الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من أين يحرم القادم
بالطائر جوًا للحج أو العمرة؟
لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء
بسم الله الرحمن الرحيم
من أين يحرم القادم بالطائرة جوًا للحج أو للعمرة؟
تمهيد:
منذ أكثر من أربعين عاما، والناس تتساءل، وتساءل أهل العلم من فقهاء الشريعة عن مكان الإحرام الذي لا يجوز لقاصد البيت العتيق أن يتجاوزه إلا محرما ملبيا، هاجرا ملذاته ورفاهيته التي كان يعيشها، ومتجردا من ملابسه المخيطة، ومكتفيا من متعة هذه الحياة الدنيا، وزينتها بالإزار والرداء، ذلك الرمز العظيم الذي يُذكِّره بصورة فعلية - لا قولية فقط - بذلك اليوم الرهيب الذي سيقبل فيه على ربه بعد أن ينتزعه الموت المحتم من قلب كل متعة أو زينة أو لذة أو نعمة أو سلطة أو وجاهة أو أموال كان يتمتع وينعم بها في دنياه.
هذا الإحرام الجليل المعني الذي أوجبه الإسلام على قاصد الحج أو العمرة أين ميقاته لمن يأتي جوا بالطائرة؟ تلك الوسيلة الحديثة التي لم تكن معروفة ولا تخطر في البال حين حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم حدوده المكانية للقادمين إلى الحج أو العمرة من مختلف البقاع والجهات الأرضية، فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها إلا محرما؛ تعظيما لشأن البيت العتيق قبل الوصول إليه.
إني هنا لا أريد أن أتعرض لشيء ما من أحكام الإحرام، وما يوجبه على المحرم من التزامات، وما يحظره عليه من محظورات، وما يترتب على فعل شيء من المحظورات من جزاء، وكون الإحرام واجبا لمن أتى على ميقات مكاني قاصدا مكة لأي غرض كان، كالتجارة والسياحة مثلا، أو لا يجب الإحرام على من مرّ بأحد مواقيته المكانية إلا إذا كان قاصدا حجا أو عمرة
…
إلى غير ذلك من الأحكام المتعلقة بالإحرام وما يستلزمه من مستلزمات فرعية، وما حولها من اختلاف الفقهاء، فكل ذلك لا يعنينا منه شيء؛ لأنه ليس هو محل هذا البحث، ولا مقصودا بالبيان من قريب أو بعيد. فالتعرض له هنا خروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت، وإطالة في غير طائل.
لذا سأحصر كلامي في الناحية المطلوبة المطروحة للبحث، والتي هي وحدها من أهم قضايا الساعة التي شغلت أذهان الناس وكثر السؤال عنها، واختلفت فيها أفهام علماء العصر وأحكامهم اختلافا ليست نتيجته على المكلفين سهلة يسيرة كيفما كانت، بل هي نتيجة ذات بال، تحمل على الناس كافة عبئا وإصرا لا يستهان به في سبيل الحج والعمرة، أو لا تحمله عليهم. وأقول: على الناس كافة؛ لأن الطائرة قد أصبحت اليوم في عصر السرعة هذا الذي نعيشه هي الواسطة الأساسية للحج والعمرة، وكذلك لمختلف الأسفار.
فكلامي فيما يلي مقصور على هذه الناحية المقصودة بالبحث، وهي: من أين يحرم القادم بطريق الجو لحج أو لعمرة، دون أي شيء آخر سواها مما يتعلق بالإحرام. فأقول مستعينا بالله، راجيا أن يهديني إلى الصواب الحق من أقرب محجة، وأوضح حجة، إنه هو ولي التوفيق.
مما لا خلاف فيه بين أئمة السلف من محدثين وفقهاء أن المواقيت المكانية للإحرام قد حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من جهات أربع كما يلي:
1-
ذو الحليفة لأهل المدينة من أراد منهم الحج أو العمرة، وهذه أبعد المواقيت مسافة عن مكة، وتسمى اليوم " آبار علي ".
2-
الجحفة لأهل الشام.
3-
قرن المنازل لأهل نجد القادمين من الشرق.
