الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحكام النقود الورقية
لفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله وخاتم أنبيائه أرسله رحمة للعالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد
…
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، ألا وأن الله عز وجل أناط تمام الإيمان بالتحاكم إلى شرعه العظيم ونبيه الكريم، فقال تعالى:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
هذا، وأنه قد جد في هذا العصر نوازل ووقائع تتطلب تحاكمًا إلى الشريعة المطهرة، وذلك لا يكون إلا عن طريق علماء الشرع وفقهاء العصر الذين هم أهل الذكر في هذا الأمر {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء: 83] كما قال ربنا في كتابه المجيد.
وقد جدت في هذه النوازل واقعة النقود الورقية، وعم بها التعامل، وصارت من عموم البلوي، واختلف الناس في كونها نقودًا كالذهب والفضة تجب فيها الزكاة ويحرم بها الربا أم لا؟ وذهب الجمهور إلى الأول، وذهب البعض إلى الثاني، وإني مع قوة أدلتهم ووضوحها، ومع هذا فقد تعرضت لقول البعض وشبه أدلتهم، وذكرت ما عليه الجمهور من الأدلة والبراهين الدافعة.
قسمت البحث إلى بابين بعد مدخل للبحث لابد منه في شروح لغوية واصطلاحية ولمحة تاريخية. كان الباب الأول في أحكام الأوراق المالية العرفية وفيه فصلان: الأول في الأحكام الفقهية، والثاني في نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين.
وأما الباب الثاني فاشتمل على أحكام تغير قيمة العملة في الفقه الإسلامي، وخلاصة لما قاله العلامة ابن عابدين في أحكام تغير قيمة العملة غلاء ورخصًا وكسادًا في المذهب الحنفي، مع تعرضي للمذاهب الأخرى من المذاهب الثلاثة، وهو لدي الراجح المعمول عليه.
هذا ما توصلت إليه في بحثي المتواضع، أقدمه لا أدعى فيه الإحاطة والشمول والتمام، بل هو جهد فتحت به للباحثين بابًا يلجونه. ولعل الله يجعلني في عملي هذا من أصحاب الأجر الواحد إن لم أكن من أصحاب الأجرين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
مدخل إلى البحث
1-
معنى النقد.
2-
شرح كلمة بنك نوت.
3-
النقود المتعامل بها قديمًا وحديثًا.
(1)
معنى النقد لغة واصطلاحًا
النقد في اللغة خلاف النسيئة يقال: نقد الشيء قبضه، والنقد الجيد الوازن من الدراهم، ودرهم نقد ونقود جياد. وفي حديث جابر رضي الله عنه قال: فنقدني ثمنه، أي أعطانيه نقدًا معجلاً، فالنقد يطلق مصدرًا واسمًا بمعنى المنقود، وهو الثمن الحال، والفقهاء خصوه بالمضروب من الذهب والفضة معجلاً أو مؤجلاً جيدًا أو غير جيد، فلا يطلقون اسم النقد على الأثمان الأخرى سواء كانت متخذة من المعادن أو غيرها إلا على ضرب من التشبيه. وعلماء الاقتصاد توسعوا في ذلك فأطلقوا اسم النقد على كل ما كان واسطة في المبادلات وعاملاً في الحصول على مقابل مرغوب فيه لسد حاجة أو دفع ضرورة أو غير ذلك، مع اتفاق الفريقين على أن ما اتخذ أثمانًا رائجة واتفقت الملة على اعتباره يؤدي وظيفة النقد المعد للماء وهو الذهب والفضة، إذ ليس في الشريعة ما يمنع اتخاذ أي نوع من أنواع العروض ثمنًا يتعامل به مع الذهب والفضة أو بدلاً عنهما، سواء كان متفقًا عليه بين الكل أو لا. ولهم أن يسموه نقدًا أو عملة أو ثمنًا أو بدلاً، إلى غير ذلك من الأسماء، إذ لا نزاع في التسمية.
نعم يشترط في صحة الثمن كالثمن شروط تكفلت ببيانها كتب الفروع، والاقتصاديون لا يلتفتون إليها في معاملاتهم لعدم تقيدهم في ذلك بأحكام الدين، فإذا اتفقت الملة على أن يأخذوا أي شيء كان صنفه ويعتبرونه ثمنًا يبيعون به ويشترون، أو رأت الحكومة ضرب أي عملة وقدرت لها قيمة للتعامل بها، فذلك سائغ عندهم، وأما عند الشرعيين فلا بد لها من شروط، منها أن يكون طاهرًا منتفعًا به شرعًا فلا يجوز اتخاذ من جلود الميتة، ولا من الخمور والزيوت النجسة، ولا من آلات اللهو والطرب كالأعواد والمزامير ونحوها. وعلى كل حال فلا بد لكل أمة من الاتفاق على نقد واحد يجري به التعامل بينهم، ويحفظ التوازن في المبادلة بحيث يعطي به الفرد كما يأخذ،، فإن تبادل المنافع ضروري في المجتمع الإنساني، إذ ليس كل إنسان لديه جميع ما يحتاج إليه ولا في استطاعته الحصول عليه بدون الاستعانة بغيره، ولا يمكن أن يستأثر بحاجيات نفسه ومنافع غيره بدون عوض يبذله وبدل يدفعه.
والأصل في العوض المماثلة ولو التقريبية، وتحقيقها من العسر بمكان في المبادلة بالسلع، فلا بد من الاتفاق على بدل مقارب تتفاوت أصنافه في القيم إما بالخلقة والذات أو بالوضع والتقدير، وأجوده وأقومه نقد الذهب والفضة لقلة وجودهما ووفرة نفقات استخراجهما، وأسهله وأيسره اتخاذًا ومعاملة نقد الأوراق والكواغد وقطع الجلود ونحوها (1) .
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: 34.
(2)
شرح معنى كلمة بنك نوت
جاء في كتاب بهجة المشتاق لمؤلفه العلامة فضيلة الشيخ الشريف أحمد الحسيني الشافعي رحمه الله تعالى في ص 68.
بنك نوت: هو لفظ إفرنسي، وقد نص قاموس (لاروس) وهو أكبر وأشهر قاموس للغة الفرنساوية الآن في تعريف أوراق البنك حيث قال: ورقة البنك هي ورقة قابلة لدفع قيمتها عينًا لدى الاطلاع لحاملها، وهي يتعامل بها كما يتعامل بالعملة المعدنية.
وجاء في ص 71 قوله: (إن المعاملة بهذه الأوراق، إنما تخرج على قاعدة الحوالة، لمن يجيز المعاملة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة، والحوالة كالبيع فمن يقول بصحة البيع بالمعاطاة يقول بصحة الحوالة بالمعاطاة من غير اشتراط صيغة، وهناك قول وجيه في مذهب السادة الشافعية يجيز المعاملة بالمعاطاة) .اهـ.
هذه البنوك وكذا الصيارفة مستعدون لدفع قيمة ما معك من الأوراق بأي عملة كانت، لأي دولة اتبعت؛ لأن منع التعامل بالذهب والفضة أقرته جميع الحكومات للمحافظة على ما عندها من الذهب والفضة؛ خوفًا من تسربهما للخارج كما مر آنفًا.
لذلك كان الورق النقدي حالاً محلهما، بل هو الذهب والفضة بعينه (1) .
(1) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 44.
(3)
النقود المتعامل بها قديمًا وحديثًا
وقد اختلفت الأمم قديمًا وحديثًا في الاصطلاح على النقود ولا تزال مختلفة فيه حتى الآن، فقد اتخذ الأحباش قديمًا نقودًا من الملح زمنًا مديدًا، واتخذ الأقدمون من سكان جمهورية المكسيك بأمريكا الشمالية نقودًا من صنف الكاكاو، واتخذ الأقدمون من سكان إنجلترا نقودًا من الودع والشاي، وكان لأهالي الروسيا نقود من قوالب الشاي المضغوط، ولبعض سكان الأقاليم الشمالية بأفريقيا نقود من جلود السنجاب والحيتان، ولأهالي الصين نقود من قشر شجر التوت، واتخذ اليونان في عهد أرسطو نقودًا من الحديد، واليابان والصين نقودًا من النحاس، والعبريون نقودًا من الرصاص، واتخذ الكثير من الأمم نقودًا من القصدير والزنك والصفيح.
إلا أن النقود النحاسية كانت أكثر استعمالاً لعلو قيمة النحاس بالنسبة لغيره بسب كثرة نفقات استخراجه، فحلت محل النقود الحديدية، وأصبحت أكثر النقود تداولاً وذيوعًا في أوروبا في القرون الوسطى، إلى أن استكشفت بيرو في أميركا الجنوبية وجمهورية المكسيك الغنيتين بمعدن الفضة، فكثر التعامل بالنقود الفضية وصارت نقدًا رئيسيًا في الممالك الغنية، ولا تزال من النقود المهمة حتى الآن. ويقال: إن أول استعمال للفضة نقدًا برومة كان سنة 269 قبل الميلاد. واتخذ الذهب نقدًا نفيسًا في عدة بلاد، وأقدم بلاد اتخذته مصر. وهو الفضة من أجود المعادن وأليقهما في صناعة النقود، ولذلك حظرت الشريعة استعمالهما في غير ما أُعِدَّا له إلا في أحوال خاصة.
أما تاريخ اتخاذ النقود من الورق فيرجع عهده إلى القرن الثالث عشر من الميلاد، حيث اتخذ الصينيون إذ ذاك نقودًا من قشر شجر التوت، ثم تبعهم الفرس فاليابان فأهل أوربا بعد قرون عديدة، إلى أن فشا استعماله نقدًا في أكثر بلاد العالم الآن.
ولا يكون له في الحقيقة ذلك الأثر الذي للنقود الأصلية إلا باعتبار ما يعادله من النقد الخلقي.
ولكثرة التعامل به وحلوله محل المعادن في المبادلة واتخاذه مالاً وثروة، حتى لا يعد فقيرًا من عنده منه كمية وافرة أو ورقة واحدة ذات قيمة كبيرة، كان من الحكمة الاعتداد به كالنقد وإخراج زكاته حتى لا يحرم الفقير من الجزء الذي يستحقه من مال الغني، ولا يفتح للأغنياء باب التخلص من الزكاة الواجبة في أموالهم بتحويلها إلى أوراق مالية، فإنهم أشحة بالمال، والفقراء من أجل ذلك سيئو الحال، ولا بد من تفريج كربهم وسد عوزهم بدفع ما أوجب الله على الأغنياء في أموالهم، حتى لا يقعوا من جرائهم في شر عظيم وشقاء دائم (1) .
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: 45.
الباب الأول
أحكام الأوراق المالية العرفية
الفصل الأول: الأحكام الفقهية عند البعض والجمهور.
الفصل الثاني: نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين.
الفصل الأول
الأحكام الفقهية للأوراق المالية العرفية
المبحث الأول: شبه حكم الورق عند من لا يعده نقدًا.
المبحث الثاني: حكم هذه الأوراق عند الجمهور.
المبحث الثالث: مسالك تخريج قول الجمهور.
المبحث الأول
شبهة حكم الورق المعروف بالنوط
عند من لا يعده نقدًا من الفقهاء القدامى والمعاصرين
ذكر الأستاذ رشيد الراشد في كتابه الدرر النقية في المطالب الفقهية ص 93 قوله: "قال محمد محفوظ الترمسي في حاشيته على شرح ابن حجر على المقدمة الحضرمية على مذهب السادة الشافعية: اختلف المتأخرون في الورق المعروف بالنوط، فعند الشيخ سالم بن سمير والحبيب عبد الله بن سميط: أنها من قبيل الديون نظرًا إلى ما تضمنته الورقة المذكورة من النقود والتعامل بها.
