المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الوثائق المقدمةتوحيد بداية الشهور القمريةلفضيلة الشيخ محمد علي السايس - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث

- ‌تقديم بقلم معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمة معالي د/ بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمة العددلمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمة افتتاح الدورةألقاهامعالي الدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي

- ‌توظيف الزكاةفي مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين

- ‌طرق الإنجابفي الطب الحديث وحكمها الشرعيلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌القضايا الأخلاقيةالناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجابالتلقيح الاصطناعيلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاةبين الفقهاء والأطباءلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌موت الدماغلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌نهاية الحياة البشريةللدكتور أحمد شوقي إبراهيم

- ‌متى تنتهي الحياة؟للدكتور حسان حتحوت

- ‌القلب وعلاقته بالحياةمدخل في مناقشة "متى تنتهي الحياة"للدكتور أحمد القاضي

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور مصطفى صبري أردوغدو

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهاداتالعلماء المسلمين والمعطيات الطبيةللدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌نظرة في حديث ابن مسعودللدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حقيقة الموت والحياةفي القرآن والأحكام الشرعية

- ‌توصياتمؤتمر الطب الإسلامي بالكويت

- ‌دراسةوزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية

- ‌ورقة العمل الأردنيةقدمت للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش

- ‌حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤيةفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌بحثلفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌بحثفريق علماء جامعة الملك عبد العزيزقسم علوم الفلك

- ‌توحيد بدايات الشهور القمرية(الشمس والقمر بحسبان)لسعادة الدكتور فخر الدين الكراي

- ‌الوثائق المقدمةتوحيد بداية الشهور القمريةلفضيلة الشيخ محمد علي السايس

- ‌المناقشةتوحيد بدايات الشهور القمرية

- ‌من أين يحرم القادمبالطائر جوًا للحج أو العمرة؟لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرةلفضيلة الشيخ تجاني صابون محمد

- ‌الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلاميلفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌كتاب حدود المشاعر المقدسةلفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحريةلفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرهاالقرار الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة

- ‌تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلاميلفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام أوراق النقود والعملاتلفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفي نظر الشريعة الإسلاميةلفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌النقود الورقيةلفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الربافضيلة الأستاذ أحمد بازيع الياسين

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه

- ‌أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلاميفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌المناقشةأحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر عبد الله أبو زيدرئيس مجلس المجمعكلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد

- ‌كلمة معاليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجةالأمين العام للمجمع

الفصل: ‌الوثائق المقدمةتوحيد بداية الشهور القمريةلفضيلة الشيخ محمد علي السايس

‌الوثائق المقدمة

توحيد بداية الشهور القمرية

لفضيلة الشيخ محمد علي السايس

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين نحمده ونستعينه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فما له من هاد، ونصلي ونسلم على خير أنبيائه وصفوة رسله وأوليائه، سيدنا محمد بن عبد الله المبعوث بالهدى ودين الحق بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا.

أما بعد، فقد طال الجدل بين العلماء قديما وحديثا في شأن الشهور القمرية وتحديد أوائلها وأواخرها، واختلفت كلمتهم في ذلك اختلافًا كثيرًا وفي كل عام يتجدد النزاع وتحتدم المناقشة في هذا الشأن، لا سيما في أشهر رمضان وذي الحجة لارتباط الصيام والحج بهما، وكثيرًا ما تطلع الناس إلى علماء الشريعة، وراودهم الأمل في أن يطلعوا على الناس برأي يجمع كلمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويوحد صفوفهم ويؤلف بين قلوبهم ويقضي على هذا التفرق والتنازع، وذلك لتوحيد مبدأ الشهور العربية في جميع البلاد الإسلامية، وبذلك يتوحد مظهر المسلمين جميعًا في أنحاء المعمورة في أداء عبادتهم، وفي مواسمهم وأعيادهم الدينية مطمئنة قلوبهم إلى أنهم أدوا الصوم والفطر والحج في وقته، لا يتطرق إلى نفوسهم شك ولا يساورها قلق، كما هو الشأن الآن بالنسبة للمختلفين من الصائمين والمفطرين، لا يثق أي منهم وثوقًا مطلقًا بأنه هو المحق وغيره المبطل، ولعل هذا هو ما أراده النبي –صلى الله عليه وسلم بقوله ((صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وحجكم يوم تحجون)) .

ولا شك أن توحيد مبدأ الشهور العربية في البلاد الإسلامية يعد من أقوى العوامل على تمكين الروابط بين الشعوب الإسلامية في جميع أقطار الأرض، وجمعهم على كلمة واحدة وطريقة واحدة، والناس الآن أحوج ما يكونون إلى التآلف والتقارب واتحاد الكلمة، والطابع العام للدين الإسلامي هو التوحيد، والله رب العالمين واحد، والرسول الكريم للناس كافة واحد، والقرآن واحد، والقبلة التي يتوجه إليها المسلمون في صلواتهم واحدة، والأمة الإسلامية واحدة، قال تعالى {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} .

ص: 406

وقد تقدم فضيلة الشيخ عبد الحميد السائح عضو المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية عن شرق الأردن برغبة أن يبحث المجمع هذا الموضوع، وقد استجاب المجمع لهذه الرغبة وأحال على هذا البث ليقدم إلى المؤتمر الثالث، واستعنت بالله واطلعت على نصوص من كتب المذاهب الأربعة، وبعض علماء الشيعة الإمامية والزيدية وعلى رسائل كتبت في هذا الشأن منها رسالة تنبيه الغافل والوسنان على أحكام هلال رمضان لابن عابدين، ومنها العلم المنشور في إثبات الشهور لابن السبكي قاضي قضاة دمشق0، ومنها إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة للشيخ محمد بخيت المطيعي، ومنها رسالة الهلال للشيخ طنطاوي جوهري، ومنها رسالة الصوم للشيخ عبد الرحمن تاج شيخ الأزهر سابقًا، ومنها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية بشأن توحيد مبدأ الشهور العربية في البلاد الإسلامية لطائفة من أساتذة كلية الشريعة.

وقد تبين لي والحمد لله بعد الاطلاع على هذه المراجع والرجوع إلى أهل الذكر فيما ليس لنا به علم من علماء الفلك أن هذا المطلب ليس بعزيز المنال، وأنه أيسر مما كنت أظن ويظن كثير من الناس، لكثرة اختلاف العلماء طوال الأزمان الخالية، دون أن تتلاقى وجهات نظرهم ويتفقوا على رأي واحد يريح المسلمين من هذا التنازع ويجمعهم على كلمة سواء.

ولا تثريب على من اختلفوا قديمًا من العلماء، فلم يكن لديهم تلك الوسائل التي مَنَّ الله بها على عباده في هذا الزمان، والتي جعلت هذا المبدأ القويم مبدأ التوحيد يسير المنال.

وأول تلك الوسائل تقدم علم الفلك وبراعة علمائه فيما يعالجونه من شؤونه، وذلك بالحساب الدقيق القطعي المبني على قواعد هندسية مبرهنة، والذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله ومواقفه، ويحددون به أوائل الأشهر القمرية ونهايتها، مما يستعان به على رؤية الهلال رؤية عينية هي غاية العلم وهي عين اليقين.

ص: 407

وثانيها: ما اخترعه العلماء في هذا العصر من الآلات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى مهما كان صغيرًا دقيقًا، من المراصد المجهزة بأحدث الوسائل العلمية مما ييسر أمر الرؤية في هذا العصر.

وثالثها: تقدم وسائل الإذاعة والإعلام في هذا الزمان، كالراديو والتليفزيون واللاسلكي وغير ذلك مما يمكن من إعلام جميع البلاد الإسلامية بالرؤية فور ثبوتها.

ويشتمل هذا البحث على أربعة فصول وخاتمة:

الأول - في أقوال علماء المذاهب الأربعة وبعض الشيعة الإمامية والزيدية فيما ثبتت به هلال رمضان وشوال وغيرهما في حالتي الصحو والغيم، مع بيان وجهة كل منهم ومناقشة الأدلة وترجيح المختار منها.

الثاني - في بيان آراء علماء الإسلام في مطالع القمر، وهل يؤثر اختلافها في إثبات الشهور، أو لا عبرة باختلافها فيمكن توحيد البلاد الإسلامية واجتماعها على مبدأ واحد؟

الثالث - في بيان أنواع الحساب الفلكي وما جرى عليه العمل قديمًا وحديثًا في التقاويم الرسمية وغيرها، حتى يتميز ما يصح التعويل عليه وما لا يصح.

الرابع - في بيان آراء العلماء في الرأي بقول أهل الحساب والفلكيين في تحديد الشهور القمرية.

أما الخاتمة - فهي في بيان ما يجب على الدول الإسلامية القيام به في شأن إثبات الشهور القمرية لنصل إلى هذه لغاية المنشودة من أقرب سبيل.

ص: 408

الفصل الأول

أقوال العلماء، فيما تثبت به الشهور القمرية

مذهب الحنفية:

المقرر في معتبرات الكتب عند الحنفية أنه يجب على المسلمين وجوب كفاية أن يلتمسوا هلال رمضان وغيره في اليوم التاسع والعشرين من شهر السابق لأن الشهر قد يكون تسعة وعشرين يومًا، فيجب عليه طلبه لإقامة الواجب، فإن رأوا الهلال ثبت الشهر الجديد، وصاموا إن كان رمضان، لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وإن غُمَّ عليكم أكملوا عدة الشهر ثلاثين يومًا لقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) ، ولأن الأصل بقاء الشهر وكماله، فلا يترك هذا الأصل إلا بيقين بناء على القاعدة الشرعية: لا يزول اليقين بالشك.

والمصرح به في كتبهم المتداولة أنه إذا كان بالسماء علة من غيم أو غبار يحجب الرؤية أن يقبل في تحقق رمضان خبر عدل أو مستور، ولو كان خبر العدل أو المستور على خبر مثله، ويستوي في ذلك أن يكون المخبر حرًا أو عبدًا ذكرًا أو أنثى، ولا يشترط العدد ولا لفظ الشهادة ولا تقدم الدعوى ولا حكم الحاكم ولا مجلس القضاء واستدلوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما:((أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أبصرت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟ فقال: نعم، قال: قم يا بلال وأذن في الناس ليصوموا غدًا)) وفي رواية ((يكفي المسلمين أحدهم قم يا بلال)) إلخ.. وعللوا ذلك أيضًا بأن هذا ليس بشاهدة، بل هو إخبار، بدليل أن حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم، وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد، والإنسان لا يتهم في إيجاب شيء على نفسه، إلا أنه إخبار في أمر ديني ولذلك اشترطوا في المخبر الإسلام والعقل والبلوغ، وألا يكون ظاهر الفسق، لأن قول الفاسق في الأمور الدينة التي يتيسر تلقيها من العدول غير مقبول.

أما إذا لم يكن بالسماء علة فقد اختلفت كلمتهم في ذلك، ففي ظاهر الرواية لا يقبل خبر الواحد حتى يراه جمع كثير يقع العلم للقاضي بخبرهم والمراد من العلم غلبة الظن لا اليقين، وأمر القلة والكثرة مفوض إلى رأي المشهود عنده، لأن ذلك يختلف باختلاف الأوقات والأماكن.

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل في هذه الحالة أيضًا شهادة الواحد العدل، وفي رواية أخرى تقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.

ووجه ظاهر الرواية أن خبر الواحد العدل إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر وهنا الظاهر يكذبه حيث تفرد بالرؤية والسماء صحو، والكل متوجه إلى ما توجه إليه يقلب وجهه في السماء، وفيهم من هو أقوى منه إبصارًا وأَحَدُّ نظرًا، فكان ذلك مظنة غلطه، فلا يفيد خبره غلبة الظن، فلا يقبل لاحتمال الغلط والخطأ، كما حكي عن أنس بن مالك أنه تراءى الهلال مع جماعة فيهم إياس، فقال أنس: إني أرى الهلال، ولم يره أحد ممن كان معه، فتفطن إياس بذكائه ونظر إلى عين أنس، فوجد عليها شعره بيضاء قد نزلت من حاجبيه، فرفعها إياس بيده، وقال: أرني الهلال، قال: لا أنظر الآن.

ص: 409

أما هلال شوال فقد قالوا: إنه إذا كان بالسماء علة لا تقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، مسلمين حرين عاقلين بالغين غير محدودين في قذف، كما في الشهادة في الحقوق لما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا:((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان، وكان لا يجيز الإفطار إلا بشهادة رجلين،)) ، ولأن هذا من باب الشهادة؛ لأنه لا يلزم الشاهد شيء بهذه الشهادة، بل له فيه نفع، وهو إسقاط الصوم عن نفسه، فكان متهمًا فيشترط فيه العدد نفيًا للتهمة بخلاف هلال رمضان، فيشترط في هلال الفطر نصاب الشهادة ولفظ: أشهد، ولا تقبل فيها شهادة محدود في قذف، ولكن لا يشترط فيه الدعوى؛ لأن مجيء الشهر لا يدخل تحت الحكم قصدًا.

وإذا لم تكن بالسماء علة فهو كهلال رمضان لا يقبل فيه إلا خبر جماعة يحصل بخبرهم غلبة الظن، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه تقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين سواء كان بالسماء علة أو كانت صحوًا.

أما هلال ذي الحجة ففي ظاهر الرواية أنه كهلال الفطر في حالتي الصحو والغيم، لأنه تعلق به نفع العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي، وقال ابن الهمام نقلًا عن التحفة: والصحيح أنه يقبل فيها بشهادة الواحد لأن هذا من باب الخبر، فإنه يلزم المخبر أولًا ثم يتعدى منه إلى غيره، لأنه يتعلق به أمر ديني، وهو وجوب الأضحية، وحرمة صوم يوم النحر، وأيام التشريق، فصار كهلال رمضان في تعلق حق الله به، فيقبل في حالة الغيم الواحد العدل، ولا يقبل في حالة الصحو إلا ما يحصل به غلبة الظن.