4-
يلملم لأهل اليمن القادمين من الجنوب.
وقد أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حددها أن هذه الحدود هي مواقيت لأهل تلك الجهات، ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك (أي من كان مقامه في موضع يقع بين أحد هذه المواقيت وبين مكة) فإنه يحرم من مقامه ذاك، حتى إن أهل مكة يهلون من مكة. (أخرجه البخاري في باب مهل أهل مكة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرجه مسلم في مواقيت الحج والعمرة، وأبو داود والنسائي في ميقات أهل اليمن، كما نقله غيرهم من أئمة الحديث) .
وواضح أن حديث المواقيت هذا لا يشمل بالنص إلا أهل تلك المواقيت، ومن مر بها فقط. فليس فيه شيء عمن لا يمر فعلا بأحدها ولكنه حاذى من قريب بعض تلك المواقيت. فإلحاق المحاذاة بالمرور إنما تقرر بالاجتهاد، فقد روى أئمة الحديث أن عمر رضي الله عنه هو الذي حدد ذات عرق ميقاتا لأهل العراق، لمحاذاتها قرن المنازل، اجتهادا منه، وذلك بعد فتح العراق. فقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " لما فتح هذان المصران – الكوفة والبصرة – أتوا عمر بن الخطاب فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وأنه جور عن طريقنا، وإن أردنا أن نأتي قرنًا شق علينا؟ قال: فانظروا حذوها عمن طريقكم. قال: فحد لهم ذات عرق. وروى الإمام الشافعي رضي الله عنه في الأم عن ابن جريح عن ابن طاوس عن أبيه، قال:((لم يوقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق، ولم يكن حينئذ أهل مشرق، فوقت الناس ذات عرق)) . وروى الشافعي أيضًا مثل ذلك عن أبي الشعثاء (ر: الأم: 2/118) وهناك من الأئمة من يرى أن تحديد ذات عرق مهلا لأهل المشرق وارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس اجتهادا من عمر رضي الله عنه، ويوردون أحاديث في ذلك. ولكن جمهور أهل الحديث يقررون أن الأحاديث التي ورد فيها النص على ذات عرق ميقاتا لحرام أهل المشرق كلها ضعيفة لا تنهض حجة. فالصحيح عندهم أن هذا التحديد لأهل العراق والمشرق إنما هو اجتهاد من عمر، أخذا بالمحاذاة السمتية لأقرب ميقات إلى جهتهم. (ر: المجموع: 7/191 – ونيل الأوطار: 4/332) .
مما تقدم يتضح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحدد مواقيت مكانية إلا للقادمين برًّا من أطراف شبه الجزيرة العربية الثلاثة: وهي الشمال والشرق والجنوب؛ لأن هذه الجهات الثلاث هي التي يمكن إذ ذاك أن يأتي منها المسلمون حجاجًا أو معتمرين، وقد حدد للقادمين من الشمال ميقاتين: واحدًا لأهل المدينة (ذو الحليفة) ، وآخر لأهل الشام (الجحفة) ؛ لأن الشام كان فيه لأهل الحجاز رحلة الصيف التجارية، فقد يعودون من الشام قاصدين حجا أو عمرة، فهؤلاء عندئذ أما أن يأتوا من طريق يثرب، فيتبعون ميقات أهلها، وأما أن يأتوا من طريق أخرى لا تمر بيثرب، فجعل الجحفة عندئذ ميقاتًا لهم، وهي قريب من مكة.