وعند الشيخ محمد الإنبابي والحبيب عبد الله بن أبي بكر، أنها كالفلوس المضروبة والتعامل بها صحيح عند الكل، وتجب زكاة ما تضمنته الأوراق من النقود.
وإذا علمت ذلك تعلم أن ما كتبه العلامة عبد الحميد الشرواني محشي التحفة في أوائل كتاب البيع من جزمه بعدم صحة التعامل بها مطلقًا، وجزمه بعدم وجوب الزكاة، معللاً عدم الصحة بأن الأوراق المذكورة لا منفعة منها وأنها كحبتي بر، هذا غير صحيح؛ لأنها ذات قيمة ومنفعة منتفع بها غاية الانتفاع، على أنك قد علمت أن القصد ما دلت عليه من النقود المقدرة، فلا يتم التعليل، فتنبه لهذه المسألة، فإن التجار ذوي الأموال يتشبثون بما صدر من المحشي المذكور رحمه الله تعالى، ويمتنعون من إخراج الزكاة، وهذا جهل منهم وغرور، والمحشي قال فيها بحسب ما بدا له من غير نص، فلا يؤخذ بقوله، وللاحتياط في أمثال هذه المسألة مما هو متعين؛ لأنه ينشأ منه فساد كبير، وغرور عظيم للجهال ومن تمكن حب الدنيا بقلبه.) اهـ (1) .
(1) وقد رد الأستاذ محمد نبهان الخباز على هذه الشبهة بقوله: أليست هذه الأوراق النقدية في العالم نقدًا حل محل الذهب والفضة وضع للتعامل بين الناس؟ أجل إنه مال به نبيع وبه نشتري، وبه نتزوج، ونزوج به بناتنا، والله تعالىيقول:{فِي أَمْوَالهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالمَحْرُومِ} ، أليست فتوى المحشي تنسخ ركنا من أركان الإسلام وهو (الزكاة) باعتبار قوله: لا منفعة منها، وأنها كحبتي بر وليست بمال، نجرئ الناس على بيعها المائة بمائة وخمسين، نكون بذلك قد فتحنا باب الربا على مصراعيه، ونستحق الحرب من الله ورسوله كما جاء في الآيات القرآنية.
المبحث الثاني
زكاة النقود العرفية عند الجمهور من الفقهاء
(1)
زكاة الكواغد وقطع الجلود ونحوهما
هذه الأشياء قد جرى التعامل بها في بعض الجهات إتمامًا للمقومات، كما يتعامل بالدينار والدرهم بدون أن يكون لها من النقود ما يعادلها في المصارف الرسمية، فهل حكمها حكم الفلوس النحاس بتنزيل قيمتها الوضعية منزلة القيمة الخلقية، فيجري فيها ما جرى في زكاة الفلوس الجدد من الخلاف، بناء على أن زكاة النقدين معلومة أو غير معلومة، أو بناء على إلحاقها بسلع التجارة، نظرًا إلى أنها أثمان رائجة، أو عدم إلحاقها بها، أو ليس حكمها حكم الفلوس فلا زكاة فيها اتفاقًا، ويفرق بينها وبين الفلوس بأن الفلوس لم تلحق بالنقدين - على القول - زكاتها إلا باعتبار كونها من معادن ذات قيمة أصلية؛ لأن الوجوب في الزكاة العين على القول بتعليله منوط بالثمنية المالية، أي القيمة الذاتية الخلقية، فإنها من أجود المعادن ذات القيم المعتد بها، ولذا جعلت أثمانًا مطلقة للحاجيات المعاشية بجميع أنواعها. فالعلة في الحقيقة لزكاتها ليست مجرد الثمنية الوضعية، بل الثمنية مع المالية الذاتية، وحينئذ فلا يلحق بها في وجوب الزكاة إلا ما له شبه بها من هذه الجهة.
والكواغد وقطع الجلود ونحوهما ليست كذلك، بخلاف الفلوس، فإنها وإن كانت من معادن أقل من معدن الذهب والفضة، إلا أنها ذات قيمة أصلية يعتد بها ولا يخفى أن هذا الفرق إنما يظهر في كواغد وقطع جلود قيمتها تافهة، أقل من قيمة قطع النحاس والرصاص، أما إذا كانت مصنوعة من كنود وجلود جيدة بصفة تجعلها في درجة الفلوس وترفعها إلى قيمتها أو أعلى فلا يظهر الفرق المذكور، إذ أصل كل منهما عروض جعلت أثمانًا ورؤوس أموال كغيرها من المقومات، وحيث تكون الكواغد وقطع الجلود كالفلوس يجري فيها الخلاف المذكور، ومثل ما إذا اتخذت نقود من جواهر نفيسة غير الذهب والفضة وتعومل بها بين الناس، فحكمها كالفلوس مع أنها ذات قيمة عالية، فيجري فيها الخلاف المذكور، وإن كان المعتمد عند المالكية تخصيص الزكاة في الأثمان بالنقدين وأنها للثمنية الخلقية التي لا يشترك فيها مع النقدين غيرهما من المعدن والنبات، سواء كان جواهر أو فلوسًا أو كواغد أو قطع جلود أو غيرها، والكلام في زكاتها زكاة النقدين الواجبة على المالك مطلقًا تاجرًا أو غيره، وأما إذا اتخذت التجارة فلا نزاع في زكاتها زكاة للعروض باعتبار قيمتها، كما تقدم في زكاة الفلوس النحاس سواء، والظاهر أن القيمة تعتبر حسب التعامل بها لأن الانتفاع منوط بها دون قيمتها الذاتية قلت أو كثرت، ولأن الوجوب في أموال التجارة معلق بالمعنى وهو المالية والقيمة، والأموال كلها في هذا المعنى جنس واحد، ولذا لا تختلف أصنافها فيما يزكي ولا فيما يخرج من قيمتها حبوبًا وحيوانًا ومعدنًا ونباتًا، وعلى ذلك فمجرد اتخاذ الكواغد وقطع الجلود أثمانًا رائجة يصيرها كالنوقد أو كسلع التجارة، كما تقدم في الفلوس عند الحنفية. وفي حواشي الرهوني قال مالك في الفلوس: لا خير فيها نظرة بالذهب ولا بالورق، ولو أن الناس أجازوا بينهم الجلود حتى تكون لها سكة وعين، لكرهتها أن تباع بالذهب والورق نظرة، ولا يجوز فلس بفلسين. وفي موضع آخر: ولو جرت الجلود بين الناس مجرى العين المسكوك لكرهنا بيعها بذهب وورق نظرة.اهـ. وجرت عادة الإمام رضي الله عنه أن يعبر بالكراهة عما يشمل الحرمة، وهو ظاهر في أن الكواغد وقطع الجلود ونحوها متى جرى التعامل بها كانت كالفلوس سواء.
فتوى مفتي المالكية في زكاة الكاغد وفي فتاوى أبي عبد الله محمد عليش مفتي المالكية ما نصه: "ما قولكم في الكاغد الذي فيه ختم السلطان ويتعامل به كالدراهم والدنانير، هل يزكي زكاة العين أو العرض أولا زكاة فيه؟ " فأجبته بما نصه: "الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله: لا زكاة فيه؛ لانحصارها في النعم وأصناف مخصوصة من الحبوب والثمار والذهب والفضة، ومنها قيمة عرض المدير، وثمن عرض المحتكر والمذكور، وليس داخلاً في شيء منها، ويقوي ذلك أن الفلوس النحاس المختومة بختم السلطان المتعامل بها لا زكاة في عينها لخروجها عن ذلك، قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة عليه إلا أن يكون مديرًا فيقومها كالعروض. انتهى. وظاهر قوله في المدونة: "إلا أن يكون مديرًا فيقومها كالعروض" أي كعروض التجارة أنها تقوم مطلقًا، سواء كانت سلع تجارة أو أثمانًا فيها، وحينئذ فيقومها كالعروض وتزكي زكاتها، أي باعتبار قيمتها لا باعتبار عينها. وأما إذا كانت مدخرة عنده أو مستعملة في قضاء حوائجه المستهلكة أو المقتناة، فلا زكاة فيها لا باعتبار عينها ولا باعتبار قيمتها على المشهور.
والحاصل أن الكواغد التي يتعامل بها في بعض البلاد كالدراهم والدنانير إن استعملت في التجارة ثمنًا أو مثمنًا زكيت زكاة عروضها؛ بشرط أن يتوفر فيها شروط زكاة العرض، وإن لم تستعمل كذلك فلا زكاة فيها، وذلك ما يقتضيه تسويتها بالفلوس النحاس، فإن أصلها عروض كالكواغد جرى التعامل بها أثمانًا للأشياء كما يتعامل بالدينار والدرهم، وغايته أن الفلوس قد قيل بزكاتها كالنقدين باعتبار قيمتها وقد علمت مبناه، وأنه إلحاقها بالنقدين أو عروض التجارة فيجري مثله في الكواغد وقطع الجلود؛ لأنها أثمان تعومل بها وأصلها من العروض كالنحاس والرصاص سواء. وقد علمت قول الحنفية في ذلك، وأن جعلها أثمانًا رائجة بمنزلة كونها سلعًا للتجارة، وظاهره سواء استعملها المالك في حوائجه أو التاجر في سلعته فتزكى باعتبار قيمتها الوضعية، أي إن تحقق النصاب فيها لا يكون إلا باعتبار قيمتها ذهبًا أو فضة، مهما بلغ عددها أو وزنها فهي شبيهة بالعروض والنقدين، وظاهر أن السؤال والجواب مفروضان في الكاغد الذي يتعامل به في غير التجارة كالمدخر أو المستعمل في حوائجه المستهلكة أو المقتناة فإنه لا زكاة فيه على المشهور مطلقًا، لا زكاة عين ولا زكاة عرض، أما إذا تعومل به في التجارة فيزكي زكاة العرض بشرطه كالفلوس الجدد كما تقدم".
هذا، والقيمة فيما أصله العرض ونقل إلى التعامل به معاملة النقدين منظور فيها لحالته التي هو عليها، كقيمة العروض الأصلية من جودة أو رداءة أو سكة أو صياغة أو نحو ذلك، فما أعد للماء والتجارة إما بجعله ثمنًا كالفلوس والكواغد، أو مثمنًا كما في غيرها من عروض التجارة تعتبر قيمته بالحالة التي هو عليها. ويلحق بالأثمان المطلقة لما طرأ عليه من الإعداد للنمو ويزكى زكاة العروض أو الأثمان الأصلية باعتبار قيمته لا باعتبار عينه، إذ لا تتصور الزكاة فيه باعتبار العين وزنًا أو عددًا كما في زكاة النقدين، إذ العروض الأصلية لا تتعلق الزكاة بها من حيث ذاتها، فإن الأصل فيها القنية والانتفاع بعينها كالثياب والرقيق وآلات الحرث والدرس، وما وجبت الزكاة فيها إلا لما طرأ عليها من الإعداد للماء والتجارة، فألحقت بالأثمان وتعلقت الزكاة بها من هذه الجهة التي يجب مراعاتها في تقدير نصابها والمزكي في الحقيقة عوض قيمتها الذي هو الثمن، فالزكاة فيما يتعامل به ثمنًا أو مثمنًا إنما تتعلق بالأثمان مطلقة أو مقيدة، ولا فرق في ذلك بين العروض الأصلية وبين ما نقل منها إلى التعامل فلوسًا أو غيرها.
والحاصل أن الكواغد وقطع الجلود ونحوها إن قلنا إن ثمنيتها كثمنية الفلوس الجدد، فمجرد اتخاذها أثمانًا يحلقها بعروض التجارة، فتجب الزكاة فيها عند الحنفية، سواء كان التعامل بها في تجارة أو غيرها. وعند المالكية لا زكاة فيها إلا إذا نوى بها التجارة كالعروض، فيزكيها التاجر دون غيره على المشهور، وقيل: إنها تزكي كالفلوس النحاس إلحاقًا لها بالنقدين (1) .