أما بقية الشهور التسعة فلم يتعرض المتقدمون لها، لأن الشارع لم يجعل مجيء شهر منها وقتًا لعبادة مفروضة أو لحرمة شيء خاص، وإنما تعرض لها بعض المتأخرين، فقد قال صاحب البحر في شرح الكنز: وذكر الإمام الأسبيجابي شرح مختصر الطحاوي الكبير:

وأما هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة، فإنه لا يقبل فيها إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين عدول أحرار غير محدودين في قذف.

ص: 410

قال المرحوم الشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة ص 99: وما قاله صاحب البحر فهو في غير موقعه كما قال المرجاني في ناطورة الحق وقال فيها: ومن الجائز أن يكون المراد منه أي من كلام الأسبيجانبي أن هذه الأهلة (ما عدا رمضان) لا تثبت بدون شهادة شاهدين في حكم متعلق بها من حقوق العباد، من تعليق طلاق وعتاق وغير ذلك، وإلا كان معارضًا لعموم ما في الوقاية وغيرها، من قولهم: يقبل بلا دعوى ولفظ: أشهد، للصوم مع غيم خبر فرد بشرط أنه عدل، لأن جميع الأهلة في هذا كالصوم البتة ومخالفًا لاشتراط العدد في الفطر والأضحى في ظاهر الرواية لتعلق حق العباد، وعدم اشتراطه في الصوم والأضحى على رواية النوادر، لكونه من أمور الدين" اهـ يعني أنهم لم يشترطوا شيئًا آخر من الشروط التي ذكرها صاحب البحر سوى العدد في الفطر والأضحى على ظاهر الرواية، ولم يشترطوا العدد في الصوم والأضحى في رواية النوادر، فكان الخلاف في اشتراط العدد وعدمه فقط، ولم يوجد منهم ما يفيد اشتراط ما عداه من الذكورة والحرية وعدم الحد في القذف وغير ذلك، بل المدار على العدالة فبعد اتفاقهم على اشتراط العدالة اختلفوا في اشتراط العدد وعدم اشتراطه، هذا مراد المرجاني، وهو عين ما قلناه من قبل.

والذي قاله من قبل أنه لا يشترك في المخبر بثبوت الرؤية إلا أن يكون عدلًا، وأما اشتراط لفظ الشهادة والحرية وغيرهما من الشروط فهو من فهم المشايخ واستنباطاتهم، ثم قال: وقد اتفقوا أصولًا وفروعًا على أن خبر الواحد مقبول في الديانات، وأنه لا يشترط فيه سوى العدالة والبلوغ والعقل، واتفقوا أيضًا على المشهور أن الشهادة رؤية رمضان من باب الخبر لا فرق فيها بين حال الصحو وحال الغيم، ولا شك في أن المعنى الذي من أجله صارت الشهادة من قبيل الرواية لا فرق فيه بين حال الصحو في رمضان وحال الغيم، فإن الصوم يلزم الشاهد كما يلزم غيره في الحالتين، وقد اتفقت كلمتهم على أن هلال الفطر في حال الصحو كهلال الصوم في حال الصحو ففي حال الغيم بالأولى، ثم قال: وقد تقدم أن القهستاني قال في جامع الرموز، والظاهر من العمادية: إن الصوم والفطر مع الغيم وبلا غيم يستويان في تلك الشروط.

ثم قال: وكيف لا يكون الحكم كما قلنا، وقد اتفق علماؤنا على أن التماس هلال رمضان فرض كفاية؟ وأنه يجب على العدل إذا رأى الهلال أن يرفع الأمر إلى القاضي ويشهد بما رأى، ولو كان العدل امرأة مخدرة ذات زوج وجب عليها أن تخرج بغير إذن زوجها، ولو كانت أمة وجب أن تخرج بغير إذن سيدها في ليلة الرؤية، مخافة أن يصبح الناس مفطرين، فقد عللوا التماس الهلال كتحمل الأحاديث التي هي أدلة الأحكام الشريعة، ففي أنه فرض كفاية وأداء الشهادة برؤية هلال رمضان كتبليغ تلك الأحاديث بطريق روايتها، فلم تبق شبهة في أنه لا خلاف بين أئمتنا في قبول خبر الواحد العدل في رؤية هلال رمضان، سواء كان بالسماء علة أو لم تكن بها علة، متى لم يكن تفرده دليل الغلط أو الكذب، وأن هلال ذي الحجة كهلال رمضان عند أصحابنا خلافًا للكرخي، وأن هلال ذي الحجة كهلال رمضان أيضًا على رواية الطحاوي، وهي التي يساعدها الدليل وقد صححوها صريحًا.

ص: 411

وأن اشتراط العدد في حال التفرد الذي لم يكن مظنة الغلط لرؤية هلال شوال إنما هو على رواية أخرى هي ظاهر الرواية أيضًا، وقد مشي عليها جميع المتون.

ثم قال في صفحة 94: والحاصل أن رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال ورؤية هلال ذي الحجة سواء كان بالمساء علة أو لم يكن بها علة كل منها يتعلق به أمر ديني، فهلال رمضان يتعلق به وجوب الصوم وحرمة الفطر بلا عذر يبيحه في نهار الشهر كله، وهلال الفطر يتعلق به حرمة الصوم ووجوب صلاة العيد، ووجوب زكاة الفطر في أول يوم من شوال، وهلال ذي الحجة يتعلق به حرمة الصوم في اليوم العاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر ودخول وقت الحج ووجوب الأضحية وتكبير التشريف، وغير ذلك من الأحكام الدينية المحضة، فكل من الشهادة برؤية الأهلة الثلاثة من باب الأخبار الدينية فهي شبيهة بالرواية ولا يمكن أن واحدًا منها يدخل تحت الحكم ويكون حقًا من حقوق العباد ويكون فيه إلزام محض.. إلى أن قال:"وأما قول من قال بدخول العبادات تحت الحكم، فإن كان مراده بالحكم الأمر بها فلا إشكال، وإن كان مراده بالحكم القضاء والإلزام المحض الذي يستدعي مقضيًا له ومقضيًا عليه، فيجب أن يحمل قوله على ما إذا تعلق بها حق العبد وكان المقصود منها إثباته، كما لو علق عتق عبده أو طلاق امرأته بوجوب صلاة الجمعة عليه أو بصحتها أو بفسادها، وأما أن شيئًا من العبادات والديانات المحضة يدخل تحت الحكم بمعنى القضاء والإلزام المحضي مجردًا عن حق العبد فلا قائل به أصلًا لأنه لا يتصور لا عقلًا ولا شرعًا كما هو مفصل في الأصول والفروع، فيتعين أن يحمل قول من قال باشتراط شروط الشهادة في هلال رمضان أو هلال شوال أو هلال ذي الحجة على ما إذا تعلق به حق العبد وكان ثبوته في ضمن حق من حقوق العباد بلا فرق في ذلك بين هلال وهلال".

وفي ص 91 قال: "وإنما كان مجيء الأشهر لا يدخل تحت القضاء بلا فرق بين مجيء رمضان وشوال وغيرهما، لأن مجيء كل واحد منها له علامة محسوسة هي هلاله الذي يشاهد في أول ليلة منه، ولأن شيئًا منها لم يكن حقًا فمن حقوق الله أصلًا ولا من حقوق العباد بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يوجد فيها لذاتها خصومة لأحد بوجه من الوجوه الشرعية".

وفي ص 198: "وما يدل على صحة ما قلناه من عدم الفرق بين شهر وشهر فما قدمناه في هلال رمضان وشوال وذي الحجة، فإنه لا فرق بين مجيء هذه الأشهر الثلاثة وبين مجيء كل شهر من الأشهر التسعة الباقية إذا اشتمل على عبادة محضة، وصار وقتًا شرعًا لها بنذر ونحوه، كما لا فرق بين مجيء أي شهر حينئذ وبين دخول أوقات الصلوات الخمس وخروجها، فإن الجميع مبني على علامات ظاهرة مشاهدة يستوي في معرفتها كافة الخلق من بني آدم لا فرق بين خواصهم وعوامهم، ولذلك أناط الشارع التكليف المؤقتة بهذه العلامات الظاهرة للجميع أيضًا ومن ذلك يتضح لك جليًا أن مجيء الأشهر القمرية التي عليها مدار الأحكام الشرعية مما لا يدخل تحت الحكم والقضاء لأن مجيئها ومضيها من الحوادث الكونية التي يشاهد العلامات الدالة على حدوثها ومضيها العام والخاص، ولا دخل للخلق فيها بل هي تقدير العزيز العليم، فلا يمكن أن شيئًا منها يكون حقًا يدخل تحت الحكم ويفصل القضاء فيه فهي كمجيء الليل بغروب الشمس، ومجيء النهار بشروقها، فكما لا يمكن عقلًا ولا شرعًا أن يدخل مجيء الليل ومجيء النهار تحت القضاء لذاته، لا يمكن أن يدخل مجيء أي شهر من الأشهر لذاته تحت القضاء، لا فرق في ذلك بين شهر وشهر".

ثم قال في 121: "وأيضًا قد علمت أن إثبات رؤية هلال رمضان وغيره من الأشهر ولو كانت السماء مصحية لا يتوقف على خبر الجمع العظيم، وإنما المدار في الإثبات على الخبر الذي يفيد غلبة الظن، ولو كان ذلك الخبر خبر واحد عدل، إذا لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب، لأن غلبة الظن حجة بالإجماع في مثل هذا الحكم العلمي، وأن الذي شرط الجمع العظيم من أئمتنا أراد العدد الذي يفيد خبره العلم الشامل لغلبة الظن فإن المخبر إذا انفرد وكان تفرده مظنة الغلط أو الكذب فخبره لا يفيد ظنًا فضلًا عن غلبة الظن، ثم قال: وأن الصحيح أنه لا فرق بين هلال رمضان وهلال شوال وهلال ذي الحجة في قبول شهادة الواحد العدل في حالة الغيم وكذا في حالة الصحو إذا لم يكن تفرده مظنة الغلط والكذب، وكذا بقية الأشهر التسعة إذا اشتملت على ما هو عبادة محضة، ولعله أراد أنه لم يقصد بإثباتها إثبات حق من حقوق العباد التي لا بد فيها من القضاء أو الإلزام.

ص: 412

أما إذا قصد مجرد إثباتها ليتحقق ثبوت أشهر المواسم الدينية فمقتضى ما تقدم من الترجيح والتوجيه والتعليل أن يكون سبيلها في الإثبات سبيل الأشهر الثلاثة رمضان وشوال وذي الحجة، فإنه لا فرق بين شهر وشهر، كما تقدم غير مرة أن ذلك من باب الإخبار لا من باب الشهادة وأنه يكتفى في الخبر بما يفيد غلبة الظن ولو خبر واحد مستور لا فرق بين حالة الصحو وحالة الغيم، وأنه لا حاجة إلى شيء من شروط الشهادة، ولا إلى مجلس القضاء ولا إلى حكم حاكم أو أمر قاض، وأنه إنما يشترط العدد عندما يكون التفرد مظنة الغلط أو الكذب، ويكتفى بالعدد الذي يقع به غلبة الظن من غير تحدي بنصاب الشهادة ولا بنصاب الغمامة، كما لا يشترط لفظ: أشهد، ولا بتحقق شروط الشهادة في كل الشهود أو بعضهم، نعم لا بد من أن يكون المخبر مسلمًا عاقلًا بالغًا.

وهذا الذي رجحه المرحوم الشيخ بخيت هو الذي أختاره لقوة مدركه وصحة توجيهه وتعليله، وهو الذي يقتضيه النظر الصحيح ويقع به التوفيق بين الأقوال المختلفة والآراء المتضاربة والله الموفق.

وخلاصة ما تقدم:

1-

أن الخبر الخاص برؤية الهلال من قبيل الأخبار الدينية فيجب وجوبًا كفائيًا إلى من رآه أو بلغه الخبر بطريق شرعي أن يعلنه قيامًا بالواجب الديني.

2-

أن ثبوت الأهلة كلها لا يدخل تحت الحكم قصدًا، وأن حكم القاضي بالنسبة للهلال من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو من قبيل الفتوى.

3-

أن أي شهر من الشهور الاثني عشر يثبت شرعًا برؤية هلاله أو بعد الشهر السابق ثلاثين يومًا.

4-

أنه يكتفى في ثبوت أي شهر بخبر واحد عدل عدالة رواية في حالتي الغيم والصحو، ما لم يكن تفرده مظنة الغلط أو الكذب فلا بد من عدد تتحقق به غلبة الظن.

5-

أنه لا يشترط نصاب الشهادة ولا لفظ: أشهد، ولا تقدم الدعوة ولا مجلس الحكم ولا قضاء قاض ولا أمر وال، إلا أن يكون المقصود بإثبات الشهر حقًا من حقوق العباد، فيشترط فيه ما يقتضيه هذا الحق مما هو مقرر في كتب الفقه.

ص: 413

مذهب الشافعية:

قال الإمام النووي يجب صوم رمضان بأحد أمرين: الأول: إكمال شعبان ثلاثين يومًا، والثاني رؤية الهلال ليلة الثلاثين منه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)) والراجح أنه يكتفى بعدل واحد في ثبوت هلال رمضان احتياطًا للعبادة، وكذلك يثبت الهلال بشهادة عدل لكل لشهر اشتمل على عبادة كشوال والأضحى بالنظر إلى العبادة فقط، ولا تثبت الرؤية لأي شهر بشهادة العدل بالنسبة لغير العبادة كحلول دين مؤجل وطلاق وعتق علقا به.

والراجح عندهم على القول بالاكتفاء بعدل واحد أنه بطريق الشهادة لا الرواية، فلا يقبل فيها قول العبد والأنثى، ويشترط فيها لفظ أشهد، وهي شهادة حسبة لا تفتقر إلى الدعوى، ولكن لا بد في وجوب الصوم على العموم من ثبوتها عند قاض ينفذ حكمه.