أما جهة الغرب فلم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم لها ميقاتًا مكانيا؛ لأن الجهة الغربية بحر، وفي الغرب منه أفريقية التي لم يصل إليها الإسلام إذّاك، ولا يعلم ما سيكون من أمرها إلا الله. وقد حدد الفقهاء فيما بعد لأهل مصر والمغرب إذا جاؤوا بطريق البر ميقات أهل الشام وهو الجحفة؛ لأنه طريقهم الطبيعي إذ ذاك قبل شق قناة السويس في عصرنا هذا.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم – كما هو معروف – لا يرغب أن يقرر أحكاما مسبقة لأمور غير واقعية، حتى أنه لم يكن يرغب أن يسأل عما سكت عنه، بل كان يترك ذلك للاجتهاد في ضوء سنته الشريفة ومقاصد الشريعة المستفادة من كتاب الله تعالى الحكيم، وخاصة منها دفع الحرج، كما نوه به القرآن العظيم. ومعروفة قصة الصحابي الذي سأل عن الحج حين أوجبه الله على من استطاع إليه سبيلا: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال له: ((لو قلت: نعم، لوجب عليكم، ولما استطعتم)) . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح أحاديثه: ((إن الله حد حدودا فلا تعتدوها
…
وسكت عن أشياء رحمة بكم فقلا تسألوا عنها)) أي لا تسألوا عنها قبل وقوعها، فإذا وقعت فاجتهدوا برأيكم. وَعَلَّمهم: أو اسألوا عندئذ أهل الذكر والعلم، وليس المراد عدم السؤال عنها أبدا، إذ لو وقعت في مستقبل الزمن واحتيج إلى معرفة حكم الشرع فيها لابد حينئذ من السؤال عنها والبحث فيها لمعرفة ما يجب بشأنها في ضوء أدلة الشريعة.
وفي ضوء ما تقدم يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحدد أيضًا ميقاتًا بحريا؛ لأن المجيء للحج والعمرة إذ ذاك في حياة الرسول عليه السلام لم يكن بالسفن من جهة البحر الأحمر (بحر القلزم) . فيبقى حكمه في المستقبل للاجتهاد أيضًا إذا قدّر الله للإسلام أن يمتد غربا إلى أفريقية، كما حصل فيما بعد والحمد لله.
هذا وقد قرر الفقهاء أن من لم يمرّ بأحد هذه المواقيت، بل سلك طريقا بين ميقاتين، فإنه يتحرى ما يحاذي أحدهما من طريقه بغلبة الظن فيحرم منه، فإن لم يتبين له قال الحنفية: يهل عندئذ بالإحرام على بعد مرحلتين من مكة؛ لأن هذه المسافة هي مسافة أدنى تلك المواقيت إلى مكة (ر: الدر المختار: 2/154 – البولاقية الأولى – والمقنع من كتب الحنابلة: 1/394، والمغني مع الشرح الكبير/ط أولى: 3/214، والإنصاف للمرداوي: 3/427) .
في ضوء ما تقدم من عرض الواقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من تحديد ما حدده بالنصر الصريح من مواقيت الإحرام، وما سكت عنه وتركه للاجتهاد من علماء الأمة، وما حدث بعده من اعتماد المحاذاة باجتهاد عمر رضي الله عنه، أقول: أن معالجة قضايا الساعة لا يصح منا أن نعالجها ونقرر لها حلولا شرعية منطلقين من خلفية مذهبية، أو فكرة مسبقة ننظر من زاويتها إلى القضية المستجدة، ونجردها من ملابساتها وظروفها الخاصة لنجرها جرًا إلى المقعد الذي هيأناه سلفا؛ إلحاقا وتعميما، سواء أكان ملائما لطبيعتها وظروفها وملابساتها أم غير ملائم، ولو كان هذا الإلحاق والتعميم سيزج بالمكلفين في مشقة وحرج نفتهما النصوص القطعية في الكتاب والسنة عن هذه الشريعة السمحة الخالدة.
