الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي
لفضيلة الشيخ محيي الدين قادي
بسم الله الرحمن الرحيم
الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي (1)
الحمد لله الذي شرح صدورنا للإسلام، وجعلنا من أمة الحاشر الخاتم خير الأنام، سيدنا ومولانا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فبيّن لنا الحدود والأحكام، وفصل لنا الحلال والحرام، وأورث فقهاء أمته التوقيع عن رب العالمين، فكانوا كواكب الهدى وأنوار الدجى وخدموا الشريعة خدمة جليلة فجازاهم الله عنا أحسن الجزاء، وجعلنا وإياهم من الفائزين بالحسنى وزيادة يوم الجزاء.
وبعد، تأملت هذا الموضوع فوجدته يندرج ضمن عديد الموضوعات التي أثارتها على الساحة الإسلامية حركةُ التقدم الحضاري والتقني؛ وذلك لأن هذه القضية حدثت حصيلة تطور وسائل النقل تطورا كبيرا من عائمة من أعماق البحار، إلى طائرة في أجواء الفضاء إلى متجاوزة لذلك كله، ونازحة على سطح القمر حاضرا، وكواكب أخرى مستقبلا، ولا يخفى أن هذا التطور في وسائل النقل أحدث العديد من المشاكل في حياة المسلمين عبادات ومعاملات، وأصبح المسلم في حيرة من أمره يتساءل: هل تجوز الصلاة في الطائرة إذا انحرفت عن القبلة؟ وهل تجوز فيها إذا طارت فوق مكة وأصبحت المعاملة والمعانية متعذرتين؟ ولو طارت الطائرة في أجواء الفضاء بحيث تدور الأرض ولا تدور، هل يقصر ويفطر؟
(1) التزمْتُ المذاهب الأربعة غالبا، وفي بعض الأحيان المذاهب السبعة المتواجدة على الساحة الإسلامية.
لو صلى في مركبة فضائية خارج نظام الجاذبية، فينعدم الوزن انعداما كليا، ويتغير الأمر تغيرا جذريا، ويكون معلقا في الفضاء، وفي حركة عشوائية قسرية لا تمكنه من القيام، ولا من الاتجاه إلى الأرض، فكيف يصلي؟
ولو ركب قمرا صناعيا فدار به في الليل والنهار عشر مرات حول الأرض، وكل دورة لها ليل ونهار، فهل تجب عليه الصلوات الخمس في جميع الدورات؟
ولو سافر بالطائرة إلى الحج، فهل يحرم من الميقات؟ أو قبله؟ أو يؤخر إحرامه إلى أول مكان في البر وهو جدة في حاضرنا الإسلامي؟
كل هذه التساؤلات لا تجد الحلول الفقهية السريعة سرعةَ التقدم الحضاري والتقني بصفة عامة، وسرعةَ التطور الخطير في وسائل النقل بصفة خاصة؛ وذلك أن تكوين الفقهاء المعاصرين محدود، فلم يبق فيهم المجتهد المطلق، ولا مجتهد المذهب، ولا مجتهد الفتوى، وإنما هم مقلدون يفتون الناس بنقل أقوال الأئمة في حادثة ما، أو التخريج عليها، وتنزيل هذه الأقوال منزلة الأدلة لدى الأئمة المجتهدين.
ولرأب هذا الصدق أنشئت المجامع الفقهية لتحقيق الاجتهاد الجماعي العاجل في المشاكل المستحدثة، ولكتابة الموسوعات والمعاجم الفقهية، والمجلات ذات المستوى العالي في البحوث الفقهية وغيرها من الوسائل لتيسير عملية الاجتهاد الفردي بين الفقهاء، وذلك ما اعتبره هذا المجمع العالمي للفقه الإسلامي مهمته وهدفه، ويوم يتحقق ذلك يفرح المسلمون بعودة الازدهار إلى أعظم مأثرة من مآثر حضارتهم وهو:" فقههم ".
ولنكف اليراع عن الاسترسال فيما يجب إنجازه لتيسير عملية الاجتهاد الفردي، فذلك ما يتطلب بدوره بحثا، أو بحوثا، ولنسارع إلى بيان الخطة التي قام عليها هذا البحث فنقول، ومنه - عم نواله - نستمد بلوغ المأمول: اقتضت طبيعة هذا البحث أن يكون مشتملا على خمسة مباحث، رتبتها على النسق التالي:
المبحث الأول: تعريف الإحرام:
ويشتمل على أربع نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الإحرام لغة.