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ حسنين مخلوف: ص 31 – 35.
(2)
زكاة الفلوس الجدد
وهي المتخذة من غير الذهب والفضة كالنحاس والرصاص والحديد ونحو ذلك، فهذه وإن لم يرد نص بوجوب زكاتها، بل الظواهر والورادة في زكاة الأثمان المطلقة دالة على عدم وجوب الزكاة فيها، ولكن وقع للعلماء في زكاتها خلاف بعد ضربها واتخاذها للتعامل، مبناه كما هو ظاهر على الخلاف في تعلق الوجوب بالنقدين، هل هو معلوم فيدخله القياس؟ أو ليس بمعلول فلا يدخله؟ وتقدمت الإشارة إليه في المطلب الأول، وفي الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني ما نصه: أفهم اقتصاره، أي للصنف كغيره من الصنفين على الذهب والفضة أن الفلوس الجدد لا زكاة فيها، وهو كذلك، قال في الطراز المذهب: لا زكاة في أعيانها، وظاهره ولو تعومل بها عددا خلافًا لبعض الشيوخ. اهـ. وفي حواشي ابن تركي على العشماوية ما نصه: لا زكاة في الفلوس النحاس المسماة بالجدد على المعتمد. اهـ.
ونقل خاتمة أبو عبد الله محمد عليش في فتاويه عن صاحب الطراز أن المذهب عدم وجوب الزكاة في عينها؛ إذ لا خلاف أنه لا يعتبر وزنها ولا عددها، وإنما المعتبر قيمتها فلو وجبت في عينها لاعتبر النصاب من عينها ومبلغها لا من قيمتها كما اعتبر في الورق والذهب والحبوب والثمار، فمتى انقطع تعلقها بعينها جرت على حكم جنسها من النحاس والحديد وشبهه. اهـ. فقوله: جرت على حكم جنسها، أي فتزكى زكاة العروض باعتبار قيمتها من الدنانير والدارهم كما يزكى النحاس والحديد.
وفي حواشي ابن عابدين من كتب الحنفية ما نصه: "فرع في الشرنبلالية": "الفلوس إن كانت أثمانًا رائجة أو سلعًا للتجارة تجب الزكاة في قيمتها، وإلا فلا".اهـ.
وفي فتاوي قاري الهداية: الفتوى على وجوب الزكاة في الفلوس إذا تعومل بها، وبلغت ما يساوي مئتي درهم أو عشرين مثقالاً من الذهب. اهـ. فأفاد أن كونها أثمانًا رائجة بمنزلة كونها سلعًا للتجارة، فتجب فيها الزكاة، وبالضرورة لا تجب في عينها وزنًا أو عددًا، بل في قيمتها كما سيأتي، ولا شك أن خلاف العلماء في زكاتها على هذا الوجه مع عدم وجود نص من الكتاب أو السنة بزكاتها أو بعدم زكاتها؛ يدل على وجود خلاف في تعليل زكاة النقدين، فإن كانت معلولة قيس عليها زكاة الفلوس وإلا فلا، ولكن لا على اعتبار النصاب من عينها، بل على اعتباره من قيمتها ذهبًا أو فضة، وذكر صاحب الطراز عن أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وجوب الزكاة في عينها مع تعلقها بقيمها، وهو يؤيد قول بعض المالكية بوجوب زكاتها.
وفي حواشي الرهوني علي عبد الباقي قال عياض في تنبيهاته: اختلف لفظه (أي الامام) في الفلوس بحسب اختلاف رأيه في أصلها، أهي كالعرض أو كالعين؟ فله هنا، أي في باب الصرف والتشديد، وأنه لا يصلح فيها النظرة، أي التأخير، ولا تجوز، فشبهها بالعين، وظاهره المنع جملة كالفضة والذهب، ثم قال: وليست كالدنانير والدراهم في جميع الأشياء.
وقال ابن عرفة: وفي كون الفلوس ربوية كالعين ثالثُ الروايات يكره فيها، وفي السلم الأول والصفر النحاس عرض ما لم تضرب فلوسًا، فإذا ضربت فلوسًا جرت مجرى الذهب والورق فيما يحل ويحرم، وفي الإرشاد ما نصه: والنصوص كراهة التفاضل والنساء في الفلوس. وقال في باب الزكاة: لا تزكى إلا في الإدارة كالعرض.اهـ. فالخلاف فيها قوي جدًا. اهـ.
وبالجملة فنصوص المالكية ظاهرة في أن التماثل بوجوب الزكاة في الفلوس إنما يقول به تشبيهًا لها بالعين، وأن التعامل بها ناقل لها عن أصلها، ويرى أن تشبيهها بالعين في باب الزكاة التي هي من قبيل المواساة والبر بالفقراء، بل هي أدخل منها في باب المعروف، أولى من تشبيهها بها في باب آخر ومالك رضي الله عنه شبهها فيما يشدد فيه كالصرف والبيع بالعين، وفيما يحل كالزكاة بالعرض، فلا تزكى لأنها ليست من أحد النقدين، ولا من أحد الأصناف الداخلة في عموم قوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] . ونحو "أدوا زكاة أموالكم"، فإنه مخصص في الأثمان عنده بالذهب والفضة، كما يؤخذ من الأحاديث الواردة في ذلك، واسم المال قد يختلف معناه باختلاف موارده.
قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان، وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل؛ لأنها كانت أكثر أموالهم، فاسم المال ليس نصًا في الشمول، والسنة مبينة للتنزيل، وقد بيّن صلى الله عليه وسلم مجمل القرآن في الزكاة وغيرها، وحصر عمومه المراد به الخصوص، كما أمر الله تعالى به قولاً وعملاً، فبين ما تؤخذ الزكاة من الأموال، وممن تؤخذ من الناس، وكم يؤخذ منها، ومتى تؤخذ من الناس، وكم يؤخذ ومتى تؤخذ. كما ذكره ابن رشد في مقدماته.
وبعد أن ساق أحاديث البيان في ذلك قال: فالزكاة لا تجب إلا في ثلاثة أشياء: في الحرث، والعين، والماشية. والعين هي الذهب والفضة. والماشية الابل والبقر والغنم. والحرث ما يخرج من الأرض من الحبوب والثمار والكروم؛ لأن السنة قد خصصت ماعدا هذه الثلاثة أشياء من عموم قول الله عز وجل:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وخصص من هذه الثلاثة الأشياء بعضها على ما تقدم.اهـ.
والمراد بعدم زكاة الفلوس على مشهور مذهب مالك أنها لا تزكي زكاة النقود، أي لا يزكيها المالك باعتبار ذاتها، ولا باعتبار قيمتها، وهذا لا ينافي أنها إذا اتخذت للتجارة والنماء فإنها تزكي زكاة العروض كما تقدم؛ لأنها عروض تجارة مسكوكة، وسيأتي أن عرض التجارة عند المالكية إذا كان فلوسًا يزكى مطلقًا، سك أو لم يسك، متى توفرت شروطه، وليس ضربها والتعامل بها واتخاذها أثمانًا رائجة بمنزلة نية التجارة في السلع؛ لأنها لما لم تكن عندهم للتجارة والنماء خلقة فلا تصير بها إلا بقصد التجارة فعلاً؛ إلحاقًا لها بأصلها وهو العروض التي ليست أثمانًا.
وظاهر فرع الشرنبلالية وغيرها من كتب الحنفية، حيث سووا في الحكم بين كونها أثمانًا رائجة وبين كونها سلعًا للتجارة، أن ضربها والتعامل بها بمنزلة نية التجارة، وقد نص الحنفية على وجوب ضم قيمة العروض إلى الذهب والفضة حتى يتم النصاب. ووجهوه بأن الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الإعداد، ففي العروض من جهة العباد بالصنع الذي هو بمنزلة الخلقة لها. وفي النقدين من جهة الله تعالى بخلق الذهب والفضة للتجارة، والافتراق في الجهة لا يكون مانعًا من الضم بعد حصول ما هو الأصل وهو للنماء، وقد علمت مشهور مذهب مالك وأنها لا تصير للتجارة، بحيث تزكى زكاة عروضها إلا بنية التجارة وقصدها فعلاً، والإعداد بغير نية التجارة لا يعتبر في وجوب الزكاة، إلا إذا كان خلقيًا بإعداد الله تعالى كما في الذهب والفضة. قال في المدونة: ومن حال الحول على فلوس عنده قيمتها مائتا درهم فلا زكاة.
المبحث الثاني
مسالك تخريج زكاة الأوراق المالية العرفية عند الجمهور
المسلك الأول
تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين: المعروف عند الفقهاء المنظور إليه في زكاة هذه الأوراق هو قيمة الديون المشغولة بها ذمة البنك المتوثق منها بالمال المخزون الذي به تتحقق ملاءة البنك، فإذا اعتبرت قيمة الأموال الواصلة إلى البنك وإلى من عليه ديون من المتعاملين بهذه الأوراق، كدين واحد في ذمة شخص معين، فتخرج زكاتها على زكاة الدين، وحكم زكاة الدين في مشهور مذهب مالك رضي الله عنه أنه إذا كان لأحد على آخر دين لا يزكيه مادام غائبًا عنه تحت يد الغريم وفي ذمته، فإن قبضه منه زكاه لسنة فقط، وإن أقام عند المدين أعوامًا، بشروط ثلاثة:
الأول: أن يكون الدين عينًا ذهبًا أو فضة من قرض أو ثمن عروض بغير مدير.
الثاني: أن يقبضه عينًا ذهبًا أو فضة، فإن قبضه عرضًا فلا زكاة عليه حتى يبيعه (1) .
الثالث: أن يقبض نصابًا كاملاً ولو في مرات، أو يقبض بعض نصاب وعنده ما يكمل النصاب.
أما التاجر المدير وهو الذي يبيع بالسعر الواقع كيف كان ويخلف ما باعه بغيره، فإذا نض له من سلعة ولو درهمًا واحدًا، فإنه يقوم كل عام السلعة التي للتجارة ويضم لها ما عنده من العين وما له من عدد الدين المعد للنماء، إذا كان نقدًا حالاً مرجو الخلاص، ومنه مبلغ ما عنده من الأوراق المالية، ويزكي الجميع دفعة واحدة كل سنة، ويعتبر هذا الدين كأنه نقد محصل بخزانته، أما إذا كان الدين الذي له ليس معدًا للنماء كدين القرض، فلا يضم في التقويم لسلعة، بل يزكيه لسنة واحدة بعد قبضه، وإن كان عرضًا أو مؤجلاً مرجوًا فيها فلا يزكي عدده، بل يقومه على نفسه قيمة عدل، ويزكي القيمة مع ما عنده كل سنة؛ لأن المرجو في قوة المقبوض بالنسبة للمدير.
أما غير المرجو فلا يقومه بل يزكيه إن قبضه لعام واحد كالعين الضائعة والمغصوبة. وفي بداية المجتهد لابن رشد: واختلفوا في زكاة الدين، هل يزكيه كل عام أو لعام أو يستقبل به سنة من يوم قبضه؟ فمن قال: يستقبل بالدين حولا، لم يوجب فيه الزكاة، ومن قال الزكاة بعدد الأحوال، شبهه بالمال الحاضر.
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 21-25.
وأما من قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالاً، فلا أعرف له مستندًا في وقتي هذا؛ لأنه لا يخلو مادام دينًا أن يقول: فيه زكاة، أو لا يقول ذلك. ولعله يقول: فيه الزكاة مع اشتراط الحول، إلا أنه يقول كلما انقضى حول فلم يتمكن من أدائه سقط عنه ذلك الحق اللازم في دبر الحول، فإن الزكاة وجبت بشرطين: حضور عين المال، وحلول الحلول، فلم يبق إلا حق العام الأخير. وهذا شبهه مالك بالعروض التي للتجارة، لا زكاة فيها إلا إذا باعها، وإن أقامت عنده أعوامًا. اهـ.