قضايا الساعة (ومن أكبرها أهمية وحاجة للحلول الشرعية المناسبة اليوم موضوعنا هذا، وهو: من أين يجب أن يحرم القادم جوًا بالطائرة إلى الحج أو العمرة) يجب أن تعالج بفكر فقهي حر، كأنما يريد أن يرى النصوص والأدلة المتعلقة بها الأول مرة مجردًا عن الخلفيات المذهبية والآراء المسبقة التي تتحكم في توجيه فكره دون أني يشعر. وعليه أن ينعم النظر في النصوص وأن يتفهمها وفقًا للغة وأساليب البيان المعهود في وقت ورد النص الشرعي، وما يوحي به للسامع من فهم بحسب القواعد والدلالات العرفية. هذا إلى جانب الأساس المهم الآخر، وهو مقاصد الشريعة التي دلت عليها النصوص القطعية العامة، والتي لا يمكن عزلها وقطع علاقتها بالنصوص الخاصة إذا أدرنا أن نفهمها فهمًا سديدًا لا نبغي فيه سوى معرفة حكم الشارع، والحل الصحيح في القضية المستجدة، سواء وافق تصوراتنا السابقة فيها أو خالفها، فإن التعصب لرأي أو تصور سابق يحجب عن البصيرة الرؤية السليمة، والإحاطة بالمسألة من جميع جوانبها وظروفها. فبناء على هذا المنطلق أقول:
إن حديث المواقيت المكانية الذي روته كتب السنة الصحيحة، وهو النص الأصلي الوحيد في الموضوع لا يمكن أن يعتبر شاملا للطريق الجوي اليوم، ولو مرت الطائرة القادمة بقاصدي الحج أو العمرة من فوق أحد المواقيت الأرضية، وبالتالي: لا يمكن فيه تطبيق حكم المحاذاة لأحد المواقيت تلك المحاذاة التي ألحقها سيدنا عمر رضي الله عنه بالمرور بالميقات، وذلك لما يلي:
إن حديث المواقيت محمول على الطرق المعروفة المألوفة في ذلك الوقت، وهي الطرق البرية التي يمكن أن يسلكها القادمون لحج أو عمرة من أطراف الجزيرة العربية التي مد عليها الإسلام رواقه. وهو في الوقت نفسه لم يحدد ميقاتًا من جهة الغرب، كما سبق أن أوضحته وبينت سببه. فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت للإحرام قد خصها نصا وصراحة بمن يمر بها فعلا، وذلك حين قال عليه السلام:((هن مواقيت لأهلهن)) . وهذا الإتيان لا يمكن أن يتصوره أي سامع إلا أنه المرور في الأرض. وإذ كان أهل الميقات المقيمون حوله قد وجب عليهم الإحرام منه، فمن أتى على هذا الميقات من خارجه وكان طريقًا له أصبح هو وأهل ذلك الميقات سواء، لأنه قد أصبح بينهم كواحد منهم، فلا يعقل أن يجب عليهم الإحرام منه ولا يجب عليه. وهذا المعنى لا يتحقق إلا فيمن مر بالميقات نفسه أرضا، لأن المرور فوق الميقات جوًا كما تمر الطيور لم يكن في بال أحد من الصحابة أهل اللسان الذين خوطبوا به ولا في حسبانه، ولا يمكن أن يتصوره حتى يفهم أنه داخل في هذا التحديد.
بل أستطيع القول: إن الطيران بالطائرات التي تسافر بها اليوم لو كان موجودًا في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم حين حدد هذه المواقيت الأرضية لأجل الإحرام لما كان المرور جوًا بالطائرة فوق بقعة الميقات مشمولاً بهذا الحديث، لأن المرور بالميقات الذي يجعل المار به كأهل الميقات لا يفهم منه في أسلوب البيان إلا المرور الأرضي فعلا، فهذا ما يفهمه أهل اللسان الذين خوطبوا به، وهذا أي ما يفهمه أهل اللسان في اللغة التي جاء بها النص، هو أساس، في فهم النص، عظيم الأهمية لا يمكن تجاهله وتجاوزه.
إن الإمام أبا إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه الإبداعي، " الموافقات في أصول الشريعة " قد بسط القول في قسم المقاصد من كتابه هذا تحت عنوان (قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام) حول أساسين في فهم قصد الشارع، لا تجوز الغفلة عنهما، وهما:
أولاً – أن هذه الشريعة الإسلامية المباركة عربية، وأن القرآن الحكيم عربي".
ثانيًا – أن هذه " الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك ".
