، هو الوعي والإدراك والفكر والعقل، وأن القلب إذا توقف عن النبض فلا يعني هذا انتهاء العقل أو الإدراك.. أو انتهاء الحياة، فقد يتوقف القلب عن النبض فترة والإنسان حي يرزق، ثم يعود إلى النبض مرة أخرى، بأي صنف من صنوف العلاج، وأما انتهاء الحياة الإنسانية فهو موت المخ نفسه موتًا نهائيًا، لأن المخ هو آلة الوعي والعقل والفكر والإدراك، فإذا ما انتهى من الإنسان كل ذلك فلم يعد إنسانًا.. وإن عاش بعد ذلك بقلب ينبض ونفس يدخل ويخرج.. سواء من تلقاء نفسه أو تحت تنفس فإنه يعيش حياة حيوانية.. وليس حياة بشرية..
الإنسان يتميز على غيره من المخلوقات بحمل الأمانة:
وقال الفخر الرازي: الأمانة هي التكليف وهي الأمر بخلاف ما في الطبيعة أما السماوات والأرض والجبال فهي على ما خلقت عليه.
والعقل هو محل تلقي التكليف.. والمخ هو مورد العقل. ومن هنا فإذا تعطل المخ أو ماتت خلاياه سقط عن الإنسان التكليف وأصبح هو والحيوان سواء.. وبذلك تسقط عنه الصفة البشرية.
وهكذا نجد أن العقل والقلب والأمانة والفؤاد كل هذه الطاقات البشرية تتصل اتصالًا وثيقًا بالمخ.. فإذا مات المخ انتهت كل هذه الطاقات ولم يعد بالجسم إلا حياة حيوانية ولم يعد إنسانًا ولم يعد بشرًا.
ونأخذ من هذا دليلًا على أن نهاية الحياة الإنسانية هي بموت المخ ولو ظل القلب ينبض، ولو ظل التنفس يعمل ولو ظلت باقي خلايا الجسم تدب فيها الحياة.
علاقة الجسم بالنفس والروح:
الجسم إطار مادي عارض.. والجسم والنفس كمصباح معد تمامًا للإضاءة ولكنه لا يضيء بذاته حتى تنفخ فيه الروح فحينئذ يشرق ويضيء وتكتمل وظائفه.
وليس علاقة الجسم بالروح في اليقظة مثل علاقته أثناء النوم.. فأثناء اليقظة تكون العلاقة كاملة، أما أثناء النوم فتضعف الرابطة بين الجسد والروح والنفس البشرية.
فالروح هو الوعي والإدراك والنفس البشرية هي شخصية الإنسان وفهمه وفكره وهو سر الحياة فيه.
نقرأ في سورة الزمر/ 41 يقول الله عز وجل: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
فالله يقبض الأنفس حين موتها.. وحين نوم الجسم.. فأما الذي قضى عليها الموت فيمسكها عنده ولا يردها لجسدها.. والتي لم يقضه عليها فيرسلها إلى جسدها إلى أجل مسمى.
كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} .
فالنائم ليس ميتًا حقيقة فهو حي.. ولكنها الوفاة الصغرى لأن الجسم أثناء النوم يكون حيًا، ولكن الوعي والإدراك اختفيا عن الجسم بابتعاد النفس البشرية والروح عنه.
ونقرأ في السنة من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم عند نومه كان يقول:
((باسمك اللهم وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) .
وقال ابن عباس في تفسيره لآية سورة الزمر: (إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الموتى عنده وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها) .
وقال سعيد بن جبير: إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا وأرواح الأحياء إذا ناموا فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى أي يعيدها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كما تنامون فكذلك تموتون. وكما توقظون فكذلك تخرجون)) .
وروى القرطبي عن ابن عباس أنه قال: " في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي العقل والتمييز والروح هي التي بها النفس والتحريك فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه".
وقال القشيري: (المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحالين واحدة واختلف الناس في هذه الآية في النفس والروح وهل هما شيء واحد أم شيئان؟ والأظهر أنهما شيء واحد) .
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليضطجع على شقه الأيمن وليقل: سبحانك ربي باسمك وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما يستيقظ من نومه: ((الحمد لله الذي أحيانا بعد أن أماتنا وإليه النشور الحمد لله الذي رد إلى روحي وعافاني في جسدي وأذن لي بذكره)) .
وقال الزمخشري في تفسير آية الزمر:
أي يتوفى الله الأنفس حين تنام تشبيهًا للنائمين بالموتى حيث لا يميزون ولا يتصرفون، كما أن الموتى كذلك، فيمسك الأنفس التي قضى عليها الموت الحقيقي أي لا يردها.. ويرسل الأخرى النائمة إلى جسدها إلى أجل مسمى.. وقالوا: إن التي تتوفى في النوم هي نفس التمييز لا نفس الحياة، لأن نفس الحياة إذا زالت زال معها النفس والنائم يتنفس.
وقال ابن كثير: إن الله يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) } فذكر الوفاة الصغرى ثم الوفاة الكبرى.
نفهم من ذلك أنه في حالة انتهاء الحياة البشرية تقبض الروح وترجع النفس إلى بارئها.. وقد سبق أن علمنا أن النفس والروح هما الوعي والإدراك والعقل والفكر.. وكل ذلك متصل بالمخ.. أو أن المخ هو رافدها الوحيد
…
إذن فإن نهاية الحياة هي موت المخ.. وليس توقف القلب أو التنفس.. لأن توقفهما معًا أو توقف أحدهما لا يعني بالضرورة موت المخ وبالتالي لا يعني نهاية الحياة.
إن رجوع النفس إلى بارئها وقبض الروح من الغيبيات التي لا تخضع للعلم التجريبي.. وبالتالي فإن الوحي الإلهي في القرآن والسنة هو المصدر الوحيد للعلم فيها.
أما الذي يخضع للعلم التجريبي، فهو مظهر ذلك في الجسم، وهو موت المخ. فإن ثبت موت المخ ثبتت نهاية الحياة البشرية.. ولو كان الصدر يتنفس والقلب ينبض تحت جهاز تنفس مثلًا، فالجسم حي تحت الجهاز.. ولكها حياة حيوانية.. وليست بشرية قطعًا..
وكما سبق أن تحدثنا عن القلب والصدر، فهما يعنيان العقل والفكر والنفس البشرية.. وليس القلب والصدر كأعضاء في جسم الإنسان، فليس مرض القلب أو الصدر أو أي عضو بالجسم هو السبب المباشر لنهاية حياة الإنسان.. ولكنه يكون سببًا غير مباشر لأن السبب الوحيد لنهاية الحياة هو موت الخ.. سواء بمرض في المخ نفسه أو بمرض في أي عضو آخر بالجسم أدى إلى موت المخ.
ما هي علامات موت المخ؟
ليس لدينا من العلم في ذلك إلا رسم المخ الكهربائي.. وهو قطعي في معظم الحالات.. ولا يكون كذلك في بعض الحالات.. كحالات التسمم بالأدوية المنومة مثلًا..
ويهمنا هنا تعيين وقت نهاية حياة الإنسان لأهمية ذلك في شئون المعاملات مثل الإرث وغيره.. ويمكننا الجزم بأن نهاية الإنسان هو عندما بموت مخه. ولو كان القلب ينبض ولو كانت الرئتان تتنفسان.. فلو تأكد الطبيب أن المخ قد مات والمريض يتنفس وقلبه تحت جهاز.. فلا حرج عليه في أن يقرر أن هذا الإنسان قد مات.