إذا علمت هذا فحكم الورقة المسئول عنها على مشهور مذهب مالك في زكاة الدين، إذا كان صاحبها ليس بتاجر مدير كأن كان غير تاجر أو تاجرًا محتكرًا، أنه لا يزكيها ولو أقامت عنده أعوامًا عديدة، إلا إذا استبدل بها عينًا ذهبًا أو فضة، وحينئذ يزكي ما قبضه لسنة واحدة، كما يزكي الدين لو قبض من الغريم عينًا، وإن كان مديرًا زكى عددها، أي قيمتها المضمونة بها متى نض له من سلمه، أي باع منها ولو بدرهم واحد، ولو لم يستبدل بها نقودًا ذهبًا أو فضة. هذا ما يقتضيه حكم زكاة الدين عند المالكية، وإن كانت حالة الدين المضمون بهذه الأوراق لا تتفق تمامًا مع الاعتبارات الفقهية التي تراعي في باب الدين؛ لأن الدين المذكور ليس في ذمة معينة حقيقة، ولا روعي في تحرير سنده أن يكون لشخص معين، ولكن مسألة الزكاة شيء وتحرير سند الدين وتقريره في ذمة معينة شيء آخر؛ إذ لا نزاع في أن صاحب الورقة المذكورة مالك لنصاب حال عليه حول يمكنه أن يقبضه نقدا ذهبًا أو فضة في أي وقت شاء، ومن أي شخص كان، وأن يستبدل به مقومًا أو يهبه أو يتصدق به على شخص آخر بواسطة هذه الورقة التي يعتبر وصولها إلى يد أخرى حوالة على الصرف الذي أصدرها أصالة، بحيث إذا قدمت إليه أو إلى من أنابه عنه لزمه قبولها ودفع قيمتها كمبادلة النقدين سواء.
وليس مجرد وضع اليد على ورق البنك نوت واستلامه من الدين يعد قبضًا للدين، فمن له على آخر عشرة جنيهات من ثمن مبيع مثلاً فأعطاه ورقة بهذه القيمة بعد حول أو أكثر، لا يعد بذلك قابضًا للدين حتى تجب عليه زكاته الآن، بل يعد محالاً به على خزانة البنك، فلا يزكي هذه الورقة حتى يقبض قيمتها نقدًا، ولو بقيت عنده أعوامًا فيزكيها لسنة واحدة كما مضى. هذا ما يؤخذ من مشهور مذهب مالك في تخريجها على زكاة الدين. ولا يخفى أن ذلك التخريج مجحف بالفقراء غير واف بمقصود الشارع من شرع الزكاة، وهو سد خلة الفقير، ولا سيما في البلاد التي يكون غالب أموالها الزكاة من قبيل الأثمان كمصر، فإن ما يزكى من الماشية والحرث فيها قليل جدًا بالنسبة لما يقصد منه ثمنه من المحصولات الأخرى كالقطن ونحوه، ومذهب الحنابلة أن من له دين على مليء باذل من قرض أو دين عروض تجارة أو ثمن مبيع وحال عليه الحول، كلما قبض شيئًا أخرج زكاته لما مضى، وهو قريب من مذهب مالك، فتخريجه تخريجه. والمأخوذ من مذهب الحنفية أن هذه الأوراق إذا اعتبرت كمستندات ديون لا تؤدى زكاتها إلا بعد القبض، أي استبدالها بنقود على تفصيل عندهم في أنواع الدين. ومذهب السادة الشافعية أن الدين في بعض أحواله يزكى كل عام، حيث قالوا: إن من له دينًا على آخر وكان حالاً، والمدين موسرًا غير جاحد ولا مماطل فيه، فعليه تعجيل زكاته كالوديعة قبضه أو لم يقبضه إذا حال عليه الحول، وعلى هذه فالزكاة واجبة في هذه الأوراق إذا حال عليها الحول، وإن لم تستبدل النقود بها. ولما كانت زكاة الأموال من أفضل أعمال البر بالإنسان، وقد شرعت لسد خلة المحتاجين، وتفريج كرب البائسين، ومنع صولة الفقراء على الأغنياء، وانتهاب أموالهم، ويخشى أن يحتال أرباب الأموال على إسقاط زكاتها باستيفاء هذه الأوراق في أيديهم بدون استبدالها بأحد النقدين؛ كان الأرفق بالفقراء والأحوط في الدين الأخذ بمذهب السادة الشافعية في زكاة هذه الأوراق، وإفتاء العامة به، وإن كانوا متعبدين على مذهب آخر؛ لأن العامي مذهبه في النازلة مذهب مفتيه (1) .
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 37-41.
(2)
المسلك الثاني
تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين العرفي
ولا يخفى أن تخريج زكاة الأوراق المالية على زكاة الدين مع كونه مجحفًا بحق الفقراء - على غير ما ذهب إليه الشافعية - مبني على اعتبار القيمة المضمونة بهذه الأوراق كدين حقيقي في ذمة شخص مدين، وأن هذه الأوراق كمستندات ديون حقيقية، مع أن هناك فرقًا بين هذه الأوراق وما هو مضمون بها، وبين المدين الحقيقي وسنده المعروف عند الفقهاء، فإن الدين ما دام في ذمة المدين ولا ينتفع به ربه ولا يجري التعامل بسنده رسمًا، ولذلك قيل بعدم وجوب زكاته؛ لأنه ليس مالاً حاضرًا معدًا للنماء، بحيث ينتفع به ربه، بخلاف قيمة هذه الأوراق فإنها نامية منتفع بها كمًا ينتفع بالأموال الحاضرة. وكيف يقال: إن هذه الأوراق من قبيل مستندات الديون، ومستند الدين ما أُخذ على الدين للتوثق وخشية الضياع، لا لتنمية الدين في ذمة المدين ولا للتعامل به، أو يقال: لا تجب الزكاة فيها حتى يقبض بدلها نقدًا ذهبًا أو فضة، مع أن عدم الزكاة في الدين - كما علمنا - إنما هو بكونه ليس معدًا للنماء، ولا محفوظًا بعينه في خزانة المدين، والفقهاء إنما حكموا بعدم زكاة الدين مادام في ذمة المدين حتى يقبضه المالك؛ نظرًا لهذه العلة.
واستثنى الشافعية دين الموسر إذا كان حالاًّ فإنه يزكى قبل قبضه كالوديعة؛ نظرًا إلى أنه في حكم الحاضر المعد للنماء، فلو فرض نماؤه كما في بدل الأوراق المالية، لما كان هناك وجه لتوقف الزكاة على الفقير، ولما خالف في ذلك أحد من العلماء فالحل أن هذا النوع من الدين نوع آخر مستحدث لا ينطبق عليه حقيقة الدين وشروطه المعروفة عن الفقهاء، ولا يجري فيه الخلاف الذي جرى في زكاة الدين، بل ينبغي أن يتفق على وجوب الزكاة فيه؛ لما علمت أنه كالمال الحاضر، وغايته أن نموه والانتفاع به بواسطة هذه الأوراق المعتمد في إصدارها والتعامل بها على وجود ما يعادل قيمتها في المصارف المالية، فكأنه بهذا مال حاضر بين المتعاملين يتحرك وينمو بحركة هذا الرسم المضروب، فالنصاب المملوك هو ذلك النوع من البدل، والرسم المضروب إنما هو لحفظه والتعامل به فزكاته زكاته وقبضه قبضه، وذلك بخلاف الدين، فإن ما نسميه دينًا ونشترط في زكاته شروطًا، يجب أن يكون مضمونًا في الذمة، وليس معدًّا للنماء والحركة، وإلا وجبت فيه الزكاة كالمال الحاضر (1)
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 40.
(3)
المسلك الثالث
تخريج زكاة الأوراق باعتبار المال المحفوظ بخزانة البنك
ولو قيل: إن حق المتعاملين بهذه الأوراق متعلق بعين النقود المحفوظة بالبنك، كما قد يفهم مما جاء في نظامها السابق حيث قيل فيه (وعند التصفية يكون هذا المال مخصصًا لدفع قيمة الأوراق واستعادتها) ؛ لكان له وجه، وحينئذ يكون المال المحفوظ بالبنك بدلاً عن رؤوس الأموال والمقومات الواصلة إليه من المتعاملين بتلك الأوراق، وكأن الحكومة بالنيابة عنهم تعاقدت مع البنك على هذه الصورة، وعلى ذلك فلا تخرج زكاة هذه الأوراق على زكاة الدين مطلقًا، بل تجب الزكاة فيها اتفقًا باعتبار ما يعادلها من النقود المحفوظة، لا باعتبار ذاتها ولا باعتبار شيء مضمون في الذمة، وتكون هذه الأوراق كمستندات ودائع محفوظة في خزائن الأمناء، جعل التعامل بها طريقًا للتعامل بالبدل المحفوظ بالمصارف، ينمو بنمائها، ويتحرك بحركتها، ويربح ويخسر بربحها وخسارتها. وإذا بطلت المعاملة بها كان للمالك الحق في الرجوع بقيمتها ذهبًا أو فضة على خزانة البنك بمقتضى التعهد السابق التعامل، وإن لم يجر به مباشرة، إلا أنه جار فيه بصورته ورسمه، وثمنية الأوراق إنما هي باعتبار هذا المال المخزون، بحيث لو عدم عدمت ثمنيتها وبطل التعامل بها، وحينئذ فالزكاة في الحقيقة واجبة فيه لا في الأوراق، وانتفاع الفقير بجزئه المعتبر شرعًا كانتفاع المالك بسائر أجزائه، وعلى ذلك فلا خلاف في زكاتها بلا توقف على قض، ولكن يبعد هذا القول أن التعهد السابق يقيد أن ما في البنك نصفه نقود ونصفه قراطيس مالية، بل يصبح في ظروف خاصة أن يكون أقل من ذلك (1)
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 41.
(4)
المسلك الرابع
تخريج زكاة الأوراق باعتبار قيمتها الوضعية
ولو فرض أنه ليس في البنك شيء من العقود، ونظرًا إلى تلك الأوراق في ذاتها بقطع النظر عما يعادلها وعن التزام التعهد المرقوم بها، واعتبر جهة إصدار الحكومة لها واعتبار الملة أثمانًا رائجة؛ لكانت كالنقدين تجب زكاتها على القول بأن الزكاة في النقدين معلولة بمجرد الثمنية، ولو لم تكن خلقية، كما تقدم في زكاة الفلوس وقطع الجلود والكواغد، فتحصل أن الأوراق المالية يصح أن تزكى باعتبارات أربعة:
الأول: باعتبار المال المضمون بها في ذمة البنك وأنه كمال حاضر مقبوض، وإن لم يكن كالدين المعروف عند الفقهاء من كل وجه.
الثاني: زكاتها باعتبار الأموال المحفوظة بخزانة البنك، وعلى هذين الاعتبارين فالزكاة واجبة فيها اتفاقًا.
الثالث: زكاتها باعتبار قيمتها دينًا في ذمة البنك، فتزكى زكاة الدين الحال على مليء، كما ذهب إليه السادة الشافعية.
الرابع: زكاتها باعتبار قيمتها الوضعية عند جريان الرسم بها في المعاملات واتفاق الملة على اتخاذها أثمانًا للمقومات، وعلى ذلك فوجوب الزكاة فيها ثابت بالقياس، كزكاة الفلوس النحاس وقطع الجلود ونحوهما، ولكن هذا لا يتم إلا إذا تحقق الغرض المذكور في الأوراق المالية، وحينئذ يكون التعامل بها كالتعامل بالفلوس وقطع الجلود سواء، وإلا فالتعامل بها الآن منظور فيه إلى قيمتها المضمونة بذمة البنك والمودعة في خزانته، وأنه حتم عليه أن يدفع تلك القيمة متى طلب منه ذلك، فهي كالعقود بخلاف العملة المعدنية غير الذهب والفضة (1) .