أما الأول فلقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2] وقد تكرر هذا الإعلام في آيات أخرى. وأما الثاني فلقوله تعالى {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] وقد تكرر أيضًا هذا في آيات أخرى. وجاء في صحاح الأحاديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((بعثت إلى أمة أمية)) وقوله: ((نحن أمة أمية لا نحسب ولا نكتب)) : الشهر هكذا وهكذا
…
" وقد فسر الشاطبي الأمي بأنه " منسوب إلى الأم "، وهو الباقي على أصل ولادة الأم لم يتعلم كتابا ولا غيره " فهو على أصل خلقته التي ولد عليها " وفسر الأمة الأمية بأنهم: " ليس لهم معرفة بعلوم الأقدمين "، وقد يبدو لأول وهلة أن كون القرآن عربيا، والحديث النبوي عربيا، هو من البديهات التي لا تحتاج إلى بسط وإيضاح وشواهد وأمثلة وتنبيهات في فصول كتاب، كما فعل الشاطبي رحمه الله في موافقاته.
ولكن الذي يرى النتائج التي بينها الشاطبي رحمه الله بناء على هذين الأصلين الأساسيين في فهم الشريعة وتنزيل نصوصها في الكتاب والسنة النبوية على منازلها الصحيحة يدرك عندئذ أن قضية هذين الأساسين ليست من البساطة والبداهة كما يتراءى لأول وهلة. (ر: الموافقات 2 /64– 107) .
وأول هذه النتائج وأهمها يتلخص في أن المقصود هنا من بيان الأساس الأول هو أن القرآن قد نزل بلسان العرب وأساليبهم البيانية. فطلب فهمه إنما يكون بالطريق التي يفهمه من خوطبوا به حين ألقي إليهم، وهم أهل هذا اللسان خاصة، على أميتهم وجهلهم بالعلوم والفلسفات التي وجدت لدى غيرهم من الأمم، وبالاصطلاحات والمفاهيم الطارئة حين أسست العلوم ووضعت فيها الاصطلاحات وحددت لها المفاهيم العلمية في اللغة العربية بعد ذلك.
وهذا يستلزم أن من يكون أكبر فقهي وأرسخ عالم في العصور العلمية اللاحقة يجب أن يفهم النص القرآن أو الحديث النبوي كما يفهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما يفهمه البدوي الأمي من العرب إذ ذاك؛ لأنهم هم أهل اللسان الذي خوطبوا به. ففهم أي عالم لمدلول النص بعد ذلك، مهما علا كعبه في العلوم وطال باعه، يجب أن يكون تبعا لفهم ذلك العربي الأول ابن اللسان الذي جاء به ذلك النص، وخوطب به.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله في هذا المقام:
" فإن قلنا: إن القرآن نزل بلسان العرب، وأنه عربي لا عجمة فيه، فيعني أنه أنزل على لسان معهود العرب في ألفاظها الخاصة، وأساليب معانيها، وأنها فيما فطرت عليه من لسانها تخاطب بالعام يراد به ظاهرة وبالعام يراد به العام في وجه والخاص في وجه، وبالعام يراد به غير الظاهر. وكل ذلك يعرف من أول الكلام أو وسطه أو آخره. وإنها تتكلم بالكلام ينبئ أوله عن آخره، أو آخره عن أوله، وتتكلم بالشيء يعرف بالمعنى كما يعرف بالإشارة
…
وكل هذا معروف عندها لا ترتاب في شيء منه هي ولا من تعلق بعلم كلامهم.
فإذا كان ذلك فالقرآن في معانيه وأساليبه على هذا الترتيب، والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وإن كثيرا ممن أتى بعده لم يأخذها هذا المأخذ، فيجب التنبه لذلك، وبالله التوفيق (الموافقات: 2/66) .
أقول: ومن الواضح أن مثل هذا الاعتبار يجب أن يراعى في فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وتنزيل أحاديثه الشريفة – وهي من جوامع الكلم العربي – على هذا الترتيب نفسه في فهم نصوص القرآن.
ثم أفاض الشاطبي في شرح " أن الشريعة المباركة أمية لأن أهلها كذلك؛ إذ لم يكن لهم معرفة بعلوم الأقدمين "، وأن تنزيلها على مقتضى حال الذين نزلت عليهم من أميتهم هو الأوفق والأجرى مع رعاية المصالح التي يقصدها الشارع الحكيم.