مذهب المالكية:

يثبت رمضان أي يتحقق في الخارج سواء حكم بثبوته حاكم أم لا بأحد أمور ثلاثة:

الأول: إتمام شعبان ثلاثين يومًا، وكذا ما قبل رجب أن غم، أي يجب إكمال كل شهر ثلاثين يومًا إذا كانت ليلة الثلاثين متغيمة في كل شهر، وأما إذا كانت السماء مصحية فلا يتوقف ثبوت الهلال على كماله ثلاثين يومًا بل تارة يثبت بذلك إن لم يره الهلال، وتارة يثبت برية الهلال ليلة الثلاثي، فيكون شهر شعبان وغيره تسعة وعشرين يومًا، لا بحسب منجم ومسير قمر على المشهور لأن الشارع أناط الحكم الذي هو ثبوت الشهر بالرؤية أو بإكمال الثلاثين فقال صلى الله عليه وسلم:((الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) وهي مفسرة لما قبلها.

الثاني: رؤية عدلين الهلال، والمراد بهما ما قابل الجماعة المستفيضة فيصدق بالأكثر من العدلين، فكل من أخبره عدلان برؤية الهلال أو سمعهما يخبران غيره وجب عليه الصوم، لا بعدل ولا به وبامرأة، ولا به وامرأتين على المشهور في الكل، خلافًا لابن الماجشون في اشتراط العدلين فإنه قال: "يكفي عدل واحد وخلافًا لأشهب حيث قال: يكفي عدل وامرأة، وخلافًا لابن مسلمة فإنه قال: يكفي عدل وامرأتان، ثم قالوا: ويعم ثبوت رمضان جميع البلاد والأقطار إذا كان ثبوت الشهر بكمال شعبان، ولا يعم إذا كان ثبوته برؤية العدلين إلا إذا نقل شهادتهما عدلان، فكل من نقل إليه خبر العدلين بأخبار عدلين وجب عليه الصوم، ويثبت برؤية العدلين ولو كانت السماء مصحية وفي بلد كبير، وهو قول مالك وأصحابه.

ص: 414

الثالث: رؤية جماعة مستفيضة لا يمكن تواطؤهم عادة على الكذب، كل واحد منهم يخبر عن نفسه أنه رأى الهلال ولا يشترط أن يكونوا كلهم ذكورًا أحرارًا عدولًا.

قال المرحوم الشيخ بخيت بعد أن نقل كثيرًا من فروع هذا الباب عن السادة المالكية:

ومما نقلناه لك من مذهب المالكية تعلم أن مذهبهم لا يخالف ما قرره أهل الأصل، وعليه فقهاء الحنفية من أهل الأصول والفروع من أن الشهادة في هلال رمضان وهلال شوال من قبيل الإخبار بأمر ديني محض، وأنها من قبيل رواية الأحاديث، وأنهم لم يفرقوا بين هلال الفطر وهلال الصوم، ولم يشترطوا لفظ لشهادة، وإنما اشترطوا الذكورة في العدلين عند من لهم اعتناء على قول، ولم يشترطوا الذكورة ولا الحرية في العدل عند من لهم اعتناء بأمر الهلال، وكل هذا يرشدك إلى أنهم قائلون بأن الشهادة في هلال رمضان من قبيل الخبر الديني الشبيه برواية الحديث.

مذهب الحنابلة:

جاء في المغني والشرح الكبير والإقناع وشرحه أنه يستحب ترائي الهلال احتياطًا للصوم وحذرًا من الاختلاف، فإن رؤي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان وجب الصوم بلا خلاف، لقوله تعالى:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته فإن لم ير الهلال ليلة الثلاثين والسماء مصحية أكملوا عدة شعبان ثلاثين يومًا)) ويقبل في هلال رمضان قول عدل وحده، لقبول خبر الأعرابي به، ولأنه خبر ديني وهو أحوط ولا تهمة فيه، ولا فرق بين الغيم والصحو والمصر وخارجه، ولو كان الرائي في جمع كثير ولم يره غيره منهم، وهو خبر لا شهادة، فيصام بقول العدل: رأيت الهلال، ولو لم يقل: أشهد، أو شهدت أني رأيته، ويقبل فيه قول المرأة والعبد كسائر الأخبار، ولا يشترط لفظ الشهادة ولا يختص بحاكم، فيلزم الصوم كل من سمعه من عدل، قالوا: وإذا ثبتت الرؤية هلال رمضان بخبر واحد ثبتت تبعًا للصوم بقية الأحكام من وقع طلاق وعتق معلقين بدخوله، وحلول الآجال لديون مؤجلة به ونحو ذلك كانقضاء عدة وخيار شرط ومدة إيلاء، ولا يقبل في رؤية هلال رمضان خبر مستور ولا مميز لعدم الثقة بخبره، ولا يقبل في بقية الشهور كشوال وغيره إلا رجلان عدلان بلفظة الشهادة، لأن ذلك مما يطلع عليه الرجال غالبًا وليس بمال ولا يقصد به المال فأشبه القصاص، وإنما ترك ذلك في رمضان احتياطًا للعبادة.

ص: 415

الفصل الثاني

اختلاف مطالع القمر

اقتضت الحكمة الإلهية أن يتفرق سكان الأرض على سطحها ليعمروها ويقوموا بخلافة الله فيها، وتبع ذلك بالضرورة اختلاف مواقع البلاد على الكرة الأرضية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، واقتضى نظام سير الكواكب لا سيما الشمس والقمر اختلافًا وتفاوتًا في مواقيت العبادات المقدرة بشروق الشمس وغروبها وزوالها كالصلوات الخمس والمقدرة بثبوت الأهلة كالصوم، فتشرق الشمس على قوم قبل أن تشرق على آخرين بساعة وساعتين وثلاث ساعات وأكثر من ذلك على حسب التباعد بين الجهتين شرقًا وغربًا، فبينما تكون بلاد في وقت المغرب وحلول الإفطار في رمضان تكون أخرى في وقت الشروق أو الزوال أو العصر لأن كل ساعة من ساعات الليل والنهار هي طلوع الفجر وشروق الشمس وهي وقت الضحى والزوال والعصر والغروب وهي وقت ظلمة الليل أوله ووسطه وآخره على حسب مواقع البلاد، ولذلك لا يمكن أن توحد مواقيت الصلاة اليومية، ولا أوقات الإمساك والإفطار في أيام رمضان في جميع الأقطار الإسلامية ما دامت الأوضاع الكونية قاضية بتفاوت تلك المواقيت وما دام هذا التفاوت هو الواقع المشاهد، وكذلك نفس الاختلاف مطالع القمر مما وقع الاتفاق عليه ولا يمكن جحده أو المكابرة فيه، فإن الثابت واقعيًا وعلميًا والمشاهد حسيًا أن الهلال يرى في بعض البلاد بعد غروب الشمس ولا يرى في بعضها إلا في الليلة التالية، ومعنى هذا أن رؤية الهلال أول شهر قد تكون متيسرة لبعض الأقطار دون البعض، فاختلاف مطالع القمر أمر واقعي مشاهد وظاهرة كونية لا جدال فيها، لكن الذي اختلفت فيه أنظار الفقهاء هو أنه: هل لهذا الاختلاف في المطالع تأثير في ثبوت الأهلة والأحكام المتعلقة بها كالصوم والإفطار والحج والأضحية؟ أو أنه لا عبرة باختلاف المطالع؟ فإذا ثبت الهلال في أي بلد إسلامي ثبت في حق جميع المسلمين إذا بلغهم ثبوته بطريق موثوق بصحته لا خلاف لأحد في أن اختلاف مطالع الشمس معتبر شرعًا في الأحكام الشرعية المتعلقة بها، وجرى العمل بمقتضى ذلك من مبدأ الإسلام في أوقات الصلوات الخمس والإمساك والفطور ولكنهم اختلفوا بعد ذلك اختلافًا كثيرًا في اعتبار مطالع القمر وعدم اعتبارها، ولعل ذلك لأن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها، قال تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) ومعلوم أنه ما من حركة تتحركها الشمس إلا وهي فجر عند قوم، وزوال عد قوم وغروب عند قوم وليل عند قوم لذلك أجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، أما الأهلة فقد أناط الشارع الحكم فيها برؤيتها، قال تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته)) والخطاب في الآية والحديث لعامة المسلمين، وليس معنى شهود الشهر رؤية هلاله من كل مكلف فليست رؤية المكلف الهلال شرطًا لوجوب الصوم إجماعًا، ألا ترى أن في الناس من هو أعمى أو ضعيف البصر، ومن لا يتيسر له الرؤية لأي سبب مع أن الوجوب مقرر على الجميع إجماعًا لا يتصور في ذلك خلاف، كما وقع الإجماع على أن التماس الهلال ليس فرض عين، ولو كانت الرؤية شرطًا لوجب على كل أحد أن يرى الهلال، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب كما هو مقرر في الأصول.

ص: 416

وإذا فالمعنى، من أدرك رمضان وعلم بثبوته وهو أهل التكليف وجب عليه الصوم، وأيضًا يكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم:((صوموا لرؤيته)) صوموا إذا رئي الهلال، حيث جاء الخطاب فيه عامًا للمكلفين ولم يذكر فاعل الرؤية مما يدل على أنه يكتفي برؤية البعض وهذا فعله النبي صلى الله عليه وسلم حيث أمر الناس بالصيام لرؤية الأعرابي وكذلك لرؤية ابن عمر.

وكان من موجبات الإجماع على الاكتفاء برؤية البعض ألا يقع خلاف في اعتبار اختلاف مطالع القمر وعدم اعتباره، لكن اتساع الرقعة الإسلامية وبُعْدَ ما بين دولها وعدم التمكن فيما سلف من تبليغ المسلمين في الأقطار المتباعدة بثبوت الهلال، جعل بعض العلماء يفهمون الآية والحديث متأثرين بقوله {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} على اعتبار أن لكل بلد رؤيته هو، لا يكلف برؤية بلد آخر يختلف مطلعه، كما أن لكل بلد شروقه وغروبه وصبحه ومساؤه وظهره وعصره، وسنقص عليك أقوالهم وحجة كل منهم، ونختتم ذلك ببيان الرأي الراجح الذي يستنده الدليل وتدعمه الحجة.

مذهب الحنفية:

ظاهرة مذهب الحنفية كما قال صاحب الدر المختار: إنه لا عبرة باختلاف المطالع فيلزم أهل المشرق برؤية أهل المغرب، وذلك لأن عموم الخطاب في قوله: صوموا معلق بمطلع الرؤية في قوله لرؤيته، وبرؤية قوم يصدق بهم اسم الرؤية فيثبت ما تعلق به عموم الحكم فيعم الوجوب بخلاف الزوال والغروب فإنه لم يثبت على عموم الوجوب بمطلق مسماه في خطاب من الشارع، وعلى هذا الرأي أكثر المشايخ وهو الذي عليه الفتوى، وقيل يعتبر اختلاف المطالع لأن السبب الشهر وانعقاده في حق قوم الرؤية لا يستلزم انعقاده في حق آخرين مع اختلاف المطالع، وهذا هو الذي اختاره الزيلعي حيث قال: والأشبه أن يعتبره؛ لأن كل قوم مخاطبون بما عندهم وانفصال الهلال عن شعاع الشمس يختلف باختلاف الأقطار، كما أن دخول الوقت وخروجه يختلف باختلاف الأقطار، حتى إذا زالت الشمس في المشرق لا يلزم منه أن تزول في المغرب، وكذا طلوع الفجر وغروب الشمس بل كلما تحركت الشمس درجة فتلك طلوع فجر لقوم وطلوع شمس لآخرين وغروب لقوم ونصف لليل لغيرهم، وحاصله قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وسنين فيما بعد أن هذا قياس مع الفارق.

ص: 417

مذهب المالكية:

وكذلك اختلف علماء المالكية في اعتبار اختلاف مطالع القمر وحكوا في ذلك ثلاثة مذاهب:

الأول: أنه لا عبرة باختلاف المطالع مطلقًا قربت البلاد أو بعدت: قال الحطاب في مواهب الجليل: إن الحكم بثبوت رمضان يعم كل من نقل إليه إذا نقل بشهادة عدلين أو باستفاضة، وسواء كان ثبوته عند حاكم عام كالخليفة أو خاص كالأمر والقاضي على المشهور.

الثاني: أنه يعتبر اختلاف المطالع إذا ثبتت الرؤية عند حاكم خاص، فإنه لا يعمل الحكم إلا من في ولايته فقط، قال الحطاب: إذ كانت الشهادة عند حاكم خاص فلا تعم إلا في ولايته، حكى هذا الرأي عن عبد الملك بن الماجشون.

الثالث: يعتبر اختلاف المطالع بالنسبة للبلاد البعيدة جدًا كالأندلس من خراسان، قال الحطاب: تلبيه قال ابن عرفة قال أبو عمر (يعني ابن عبد البر) : أجمعوا على عدم لحوق حكم لرؤية ما بعد، كالأندلس من خراسان وقال ابن الجزي في القوانين الفقهية: ولا يلزم في البلاد البعيدة كالحجاز والأندلس إجماعًا.

ومقتضى ما ذكره خليل في مختصره من أنه يقتصر فيه على ما به الفتوى، وقول الحطاب لأن عدم اعتبار اختلاف المطالع هو المشهور في المذاهب أن هذا القول معتبر وما عداه لا ينهض ولا يقاوم ما هو المشهور من عليه الفتوى، ودعوة ابن عبد البر الإجماع على ما ارتضاه لا تصح، لمعارضتها بشهرة خلافه ولم يعتمد المذهب إجماعات ابن عبد البر واتفاقات ابن رشد.