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 42.
الفصل الثاني
نقول من أقوال الفقهاء المعاصرين تؤيد مذهب الجمهور
(1)
فتوى للشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي
في شأن زكاة الأوراق المالية
زكاة الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن
اعلم أنه قد ورد إلينا بتاريخ 11 أحد عشر ربيع الأول سنة 1324 ألف وثلثماية وأربعة وعشرين هجرية؛ خطابٌ من أحد أهالي الفيوم، يتضمن السؤال عن حكم زكاتها شرعًا؛ وصورته: إذا وجد عند شخص ورقة (بنك نوت) قيمتها مائة جنيه مثلاً، وحال عليها الحول، هل تجب فيها الزكاة أو لا؟ فأجبناه إذ ذاك بوجوب الزكاة فيها تخريجًا على زكاة الدين عند السادة الشافعية؛ لأن المزكى في الحقيقة هو المال المضمون بها، وتفصيل الجواب: أن الأوراق المالية الجاري بها التعامل الآن في القطر المصري معتبرة كسندات ديون على شخص معنوي، كما هو الظاهر في التعهد المرقوم عليها وصورته:
" أتعهد بأن أدفع لدى الطلب مبلغ كذا لحامله. تحرر هذا السند بمقتضى الدكريتو المؤرخ في 25 يونيو سنة 1898.
عن البنك الأهلي المصري
الإمضاء
ونص المادة الثانية من الدكريتو المذكور للبنك الأهلي المصري: الامتياز بإصدار أوراق مالية تدفع قيمتها لحاملها عند تقديمها، وذلك حسب القيود والشروط المدونة في النظامات المذكورة، ولا يمنح هذا الامتياز لبنك آخر طول مدة بقاء هذه الشركة، ومما جاء في النظامات المشار إليها أن من أعمال البنك إنشاء أوراق مالية تدفع قيمتها لحاملها أو إلى المحول إليه، وأنه يجب أن يكون مخزونًا في البنك ذهب يعادل نصف قيمتها، والنصف الثاني يكون ملكه من القراطيس المالية التي تعينها الحكومة بدون أن يكون هذا الحق المحول للحكومة المصرية مترتبًا على أقل مسئولية، وإذا لم يكن في البنك من القراطيس المالية ما يوازي قيمة نصف ثمن أوراقه، فيجب أن يخزن البنك ذهبًا عينًا يوازي كمية الناقص، حتى تكون الأوراق التي يضعها هذا البنك وتتداول بين الناس مخزونًا ما يساوي قيمتها تمامًا في البنك، أما كمية الأوراق التي توضع للمداولة والتعامل، فالحكومة تتفق مع إدارة البنك على مقدارها والمال المخزون في البنك من ذهب وقراطيس يكون ضمانة لأوراق البنك المتداولة، وعند التصفية يكون هذا المال مخصصًا لدفع قيمة الأوراق واستعادتها. اهـ (1) .
(2)
مقولة الأستاذ خلاف
قال العلامة الشيخ عبد الوهاب خلاف: إن الأوراق النقدية، أي أوراق البنكنوت هي عملة نقدية، وليست سندات ديون، وإن كانت في الصورة سندات ديون، فالورقة هي جنيه أو خمسة أو عشرة أو خمسون أو مائة تجب فيها الزكاة شرعًا، على أنها نقود؛ لأن الناس يتبادلون التعامل بها على هذا.
ولا فرق في وجوب الزكاة بين أن تكون الأموال النقدية في يد مالكها، أو بحفظها رصيدًا في مصرف من المصارف، أو يدخرها في صندوق ادخار (2)
وقال مؤلف كتاب التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "بقي الكلام على الأوراق المالية (البنكنوت) فعليها الزكاة؛ لأنها يتعامل بها كالنقدين (الذهب والفضة) ، وتقوم مقامها، وتصرف بها"(3) .
(1) ينظر رسالة (التبيان في زكاة الأثمان) للشيخ مخلوف: 35.
(2)
انظر لواء الإسلام، العدد الخامس لسنتها الرابعة، لغرة المحرم عام 1370 هـ ص 339.
(3)
انظر كتاب التاج الثاني: 22 لمؤلفه الشيخ منصور ناصيف الشافعي المصري.
وجاء في كتاب الدين الخاص للعلامة الشيخ محمود خطاب السبكي أنه قال: قال الشافعية: الورق النقدي وهو المسمى (بالبنكنوت) التعامل به من قبيل الحوالة على البنك بقيمته، فيملك قيمته دينًا على البنك، والبنك مدين مليء، مقر مستعد للدفع حاضر، ومتى كان المدين بهذه الأوصاف وجبت زكاة الدين في الحال، وعدم الإيجاب والقبول اللفظيين في الحوالة لا يبطلها، حيث جرى العرف بذلك، على أن بعض أئمة الشافعية قال: المراد بالإيجاب والقبول كل ما يشعر بالرضا من قبول أو فعل، والرضا هنا متحقق (1) .
وقال أستاذنا العلامة الشيخ محمد أبو زهرة رحمة الله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بمائتي درهم على أساس قيمتها، أي عشرون دينارًا في عصره عليه الصلاة والسلام، وقد بين الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم هذه القيمة بعشرين دينارًا أو مثقالاً من الذهب، فتجعل هذه القيمة أساس التقدير في كل العصور، وبذلك يتوحد النصاب في كل الأقطار الإسلامية، والآن نجد أكثر التعامل بالأوراق النقدية، فهل تكون هي وعاء الزكاة؟ لقد أخذ بعض الناس من ظاهر ما يكتب عليها، من أنها سند يجب الوفاء به، باعتبارها دينًا، وأجروا عليها أحكام الدين، ولكن الحقيقة أن الأوراق النقدية تعد الآن نقودًا حالة محل الذهب، وقيمتها فيما تدل عليه من قيمة ذهبية في الأسواق - أسواق الذهب العامة- ولو لم تجب فيها الزكاة لكان ذلك إلغاء لزكاة النقد، وإهمالاً لأمر الشارع الإٍسلامي في الزكاة.
(1) انظر كتاب الدين الخالص: 8/148.
وإذا كانت وعاء للزكاة كما هو المنطق والأمر الذي يتفق مع مقاصد الشارع الإسلامي، والغاية من فرضية الزكاة، فإننا نقدر النصاب فيها على أساس القيمة الذهبية، وما يتحقق فيه نصاب الزكاة على أساس أن يكون مجموع الأوراق مشتملاً على ما قيمته عشرون دينارًا ذهبيًا (1) .
وقال كذلك أستاذنا العلامة الجليل الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله تعالى ما نصه: "وأما الأوراق النقدية، والعملة التي تكون من غير الذهب والفضة، كالعملة المتخذة من النيكل وغيره، فإننا نرى أن الزكاة تجب فيها، وإن لم يرد نص عليها، ولأنها لم تكن معروفة في عصر النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن القياس الفقهي يجري فيها بشروط إنتاجه كاملة، فإن هذه النقود يجري التعامل بها في داخل الدولة، فهي تعد مقياسًا دقيقًا لقيم الأشياء في الدولة، وتكون في الدولة كالذهب، وإن كان هو أدق قياسًا، وأوسع شمولاً، إذ يسير حكمه في الميزان في كل الأقطار والأمصار.
وفوق ذلك فإن هذه النقود تعد نامية بالقوة؛ لأنها تتخذ طريقًا للاتجار والتبادل في داخل المملكة الواحدة، فكانت بهذا الاعتبار نامية بالقوة، ولا فرق بينها وبين القضية في ذلك، بل هما في هذا سواء، وإذا تحقق فيها الوصف المؤثر المنتج وهو النماء، فقد تحقق موجب الزكاة، فتجب.
ثم قال حفظه الله تعالى: هذه أحكام النقود بكل ألوانها وأنواعها ما دامت في حوزة صاحبها، ويستوي في ذلك أن تكون في خزائن بيته، أو أن تكون في المصارف المالية مودعة فيها أمانة؛ لأن يد المصارف عليها يد نائبة عن يده فهما سواء، وكذلك إذا كانت رصيدًا تجاريًا؛ لأنها تكون دينًا، واجب الوفاء، ممكن الأداء في أي وقت شاء، بل إن شئت فقل: إنها ودائع وإن كانت غير معينة بالتعيين؛ لأنها تحت تصرف صاحبها في أي وقت يطلبها، ولا مظنة مطلقًا للإرجاء." (2) اهـ.
(1) انظر كتاب (في المجتمع الإسلامي) : 92.
(2)
انظر مجلة لواء الإسلام للسنة الرابعة والعدد الثامن لشهر ربيع الثاني عام 1370 – ص 600.
(5)
فتوى العالم المفتي الشيخ محمد سعيد العرفي
مفتي محافظة الفرات، رحمه الله تعالى
"أما ما ذكرتم عن الورق السوري، فقد أصبح بعد منع التعامل بالذهب هو العملة المرعية، وبعبارة أصرح هو الذهب والفضة، فلا يجوز بيعه نسيئة إلا هكذا بهكذا – أي بغير أجل – وإلا كان ربا، وإذا كان المتقدمون لم يبحثوا هذه الجهة فلم يذكر التاريخ أن التعامل بالذهب ممنوع إلا في عصرنا هذا، إذن أصبح هذا – أي الورق السوري – هو الذهب بعينه، فيجب أن يأخذ حكمه قطعًا، وما حصول الاختلاف إلا ترويجًا للربا بإيجاد وسيلة، كما كانوا يحتالون عليه، وسموها حيلة شرعية، بلا خجل ممن يعلم السر وأخفى.
وأما بيع الليرة الذهبية بالورق إلى أجل فإنه لا يجوز لأسباب كثيرة، منها: أنه عرض نفسه لخطر التبعة؛ لأنه مسئول أمام القانون، فالاختلاف في الجواز إباحة لتعريض الضعيف إلى الوقوع بالتهلكة يستفيد منها أرباب الثروة، أكابر مجرميها ليمكروا فيها، وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
إن الوقوف على إيجاد نص موهوم لزمن غير هذا الزمن لم يحصل فيه هذا المنع بالتعامل، ما هو إلا استحلال للربا عن طريق الشرع، ظنًا منه أن هذا يحل له ونسى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن أحدكم ربما يكون ألحن من أحيه بحجته، فأقضي له، فمن قضيت له بحق أخيه فلا يأخذه، فإنما يأخذ قطعة من نار)) رواه البخاري.
ولذلك فإنك إذا فحصت المجوز تجده إما من أرباب الثروة أو من أذنابهم، ممن يرجو صدقاتهم التي هي أوساخ الناس، يبيع دينه بدين غيره؛ أملاً في استفادة موهومة.
إلى أن قال رحمه الله تعالى: "وقانا الله شر الربا والذي ابتليت به البلاد الإسلامية، فلا حول ولا قوة إلا بالله؛ لأنهم نسوا اتفاق الأمة: على أن كل قرض جر نفعًا فهو ربا، ونسوا قول الله تعالى:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .
وبالختام أرجو أن لا تنسوني من دعواتكم الصالحة، جعل الله تجارة الجميع رابحة، وزودكم بالتقوى، فإنها خير زاد وأفضله، وأخذ بيدكم إلى سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
دير الزور في 11/ربيع الأول سنة 1365 (1) .