النقطة الثانية: تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية.
النقطة الثالثة: شرح تعريف الإمام ابن عرفة.
النقطة الرابعة: نقد لهذه التعاريف ونتيجة.
المبحث الثاني: حكم الإحرام:
ويشتمل على نقطتين:
النقطة الأولى: ركنية الإحرام.
النقطة الثانية: هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب الإسلامية.
المبحث الثالث: الميقات الزماني للعمرة والحج:
ويشتمل على خمس نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الميقات لغة.
النقطة الثانية: تعريف الميقات الزماني شرعا.
النقطة الثالثة: الميقات الزماني للعمرة.
النقطة الرابعة: الميقات الزماني للحج.
النقطة الخامسة: الإحرام قبل الميقات الزماني.
المبحث الرابع: الميقات المكاني للحج والعمرة:
ويشتمل على تسع نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الميقات المكاني شرعًا.
النقطة الثانية: الميقات المكاني لمن بالحل.
النقطة الثالثة: الميقات المكاني لمن بمكة المكرمة.
النقطة الرابعة: الميقات المكاني للأفقيين.
النقطة الخامسة: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقّت المواقيت.
النقطة السادسة: المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها.
النقطة السابعة: جواز الإحرام قبل المواقيت.
النقطة الثامنة: الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة.
النقطة التاسعة: إحرام من لم يمر بالمواقيت.
المبحث الخامس: الترخيص لركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة:
ويشتمل على ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة.
النقطة الثانية: تيسيرات خاصة بالحج.
النقطة الثالثة: نصوص فقهاء الإسلام تُرخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة.
ملحق: يتضمن عدة فتاوى مصورة لأعلام من الفقهاء المعاصرين شرقا وغربا.
هذا واعتمدت في تحرير مسائل هذا البحث على مصادر ومراجع متعددة، اختلفت درجة استعمالها، واتفقت في كونها معتمدة في باباها، سيجدها القارئ في هوامش البحث، وفي فهرست مصادره ومراجعه – إن شاء الله – ولا أزعم أنني وصلت في موضوع هذا البحث إلى القول الفصل، ولكنني أصّلته، وأرجعت أقوال الفقهاء إلى مداركها، حاولت في المبحث الخامس ربطها بمقاصدها، والتخريج عليها بدون تعسف ولا إكراه لها، راجيا من وراء ذلك أن ينفعني الله بما علمت، وينفع بي، وأن يجعل عملي خالصا لوجهه الكريم وهو حسبي ونعم الوكيل.
المبحث الأول
تعريف الإحرام
ويشتمل على النقاط التالية:
النقطة الأولى: تعريف الإحرام لغة.
النقطة الثانية: تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية.
النقطة الثالثة: شرح تعريفة ابن عرفة.
النقطة الرابعة: نقد لهذه التعاريف ونتيجة.
النقطة الأولى
تعريف الإحرام لغة
الإحرام في لسان العرب: الدخول في حرمة لا تهتك، وإحرام الحاج أو المعتمر الدخول في عمل حرم عليه به ما كان حلالا (1) .
وهو مصدر أحرم الرجل، يحرم، إحراما: إذا أهلّ بالحج، أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما، من خلع المخيط واجتناب الأشياء التي منعه الشرع منها، كالطيب والنكاح والصيد، وغير ذلك.
والأصل فيه المنع، فكأن المحرم ممتنع من هذه الأشياء، ومنه حديث:((الصلاة تحريمها التكبير)) كأن المصلي بالتكبير والدخول في الصلاة، صار ممنوعا من الكلام والأفعال الخارجية عن كلام الصلاة وأفعالها. فقيل للتكبير؛ تحريم؛ لمنعه المصلي من ذلك (2) .
(1) مجد الدين بن يعقوب الفيروزآبادي. القاموس المحيط: 4/95.
(2)
محمد بن مكرم ابن منظور. لسان العرب: 49/122.