ص: 418

مذهب الشافعية:

وكما اختلف الحنفية والمالكية في اعتبار اختلاف المطالع وعدم اعتبارها اختلف الشافعية، قال الإمام النووي: المسألة الثالثة إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمها حكم بلد واحد بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران أصحهما لا يجب الصوم على أهل البلاد الأخرى، والثاني: يجيب، والصحيح الأول، فيما يعتبر به البعد والقرب ثلاثة أوجه: أصحها أن التباعد باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان، والتقارب لا يختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين، والثاني: أن الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه فإن اتحد فمتقاربان وإلا فمتباعدان، والثالث: أن التباعد مسافة القصر والتقارب دونها، ثم قال: هذا الذي ذكرته هو المشهور للأصحاب في الطريقين، وانفرد الماوردي والسرخسي بطريقين آخرين، وبعد أن ذكرهما قال: فحصل في المسألة ستة وجوه:

أحدها: يلزم أهل الأرض برؤيته في موضع منها.

الثاني: يلزم أهل إقليم بلد الرؤية دون غيرهم.

الثالث: يلزم كل بلد يوافق بلد الرؤية في المطلع دون غيره، وهذا أصحها.

الرابع: يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم.

الخامس: يلزم من دون مسافة القصر دون غيرهم.

السادس: لا يلزم غير بلد الرؤية.

قال تقي الدين بن السبكي في رسالته العلم المنشور في إثبات الشهور: والقول بأن لكل بلد رؤيته على إطلاقه ضعيف، روى سعيد بن منصور في مصنفه بسند صحيح إلى أبي عمير بن أنس قال: أخبرني عمومة لي من الأنصار من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: غم علينا هلال شوال فأصبحنا صياما فجاء ركب من آخر النهار فشهدوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم أن يفطروا، ثم يخرجوا لعيدهم من الغد، وفي رواية: قدم أعرابيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر رمضان فشهدوا عنده بالله لإهلال الهلال بالأمس عشية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا، واعتبار مسافة القصر في هذا المحل ضعيف، واعتبار كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم جيد، واعتبار الإقليم ضعيف، وألزم جميع البلاد إذا رئي في بلد ضعيف جدًا، لأن عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء الراشدين لم ينقل أنهم كانوا إذا رأوا الهلال يكتبون إلى الآفاق، ولو كان لازمًا لهم لكتبوا إليهم لعنايتهم بأمور الدين لأنا نقطع بأنه قد يرى في بعض البلاد في وقت لا يمكن رؤيته في بلد آخر، كما أنا نقطع بأن الشمس تغرب في مكان قبل أن تغرب في غيره، وأجمع العلماء في أوقات الصلوات على أن المعتبر عند كل قوم فجرهم وزوالهم وغروبهم ولا يلزمهم حكم غيرهم، فكذلك الهلال بالقياس عليه، بأن الله لا يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه مما هو عندهم وسنناقش هذه الحجج الثلاث في نهاية البحث إن شاء الله.

مذهب الحنابلة:

جاء في المغني والشرح الكبير ص 7 جزء ثالث فصل: "وإذا رأى الهلال أهل البلد لزم جميع البلاد الصوم" وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وبعد أن ساق استدلال المخالفين بحديث كريب قال: ولنا قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي لما قال له: آلله أمرك أن تصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: ((نعم)) ، وأجمع المسلمون على وجوب صوم شهر رمضان، وقد ثبت أن هذا اليوم من شهر رمضان بشهادة الثقات، فوجب صومه على جميع المسلمين ولأن شهر رمضان من بين الهلالين، وقد ثبت أن هذا اليوم منه في سائر الأحكام من حلول الدين ووقوع الطلاق والعتاق ووجوب النذر وغير ذلك من الأحكام فيجب صيامه بالنص وبالإجماع، ولأن البينة العادلة شهدت برؤية الهلال، فيجب الصوم كما لو تقاربت البلدان فأما حديث كريب فإنما يدل على أنهم لا يفطرون بقول كريب وحده ونحن نقول به، وإنما محل الخلاف وجوب قضاء اليوم الأول، وليس هذا في الحديث اهـ.

وقد أجاب القاضي عن قول المخالف: "الهلال يجري مجرى طلوع الشمس وغروبها وقد ثبت أن لكل بلد حكم نفسه فيهما فكذا الهلال" بأن تكرر مراعاتها في ككل يوم تلحق به المشقة فتؤدي إلى قضاء العبادات، وهلال رمضان في السنة مرة واحدة فليس كبير مشقة في قضاء يوم، ودليل المسألة من الصوم يقتضي التسوية (يعني به جميع البلاد) .

ص: 419

مذهب الشيعة الإمامية والزيدية:

اختلف فقهاء الشيعة الإمامية وكذلك علماء الزيدية في اعتبار اختلاف المطالع في ثبوت هلال رمضان، فظاهر كلام الحلي أن اختلاف المطالع معتبر فلا يعم ثبوت الشهر برؤية من اختلف مطلع بلد عن بلد الرؤية كما ذكره العاملي في الحبل المتين في أحكام الدين وهو مذهب الهادوية والإمام يحيى من الزيدية، بل لا يعم عنده في الإقليم الواحد والجهة الواحدة إن اختلفت ارتفاعًا وانحدارًا كما في البحر الزخار، وقال الصنعاني في سبل السلام: والأقرب لزوم بلدة الرؤية وما يتصل بها من الجهات التي على سمتها واختار المهدي وجماعة من الزيدية تعميم الحكم والشهادة بالرؤية جميع البلاد وقال الشوكاني: وهو الذي ينبغي اعتماده وذهب إليه جماعة من الإمامية.

وبعد أن استمعنا إلى آراء علماء المسلمين وحججهم ومناقشاتهم لا يسعنا ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع لا لأن هذا هو ما تصبو إليه نفوس كثير من العلماء والمصلحين حتى تتوحد كلمة الأمة الإسلامية، ولا لأن القائلين به هم الكثرة الغالبة وهم الجمهور ولكن لأن سنده من الكتاب والسنة قوي متين وشبه المخالفين مردودة، وذلك لأنها تنحصر في أربعة.

أولها: حديث كريب وقد سمعت رد الحنابلة على من استدل به فلا نعيده.

ثانيها: ما قاله السبكي من أن عمر والخلفاء الراشدين لم يكتبوا إلى الآفاق بثبوت الرؤية لأنهم حريصون على أمر الدين، والرد على السبكي أنهم لن يكتبوا لصعوبة المواصلات في زمنهم فقد لا يتيسر وصول المكتوب إلا بعد انقضاء رمضان، فلم يعم ثبوتها جميع البلاد لتعذر بلوغهم الخبر إذ ذاك، وكلامنا فيما لو أمكن تبليغ جميع البلاد ثبوت الرؤية إثر ثبوتها بحيث تصل إليهم وهم في ليلة الشهر الجديد قبل طلوع الفجر كما هو متيسر الآن بواسطة الإذاعة واللاسلكي.

ص: 420

ثالثها: ما قاله السبكي وغيره من قياس اختلاف مطالع القمر على اختلاف مطالع الشمس وقد سمعت رد القاضي من الحنابلة على هذه الحجة، من أنه إنما اعتبر اختلاف مطالع الشمس لئلا يلزم الحرج وتؤدى العبادات قضاء ولا يلزم من عدم اعتبار اختلاف المطالع القمرية أي حرج، لأنه ليس في السنة إلا رمضان واحد، ولا يلزم من التوحيد في الأزمان السابقة إلا قضاء اليوم الأول الذي لم يروا الهلال فيه ولا حرج في ذلك، أما في أزماننا هذه فلا يلزم شيء أبدًا، لأنه من المتيسر جدًا بعد الاختراعات الحديثة تبليغ ثبوت الرؤية في لمح البصر، وقبل أن يطلع النهار الجديد في أي بلد إسلامي مهما كان نائيًا عن بلد الرؤية. فقد ثبت علميًا أنه ليس بين أي بلدين إسلاميين في مشارق الأرض ومغاربها أكثر من تسع ساعات فلكية، فإذا ثبتت رؤية الهلال في مراكش وهي أقصى بلد في المغرب لإنه من الممكن أن يبلغ ثبوت رؤية الهلال لأقصى بلد في المشرق بعد مرور تسع ساعات من غروب الشمس عندهم أي قبل طلوع الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف، لأن الليل عندهم دائما اثنتا عشرة ساعة، لأنهم على خط الاستواء تقريبا وهذا القدر الباقي من الليل كافٍ لإثبات أنهم في أول ليلة من رمضان وكذلك هو كاف لتبييت النية والسحور بدون حرج ولا مشقة، هكذا قال أهل الذكر والعهدة عليهم، والله يقول:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

رابعها: ما قاله السبكي أيضًا من أن الله لم يخاطب قومًا إلا بما يعرفونه عندهم، والخطب في هذه الحجة سهل، وذلك لأنا نقول بموجبها أننا لم نقل بثبوت الهلال في حق من لم يروه من أهل البلاد النائية عن بلد الرؤية إلا إذا بلغهم خبر تلك الرؤية بطريق موثوق به وما دامت رؤية كل فرد من أفراد المكلفين ليست شرطًا لثبوت الهلال وما يتعلق به من الأحكام في حقه إجماعًا، بل الشرط العلم بها بمعنى غلبة الظن بأي طريق يقيد ذلك، فلا مناص من ترجيح القول بعدم اعتبار اختلاف المطالع، وأنه متى ثبتت الرؤية عند قوم عم ثبوتها جميع أهل الأرض متى نقلت إليهم وعلموا بها بأي طريق من طرق الإعلام ولو أنه تيسر للخلفاء والولاة في صدر الإسلام ما هو متيسر الآن من إذاعة الأخبار في جميع أنحاء المعمورة في أقل من لمح البصر ما ترددوا في إبلاغ ثبوت الأهلة إلى جميع الولايات الإسلامية، ليتوحد مظهرهم الديني ويتفقوا في بدء الصيام والإفطار وسائر أعيادهم ومواسمهم الدينية.

وجملة القول أنه ما دامت مسألة اختلاف المطالع القمرية من حيث اعتبارها أو عدم اعتبارها محل اجتهاد الفقهاء، ذلك الاجتهاد الذي اختلفت فيه أنظارهم فلا يكون بدعًا أن يرجح أحد النظرين على غيره، وينفصل في المسألة بعدم التعويل على اختلاف المطالع لما قدمنا من أسباب الترجيح، وقد علمت أن هذا هو قول جمهور العلماء من أئمة الفقه في المذاهب الأربعة وغيرها، قال ابن عابدين في رسالته تنبيه الغافل والوسنان: وأنه لا عبرة باختلاف المطالع في الأقطار إلا عند الشافعي ذي العلم الزاخر ما لم يحكم به حاكم يراه، فيلزم الجميع العمل بما أمضاه، كما ذكره ابن حجر وارتضاه، وقال: لأنه صار من رمضان بموجب الحكم ومقتضاه. اهـ.

ص: 421

وبما نقلنا عن ابن عابدين من أن الإمام الشافعي يوافق الأئمة الثلاثة فيما إذا ثبتت الرؤية عند حاكم يرى أن لا عبرة لاختلاف المطالع، فأمر به وأبلغه إلى أهل المطالع الأخرى كما حكاه عنه ابن حجر وارتضاه، يتقرر إجماع الأئمة الأربعة على أن اختلاف مطالع القمر لا يعتبر شرعًا إذا نقل حكم الحاكم الشرعي ببدء الشهر ووجوب الصيام والإفطار والحج والأعياد، ومن الخير أن ننقل هنا بعض ما كتب الأستاذ الشيخ محمد أبو العلا البنا، مدرس الفلك بكلية الشريعة بجامعة الأزهر، بصدد بيان أن العلوم الفلكية تؤيد توحيد أول الشهر الشرعي بين الحكومات الإسلامية.

قال: إن جميع الحكومات الإسلامية تقع ما بين شاطئ آسيا الشرقي وشاطئ إفريقيا الغربي أعني من خط 120 شرق جرينتش إلى خط 15 غرب جرينتش مقدار 9 ساعات من24 تتم دورة اليوم بقسميه الليل والنهار حول الأرض من الشرق إلى الغرب.

إذا علمنا ذلك تأكدنا أن بدء الدورة اليومية الإسلامية من هذا الخط يكون طبيعيًا بالنسبة لبدء حكومات الإسلام من جهة الشرق، فتجتمع كلها في يوم واحد دون تفرقة، إذ يبدأ اليوم الأسبوعي والتاريخ للعالم الإسلامي كله من أبعد البلاد الإسلامية شرقًا وهي الفلبين وأندونيسيا والملايو قبل جرينتش بـ 8 ساعات وقبل العراق والباكستان بـ 5 ساعات، وقبل مصر والسودان بـ 6 ساعات، وقبل تونس بـ 7 ساعات، وقبل مراكش التي هي أبعد البلاد الإسلامية غربًا بـ 9 ساعات.

ص: 422

ومعلوم أن تأخير إعلان وجوب الصيام أو الإفطار بقدر هذه الأجزاء من اليوم لا يقدح في مشاركة جميع الحكومات في نفس اليوم والتاريخ بمعنى أنه لو فرض أن الهلال لم يتكامل ليصلح للرؤية إلا في مراكش آخر الحكومات الإسلامية جهة الغرب وفيها رئي وشهدت الشهود وأثبت قاضيها الشهر وأبرقت حكومتها بذلك إلى جميع الحكومات شرقًا وهي الفلبين وأندونيسيا والملايو بعد المغرب فيها بنحو 9 ساعات بمعنى إن إذاعة الرؤية وبثبوت الشهر من مراكش عقب مغربها إنما تسمع في أندونسيا بعد مغربها هي بتسع ساعات أي قبل شروق الشمس فيها بثلاث ساعات، ضرورة أن ليلها دائمًا 12 ساعة، لوجودها على خط الاستواء تقريبًا أي قبل الفجر عندهم بنحو ساعة ونصف ساعة ومعلوم أن هذه المدة كافية لما يلزمهم من سحور وعقد النية على صيام هذا اليوم مع مراكش، وأما غير أندونيسيا من كل حكومة شرق مراكش كالعراق ومصر والجزائر فمن باب أولى.