مفتي محافظة الفرات
الإمضاء
(6)
مقولة الأستاذ السعدي
قد بحث هذا الموضوع فضيلة الأستاذ العلامة الكبير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في رسالته المسماة "الأوراق البنكية" المطبوعة في مكة المكرمة عام 1378 هـ. وتعرض فضيلته فيها لآراء بعض العلماء في الأوراق المذكورة، فقال في الصفحة الرابعة من الرسالة:
"إن الأنواط (2) حكمها حكم فلوس المعدن تجب فيها الزكاة وغيرها من العبادات المالية، وتتمول في جميع المعاملات، فلا يجري فيها ربا الفضل، فيجوز بيع بعضها ببعض (3) بالنقد متماثلاً (4) ومتفاضلاً، إذا لم يكن في ذلك أجل، وهذا حاصل حكمها على وجه الإيجاز".اهـ.
ثم قال فضيلة الشيخ عبد الرحمن السعدي: "وأما منعي لبيع بعضها ببعض (5) أو مع أحد النقدين مؤجلاً، فهو لسد باب الربا النسيئة، ومن أصول الشريعة سد أبواب الربا الصريح بكل طريق". اهـ (6) .
(7)
شهادة عالم كبير في تقريظه
"بهجة المشتاق"
للسيد أحمد الحسيني
جاء في تفريظ العلامة الكبير صاحب الفضيلة الشيخ سعيد بن على الموجي أحد كبار علماء الشافعية بالأزهر الشريف، على كتاب بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة الأوراق في ص 211 قوله:
(1) هذه الفتوى خطية بخط صاحبها وخاتمه موجودة في خزانة الأستاذ محمد نبهان الخباز أدرجها في رسالته القيمة.
(2)
أي ورق البنكنوت.
(3)
يعني بيع الأوراق النقدية إذا اختلف مصدرها.
(4)
إذا كان المصدر أو السند لها واحدا في قطر واحد، وبالسعر الذي أخذته بين باقي العملات المختلفة في المصدر أو القطر.
(5)
يعني الأنواط أو الأوراق النقدية (بنكنوت) .
(6)
ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 40.
" وبعد فإن لله العزيز سلطانه، العزيز بيانه، الحكيم برهانه، في كل حادثة حكمًا محكمًا، وفي كل نازلة قضاء مبرمًا، إما ظاهرًا جليًا، وإما مشكلاً خفيًا، تبعًا لمحله ظهورًا وبطونًا، وجلاء وكمونًا، وأن الفقهاء من العلماء الأعلام، أنصار ملة الإسلام، الذين هم هم، وقليل ما هم، رضي الله عنهم قد عنوا بأحكام قواعد الدين ومعاقده، وهدوا إلى استنباط أحكام جزئيات موضوعاتها مفترضين بأنوار أذنه وشواهده، ولم يفرطوا في شيء من ذلك حتى جمعوا بين نوافره وشوارده، وإن مما خفي حكمه حادثة أوراق البنك نوت، التي راجت رواج النقدين في أنحاء المعمورة وأطرافها، فضلاً عن أواسطها وعواصمها، حتى لم يبق سوقة ولا ملك، إلا وقعت في يده، وحلت محل نقده، بل استأثر بها أكثر الموسرين الماليين لخفتهما، وقلة مؤنتها، ولقد ولع الناس بالسؤال عنها، والبحث عن حكم الله فيها، هل تزكى زكاة النقد الذهب والفضة؟ ونزع من سئلوا عنها في الجواب عنه، فكانوا ما بين غريب غير نسيب، يرجم بالغيب ولا يصيب، وبين غريب نسيب، حقيق التحقيق أصيل، غير دخيل، غير أنه أضل السبيل، ولم يوفق لجواب يحل المسألة المشكلة كفيل.
وبالجملة قد وقعوا في بيداء تيها، وخبطوا خبط عشواء، إلى أن قيض الله عز وجل شأنه، وعلا سلطانه، وتمت كلمته، وبلغت حجته، من عترة نبيه الكريم، وأسرة رسوله العظيم، وذلك الموفق وهو الذي جنب الكسل وحبب إليه العمل:
السيد السند الهمام الأمجد
العالم الحبر الإمام الأوحد
ومن الذي لو قلت فيه: مجدد
ما كان بدعًا والعيان الشاهد
إن المجدد في الكثير من اسمه
في القائمين محمد أو أحمد
هو أبو الحسين أحمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد الحسيني، أدام الله بهجته، وحفظ مهجته، فصرف في ذلك الشأن طرفًا من عنايته، وجانبًا من رعايته وكان مطمح نظره، ومطرح فكره، انبعاث همته إلى مراجعة القوانين الموضوعة في ذلك الشأن، والبحث عن جميع أوراق ممالك المعمورة وولاياتها في عواصمها (1) ومستتباتها والمسماة (بالبنك نوت) وجمع أصنافها، حتى اجتمع له منها ما لم يظفر به غيره، ممن عني بهذا الشأن، وإلى ترجمة ما كتب في وجوهها بلغاتها الكثيرة كلها، وتوصل بذلك كله إلى أن تبين أنها صكاك ديون، ومستندات لذويها وأصحابها ومن هي في يده، يرجعون بها إلى (البنك نوت) ما تضمنته من الديون المضمونة، وإلى تبين أن الزكاة واجبة فيما تضمنته من تلك الديون بشرطه المتعارف بين علماء المذاهب، ولقد أودع ذلك كله كتابًا أبدع فيه كل الإبداع، ووضع الغرض الذي رمي إليه فيه على طرف التمام وجعل الذراع، وسماه "بهجة المشتاق في بيان حكم زكاة أموال الأوراق"، وما أحراه أن يسمى: أنوار الآفاق ليطابق الاسم مسماه، فقد انكشف بهذا المسعى حكم المسألة المعني وقد أسمعني حفظه الله بعضه فأحطت بمعناه، ووقفت على مغزاه، فإذا هو كتاب في بابه جليل، وبحل المسألة المشكلة كفيل، أقوم قيلاً، وأقوى دليلاً، وأكثر تحصيلاً، وأحسن تفصيلاً، وأكثر تفضيلاً، انحلت به العقدة، وصار في ذلك وحده، وهو العمدة، والناس عالة عليه بعده، يقتفون هديه، ويشكرون له سعيه
…
) . اهـ.
(1) ينظر رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 45.
(8)
مقولة الأستاذ محمد بنهان الخباز
في رسالة في حكم الأوراق
"بحث أكابر العلماء الأعلام في قضية الورق النقدي واعتباره نقدًا كالذهب والفضة؛ لأن اعتباره عروض تجارة تباع وتشترى كما يزعم البعض، يعطل فرضًا من فروض الإسلام وهو الزكاة، وقد منعت أكثر دول العالم التعامل بالذهب، واستعاضت عنه بالورق البنكنوت؛ حرصًا على أمنها وسلامتها، وصونًا له من التهريب، فينتفع به الأعداء بإضعاف قوة النقد المتداول، كما يعرض الحياة الاقتصادية والاجتماعية لمضاعفات خطيرة، وهزات عنيفة في الحياة المعاشية.
وعليه فالورق النقدي قد أصبح هو العملة المرعية بعد منع التعامل بالذهب والفضة، وأنه قد أخذ حكم الذهب والفضة تمامًا، فلا يجوز بيعه ولا شراؤه نسيئة- أي إلى أجل إلا يدًا بيد- كعقد الصرف مثلاً؛ الصرافة، روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يدًا بيد)) رواه الإمام مسلم في صحيحه (1) .
(1) رسالة (زكاة الأوراق) للأستاذ محمد نبهان الخباز: 25.
(9)
خلاصة
لما ذهب إليه الأخ الأستاذ محمد نبهان الخباز السوري حفظه الله في رسالته القيمة.
"يتضح لنا مما جاء في بيان هذه الرسالة الأحكام التالية:
(أ) أن النقد الورقي السوري هو العملة المرعية.
(ب) وأنه هو الذهب والفضة وأحكامه تجري كأحكامها.
(جـ) وأنه لا يجوز اعتباره عروض تجارة تباع وتشترى نسيئة إلا هاء بهاء كالصرافة مثلاً، وإلا انقلب إلى ربا إن كان لأجل.
(د) وأن كل قرض جر نفعًا فهو ربا.
(هـ) وأن كل حيلة تحلل حرامًا فهي باطلة، وخاصة الحيلة التي تهدم أصلاً شرعيًا، أو تتناقض مع مصلحة دينية، أو تؤدي إلى التلاعب بدين الله والاستهزاء بشرعه الحنيف هي محرمة باتفاق جمهور العلماء. " (1) .
(1) المرجع السابق 39.
الباب الثاني
أحكام تغير العملة بإطلاق
في الفقه الإسلامي
السيد محمد أمين عابدين
تقرير العلامة ابن عابدين الكبير صاحب حاشية رد المحتار على الدر المتوفي 1252 هـ. في أحكام تغير قيمة العملة في المذهب الحنفي.
قال رحمه الله في رسالته "تنبيه الرقود على مسائل النقود" في مجموع رسائله:
"قال في الولوالجية في الفصل الخامس من كتاب البيوع: رجل اشترى ثوبًا بدراهم نقد البلدة، فانتقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدارهم لا تروج اليوم في السوق أصلاً فسد البيع لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد لأنه لم يهلك وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدرعليها، فعليه قيمتها في آخر يوم انقطع من الذهب والفضة هو المختار، ونظير هذا ما نص في كتاب الصرف: إذا اشترى شيئًا بالفلوس ثم كسدت قبل القبض بطل الشراء؛ يعني فسد ولو رجعت (1) لا يفسد".اهـ.
وفي جواهر الفتاوى قال القاضي الإمام الزاهدي أبو نصر الحسين بن علي: إذا باع شيئًا بنقد معلوم ثم كسد النقد قبل قبض الثمن فإنه يفسد البيع، ثم ينتظر إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه، أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث فيه صنعة منقوصة مثل أن كان ثوبًا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس، مثل أن كان حنطة فطحنها، أو سمسمًا فعصره، أو وسمة فضربها نيلاً؛ فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات القيم كالثوب والحيوان، فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد، ولو كان مكان البيع إجارة فإنه تبطل الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل، وإن كان قرضًا أو مهرًا يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل. وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس. قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. انتهى. وفي الفصل الخامس من التتارخانية: إذا اشترى شيئًا بدراهم من نقد البلد، ولم ينقد الدراهم حتى تغيرت، فإن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق فسد البيع، وإن كانت تروج لكن انتقصت قيمتها لا يفسد البيع. وقال في الخانية: لم يكن له إلا ذلك. وعن أبي يوسف: أن له أن يفسخ البيع في نقصان القيمة أيضًا، وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى.
(1) قوله: ولو رجعت أي نقص ثمنها.
وفي عيون المسائل: عدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا، ويبقى المبيع بلا ثمن، فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط فلا يفسد البيع؛ لأنه لا يملك ولكنه تعيب، وكان للبائع الخيار إن شاء قال: أعطني مثل الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير. انتهى. وتمامه فيها، وكذا في الفصل الرابع من الذخيرة البرهانية، والحاصل: أنها إما أن لا تروج، وإما أن تزيد قيمتها أو تنقص، فإن كانت كاسدة لا تروج يفسد البيع، وإن انقطعت فعليه قيمتها قبل الانقطاع، وإن زادت فالبيع على حاله ولا يتحيز المشتري كما سيأتي، وكذا إن انتقصت لا يفسد البيع، وللبائع غيرها. وما ذكرناه من التفرقة بين الكساد والانقطاع هو المفهوم مما قدمناه.
وذكر العلامة شيخ الإسلام محمد بن عبد الله الغزي التمرتاشي في رسالة سماها "بذل المجهود في مسألة تغير النقود: " اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن، ولم يسلمها المشترى للبائع، ثم كسدت؛ بطل البيع (و) الانقطاع عن أيدى الناس كالكساد، (و) حكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت؛ بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان مالكًا، وكان مثليًا، وإلا بقيمته، وإن لم يكن مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلاً، وهذا عند الإمام الأعظم وقال: لا يبطل البيع لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئًا بالرطبة ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها.