والملاحظة وجود تداخل بين المعاني اللغوية وبين المعنى الشرعي لكلمة "إحرام "، وذلك ما يفوت على الباحث معرفة العلاقة بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، وهل هي النقل أو التخصيص أو التعميم؟
ويبدو لي هذا التداخل في قولهم: أحرم الحاج، أو المعتمر: دخل في عمل حرم عليه به ما كان حلالا، ذلك ما قاله مجد الدين في القاموس المحيط، ويزداد هذا التداخل وضوحا عند صاحب اللسان إذ يقول: وهو مصدر أحرم الرجل يحرم إحراما: إذا أهل بالحج أو العمرة، وباشر أسبابهما وشروطهما، من خلع المخيط إلى آخر ما سلف، ويعرب عن هذا التداخل بصورة جلية لا لبس فيها أحمدُ الفيوميُّ في المصباح المنير حين يقول: أحرم الشخص: نوى الدخول في حج أو عمرة (1) .
النقطة الثانية
تعريف الإحرام شرعا في المذاهب الفقهية
لقد تناول فقهاء المذاهب السبعة المنتشرة في بقاع العالم الإسلامي رسم الإحرام شرعا، فرسمه عدد كبير من الفقهاء الأحناف برسوم متقاربة، ومن ذلك ما رسمه به الكمال بن الهمام حيث قال: الإحرام: الدخول في حرمات مخصوصة أي التزامها، غير أنه لا يتحقق شرعا إلا بالنية والذكر (2) .
(1) المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للإمام الرافعي: 1/84.
(2)
فتح القدير: 2/134.
ورسمه من المالكية الإمام ابن عرفة رحمه الله فقال: صفة حكمية، توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء مطلقا، وإلقاء التفث، والطيب، ولبس الذكور المخيط، والصيد لغير ضرورة لا يبطل بما تمنعه " (1) .
ورسمه من الشافعية الرملي فقال: يطلق الإحرام على نية الدخول في النسك (2) .
ورسمه من الحنابلة البهوتي بقوله: نية الدخول في النسك، لا نيته ليحج أو يعتمر (3) .
ورسمه من الزيدية أحمد بن يحيى المرتضى بقوله: الإحرام: نية الحج أو العمرة أو هما معا، عند الميقات (4) .
ورسمه من الإمامية العاملي فقال: الإحرام: هو في الحقيقة عبارة عن النية (5) .
ورسمه من الإباضية محمد بن يوسف أطفيش بقوله: الإحرام هو النية والتلبية، ونصه الحَرْفِيّ هو التالي: " يعقد نية الإحرام بحج، ويقول: لبيك لا شريك لك، لبيك إن الحمد والنعمة والملك لك، لا شريك لك، لبيك بحج تمامه وبلاغه عليك يا الله، ومن لم يلب لم يدخل في حج ولم يصح إحرامه، والتلبية مع نية الإحرام بحج أو بعمرة، أو بهما، قيل: كافيتان عن ذكر حج أو عمرة، أو ذكرهما في التلبية، والأولى الذي هو ذكر أحدهما، أو ذكرهما في التلبية أصح (6) .
ومن هذه الفقرة استخلصت رسم الإحرام شرعا عند الاباضية وهو النية المصاحبة للتلبية. والله أعلم.
(1) الرصاع. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 104.
(2)
نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 3/265.
(3)
كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/406.
(4)
البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 2.
(5)
الرضوة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 1/173.
(6)
كتاب شرح النيل وشفاء العليل: 2/299.
النقطة الثالثة
شرح تعريف الإمام ابن عرفة
لم أشرح الرسوم الستة ليسرها، ولقربها من التعريفات اللغوية، وخصصت تعريف الإمام ابن عرفة بالشرح لغموضه، فلو لم يُشرح لاستعصى فهمه على ذوي الاختصاص فضلا عن غيرهم. ومن قديمٍ عرف أسلافنا من الفقهاء المالكية هذه الميزة لتأليف ابن عرفة بصورة عامة، ولحدوده بصورة خاصة، وإنما أعانهم على فقهها أنهم شيخوها، ولم يتسوروا عليها، ومن حين لآخر، ورغما عن تمشيتهم لشرحها تعترضهم عقبة كأداء، وكان المبرزون منهم يفخرون بفكّ رموزها، وفهم إشاراتها خلفا عن سلف (1) ، وناهيك بحدود يعجز مؤلفها عن فهم واحد منها وهو حد الإجارة في أخريات عمره، وتوقف يومين وهو يتضرع إلى الله في فهمها، وأجاب في اليوم الثاني (2) .