وأما وحدة هذا اليوم في باقي بلاد الدورة من سطح الأرض كأمريكا فأمرها ظاهر، إذ أنهم وقت هذه الإذاعة من مراكش كانوا في عصر اليوم السابق أو في ظهره أو في شروقه مثلًا، وحينئذ يستقبلون هذا اليوم الجديد من أوله دون تغيير في اسمه أو في تاريخه.

وأما أهل البلاد القطبية التي تنعدم فيها علامات أوقات الصلوات اليومية لدوام النهار أو الليل أكثر من 24 ساعة في بعض السنة، فيدقون بدء الشهر عندهم بزمن مبدئه في العواصم المشهورة على خطوط أطوالهم كخط طول القاهرة مثلًا، فالبلاد القطبية التي عليه تجعل مبدأ الشهر عندها كأهل القاهرة، إما من ساعة المغرب في أقرب البلاد المعتدلة إليهم، وإما من ساعة المغرب لخط الاستواء، أعني رجوعهم إلى أعدل الأيام.

ص: 423

الفصل الثالث

طرق إثبات الشهر بالحساب الفلكي

من المفيد قبل أن ننقل آراء أئمة الفقه الإسلامي في صحة الاعتماد على الحساب الفلكي وبيان الراجح منها، أن نبين أنواع الحساب الفلكي حتى نحرر محل النزاع، ونبين الحساب الذي هو مراد لمن قال بجواز الاعتماد على الحساب، ومما لا شك فيه أن الأشهر القمرية هي أجزاء السنة العربية القمرية التي تنقسم إليها دورة القمر باعتبار انتقالاته في منازله واجتماعه مع الشمس تارة ومفارقته لها تارة أخرى، فباعتبار انتقالاته في منازله تتغير أحواله ويختلف نوره زيادة ونقصًا ويجتمع مع الشمس ويفارقها اثنتي عشرة مرة، ليتكون منها اثنا عشر شهرًا قال تعالى {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ} ويتم انتقال القمر في منازله ويقطع دورته في فلكه اثنتي عشرة مرة في السنة، فإذا اكتمل له اثنتا عشرة دورة اجتمع مع الشمس اثنتي عشرة مرة وتكونت السنة القمرية التي اعتبرها الشارع، وجعلها مدار الآجال الشرعية كتأجيل العنين وسن اليأس للنساء وغير ذلك، كما قال تعالى {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ولما كانت السنة القمرية ثلاثمائة وأربعة وخمسين يومًا وخمس يوم وسدس يوم، وعدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، فقد انقسم الفلكيون في تقدير الشهر إلى ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى:

تجعل الأشهر من الوضع الاجتماعي للشمس والقمر إلى مثله، فإن القمر: يجتمع كما قلنا مع الشمس في كل شهر مرة فإذا فارقها فهو أول الشهر عندهم إلى أن ينتهي إلى مثل تلك الحالة، وقد يكون أثناء النهار، وقد يكون في أثناء الليل والشهر عند هؤلاء دائمًا تسع وعشرون وكسر نتيجة لقسمة عدد أيام السنة على 12، وهذا الطريق ألغاه الإسلام حيث قال الله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} .

ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الشهر هكذا وهكذا وهكذا)) وعقد الإبهام في الثالثة، هكذا وهكذا وهكذا يعني تمام ثلاثين، يعني أن الشهر تارة يكون 29 يومًا وتارة يكون 30 يومًا لا يخرج عن هذين الأمرين ((فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) فاعتبر الرؤية فقط، بدليل قوله في أول هذا الحديث ((إنا أمة لا نكتب ولا نحسب)) فناط الحكم الشرعي بأمر مشاهد يتفق فيه الخاصة والعامة وجعل ما بعد مفارقته الشمس إلى تمام تسع وعشرين إن رئي الهلال، أو إلى تمام ثلاثين إن لم ير من الشهر الأول، وسواء رأيناه ليلة الثلاثين أو أكملنا ثلاثين فأول الشهر غروب الشمس من إحدى ليلتين، قال السبكي: واستفيد ذلك من إشارته صلى الله عليه وسلم وقول الراوي عنه عشرًا وعشرًا وتسعًا، فإنه يقتضي دخول الليالي في حكم الأيام لأن حذف التاء يدخل على اعتبار الليالي وهي الأصل في التاريخ.

ص: 424

الطريقة الثانية:

أن يجبروا كسر اليوم كلما زاد على نصف يوم فيصير المحرم 30 يومًا وصفر 29 وربيع الأول 30 وكذا على التوالي، ويسمى بالسير الوسطي الاصطلاحي، ومن هؤلاء من يبني تقويمه على جداول قديمة ويجعل المحرم وربيع الأول ورجب ورمضان وذا القعدة ثلاثين يومًا باستمرار، ويجعل باقي الأشهر تسعة وعشرين يومًا أبدًا إلا في السنة الكبيسة فيجعل ذا الحجة ثلاثين يومًا قال السبكي: وعلم الحساب يقتضي لأجل الكسر الذي ذكرناه في عدة أيام السنة القمرية وتكميله تارة أن تكون الأشهر الكاملة في السنة ستة والناقصة مثلها، وتارة أن تكون الكاملة سبعة والناقصة خمسة، فلا تكون الناقصة أكثر من ستة ولا الكاملة أكثر من سبعة، هذا أمر مقطوع به في علم الهيئة وليس في الشعر ما يرده، ومن المقرر عند الفلكيين أن الشهر بالوضع الاجتماعي الحقيقي يتقدم الشهر بالوضع الهلالي (من الرؤية إلى الرؤية) بيوم على الأقل وبيومين على الأكثر.

وبعض علماء الفلك يبني تقويمه على حسابات الرصد، ولكنه يضم إلى ساعة الاجتماع ساعات يمكن أن يرى فيها الهلال اختلفوا في تقديرها، قال الشيخ طنطاوي جوهري: كذلك الحاسبون وإن اتفقوا تقريبا في زمن الاجتماع فهم يختلفون في تقدير الساعات التي تمر من حين الاجتماع إلى الرؤية من 4 درجات إلى 12 درجة، وهي التي يقطعها القمر مبتعدًا عن الشمس صوب المشرق في نحو 20 ساعة ونقل الشيخ محمد أبو العلا البنا عن الشيخ محمد بن جابر البناني أن القدماء -يعني اليونانيين قبل الإسلام- ما تكلموا في رؤية الهلال إلا بالقول المطلق، وهو أنه لا يمكن رؤيته لأقل من يوم وليلة، وعلق عليه بقوله: ومعلوم أن سبق القمر للشمس في ساعة يساوي نصف درجة تقريبًا وعليه فقول القدماء أن بين الاجتماع والهلال 24 ساعة أو يومًا وليلة يساوي قول من قال بعدهم 12 ساعة، ثم نقل عن ابن سينا أن القمر لا يرى ألبته حتى يكون بينه وبين الشمس 12 درجة، وما كان دون ذلك لا يرى أو هو تحت شعاع الشمس فلا تلحقه الأبصار.

والخلاصة: أن الوضع الهلالي لا يسبق الوضع الاجتماعي بل إن الوضع الاجتماعي يتقدم على الهلالي بيوم أو بيومين إذ إن القمر بعد مفارقته الوضع الاجتماعي لا بد أن يسبق الشمس بمسافة يتحول فيها نوره إلى جهة الأرض، فيرى حرف منه بعد غروب الشمس وهو الهلال، وهذا السبق يقدر بنحو 12 درجة تقريبًا تحتاج إلى مضي نحو 24 ساعة.

وأما العرب فكان بعضهم يعرفه برؤية الهلال نفسه، أو بمراقبة النجوم دون أن يعرف له أي حساب، وبعضهم كان يعرفه بالحساب الوسطي دون جبر الكسر فيكون الشهر 29 يومًا وكسرًا دائمًا وبعضهم كان يجبر الكسر كما قدمنا، كما كانت هذه المعرفة تقريبية لا تحديدية عندهم جميعًا.

ص: 425

قال ابن السبكي في رسالته العلم المنشور: وقالوا (علماء الفلك والهيئة) إذا كان قوس الرؤية ست درجات وقوس النور تسعًا وقوس المكث تسعًا استحالت الرؤية عادة، وإذا زادت كل واحدة من الثلاثة درجة أمكنت بعسر، وكلما حصلت الزيادة قوي الإمكان، وقال الشيخ طنطاوي جوهري في رسالته (الهلال) وهو بصدد الإجابة عن السؤال الثاني وهو (القمر بعد الاجتماع في كم ساعة يرى هلالًا) :

ولما قابلت الشيخ أحمد موسى الزرقاوي وكلمته في هذا الأمر قال: بعض الفلكيين الذين وقعت كتبهم في أيدينا كابن الشاطر قالوا: لا يمكن أن يرى الهلال إذا مكث بعد غروب الشمس نحو 50 دقيقة ويكون درج الشمس بنحو 12 درجة، قال: ومن المعلوم أن القمر يقطع الدرجة الواحدة في ساعة واحدة و 49 دقيقة، فيكون ابن الشاطر لا يعتمد رؤية الهلال إلا بعد الاجتماع بـ 48 ق 21 س، وخالفه ابن يونس المصري والسلطان ألفي بك السمرقندي والجمهور، فقالوا: إنه يرى بعد مبارحة الشمس بست درجات ومكث الهلال نحو 25 دقيقة ثم قال لي: وعندي أنه متى فارق الشمس به نحو 4 درجات ومكث نحو 16 دقيقة أمكنت الرؤية.

أقول: وقد جاءني من مرصد حلوان أنه تمكن رؤيته بـ 12 درجة فلكية، ولا يقل الزمن عن عشرين ساعة فتكون أقوال علماء الفلك هكذا:

ق س

المرصد الفلكي بحلوان.. 20

ابن الشاطر 49 41

السلطان ألفي بك 54 10

الزرقاوي المصري 16 07

الفلكيون الروسيون 32 14

ص: 426

ثم قال: وقد ظهر أن الاعتبار في هذا مختلف من 4 إلى 12 درجة، والحق أنه يختلف باختلاف البقاع والزمان من صيف وشتاء وربيع وخريف، ولنرجح قول ابن الشاطر والمرصد الفلكي المصري، وقد نحا نحوها القلقشندي لأن صاحب الشرع أمر بالاحتياط في هذا المقام.

وقد أطلنا بذكر اختلاف علماء الفلك والحساب أصحاب التقاويم القديمة والحديثة {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} ويتبين الحق من الباطل، ولتعلم أن الخير فيما ارتضاه الشارع الحكيم: أن الشهر من الرؤية إلى الرؤية، وأن العبرة بالوضع الهلالي لا بالاجتماع الحقيقي الذي يتقدم به الشهر يومًا أو يومين، ولا بالاجتماع الوسطي الذي يجعل الأشهر الأولى 30 يومًا والثانية 29 لأن ذلك حساب تقريبي فقد ثبت بالرصد أنه قد تتوالى أربعة أشهر ثلاثين، وثلاثة أشهر 29 ولا يتوالى أكثر من ذلك بحساب الرصد.

وقال الشيخ أبو العلا في جواب السؤال الآتي: ما نوع الحساب المتبع في النتائج المصرية؟ إن حساب الشهور القمرية العربية المتبع نشرها في نتيجة الحكومة المصرية التي تحررها مصلحة المساحة، وغيرها كنتيجة الحلبي والزغبي والجنايني وغيرهم، مبني على (الوضع الاجتماعي) بمعنى أن يجعل فيه أول الشهر الليلة التي تلي الاجتماع مباشرة، وإن لم يمكث القمر فيها على الأفق بعد غروب الشمس غير دقيقة واحدة، وهذا الحساب الفلكي الاجتماعي كان هو المتبع لمعرفة أوائل الشهور القمرية في الأديان المتقدمة على الإسلام، كما كان معروفًا عند الأولين منهم بطريق تقريبية كطريق الأوساط عند المنجمين منهم، والمنازل عند العرب، وكانوا لا يبالون بأن هذه الطرق التقريبية تقدم الشهر يومًا أو تؤخره عن الاجتماع الحقيقي، وهي وإن أحكمت قواعدها بعد حتى صارت تنتج الاجتماع الحقيقي بالضبط إلا أن هذه الأحكام لم يخرجها عن دائرة النسخ الذي طرأ عليها في الإسلام باعتماد (الوضع الهلالي) بدل (الوضع الاجتماعي) بقوله صلى الله عليه وسلم ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وليس أدل على أن المساحة تلتزم في حسابها لنتيجة الحكومة بدء الشهر بالوضع الاجتماعي من اعترافها نفسها في مبدأ هذه النتيجة بقولها: ويبدأ الشهر العربي من ليلة الاستهلال: وينتهي باستهلال الشهر التالي ويتعين الاستهلال شرعًا برؤية الهلال، ولما كانت رؤيته تتوقف على أمور متغيرة كعرض القمر، وحالة الجو، ودقة الهلال، ومقدار نوره، وغير ذلك، والحساب لا بد من أن يكون مبنيًا على أساس ثابت لذا اعتمد الحاسبون في تعيين أول الشهر على اجتماع الشمس والقمر، فإذا ما وقع الاجتماع كانت أول ليلة يغرب فيها القمر بعد غروب الشمس هي أول الشهر، وما قبلها يكون من الشهر الماضي، وهذا هو المتبع في حساب الشهور العربية في هذه النتيجة، وقد تتفق الرؤية مع الحساب، وقد يتقدم الحساب على الرؤية بيوم في الأكثر وبيومين في الأقل، ولا يمكن أن تتقدم الرؤية على الحساب.