وفي الذخيرة: الفتوى على قول أبي يوسف. وفي المحيط والتتمة والحقائق: بقول محمد يفتى رفقًا بالناس. ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح، فيبطل الزوال الموجب، فيبقى البيع بلا ثمن، والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالبًا في العام القابل، بخلاف النحاس فإنه بالكساد رجع إلى أصله. والكساد لغة - كما في المصباح - من كسد الشيء يكسد، من باب قتل: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد، يتعدى بالهمزة فيقال: أكسده الله، وكسدت السوق فهي كاسدة بغيرها في الصحاح، وبالهاء في التهذيب.
ويقال: أصل الكساد والفساد. وعند الفقهاء أن نترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل، لكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم، فيتخير البائع إن شاء أخذه وإن شاء أخذ قيمته. وحد الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت، هكذا. والانقطاع كالكساد كما في كثير من الكتب، لكن قال في المضمرات: فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع هو المختار. ثم قال في الذخيرة: الانقطاع أن لا يوجد في السوق وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. وقيل: إذا كان يوجد في أيدي الصيارفة فليس بمنقطع، والأول أصح. انتهى. هذه عبارة الغزي في رسالته.
وفي الذخيرة البرهانية بعد كلام طويل: هذا إذا كسدت الدراهم أو الفلوس قبل القبض، فأما إذا غلت فإن ازدادت قيمتها فالبيع على حاله ولا يتخير المشترى، وإذا انتقصت قيمتها ورخصت فالبيع على حاله ويطالبه بالدراهم بذلك العيار الذي كان وقت البيع. وفي المنتقى: إذا غلت الفلوس قبل القبض أو رخصت قال أبو يوسف: قولي وقول أبي حنيفة في ذلك سواء، وليس له غيرها. ثم رجع أبو يوسف وقال عليه: قيمتها من الدراهم يوم وقع البيع ويوم وقع القبض، والذي ذكرناه من الجواب في الكساد فهو الجواب في الانقطاع. انتهى.
و (قوله) : يوم وقع البيع،، أي في صورة البيع. (وقوله) : ويوم وقع القبض، أي في صورة القبض، كما نبه عليه في النهر، وبه علم أن في الانقطاع قولين:
الأول: فساد البيع كما في صورة الكساد.
والثاني: أنه يجب قيمة المنقطع في آخر يوم انقطع، وهو المختار كما مر عن المضمرات.
وكذا في الرخص والغلا قولان أيضًا:
الأول: ليس له غيرها.
والثاني: له قيمتها يوم البيع وعليه الفتوى كما يأتي.
وقال العلامة الغزي عقب ما قدمناه عنه: هذا إذا كسدت أو انقطعت، أما إذا غلت قيمتها أو انقطعت، فالبيع على حاله، ولا يتخير المشتري، ويطالب بالنقد بذلك العيار الذي كان وقت البيع، كذا في فتح القدير، وفي البزازية معزيًا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول والثاني - أولاً -: ليس عليه غيرها، وقال الثاني - ثانيًا -: عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض. وعليه الفتوى، وهكذا في الذخيرة. والخلاصة بالعزو إلى المنتقى، وقد نقله شيخنا في بحره وأقره، فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابلة؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه. وفي فتاوى قاضي خان: يلزمه المثل، وهكذا ذكر الإسبجابي قال: ولا ينظر إلى القيمة. وفي البزازية: والإجارة كالبيع والدين على هذا، وفي النكاح يلزمه قيمة تلك الدراهم. وفي مجمع الفتاوى معزيًا إلى المحيط: رخص العد إلى قال الشيخ الإمام الأجل الأستاذ: لا يعتبر هذا ويطالبه بما وقع عليه العقد والدين على هذا، ولو كان يروج لكن انتقص قيمته لا يفسد، وليس له إلا ذلك، وبه كان يفتي الإمام، وفتوى الإمام ظهير الدين على أنه يطالب بالدراهم التي يوم البيع يعني بذلك العيار، ولا يرجع عليه بالتفاوت والدين على هذا والانقطاع والكساد سواء.
فإن قلت: يشكل على هذا ما ذكر في مجمع الفتاوى من قوله: ولو غلت أو رخصت فعليه رد المثل بالاتفاق. انتهى.
قلت: لا يشكل؛ لأن أبا يوسف كان يقول أولاً بمقالة الإمام ثم رجع عنها، وقال ثانيًا: الواجب عليه قيمتها كما نقلناه فيما سبق عن البزازية وصاحب الخلاصة والذخيرة، فحكاية الاتفاق بناء على موافقته للإمام أولاً، كما لا يخفى، والله تعالى أعلم. وقد تتبعت كثيرًا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، بل قالوا: به كان يفتي القاضي الإمام. وأما قول أبي يوسف فقد جعلوا الفتوى عليه في كثير من المعتبرات فليكن المعول عليه. انتهى كلام الغزي رحمه الله تعالى. ثم أطال بعده في كيفية الإفتاء والحكم حيث كان للإمام قول وخالفه صاحباه أو وافقه أحدهما إلى آخر الزمان وأيد قول أبي يوسف الثاني كما ذكره هنا. ومشى العلامة الغزي في متنه تنوير الأبصار في مسألة الكساد على قول الإمام في القرض والبيع، فقال في فصل القرض: استقرض من الفلوس الرائجة والعدالي فكسدت، فعليه مثلها كاسدة لا قيمتها. انتهى.
وقال في الصرف هو وشارحه الشيخ علاء الدين: اشترى شيئًا به أي بغالب الغش وهو نافق أو بفلوس نافقة، فكسد ذلك قبل التسليم للبائع؛ بطل البيع، كما لو انقطعت عن أيدي الناس فإنه كالكساد، وكذا حكم الدراهم لو كسدت أو انقطعت بطل. وصححاه بقيمة البيع وبه يفتى؛ رفقًا بالناس. بحر وحقائق. انتهى.
وقوله: بقيمة المبيع صوابه بقيمة الكاسد، كما نبه عليه بعضهم ويعلم مما مر، ولم يتعرض لمسألة الغلاء والرخص.
ثم اعلم أن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها، كما يظهر بالتأمل، ويدل عليه اقتصارهم في بعض المواضع على الفلوس، وفي بعضها ذكر العدالي معها، فإن العدالي كما في البحر عن البناية بفتح العين المهملة وتخفيف الدال وكسر اللام: الدارهم المنسوبة إلى العدل، وكأنه اسم ملك ينسب إليه ضربهم، فيه غش. وكذا رأيت التقييد بالغالبة الغش في غاية البيان، وتقدم مثله في شرح التنوير.اهـ. ويدل عليه تعليلهم لقول أبي حنيفة بعد حكايتهم الخلاف بأن الثمنية بطلت بالكاسد؛ لأن الدراهم التي غلب غشها إنما جعلت ثمنًا بالاصطلاح، فإذا ترك الناس المعاملة بها بطل الاصطلاح، فلم تبق ثمنًا، فبقي البيع بلا ثمن فبطل، ويدل عليه أيضًا تعبيرهم بالغلاء والرخص، فإنه إنما يظهر إذا كانت غالبة الغش تعوم بغيرها، وكذا اختلافهم في أن الواجب رد المثل أو القيمة، فإنه حيث كانت لا غش فيها لم يظهر للاختلاف معنى، بل كان الواجب رد المثل بلا نزاع أصلاً.
وهذا كالصريح فيما قلنا، وفي الهداية عند الكلام على الدراهم التي غلب غشا: وإذا اشترى بها سلعة ثم كسدت وترك الناس المعاملة بها؛ بطل البيع عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع، وقال محمد: قيمتها آخر ما يتعامل الناس. ثم قال في الهداية: وإذا باع بالفلوس النافقة ثم كسدت بطل البيع عن أبي حنيفة خلافًا لهما، وهو نظير الاختلاف الذي بيناه، ولو استقرض فلوسًا فكسدت؛ عليه مثلها. اهـ.
قال في غاية البيان: قيد بالكساد احترازًا عن الرخص والغلاء؛ لأن الإمام الإسبجابي في شرح الطحاوي قال: وأجمعوا أن الفلوس إذا لم تكسد ولكن غلت قيمتها أو رخصت، فعليه مثل ما قبض من العدد. وقال أبو الحسن: لم تختلف الرواية عن أبي حنيفة في قرض الفلوس إذا كسدت أن عليه مثلها. قال أبو يوسف: عليه قيمتها من الذهب يوم وقع القرض في الدراهم التي ذكرت لك أصنافها، يعني التجارية والطبرية واليزيدية. وقال محمد: قيمتها في آخر نفاقها. قال القدوري: وإذا ثبت من قول أبي حنيفة في قرض الفلوس ما ذكرنا، فالدراهم التجارية فلوس على صفة مخصوصة، والطبرية واليزيدية هي التي غلب الغش عليها، فتجري مجرى الفلوس، فلذلك قاسها أبو يوسف على الفلوس. انتهى ما في غاية البيان مخلصًا.
وما ذكره في القرض جار في البيع أيضًا كما قدمناه عن الذخيرة من قوله: يوم وقع البيع. فهذا الذي ذكرنا صريح فيما قلنا من أن الكلام في الدراهم الغالبة الغش والفلوس. وعليه يحمل ما قدمناه من إطلاق الولوالجية وجواهر الفتاوى. وما نقلنا عن الإسبجابي من دعوى الإجماع مخالف لما قدمناه عن الذخيرة عن المنتقى. وعلمت الفرق بينها في كلام الغزي، وسيأتي توفيق آخر. ولم يظهر حكم النقود الخالصة أو المغلوبة الغش، وكأنهم لم يتعرضوا لها لندوة انقطاعها أو كسادها، لكن يكثر في زماننا غلاؤها ورخصها فيحتاج إلى بيان الحكم فيها، ولم أر من نبه عليها من الشراح والله تعالى أعلم. نعم يفهم من التقييد أن الخالصة أو المغلوبة الغش ليس حكمها كذلك. ورأيت في حاشية الشيخ خير الدين الرملي على البحر عند قوله: وحكم الدراهم كذلك، أقول: يريد به الدراهم التي لم يغلب عليها الغش كما هو ظاهر، فعلى هذا لا يختص هذا الحكم بغالب الغش ولا بالفلوس في التنصيص عليها دون الدراهم الجيدة لغلبة الكساد. فيهما دونهما، تأمل. ثم نقل التعليل في المسألة لقول الإمام عن فتح القدير بنحو ما قدمناه. ثم قال: أقول وربما يفهم من هذا أن حكمها خلاف حكم الفلوس والدراهم المغلوبة بالغش، ولا يبطل البيع بعدم رواجها لأنها أثمان بأصل خلقتها، وليس كذلك. بقي الكلام فيما إذا نقصت قيمتها فهل للمستقرض رد مثلها وكذا المشترى أو قيمتها؟ لا شك أن عند أبي حنيفة يجب رد مثلها، وأما على قولهما فقياس ما ذكروا في الفلوس أنه يجب قيمتها من الذهب يوم القبض عند أبي يوسف ويوم الكساد عند محمد. والمحل محتاج إلى التحرير.اهـ.
وفي حملة الدراهم في كلام البحر على التي لم يغلب غشها نظر ظاهر؛ إذ ليس المراد إلا الغالبة الغش، كما قدمناه، وصرح به شراح الهداية وغيرهم.
والذي يغلب على الظن ويميل إليه القلب أن الدراهم المغلوبة الغش أو الخالصة إذا غلت أو رخصت لا يفسد البيع قطعًا، ولا يجب إلا ما وقع عليه العقد من النوع المذكور فيه، فإنها أثمان عرفًا وخلقة، والغش المغلوب كالعدم، ولا يجري في ذلك خلاف أبي يوسف، على أنه ذكر بعض الفضلاء أن خلاف أبي يوسف في مسألة ما إذا غلت أو رخصت إنما هو في الفلوس فقط، وأما الدراهم التي غلب غشها فلا خلاف له فيها.