ولم أدع هذا الرسم الذي رسم به الإمام ابن عرفة – رحمه الله – الإحرام لكونه أدق محاولة من المحاولات التي ذكرتها في رسمه، ولكونه على شدة اختصاره وغموضه معينا على تصور إجمالي لحقيقة الإحرام، وإن كنت لا أدعي سلامته من النقد، كما سأبين ذلك في النقطة الموالية.
وبعد هذه الإضاءة فإلى شرح التعريف، وشرحه يقوم على إبراز مراكز الاهتمام فيه وهي:
(1) الرصاع، الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية:3.
(2)
محمد الحجوى. الفكر السامي: 2/400.
1-
قوله: " صفة حُكْمِيَّة ": هذا القيد ذكره في عدة رسوم كالطهارة، والطلاق، والقضاء، وغير ذلك، وهو جنس يشمل ما ذكر وما لم يذكر من كل ما هو معنى تقديري؛ لأن المراد بالصفة الحكمية معنى تقديري يحكم بها الذهن ولا وجود لها في الخارج. وأخرج بقوله " حكمية " الصفة الحسية كالطول والقصر، والسواد والبياض، والصفة العقلية كالعلم والقدرة وغير ذلك.
2-
قوله: " حرمة " قيد يخرج الطهارة، وقد عرفها من قبل بأنها:" صفة حكمية توجب لموصوفها جواز استباحة الصلاة "
…
إلخ.
3-
قوله: " مقدمات الوطء " نبه بحرمة مقدمات الوطء على حرمة الوطء نفسه من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى.
4-
قوله: " مطلقا ": يتأتى تفسير الإطلاق بتفسيرين:
(أ) أن الإطلاق يراد به جميع الحالات التي يكون عليها الحاج أو المعتمر في ليله ونهاره، في سره وإعلانه، سواء كان يمارس منسكا أو يمارس غيره.
(ب) أن الإطلاق يريد به في حالة الضرورة وفي غيرها بخلاف إلقاء التفث والطيب، وهذا أقرب الاحتمالين.
وهذا القيد " مطلقا " له أهمية في الرسم، فلو أسقطه وقال: " صفة حكمية توجب لموصوفها حرمة مقدمات الوطء وإلقاء التفث
…
إلخ، للزم على ذلك صدقه في حالة الطواف مثلا، فصدق في إحرام الحج أنه أوجب حرمة المقدمات، بما وقع بعد ذلك من أجزاء الحج، لا يدل على عموم التحريم فيه، إلا بزيادة قيد الإطلاق.
5-
قوله: " ولبس الذكور المخيط " قيد أخرج به المرأة؛ لأن لبس المخيط لا يحرم في حقها، وفيه إشارة إلى أن إحرام الرجل مغاير لإحرام المرأة.
6-
قوله: " والصيد " معطوف على المضاف إليه " الوطء " والمراد به في هذا الرسم: الاصطياد لا ملك الصيد؛ وذلك لأن الذي ملك صيدا في الحل ثم يُحرم، ولم يكن حامله، لا يسقط ملكه عنه.
7-
قوله " لغير ضرورة " قيد راجع للأربعة المذكورة قبل ذلك، وهي: إلقاء التفث، والتطيب، ولبس الذكور المخيط، ولا صيد؛ لأنها تكون ممنوعة اختيارا كما نص على ذلك.
8-
قوله " لا يبطل بما يمنعه " أراد بهذه الفقرة بيان العرف بين ممنوعات إحرام الحج والعمرة، وبين إحرام غير الحج والعمرة كالصلاة والصوم والاعتكاف، فإن ممنوعات الإحرام بالحج أو العمرة إذا ارتكبها الحاج أو المعتمر لا تبطل الحج وإن كان الممنوع مما يفسد الحج كالوطء، وإن ممنوعات غير الحج كالصلاة والصوم والاعتكاف إذا ارتكبها المصلي أو الصائم أو المعتكف فإنها تبطل عليه صلاته أو صومه أو اعتكافه.
النقطة الرابعة
نقد التعاريف السالفة، ونتيجة
إن تعريف الإحرام أُشْكٍلَ على الفقهاء قديما وحديثا، والرسوم التي ذكرتها آنفا لفقهاء المذاهب لم تسلم من الاعتراض والنقد، فالتعريف الأول وهو تعريف ابن الهمام يتسنى نقده من وجوه ثلاثة:
(أ) أن يكون ابن الهمام – رحمه الله – أراد بـ " الدخول " في التعريف المذكور مطلق فعل الحاج أو المعتمر، وعلى هذا التفسير يلزم نفي الإحرام عن المحصر؛ لأنه غير متمكن من فعل النسكين، ويلزم عنه أيضًا أن النائم والمغمى عليه لا إحرام لهما.