ص: 427

وقد حصر فقهاء الشريعة الإسلامية صفات القمر ليلة الثلاثين من الشهر الهلالي في ثلاث حالات بالاتفاق مع الفلكيين الشرعيين علماء الرصد والهيئة:

أولها: تقطع فيها بوجود القمر فوق الأفق الغربي بعد غروب الشمس عقب الاجتماع مع القطع بامتناع رؤيته، وهنا يرد القاضي شهادة الرؤية، قال السبكي: وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مقارنة القمر للشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها، سواء أكان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده.

ثانيها: يقطع فيها بوجود القمر كذلك مع جواز رؤيته، وهنا يقبل القاضي شهادة الرؤية.

ثالثها: يقطع فيها بوجوده كذلك ورؤيته معًا، بأن يبين الحساب الموثوق به أن الهلال واضح وضَّاء، وهنا محل خلاف العلماء في اعتماد الحساب مناطًا لإثبات الشهر عند الإغمام.

ومما لا شك فيه أن الفلكيين الشرعيين في النهضة العلمية الإسلامية استعملوا قواعد حسابية مبرهنة، لمعرفة كل حالة من هذه الحالات للهلال في أول كل شهر، حتى مقادير نوره ونسبتها إلى البدر، وفتحة قوسه نحو الشمال أو الجنوب أو الأعلى، ومقدار مكثه وارتفاعه عن الأفق، وغير ذلك مما يحدد كل حالة من هذه الحالات الثلاث، ما يصحح الاعتماد على حساب الوضع الهلالي الحقيقي في إثبات كل من الحالات الثلاث بشروط:

الأول: أن يكون من النوع الهندسي التحديدي المبرهن.

الثاني: أن ينتج إحدى حالات الرؤية الثلاثة - الاستحالة والإمكان والوجوب- بحدودها وشروطها.

الثالث: أن يتفق على استخراج هذه النتيجة عدد من الحاسبين يؤمن تواطؤهم على الخطأ بحيث يثق القضاء بها ولو ظنًا، ليتمكن من تطبيق حكمه عليها من رد الشهادة أو قبولها أو اجتهاده بثبوت الشهر.

وبعد أن نقلنا إليك طرفًا من أقوال المنجمين والحسابين وأصحاب التقاويم قديمًا وحديثًا في تحديد أوائل الشهور العربية نسمعك آراء أئمة الفقه في صحة الاعتماد على الحساب الفلكي لنخلص بعد ذلك إلى ما هو أقرب إلى الحق وأشبه بالصواب في هذا الباب.

ص: 428

الفصل الرابع

في بيان آراء العلماء في الاعتماد على الحساب

مذهب الحنفية:

قال الشرنبلالي في مراقي الفلاح: واتفق أصحاب أبي حنيفة إلا النادر على أنه لا اعتماد على قول المنجمين في هذا، وجاء في الفتاوى الهندية: هل يرجع إلى قول أهل الخبرة والعدول ممن يعرف علم النجوم؟ الصحيح أنه لا يقبل ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وقد حكى صاحب القنية في هذا الشأن أقوالًا ثلاثة، فنقل أولًا عن القاضي عبد الجبار وصاحب جمع العلوم أنه لا باس بالاعتماد على قولهم، ونقل ثانيًا عن ابن مقاتل: أنه كان يسألهم ويعتمد على قولهم إذا اتفق عليه جماعة منهم، ونقل ثالثًا عن شرح السرخسي: أنه بعيد.

مذهب الشافعية:

قال الباجوري في حشيته على ابن القاسم الغزي: ولا يجب الصوم بقول المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني، لكن له بل عليه أن يعمل بقوله وكذلك من صدقه، ومثل المنجم الحاسب وهو من يعتمد منازل القمر في تقدير سيره، وقال شمس الدين الرملي: للحاسب أن يعمل بحسابه ويجزيه عن فرضه على المعتمد، وإن وقع في المجموع عدم إجزائه عنه، قال: وقياس قولهم: إن الظن يوجب العلم أنه يجب عليه الصوم وعلى من أخبره وغلب على ظنه صدقه، ولا ينافي هذا ما تقدم من عدم وجوب الصوم بقول المنجم، لأن الكلام فيه بالنسبة للعموم والمنجم في معنى الحاسب، وإنما أناط الشارع وجوب الصوم برؤية الهلال ولم يعتبر قول الحاسب والمنجم للعموم رحمة بالمكلفين وتيسيرًا عليهم؛ لأن رؤية الهلال أمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس، فاقتضت الحكمة الآلهية التخفيف على العبد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال الشهر السابق ثلاثين، وقال العلامة ابن السبكي في بيان معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) إلخ ومعناه والله أعلم أن الشهر تارة يكون ثلاثين، وتارة يكون تسعًا وعشرين، وليس كما يقول أهل الحساب والنجوم، فإنه دائمًا عندهم تسعًا وعشرين وكسرًا، وقوله (إنا) يعني العرب، لأن الغالب عليها ذلك، وأن كان قد يعلم بعضهم الكتابة والحساب، وجعل ذلك علمًا في الشريعة على الشهر ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف الحساب فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا، للتقصير في علمه، ولبعد مقدماته، وربما كن بعضها ظنيًا، فاقتضت الحكمة الإلهية التخفيف علن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين، ليس معنى الحديث النهي عن الكتابة والحساب، ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب في قوله: إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها، أو تمكن رؤيته أو لا تمكن رؤيته والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي وتسمية الشهرية، وأجمع المسلمون فيما أظن على أنه لا حكم لما يقوله الحاسب من مفارقة الشمس إذا كان غير ممكن الرؤية لقربه منها سواء كان ذلك وقت غروب الشمس أم قبله أم بعده، وما اقتضاه إطلاق الماوردي والروياني والرافعي من خلاف في ذلك ليس بصحيح، وإنما اختلفوا فيما إذا بعد عنها بحيث تمكن رؤيته وعلم ذلك بالحساب وكان هناك غيم يحول بيننا وبينه، فذهب ابن سريج والقفال والقاضي أبو الطيب من أصحابنا وجماعة من غير أصحابنا إلى جواز الصوم بذلك لمن عرفه، وبعضهم لمن عرفه ولمن قلده، وبعضهم إلى جواب الصوم بذلك على من عرفه وبعضهم على من عرفه ومن قلده، وذهب الجمهور من أصحابنا وغيرهم إلى أنه لا يعتمد ذلك أصلًا لا في الوجوب ولا في الجواز، ولا في حق نفسه ولا في حق غيره، واستدل الأولون بالقياس على أوقات الصلاة، فإنه يعمل بالحساب فيها لا نعرف في ذلك خلافًا إلا وجهًا أشار إليه صاحب الفروع وأجاب الآخرون بوجهين: أحدهما أن الشارع أناط الحكم في الأوقات بوجودها قال {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} .

ص: 429

وقال صلى الله عليه وسلم: ((وقت الظهر إذا زالت الشمس)) وأناط في الهلال برؤيته فلم يعتبر وجوده في نفس الأمر، والثاني أن مقدمات الهلال أخفى ويكثر الغلط فيها بخلاف الأوقاف، ولا محذور في أن الهلال يعلم بالحساب وجوده وإن كان رؤيته ولا يكلفنا الشرع بحكمه، ولو عمل في الأوقات كذلك كان الحكم كذلك لكنه أناط بوجودها فاتبعنا في كل باب ما قرره الشرع فيه، والمسألة محتملة يحتمل أن يقال: إذا قوي اعتقاد بعده من الشمس وإمكان رؤيته جليًا وهناك غيم يغلب على الظن أنه هو الحائل المانع من الرؤية يقوى هنا جواز الصوم والقول بعدم الجواز في مثل هذه الحالة بعيد، نعم الوجوب يبعد.

فأنا اختار في ذلك قول ابن سريج ومن وافقه في الجواز خاصة لا في الوجوب وشرط اختياري للجواز حيث ينكشف من علم الحساب انكشافًا جليًا مكانه، ولا يحصل ذلك إلا لما هو في الصنعة والعلم.

مذهب المالكية:

المشهور في المذهب أنه لا اعتبار بقول المنجم والحساب لسير الكواكب في ثبوت الهلال في حق نفسه ولا في حق غيره، ولو وقع في القلب صدقه، قال ابن عرفه: لا أعرفه (أي اعتبار قول المنجم) لمالك، وما روي عن مالك أنه يجيز العمل بقول المنجم في الصوم فهو رواية شاذة، وإن ركن إليها بعض البغداديين، بل نقل عن ابن نافع عن مالك في الإمام الذي يعتمد الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع، وحكى سند شارح المدونة الإجماع على ذلك، قال السبكي في رسالته العلم المنشور:"فصل" قال عدد من المالكية: لو كان الإمام يرى الحساب في الهلال فأثبت به لم يتبع الإجماع السلف على خلافه، واعترض السروجي بأنه يمكن أن السلف لم يعلموا به واكتفوا بالرؤية ولم يجمعوا على منع العلم به، وهذا الاعتراض جيد، ومن قال من أصحابنا وغيرهم بجواز الصوم أو وجوبه على من قلد الحاسب كيف يسلم ذلك؟ اهـ كلام ابن السبكي.

وذكر القرافي أن الله لم ينصب خروج الأهلة من شعاع الشمس سببًا للصوم، بل نصب رؤية الهلال خارجًا عن شعاع الشمس هو السبب، فإذا لم تحصل الرؤية لم يحصل السبب الشرعي.

وقال القاضي عبد الوهاب في الإشراف عن مسائل الخلاف: ولا يعتبر بقول المنجمين في دخول وقت الصوم لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن صدق كاهنًا أو منجمًا فقد كفر لما أنزل على محمد)) وأقل ما في هذا التغليظ منع الرجوع إلى قولهم في الشرع.

ص: 430

مذهب الحنابلة:

قال صاحب المغني: وإن من بنى على قول المنجمين وأهل المعرفة بالحساب فوافق الصواب لم يصح صومه، وإن كثرت إصابتهم لأنه ليس بدليل شرعي يجوز البناء عليه ولا العمل به، فكان وجوده كعدمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) وفي رواية: ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) .

مذهب الشيعة:

ذهب ابن طاوس من الإمامية وحكي عن جماعة منهم أن علم الحساب وسير الكواكب من علوم الأنبياء، وأن من علمت إصابته وعدم خطئه أفاد قوله غلبة الظن فيعمل به، وذكر ابن طاووس أن مذهب السيد المرتضى وجماعة من الإمامية العمل بسير النجوم في الشرعيات ولم يعتمده جمهورهم ورموا السيد المرتضى بالتشديد، وأنه هو الذي لم يعمل بخبر الآحاد الصحيح، وأنه ابتلي بشيء من الجدل وهو في ذلك مخالف لشيخه المفيد.

ومن ذلك تعلم مبلغ اختلاف أئمة الفقه الإسلامي سواء في ذلك الأئمة الأربعة وغيرهم في شأن الاعتماد على أقوال الحاسبين من علماء الفلك في تحديد أوائل الشهور، ووجهة كل منهم ومناقشتهم لوجهة نظر المخالفين.

هذا وقد عني المرحوم الشيخ بخيت بنقل كثير من أقوال المختلفين في هذا الموضوع وناقشها وانتهى إلى اختيار القول بالعمل بالحساب الصحيح، وأيده في قوة بيان ونصوع حجة وسطوع برهان، ونسوق لك عبارته بتصرف بعد أن نقدم لك ما علق به قول ابن السبكي:"فاقتضت الحكمة الإلهية والتخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس من الرؤية أو إكمال العدد ثلاثين" قال رحمه الله: وليس الاعتماد على الحساب لبطلانه وعدم صحة مقدماته في الواقع ونفس الأمر وتزييفه وتكذيب قائله، بل لأن الشارع ألغاه في الحكم لما ذكرنا، والإلغاء شيء والإبطال شيء آخر، فإن الشارع ألغى أمورًا في موضع من غير أن يبطلها فقد ألغى إصابة القبلة إذا صلى بلا تحر واجتهاد، واعتبر الخطأ فيها إذا صلى بتحرٍّ واجتهاد عند اشتباهها عليه، وألغى العلم القطعي الذي يحصل للإمام أو القاضي من المشاهدة في إقامة الحدود والقتل، واعتبر الظن الذي يحصل له من شهادة الشهود، فمنعه من إقامتها في الأول وأوجب عليه إقامتها في الثاني، مع أن الأول من قبيل الحسن وهو يفيد العلم القطعي، والثاني من قبيل خبر الآحاد وهو لا يفيد إلا الظن، ثم قال: وقد قدَّمنا لك ما قاله صاحب الهداية في مختارات النوازل من أن علم النجوم في نفسه حسن غير مذموم إذ هو قسمان: حسابي وأنه حق وقد نطق به الكتاب قال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحسبان والاستدلال بسير النجوم وحركة الأفلاك على الحوادث وهو جائز كاستدلال الطبيب بالنبض على الصحة والمرض الخ..

ص: 431

ثم نقل ما قاله القشيري: وإذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم، فإن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بإكمال العد أو الاجتهاد أن اليوم من رمضان وجب عليه الصوم وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه.