وقد أوضح العلامة الشيخ عبد الله دراز في تعليقاته أنه وفقا لهذا الاعتبار ربطت الشريعة مواقيت الصلاة بالدلائل الحسية المشهودة من الزوال والغروب والشفق، مما لا يحتاج إلى علوم كونية وآلات وتقاويم فلكية.
أقول: وواضح أن الشريعة السمحة الخالدة إذا صلحت للأميين حتى يسهل تطبيقها عليهم، صلحت لغيرهم من أهل العلوم وللناس أجمعين، ولا عكس. وهذا من أسرار آخريتها وصلوحها للخلود ما دام لبني الإنسان وجود، فجلت حكمة الله فيما شرع لعباده.
ثم قال الشاطبي بصدد ما تفرع عن أمية الشريعة: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأمي، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم، فإن كان للعرب في لسانهم عرف مستمر فلا يصح العدول عنه في فهم الشريعة، وإن لم يكن ثًمَّ عرف فلا يصح أن يجري في فهمها على ما لا تعرفه. وهذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب.... ".
بعد هذه المقتطفات من كلام الإمام الشاطبي عن أن الشريعة أمية، وأنها ودستورها - وهو القرآن - عربيان بالمعنى المشروح، (وكذلك بيان رسولها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم ، نعود إلى موضوعنا حول ميقات الإحرام الواجب للقادم جوًا بالطائرة لحج أو لعمرة، في ضوء ما نقلنا عن الشاطبي رحمه الله، فأقول:
إن النبي صلى الله عليه وسلم قد حدد تلك المواقيت المكانية لأهلها، ولمن أتى عليها ومر بها من غير أهلها. وهذا منه بيان وتحديد لقوم أميين، وبلسان عربي مبين هم أهله الأصليون، وأن علينا وعلى جميع الأجيال المسلمة التي تتلوهم من علماء في الشريعة وفي الطبيعة وفي مختلف العلوم من عرب وأعاجم، أن لا نفهم من نصوص القرآن وكلام الرسول عليه السلام إلا ما يفهمه إذ ذاك أولئك الأميون أهل العربية المخاطبون بها بحسب مألوفهم ومعهودهم وعرفهم، كما يقول الإمام الشاطبي.
وإذا كان كذلك فمن الذي يستطيع أن يزعم أنهم يمكن أن يفهموا من تحديد الرسول لهم تلك المواقيت المكانية أنها شاملة للقادم جوًا بطائرة في مستقبل الدهر إذا اخترع البشر آلة تطير بهم، ومرت بأحد ركابها فوق ميقات أرضي وهو في السماء، أو حاذى سمته؟ مع العلم أننا أوضحنا قبلا أن الحديث النبوي المذكور لا يشمل المحاذاة من قريب أو بعيد، بل هو مقصور على أهل تلك المواقيت ومن مر بأحدها، وأن إلحاق المحاذاة لأحد المواقيت بالمرور به فعلا هو اجتهاد عمر رضي الله عنه.
ونحن نضع اجتهاده هذا فوق الرأس والعينين وهو معقول في ذاته؛ لأن ما تقتضيه حرمة البيت المعظم من أن يتهيأ من يقصده لحج أو لعمرة بالإحرام قبل الوصول إليه، هو مما ينبغي أن يستوي فيه كل قاصد، سواء مر بالميقات الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو جاء من طريق أخرى لا تمر به، فَجَعْلُ المحاذاة لأحد المواقيت هي الحد لغير من يمر بالميقات هي قيَاس معقول مبني على علة متحدة.
ولكن هذا القياس السليم لا يجوز أن يخرج عن أرضية المسألة، وهي أن تلك المواقيت التي حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لا يفهم منها أهل اللسان الذين خوطبوا به، إلا أنها لأهلها ولمن يمر بها المرور المعتاد الذي لا يعرفون سواه، وهو المرور بها في موقعها على سطح الأرض؛ لأن هذا هو ما تدل عليه لغتهم التي خوطبوا بها حين قال لهم الرسول عن هذه المواقيت: هن لأهلهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، ولا يمكن أن يتصور أحدهم إذ ذاك مرور أحد من فوق الميقات وهو طائر في الجو.