وبهذا يحصل التوفيق بين حكاية الخلاف تارة والإجماع تارة أخرى. وهذا أحسن مما قدمناه عن الغزي، ويدل عليه عباراتهم، فحيث كان الواجب ما وقع عليه العقد في الدراهم التي غلب غشها إجماعهًا، فما في الخلاصة ونحوها أولى. وهذا ما نقله السيد محمد أبو السعود في حاشية منلاً مسكين عن شيخه ونص عبارته: قيّد بالكساد؛ لأنها لو نقصت قيمتها قبل القبض فالبيع على حالة بالإجماع ولا يتخير البائع، وكذا لو غلت وازدادت ولا يتخير المشري. وفي الخلاصة والبزازية: غلبت الفلوس أو رخصت، فعند الإمام الأول والثاني - أولاً -: ليس عليه غيرها، وقال الثاني - ثانيًا -: عليه قيمتها يوم البيع والقبض، وعليه الفتوى. انتهى. أي يوم البيع في البيع ويوم القبض في القرض. كذا في النهر.
واعلم أن الضمير في قوله: قيد بالكساد؛ لأنها
…
إلخ، للدراهم التي غلب غشها، وحينئذ فما ذكره مما يقتضي لزوم المثل بالإجماع بعد الغلاء والرخص حيث قال: فالبيع على حالة بالإجماع، ولا يتخير البائع
…
إلخ. لا ينافي حكاية الخلاف عن الخلاصة والبزازية فيما إذا غلت الفلوس أو رخصت هل يلزمه القيمة أو ليس عليه غيرها. هذا حاصل ما أشار إليه شيخنا من التوفيق. قال شيخنا: وإذا علم الحكم في الثمن الذي غلب غشه إذا نقصت قيمته قبل القبض، كان الحكم معلومًا بالأولى في الثمن الذي غلب جيده على غشه، إذا نقصت قيمته لا يتخير البائع بالإجماع فلا يكون له سواء، وكذا لو غلت قيمته لا يتخير المشتري بالإجماع، قال: وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جارٍ حتى في الذهب والفضة، كالشريفي البندقي والمحمدي والكلب والريال، فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع، فإن ذلك الفهم خطأ صريح ناشئ عن عدم التفرقة بين الفلوس والنقود. انتهى ما في الحاشية، وهو كلام حسن وجيه لا يخفى على فقيه نبيه، وبه ظهر أن ما ذكره الشيخ خير الدين غير محرر، فتدبر. وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص بأن باع ثوبًا بعشرين ريالاً مثلاً واستقرض ذلك يجب رده بعينه غلا أو رخص، وأما الكساد والانقطاع فالذي يظهر أن البيع لا يفسد إجماعًا إذا سميا نوعًا منه؛ وذلك لأنهم ذكروا في الدراهم التي غلب غشها ثلاثة أقوال:
الأول: قول أبي حنيفة بالبطلان.
والثاني: قول الصاحبين بعدمه هو وقول الشافعي واحد. لكن قال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم البيع. وقال محمد: يوم الانقطاع. وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي التتمة والمختار والحقائق بقول محمد يفتى رفقًا بالناس. كذا في فتح القدير. وعلل لأبي حنيفة بأن الثمن يهلك بالكساد؛ لأن الفلوس والدراهم الغالبة الغش أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، وإذا انتفى الاصطلاح انتفت المالية، وعلل للصاحبين بأن الكساد لا يوجب الفاسد، كما إذا اشترى بالرطب شيئًا فانقطع في أوانه لا يبطل اتفاقًا، وتجب القيمة أو ينتظر زمان الرطب في السنة الثانية، فكذا هنا. اهـ. ففي مسألتنا الكساد لا يوجد الفساد اتفاقًا، أما على قول الصاحبين فظاهر، وأما على قول الإمام فلأنه قال بالفساد لبطلان الثمنية بانتفاء الاصطلاح عليهما، فعاد الثمن إلى أصل خلقته من عدم الثمنية، ولم توجد العلة هنا لأنها أثمان خلقة واصطلاحًا. هذا ما ظهر لي ولم أره منقولاً، فتأمله.
تنبيه: إذا اشترى بنوع مسمى من الأثمان فالأمر ظاهر. وأما إذا أطلق كأن قال: بمئة ريال أو مئة ذهب، فإن لم يكن الأنواع واحد من هذا الجنس ينصرف إليه، وصار المسمى، فإن كان منه الوماع، فإن كان أحدهما أروج من الآخر وغلب تعاملاً ينصرف إليه لأنه المتعارف، فينصرف المطلق إليه وصار كالمسمى أيضًا، وإن اتفقت رواجًا فإن اختلف مالية فسد البيع ما لم يبين في المجلس ويرضى الآخر.
قال في البحر: فالحاصل أن المسألة رباعية لأنها: إما أن تستوى في الرواج والمالية معًا، أو تختلف فيهما، أو تسوى في أحدهما دون الآخر، والفساد في صورة واحدة وهو الاستواء في الرواج والاختلاف في المالية، والصحة في ثلاث صور: فيما إذا كان مختلفة في الرواج والمالية، فينصرف إلى الأروج. وفيما إذا كانت مختلفة في الرواج مستوية في المائة، فينصرف إلى الأروج أيضًا. وفيما إذا استوت فيهما، وإنما الاختلاف في الاسم كالمصري فيتخير في دفع أيهما شاء، فلو طلب البائع أحدهما للمشتري أن يدفع غيره لأن امتناع البائع من قبول ما دفعه المشتري ولا فضل تعنت. ولذا قلنا: إن النقد لا يتعين في المعاوضات. اهـ.
بقي هنا شيء ينبغي التنبيه عليه، وهو أنهم اعتبروا العرف هنا حيث أطلقت الدراهم وبعضها أروج، فصرفوه إلى المتعارف ولم يفسدوا البيع، وهو تخصيص بالعرف القولي، وهو من أفراد ترك الحقيقة.
قال المحقق ابن الهمام في تحرير الأصول: العرف العملي مخصص عند الحنفية خلافًا للشافعية، كحرمة الطعام وعادتهم أكل البر انصرف إليه، وهو - أي قول الحنفية - أوجه. أما التخصيص بالعرف القولي فاتفقا كالدابة عل الحمار، والدراهم على النقد الغالب. انتهى.
قال شارحه ابن أمير حاج: العرف القولي هو أن يتعارف قوم إطلاق لفظ لمعنى بحيث لا يتبادر عند سماعه إلا ذلك المعنى. اهـ.
وقد شاع في عرف أهل زماننا أنهم يتبايعون بالقرون، وهي عبارة عن قطع معلومة من الفضة، ومنها كبار كل واحد باثنين، ومنها أنصاف وأرباع، والقرش الواحد عبارة عن أربعين مصرية، ولكن الآن غلبت تلك القطع وزادت قيمتها، فصار القرش الواحد بخمسين مصرية، والكبير بمائة مصرية، وبقي عرفهم على إطلاق القرش ويريدون به أربعين مصرية، كما كان في الأصل، ولكن لا يردون عين المصاري، بل يطلقون القروش وقت العقد ويدفعون بمقدار ما سموه في العقد تارة من المصاري، وتارة من غيرها ذهبًا أو فضة، فصار القرش عندهم بيانًا لمقدار الثمن من النقود الرائجة المختلفة المالية، لا لبيان نوعه ولا لبيان جنسه، فيشتري أحدهم بمائة قرش ثوبًا مثلاً، فيدفع مصارى كل قرش بأربعين، أو يدفع من القروش الصحاح أو من الريال أو من الذهب على اختلاف أنواعه بقيمته المعلومة من المصاري. هكذا شاع عرفهم، ولا يفهم أحد منهم أنه إذا اشترى بالقروش أن الواجب عليه دفع عينها، فقد صار ذلك عندهم عرفًا قوليًا فيخصص كما نقلناه عن التحرير.
وقد رأيت بفضل الله تعالى في القنية نظير هذا، حيث قال في باب المتعارف بين البحر كالشروط برمز علاء الدين الترجماني باع شيئًا بعشرة دنانير، وجرت العادة في ذلك البلد أنهم يعطون كل خمسة أسداس مكان الدينار، فاشتهرت بينهم، فالعقد ينصرف إلى ما يتعارف الناس فيما بينهم في تلك التجارة. ثم رمز لفتاوى أبي الفضل الكرماني جرت العادة فيما بين أهل خوارزم أنهم يشترون سلعة بدينار، ثم ينقدون ثلثي دينار محمودية، أو ثلثي دينار وطسوج نيابورية، قال: يجري على المواضعة ولا تبقى الزيادة دينًا عليهم له.
وهذا نص فقهي في مسألتنا، ولله الحمد والمنة، وحينئذ فقد صار ما تعورف في زماننا نظير مسألة ما إذا تساوت النقود في الرواج والمالية، فيتخير المشتري في ما شاء من النقود الرائجة، وإن امتنع البائع لأنه يكون متعنتا كما مر.
ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقض، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد أو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق، أو دفع نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد، إذا لم يعين المتبائعان نوعًا، والخيار فيه للدافع، كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعًا أو قرضًا بناء على ما قدمناه.
وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه.
وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.
وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به.
وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار، كما قلنا، وفي الحديث:((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وأن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط. والله تعالى أعلم". (1) .
مصادر البحث ومراجعة
1-
حاشية رد المحتار على الدر العلامة ابن عابدين.
2-
مجموع رسائل العابدينية العلامة ابن عابدين.
3-
ابن عابدين وأثره في الفقه (دراسة مقارنة بالقانون) الدكتور الفرفور.
4-
تنقيح الفتاوى الحامدية العلامة ابن عابدين.
5-
التبيان في زكاة الأثمان الشيخ محمد حسنين مخلوف.
6-
رسالة في زكاة الأوراق الأستاذ محمد نبهان الخباز.
7-
بهجة المشتاق في زكاة الأوراق السيد أحمد الحسيني.
8-
في المجتمع الإسلامي أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة.
9-
الدين الخالص الشيخ محمود السبكي.
10-
المجموع شرح المهذب الإمام النووي
(1) انظر مجموع الرسائل العابدينية: 2/56 إلى 67.
وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في عدم جوازه.
وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا لما علمت من لضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته. أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد اضراره، ولا سيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليها إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.
وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطي بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلاً، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى للصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود، من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة لا، فالقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلاً. وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه، وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا، أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلاً، ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلاً، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد يأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به.
وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار، كما قلنا، وفي الحديث:((لا ضرر ولا ضرار)) ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلاً ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا صار ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وأن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط. والله تعالى أعلم". (1) .
مصادر البحث ومراجعة
1-
حاشية رد المحتار على الدر العلامة ابن عابدين.
2-
مجموع رسائل العابدينية العلامة ابن عابدين.
3-
ابن عابدين وأثره في الفقه (دراسة مقارنة بالقانون) الدكتور الفرفور.
4-
تنقيح الفتاوى الحامدية العلامة ابن عابدين.
5-
التبيان في زكاة الأثمان الشيخ محمد حسنين مخلوف.
6-
رسالة في زكاة الأوراق الأستاذ محمد نبهان الخباز.
7-
بهجة المشتاق في زكاة الأوراق السيد أحمد الحسيني.
8-
في المجتمع الإسلامي أستاذنا الشيخ محمد أبو زهرة.
9-
الدين الخالص الشيخ محمود السبكي.
10-
المجموع شرح المهذب الإمام النووي
(1) انظر مجموع الرسائل العابدينية: 2/56 إلى 67.