قال رحمه الله وأقول: مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يرجعون في كل حادثة إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيها، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان وغير ذلك كثير فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهما من الأشهر على الحساب والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن المتقدمة؟ ألا ترى أن الحاسب إذا قال بناء على حسابه إن الخسوف أو الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف؟ خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها وقد يبلغ المخبرون بوجود الهلال وإمكان رؤيته عدد التواتر فيفيد خبرهم القاطع بوجود الهلال، وإمكان رؤيته لولا المانع، أو لا يبلغ المخبرون عدد التواتر، ولكنهم يكثرون إلى أن يفيد خبرهم غلبة الظن التي تقرب من اليقين فيطمئن القلب إلى صدق الخبر، ويبقى احتمال غيره كالعدم، ومما يؤيد ذلك أيضًا قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وشهود الشهر إما بمعنى الحضور فيه وعدم السفر، وإما بمعنى العلم بوجوده، وهذا الثاني هو الظاهر من الآية فإن الشهود بمعنى العلم هو سبب وجود الصوم، وقوله تعالى {فَلْيَصُمْهُ} جاء مرتبًا عليه بإلغاء خبر لـ (مَنْ) أو وجوبًا للشرط، فيكون الظاهر من الآية أن كل من علم منكم بوجود الشهر المعهود وهو شهر رمضان وجب عليه صومه، ووجود الشهر شرعًا كما هو مقتضى الأحاديث بوجود هلاله بعد غروب الشمس بحيث يرى الناظر، فمن علم بوجود هلال الشهر بعد الغروب بأي طريق من طرق العلم الشاملة لغلبة الظن، سواء كان ذلك العلم برؤيته نفسه، أو بإخبار من يثق به برؤيته، أو بأمر القاضي بذلك وعلمه بأمره، أو بحساب فلكي دل على وجوده وإمكان رؤيته بلا عسر لولا المانع، وجب عليه الصوم فالذي يقتضيه النظر هو ما قاله القشيري كما تقدم من أنه دال الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا المانع كالغيم مثلًا، فهذا يقتضي الوجوب لوجود السبب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية شرطًا في اللزوم.

ص: 432

ثم قال: وتعليق الصوم والإفطار بالرؤية لا ينافي ذلك، لأن المقصود برؤيته ظهوره، حيث يرى كما قال القشيري، وليست حقيقة الرؤية مشروطة في اللزوم كما هو مقتضى الآية المتقدمة، فإن الأعمى والمحبوس ومن في حكمهم مكلفون بالصيام مع عدم تحقق حقيقة الرؤية في حقهم، فلا اعتبار بتعصب عدة من المتأخرين على القائلين بذلك كالسبكي وأمثاله، كما لا اعتبار بقول من قال بوجوب الصوم أو جوازه عند عدم إمكان رؤيته بعد غروب الشمس لأن ذلك مخالف لما اتفقت عليه كلمة المتقدمين من أنه لا يثبت الصوم لمجرد وجوده، إذا لم تتمكن رؤيته أو تعسرت، لاتفاقهم على أن الشارع قد أناط الحكم بالرؤية بعد الغروب، وإنما الخلاف بينهم في أنه تكفي رؤيته لولا المانع بأن دل الحساب على ذلك، أو لابد من رؤيته بالفعل ولم يكن السبكي مخترعًا القول بالاعتماد على الحساب بل ذلك قول فريق من العلماء منهم ابن سريج، ومطرِّف وابن قتيبة وابن مقاتل الرازي وهو من أصحاب محمد بن الحسن، وهو قول بعض كبار التابعين وكفى بأولئك قدوة، ثم قال: وماذا يصنع الذين لا يعتمدون الحساب في البلاد التي يستمر فيها طلوع الشمس وظهوره شهرين أو أكثر إلى ستة أشهر، ويستمر اختفاؤها كذلك؟ فهل يمكن لأهل تلك البلاد أن يصوموا برؤية الهلال بالفعل بعد الغروب، أو يمكن أن يقول أحد منهم أنهم غير مكلفين بالصوم إذا وافق رمضان شهرًا من الأشهر التي تظهر فيها الشمس أو تختفي فيها، مع أن القمر يجتمع مع الشمس كل شهر مرة ويفارقها؟ فإذا فارقها فهو أول الشهر القمري وذلك لا يختلف في جميع جهات الكرة الأرضية، وإنما الاختلاف في مدة ظهور الشمس ومدة اختفائها، ففي بعض الجهات يكون ظهور الشمس شهرين أو ثلاثة إلى أن يكون في بعضها ستة اشهر، تظهر فيها الشمس وتختفي في ستة أشهر، فالأشهر القمرية متحققة في كل جهة، والسنة القمرية كذلك، وبالجملة فالدورة اليومية والشهرية السنوية بجميع أقسامها لا تختلف في جميع أنحاء الكرة الأرضية، فكما أنه في كل دورة يومية تجب الصلوات الخمس وتقدر أوقاتها بالساعات الفلكية بحسب أقرب البلاد المعتدلة إلى أولئك، مع أنه لا زوال، ولا علامة من علامات أوقات الصلاة، فجميع علامات أوقات الصلاة مفقودة في الدورة اليومية في البلاد التي يستمر فيها ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربعة وعشرين ساعة إلى ستة اشهر، كذلك الدورة الشهرية شمسية أو قمرية.

ص: 433

والدورة السنوية شمسية أو قمرية موجودتان في جميع أنحاء الكرة، وقد ثبتت فرضية الصلوات على جميع سكان المعمورة بالكتاب والسنة والإجماع وأصبح ذلك معلومًا من الدين بالضرورة من غير اختصاص بأهل قطر دون قطر، بدون حصرها في أهل عصر دون عصر والآيات والأحاديث ظاهرة في تعلق الصلوات الخمس بأوقاتها وأن لكل صلاة وقتًا محددًا وعلى ذلك انعقد الإجماع، والزمان مقدار متجدد غير ثابت لا يدخل في حقيقته شيء من الألوان من الحمرة والصفرة والبيان والظلمة ولا الطلوع ولا الزوال والعشي والغروب ولا يتوقف على وجودها، وإنما هي أعلام معرفات لمضي الزمان وانقضاء المقدار المعين من الأوقات يتعرف بها حضور الأوقات التي جعلت بحكم الشرع مدارًا لأداء الصلوات ووجوبها قال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} والمعنى والله أعلم أن الأهلة وما ماثلها من العلامات مواقيت للحج وما ماثله من العبادات، وأن هذا هو الذي يلزم المكلف السؤال عنه ومعرفته، لا ما سألوا عنه ولكن لا ينتفي شيء من ذلك بانتفائها، لأنها أعلام ومعرفات فقط، مثلها في ذلك العلامات التي توضع لبيان مقادير المسافات في الطرق، فمقادير المسافات على حالها بقيت تلك العلامات أو زالت، فالصلوات الخمس على هذا المنوال أديرت على أوقاتها ليتمكن العامة والخاصة من العلم بحضور الأوقات المعينة للصلوات ولم يجعل الشارع مدار العلم على الآلات الرصدية والعلوم الحسابية والساعات الفلكية، فإنها وإن كانت معرفة أيضًا لانقضاء الزمان وحضور الأوقات إلا أنها لا تتيسر لكل مكلف في كل موضع، ومما لا شبهة فيه أن الشارع أدار الحكم على تلك الأوقات باعتبار الغالب ولم يرد أن الصلوات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات كما في بلاد القطبين، فتعين حينئذ أن نصير إلى معرف الآخر، لأن الشارع وإن لم يجعل مدار العلم بتلك الأوقات على علم الحساب لم يمنع من الاستدلال به على تلك الأوقات لمن يعرفها، لأنه معرف أيضًا، فعند عدم وجود تلك العلامات نقدرها بالساعات بحسب البلاد المعتدلة القريبة من البلاد التي لا توجد فيها تلك العلامات، وكذلك تكون خطابات الشارع الواردة في الصوم (التي جعلت الرؤية علامة للصيام والإفطار فيه والتي حددت وقت الصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس) مبنية على الغالب، وإلا فهل يمكن لعاقل أن يقول بوجود الصوم من وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس في اليوم الذي تمكث الشمس فيه ظاهرة مقدار شهرين أو ثلاثة أو ستة أشهر، عملًا بقوله {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أو يقول إنه يأكل ويشرب إلى طلوع الفجر إذا اختلفت الشمس شهرًا أو شهرين أو أكثر ووافق ذلك شهر رمضان.

ص: 434

أم يتعين أن يقال: أن مثل هذا الخطاب مبني على الغالب، وكأنه قال: وأما الذين يستمر عندهم ظهور الشمس أو اختفاؤها أكثر من أربع وعشرين ساعة فيقدرون وقت الصوم ووقت الإفطار بالساعات بحسب أقرب الجهات المعتدلة إليهم، وذلك إنما يكون بالحساب بلا شبهة، فإن الشارع بنى أحكامه في بيان أوقات الصلاة والصيام على الغالب ولكن لم يهمل بيان حكم غير الغالب فقد أخرج مسلم في صحيحه من رواية يونس بن سمعان من حديث الدجال وفيه:((قلنا: يا رسول الله، فذلك اليوم الذي كسنة أتكيفنا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له)) وكذلك عدة أحاديث غيره جاءت في هذا المعنى، فهل يمكن أن يقال إن معنى ((اقدروا له)) أتموه وكملوه كله بل يتعين أن يكون المراد: انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات وذلك يختلف باختلاف الناس ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على حضور الأوقات بل يكفي أن يعرف ذلك البعض ومن لم يعرف ممن يعرف، قال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

ألا ترى أن لو كان أهل البلد عميانًا ما عدا أفرادًا قلائل فإن هؤلاء المبصرين يعرفون علامات الأوقات ويخبرون الباقين فكذلك الخواص يعرفون العلامات بالحساب ويخبرون من لا يعرفون ومتى كانوا عدولًا وجب قبول خبرهم، ولاشك أن حديث الدجال، وإن كان مسوقًا لبيان حكم الصلاة في أيامه، ولكن علم أن مدار العبادات على الدورة اليومية والدورة الشهرية والدورة السنوية وبيان حكم الصلاة في أيامه مبين لحكمها فيما يماثل أيامه، والظاهر أن الشارع أشار إلى أن الأيام تختلف في الطول والقصر وأنها لا تتساوى في كل الأقطار بل يكون اليوم في بعضها كأسبوع وبعضها كشهر وبعضها كسنة، وأن حكم العبادات لا يختلف بسبب ذلك الاختلاف، ومما يرشد إلى ذلك اقتصاره في غاية الطول على سنة ولا يكون اليوم في الواقع ونفس الأمر أكثر من ذلك فإن غاية ما يكون ظهور الشمس ستة أشهر واختفاؤها كذلك فلا يتجاوز بنهاره وليله سنة أي دورة كاملة، وقد يتفاوت الليل والنهار طولًا وقصرًا في جهات الكرة الأرضية، ولكن لا يتجاوز هذا المقدار فإن الدورة لا تكون أكثر من سنة، فهذا كله يدل على أن الشارع لم يأمر بالصلاة لدلوك الشمس مثلًا ولا بالصوم لرؤية هلال رمضان، وغير ذلك من الأوقات التي جعلها علامات لأوقات العبادات إلا بناء على الغالب، ولتكون العلامات التي يُتعرف بها أوقات العبادات ظاهرة للخواص والعوام في غلب المعمورة، لا لأن العبادات تسقط إذا لم توجد تلك العلامات؛ لأن سقوطها لا يوجب سقوط نفس الأوقات فلا تسقط العبادات.

ص: 435

ولا لأن الشارع يمنع الاعتماد على العلامة الأخرى التي تدل على تلك الأوقات أيضًا من آلات الرصد والحساب والساعات على أن الفقهاء كثيرًا ما اعتمدوا على الحساب في تقدير السنة القمرية التي قدروا بها مدة التأجيل في العنين وسن اليأس وغير ذلك، فقالوا: إن السنة القمرية المعتبرة في ذلك ثلاثمائة يوم وأربعة وخمسون يومًا وخمس يوم وسدسه، وبعضهم قال 354 يومًا تقريبًا وأن السنة الشمسية تزيد عنه عشر أيام وكسرًا وهذا لا يمكن الوقوف عليه إلا بالحساب وسير الشمس والقمر، فاعرف ذلك فإنك لا تجده في غير هذه العجالة.

ولعلك بعد هذا البيان الواضح لا تجد في صدرك حرجًا من صحة الاعتماد على الحساب الموثوق بصحته والمبني على قواعد هندسية مبرهنة ولا سيما إذا قام به من يؤمن تواطؤهم على الكذب واتفقوا عليه، وأن ذلك الحساب يفيد علمًا لا يفيده خبر واحد يجوز أن يكون مخطئًا أو كاذبًا لحاجة في نفسه، وأن بناء الأمور الدينية على المتيقن الموثوق به خير من بنائها على ما هو دون ذلك بكثير مما يعتريه الوهم والغلط، لا سيما وأن الاعتماد على الحساب المستوفي للشروط التي تنتج صحته والوثوق به يجمع المسلمين على كلمة سواء ويوحد صفوفهم، ويؤلف بين قلوبهم ويجنبهم مغبة التنازع والاختلاف.

ومما تقدم يتبين لنا جليًا أنه لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذم الحساب وتنقيصه ونبذ العمل به كيف وقال الله تعالى {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} وقال {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} ، وقال {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} فأنت ترى أن الله قد حثنا على تعلم الحساب والعمل به، وقد سمعت مقالة صاحب الهداية: أن علم النجوم الحسابي حق موافق لما نطق به الكتاب وقول ابن طاووس: إن علم النجوم من علوم الأنبياء، وأما ما تعلق به البعض من مثل قوله صلى الله عليه وسلم ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فقد كفر بما أنزل على محمد)) فلا يصح الاستناد إليه؛ لأن ذلك المنهي عنه هو التخرصات والتكهنات التي يدعيها بعض محترفي علم النجوم مما يسمونه طوالع ويتكسبون به، ويوهمون به السذج وعباد الخرافات، ويزعمون أن هذا ما دلت عليه النجوم، وهو ما يسمى بعلم النجوم الاستدلالية أي يستدلون بمطالع النجوم على الحوادث المغيبة المستقبلة.

ص: 436

ويقولون: سيموت فلان أو يتولى منصبًا خطيرًا أو ستكون السنة القادمة مجدبة، أو يعم الرخاء فيها، أو تغلو الأسعار أو ترخص مما تفنن فيه أصحاب التقاويم عندنا، وجعلوا ينظمون في ذلك أشعارًا مملوءة بالرموز والأحاجي والألغاز حتى تروج بضاعتهم ولا ينكشف أمرهم، فهذا هو الذي عناه الحديث بلفظ الناس عن التعلق بالأوهام والخرافات ويرتفع بمستواهم عن تصديق هؤلاء فيما اختص بالله به نفسه من علم الغيوب {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} {قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} .