وقد رأينا آنفًا قول الشاطبي: " إنه لا بد في فهم الشريعة من اتباع معهود الأميين، وهم العرب الذين نزل القرآن بلسانهم
…
وأنه لا يصح أن يجرى في فهمها على ما لا يعرفونه، وأن هذا جار في المعاني والألفاظ والأساليب ".
فاجتهاد عمر رضي الله عنه في إلحاق المحاذاة لا يمكن أن يتجاوز الأصل، فكما أن النص الأصلي، وهو حديث المواقيت معناه المرور بالميقات فعلا على سطح الأرض، فإن المحاذاة التي ألحقها به عمر معناها المحاذاة ممن يمر حذو الميقات المرور المعتاد على سطح الأرض؛ ذلك لأن المقيس لا يمكن أن يعطي أكثر من حكم المقيس عليه. فإذا كان نص الحديث النبوي لا يتناول القدوم جوًا مما لم يكن في حسبان أهل اللسان ولا معهودهم، فكذلك المحاذاة الملحقة بطريق القياس والاجتهاد لا تطبق على طريق الجو الذي لم يكن يتصوره عمر نفسه صاحب هذا الاجتهاد القياسي.
إنني أخلص من جميع ما تقدم بيانه إلى أن القادمين اليوم بطريق الجو في الطائرات لحج أو عمرة لا يشملهم تحديد المواقيت الأرضية التي حددها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم في الجو. فهي حالة قد سكت عنها النص؛ لأنها لم تكن في التصور أصلاً، كما سكت عن القادمين من الجهة الغربية إذ لم يكن إذ ذاك مسلمون يقدمون من أفريقية من وراء البحر، ولا من مصر. أما الشام فإنه وإن لم يكن فيه مسلمون إذ ذاك قد كانت تجارة قريش وعرب الحجاز قائمة مع الشام في رحلة الصيف، فقد يعودون منه قاصدين حجًا أو عمرة، فلذا حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم للقادمين من الشام الجحفة ميقاتًا لهم، كما أسلفنا بيانه.
وإذا كان القدوم جوًا ليس مشمولاً بتحديد المواقيت المكانية لما قد بينا، فهو إذن خاضع للاجتهاد في تحديد ميقات مكاني للقادمين منه بالوسائط الجديدة المبتكرة في عصرنا هذا، كسائر قضايا الساعة التي ليس عليها نص، فيجب أن يقرر الاجتهاد لها الحكم المناسب في ضوء أصول الشريعة ومقاصدها، وفي طليعتها دفع الحرج.
وفي نظري أن الحكم المناسب في هذا الموضوع، والذي لا يترتب عليه حرج ولا إخلال، هو أن القادمين بالطائرات اليوم لا يجب عليهم الإحرام إلا من بعد أن تهبط الطائرة بهم في البلد الذي سيسلكون بعده الطريق الأرضي، فإذا هبطت الطائرة بهم في بلد يقع خارج المواقيت، يكون عندئذ ميقاتهم للإحرام هو الميقات الذي سيمرون به، أو من الموقع الذي يحاذي أحد المواقيت المحددة لمختلف الجهات إذا كانوا لا يمرون بأحد تلك المواقيت. أما إذا كان المكان الذي تهبط فيه الطائرة بلدًا يقع بعد أحد المواقيت المذكورة، أي بينه وبين الحرم، فإن ميقاته للإحرام هو ذلك البلد نفسه، فيصبح حينئذ كأهله فلا يجوز له أن يجاوزه إلا محرمًا.
وبما أن المطار الدولي اليوم الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون هو في مدينة جدة، وهي واقعة ضمن بعض المواقيت، فإن القادمين بطريق الجو إلى جدة لحج أو لعمرة، يكون ميقاتهم للإحرام مدينة جدة، فلا يجوز أن يتجاوزوها إلا محرمين؛ لأنهم يصبحون عندئذ كأهل جدة فيحرمون من حيث يحرم أهلها.