قال الغزالي: علم النجوم إذا أريد به موت فلان وحياة فلان وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة فليس يقينيًا ولا ظنيًا، وقد دحضه الفارابي في كتاب الفصوص، وفرق بين القضايا الحسابية والحوادث الأرضية، وقال: من العجيب أن قال: إن مرور نجم كذا يوجب أن يحصل عنه حوادث لاتفاق اتفق فيجعل قاعدة عامة، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة فإنكار هذا قصور وجهل، ولعل الذي حمل بعض العلماء على عدم التعويل على ما يقوله الحاسبون والمنجمون ما قدمنا من اختلاف طرائقهم مما جعله يرجع هذا الاختلاف إلى أن مقدماتهم ظنية غير يقينية وأنهم يخطئون ويغلطون كثيرًا وهذا ما صرح به كثير منهم في تعليل رده لأقوالهم كما قدمنا.

وهذا إن صح بالنسبة للمنجمين والحاسبين فيكون فيما قبل عصر النهضة في الدولة العباسية أما في هذا العصر وما تلاه من الأعصر التي ظهرت فيها الاكتشافات العلمية الحديثة وأنشئت المراصد المجهزة بأحدث أجهزة الكشف في العواصم الإسلامية وغيرها فقد تقدم علم الفلك وعلم الهيئة تقدمًا ملحوظًا وتمكن العلماء من وضع قوانين هندسية مبرهنة لإنتاج مقادير الحركات الظاهرة للشمس والقمر وسائر الكواكب بالتحديد، مضربين عن القواعد الفلكية الحسابية القديمة لابتنائها على الأوساط التقريبية، قال الشيخ أبو العلاء البناء: إن مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم عند جميع العالم كانت ظنية كلها غير يقينية الإنتاج كما قدمنا ودلت التواريخ ونصوص الفلكيين على ذلك، وهذا بعينه هو الذي حمل السبكي على أن يقول في رسالته العلم المنشور: وجعل الرؤية أو الإكمال علمًا على الشهر في الشريعة ليكون ضبطًا بأمر ظاهر يعرفه كل أحد ولا يغلط فيه، بخلاف (الحساب) فإنه لا يعرفه إلا القليل من الناس ويقع الغلط فيه كثيرًا للتقصير في علمه ولبعد مقدماته وربما كان بعضها ظنيًا فاقتضت الحكمة الإلهية والشريعة الحنفية السمحة التخفيف عن العباد وربط الأحكام بما هو متيسر على الناس منا لرؤية أو إكمال العدد ثلاثين.

ص: 437

وقد أدركت الأمة من قديم أن الشهادة برؤية الهلال كثيرًا ما يعتريها الشكوك وتمازجها الأوهام فهذا أنس بن مالك يرى شعرة بيضاء ساقطة من حاجبيه فظنها الهلال، فلما رفعها إياس بيده قال: لا أنظره، ومن الشهود من يعتمد الكذب ليشتهر أو لإثبات عدالته أو للتقرب إلى الله جهلًا، ومنهم المخطئون لضعف الحاسة أو الوهم أو غير ذلك، فاستحسنوا الأخذ بالأسباب ليتبينوا أما إذا كانت الرؤية ممكنة أو غير ممكنة ليكون ذلك حصنًا يقي من غلط الحس أو تعمد الكذب ومن التنطع بالشهادة تقربًا إلى الله ونغير ذلك ولذا قال السبكي كما تقدم: وليس معنى الحديث ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب)) النهي عن الكتابة والحساب ولا ذمهما وتنقيصهما بل هما فضيلة فينا، وليس في الحديث أيضًا إبطال قول الحاسب إن القمر يجتمع مع الشمس أو يفارقها أو تمكن رؤيته أو لا تمكن والحكم بكذبه في ذلك، وإنما في الحديث عدم إناطة الحكم الشرعي بثبوت الشهر به.

وإذًا فلا مناص لنا بعد الذي تقدم من الاعتماد على الحساب الفلكي إن لم يكن لإثبات الشهر به بادئ ذي بدء فلإثبات أن رؤية الهلال ممكنة أو غير ممكنة فتقبل الشهادة برؤيته ممن يشهد بذلك أن قرر علماء الفلك والحساب أنها ممكنة مع عدم المانع من غيم ونحوه، ولنردد هذه الشهادة أن قرروا أن الهلال يغرب قبل غروب الشمس أو بعدها بقليل بحيث تتعذر رؤيته، ولو بالنظارات المكبرة أو بآلات الرصد في أبعد البلاد نحو الراغب وهي مراكش كما يقولون.

حقًا إن تقدم علم الفلك وبراعة علمائه وحسابهم الدقيق الذي يضبطون به أحوال القمر ومنازله، ويحددون به وقت ميلاده ومقدار ارتفاعه وغاية مكثه فوق الأفق، ويعرفون به بعد ما بينه وبين نقطة مغيب الشمس يمينًا أو شمالًا، مضافًا إلى ذلك ما أتيح لنا في هذا العصر من المخترعات الحديثة التي يسهل بها كشف الهلال في ليلته الأولى ومهما كان صغيرًا ودقيقا كل ذلك مما يساعد على إثبات الأهلة في ضبط ويسر وسهولة.

وإذا كانت الشريعة السمحة لم تكلف الناس إلا بما يطيقون ولم تفرض عليهم في تحري الهلال أكثر من التماسه بالعين المجردة ولم تحتم عليهم أن يتكلفوا البحث عنه بوسائل أخرى رحمة بهم وتخفيفًا عليهم فإن ذلك لا يمنع أن تستخدم تلك الوسائل التي تسهل رؤيته والتثبت منه ما دامت موفورة ميسرة بل إني أذهب إلى أبعد من ذلك فأقول: إنه يجب على الحكومات الإسلامية وجوبًا كفائيًا أيضًا - بمعنى أنه إذا قام به البعض سقط الإثم عن الباقين- أن تلتمس الهلال بعد غروب يوم 29 من كل شهر بحساب الرؤية مستخدمين كل الوسائل التي يسر الله بها أمر الرؤية في هذا الزمان فإنهم إن قاموا بهذا الواجب الديني مسترشدين بآراء الفلكيين السديدة الموثوق بها لا يمكن أن تفوتهم جميعًا رؤية الهلال متى كان نظام دورته يسمح برؤيته، وبهذا يقضى على عوام الاضطراب في إثباته وتتوحد كلمة المسلمين في جميع أنحاء المعمورة بشأن إثبات الشهور العربية وتحديد أوائلها ونهاياتها وتنحل تلك المشكلة المزمنة وتزول أسباب التفرق والاختلاف.

ص: 438

الخاتمة في خلاصة البحث

وبيان أيسر السبل لإثبات الأهلة

تبين من كل ما تقدم في هذا البحث أن الراجح ما يأتي:

أولًا: أن إثبات الشهور في حد ذاته من غير نظر إلى ما يتعلق به من حقوق العباد من باب الإخبار لا من باب الشهادة، وأنه لا يدخل تحت الحكم والقضاء، فلا تلزم فيه شروط الشهادة، ويستوي في المخبر أن يكون ذكرًا أو أنثى حرًا أو عبدًا، ولا يشترط مجلس الحكم ولا تقدم الدعوى، ولا قضاء قاض ولا لفظ: أشهد، ويكفي بأن يكون المخبر مستورًا غير ظاهر الفسق.

ثانيًا: أن الشهور جميعًا سواء في حالة الصحو أو الغيم يكفي في إثباتها خبر الواحد متى غلب على الظن صدقه ولم يكذبه الحساب الموثوق به القاضي باستحالة الرؤية وأنه لا تشترط الاستفاضة ولا العدد الجم إلا عند مظنة الغلط أو الخطأ أو رجحان تهمة الكذب.

ثالثًا: أنه لا عبرة لاختلاف المطالع، فإذا ثبت الشهر في أية حكومة إسلامية ونقل هذا الثبوت إلى سائر البلاد الإسلامية بطريق موثوق به فإنه يعم حكمه الجميع ما داموا مشتركين مع بلد الرؤية في جزء ولو يسير من ليلة الرؤية.

رابعًا: أنه لا يصح التعويل في إثبات الشهور على قواعد الفلكيين القدماء فيما قبل عصر النهضة الإسلامية في العصر العباسي لأنها قواعد تقريبية غير متيقنة ولا منضبطة كما لا يصح التعويل على الجداول الفلكية التي تجعل بعض الشهور ثلاثين يومًا أبدًا وبعضها 29 يومًا أبدًا فقد تبين خطؤها وأنه قد تتوالى أشهر كلها ثلاثون وأشهر كلها تسعة وعشرون.

كما ثبت أن الحساب الفلكي المعمول به الآن في التقاويم الرسمية وغيرها لا يتفق مع الحساب الشرعي الذي يعتمد على القطع بالرؤية أو إمكانها على الأقل، لأن التقاويم الحالية تعتمد في تعيين أوائل الشهور على اجتماع الشمس والقمر فيجعلون أول ليلة يغرب يلفها القمر بعد غروب الشمس هي أول الشهر ولو استحالت الرؤية، ومن المقرر أنه قد يتفق الحسابان وذلك فيما إذا غرب القمر بعد الاجتماع قبل الشمس أو معها يكون أول الشهر الليلة التالية لليلة الواقعة بعد الاجتماع، وقد يتقدم أول الشهر بالحساب الفلكي والاجتماعي على أوله بالحساب الفلكي الشرعي المبني على إمكان رؤية الهلال بيوم في الأكثر أو بيومين في الأقل.

ويلزم على الأخذ بهذه التقاويم تغيير أوقات العبادات عما حدده لها الشارع وبالتالي يلزم إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، فقد حرم الله صوم أيام العيدين وأيام التشريف وأحل الفطر في شعبان كما يلزم عليه أن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع وأن تذبح الأضاحي قبل وقتها.

ص: 439

ويلزم على الأخذ بهذه التقاويم تغيير أوقات العبادات عما حدده لها الشارع وبالتالي يلزم إحلال ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، فقد حرم الله صوم أيام العيدين وأيام التشريق وأحل الفطر في شعبان كما يلزم عليه أن يكون الوقوف بعرفة في غير التاسع وأن تذبح الأضاحي قبل وقتها.

خامسًا: أن الحساب الفلكي الشرعي المبني على الوضع الهلالي وإمكان رؤيته بعد غروب يوم 29 من الشهر السابق بحساب الرؤية يصلح مناطًا مستقلًا لإثبات الشهر، كما اختاره طائفة من العلماء الأثبات ممن ذكرنا كالسبكي وابن سريج وابن مقاتل وغيرهم، ورجحه الشيخ بخيت المطيعي، وأن ذلك لا يتنافى مع أحاديث إثبات الشهور بالرؤية أو الإكمال بناء على أن المراد العلم بالرؤية حقيقتها، بدليل وجوب الصوم على الأعمى والمحبوس في المطمورة وسكان القطبين والبلاد التي في حكمها، وهم محرومون من الرؤية حتمًا ويدل على ذلك أيضًا ما جاء في بعض روايات الحديث من قوله صلى الله عليه وسلم ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) فقد فسر من يرى من العلماء الأخذ بالحساب القطعي قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) بمعنى فانظروه وتدبروا فيه من قولهم: قدرت الأمر نظرت فيه، وتدبرته وذلك بالحساب عند من خصهم الله بهذا العلم، قال السبكي: والبحث في هذا الحديث في موضعين، أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب: معناه احسبوا له، ويكون معناه قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد بن الحسن وطائفة من المتأخرين قالوا: ولا يلزمنا مقال المازري من أن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم لأنه لا يعرفه إلا أفراد قلائل، لأنه إنما يلزم ذلك لو كلف عامة الناس بالحساب، ولم يقل بذلك أحد، بل الذي قلناه: إن قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) بالمعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله ((فأكملوا العدة ثلاثين يومًا)) كما في الرواية الأخرى خطاب للعامة.

ص: 440

فالذين خصهم الله بهذا العلم يكون نظرهم بالطريق المقدور لهم، وهو طريق الحساب ويكون نظر العامة الذين لا يعرفون الحساب أو لا يقلدون من يعرفه بالطريق المتيسر لهم وهو الرؤية أو إكمال العدة، فلا تنافي بين الروايتين بل نحن ننزلهما على حالين مختلفين فنكون عاملين بهما.

سادسًا: يجب وجوبًا كفائيًا كما قلنا أن يكون في كل حكومة إسلامية هيئة شرعية من مهمتها إثبات الشهور العربية بوجوه الإثبات المعتبرة شرعًا مع مراعاة الاتصال بالمراصد والفلكيين العدول الموثوق بهم في دينهم وعلمهم ليتحققوا من جواز الرؤية أو استحالتها حتى لا يقعوا في الخطأ ويثبتوا الشهر قبل موعده كما حصل في بعض السنين من قاضي الرؤية المنفرد بهذا الإثبات وترتب عليه صيام المسلمين يومًا من شعبان وفطرهم يومين من رمضان.

سابعًا: ليتحقق الأمل المنشود وهو توحيد أوائل الشهور العربية في جميع البلاد الإسلامية يجب أن ينبه ناشرو التقاويم الرسمية وغيرها إلى أنه يلزمهم أن يبنوا تحديد أوائل الشهور القمرية على الوضع الهلالي الحقيقي فيكون أول الشهر هو أول ليلة يمكن أن يُرى فيها الهلال بعد الاجتماع وأن يراعوا خط عرض مراكش وهو 15 درجة (غرب جرينتش) لتكون تقاويمهم هلالية شرعية عالمية مساندة ومنظمة لعملية الرؤية في جميع الحكومات الإسلامية، والله الموفق للصواب.

ص: 441