فلو أن المطار الذي يهبط فيه الحجاج والمعتمرون نقل فيما بعد إلى مكة لأصبح القادمون جوا كأهل مكة، فيحرمون من حيث يحرم المكيون، أي أن القادم بالطائرة بوجه عام، من أي جهة كان قدومه، متى هبطت طائرته في آخر مكان لكي يتابع بعده السير بالطريق البري، يأخذ عندئذ حكم أهل ذلك المكان بشأن الإحرام.
أما القول بأن عليه أن يحرم وهو في الطائرة في الجو متى مرت الطائرة بأحد المواقيت أو حاذته، فهذا لا أرى دليلا شرعيًا يوجبه، وهو مبني على تصور أن القدوم جوًا بالطائرة مشمول بالحديث النبوي الذي حدد المواقيت الأرضية. وهذا في نظري رأي غير سليم في فهم النصوص فهما فقهيا كما سبق إيضاحه، علاوة على ما فيه من حرج شديد وصعوبة قد تصل إلى حد التعذر، بالنظر إلى حال الطائرات العامة، ولاسيما الدرجة السياحية فيها (وهي التي تأخذها الجماهير) ، وضيق مقاعدها لاعتبارات تجارية، حتى إن الراكب ينزل في مقعده كما ينزل الإسفين في الخشب، ويعسر عليه التحرك في تناول وجبة الطعام، فضلاً عن أن يخلع ملابسه المخيطة ويرتدى الرداء والإزار، وأين في الطائرة مغتسل ومصلى ليقيم سنة الإحرام؟
وأغرب من ذلك قول من يقول: إن هذا الحرج يمكن دفعه بأن يحرم بملابسه في الطائرة، ثم يخلعها بعد الهبوط ويفدي بدم جزاء، فمتى كانت هذه الشريعة الحكيمة السمحة تكلف أحدًا بما يشبه المستحيل لتعسره أو تعذره، على أن يخالفه المكلف ويتحمل بدلا منه جزاء مكلفًا؟ إن الشريعة الحكيمة براء من مثل هذا التكليف.
وأشد غرابة من هذا رأي من يقول – وكل هذا قد سمعناه – أن الحل لهذه المشكلة هو أن يحرم من يريد القدوم بالطائرة من بيته قبل ركوبها. فماذا يقول هؤلاء إذا كان قاصد الحج أو العمرة من أهل موسكو أو سيبيريا قادما في الشتاء حيث درجة الحرارة خمسون تحت الصفر بمقياس سنتيغراد؟
هذا ما يبدو لي أنه الوجه الصحيح في هذه القضية واستنباط الحل والحكم الشرعي الذي يناسبها، بعد إعمال الفكر منذ سنوات في ملابساتها، وإنعام النظر في الأدلة، والاستئناس بالدلائل، فقد كثر السؤال عنها، وكلما تقدم الزمن سنة ألحت الحاجة إلى البيان الشافي فيها بصورة مدروسة بصيرة، لا تسرع فيها ولا ابتسار، يُنظر فيها إلى هذه القضية من مختلف الزوايا لا من زاوية واحدة. وما يدرينا لعل سنوات قادمة غير بعيدة تصبح فيها الطائرة من الوسائل العتيقة البطيئة، ويحل محلها الصاروخ الذي يطوي المسافات الزمانية والمكانية الطويلة والبعيدة، فيختزلها في دقائق معدودات، كما يتنبأ به كثير من رجال العلم والفكر. وأن ما شهدناه في هذا العصر من عجيب الإنجازات، التي كلما تحقق منها شيء لم يكن ليصدق لو رؤي في المنام، فتح تحققه طريقا لما هو أعجب منه.
وهذا الحل الذي ارتأيته بالدليل الذي رأيته - وأرجو أن يكون صوابا _ هو صالح لأن يتمشى مع مختلف الوسائل المبتكرة في النقل والأسفار مهما تطورت. فإن كان صوابا فمن فضل الله تعالى، وإن كان خطأ فمن قصور فكري وعلمي. والله سبحانه أعلم، وهو الهادي إلى سواء السبيل.
مصطفى أحمد الزرقاء
كلية الشريعة – الجامعة الأردنية