(ب) أن يكون ابن الهمام أراد بالدخول حقيقته، وهي انشاؤه، يلزم على هذا الشرح أن يكون بعد إنشاء الدخول غير محرم؛ لأن الإحرام عنده إنشاء الدخول، وإذا دخل في أحد النسكين: الحج أو العمرة، أو هما معا، فلا يمكن وجود الإحرام حقيقة بعد ذلك.
وتلزم من ذلك لازمة خطيرة، وهو أن يكون غير محرم بدخوله هذا.
(ج) الذي يقع به الدخول في الإحرام النيةُ والتلبيةُ، أو ما يقوم مقام التلبية من الذكر، وتقليد البدنة مع السوق (1) ، والواجب من هذه النية وحدها، وما ليس بواجب لا يكون جزءا من واجب، والإحرام جزء.
وأما تعاريف الرملي الشافعي، والبهوتي الحنبلي، والمرتضى الزيدي، والعاملي الإمامي، فمعترضة من جهة أنها عرفت الإحرام بأنه النية، والنية شرط في الحج، فهي خارجة عن الماهية، والإحرام ركن فهو داخل في الماهية، وعندية الميقات عند المرتضى كذلك.
وأما تعريف أطفيش الإباضي فينقد من وجهين:
(1) ابن عابدين. رد المحتار على الدر المختار: 2/147.
1-
أن النية التي جعلها الإحرام هي شرط، والشرط خارج عن الماهية والإحرام ركن، والركن داخل في الماهية.
2-
أن التلبية التي جعلها جزءا من حقيقة الإحرام ليست ركنا، وما ليس بركن لا يكون جزءا من ركن (1) .
وقد علل الإمام ابن عرفة – رحمه الله – وقوع الغلط في تعريف الإحرام لدى كثير من الفقهاء فقال: " إن سبب وقوع الغلط من عدم تحقق الشعور بمميز ماهية الإحرام ومعرفة حقيقته عن الذي ينعقد به الإحرام وبوجوده، فالنية ينعقد بها الإحرام، وكذلك التوجه، وذلك كله سبب في حصول الإحرام، والسبب غير المسبب قطعا، كما نقول: الصلاة لها إحرام، وتكبير إحرام، فالتكبير مع النية سبب في حصول الإحرام والإحرام مسبب (2) .
بيد أن ابن عرفة الذي بين سبب وقوع الغلط لدى الفقهاء في تعريف الإحرام لم يسلم ترعيفه السالف من اعتراض، وذلك لأن ابن عرفة عرض لما ينشأ عن الإحرام من الآثار حين قال:" صفة حكمية توجب لموصوفها " إلخ.. ،لم يعرف ماهية الإحرام.
إذن تعريف الإحرام لم يفارقه الإشكال، ولم يخل تعريف عن اعتراض، والذي يظهر لي والله أعلم: أن أول ما يفعله قاصد الحج والعمرة إذا أراد الدخول فيهما أن يحرم بذلك، وقبل ذلك فهو قاصد الحج أو العمرة ولم يدخل فيهما، بمنزلة الذي يخرج إلى صلاة الجمعة، فله أجر السعي ولا يدخل في الصلاة حتى يحرم بها، فإذا وصل مريد النسك إلى الميقات أحرم (3) .
(1) أردت بالواجب والركن في هذا النقد شيئًا واحدا.
(2)
الرصاع. الهداية الكافية الشافية لبيان حقائق الإمام ابن عرفة الوافية: 104.
(3)
ابن تيمية: الفتاوى: 26/99.
المبحث الثاني
حكم الإحرام
ويشتمل على نقطتين:
النقطة الأولى: ركنية الإحرام.
النقطة الثانية: هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب.
النقطة الأولى
ركنية الإحرام
قديما قيل: الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، وعملا بهذه القاعدة الأساسية لا بد لنا من معرفة الركن لغة واصطلاحا؛ حتى يتضح في أذهاننا المراد بركنية الإحرام.
والركن لغة: الجانب الأقوى (1)، واصطلاحا: ركن الشيء ما به يتم، وهو داخل فيه (2) .
وبعد معرفة معنى الركن لغة واصطلاحا نقول: إن ركنية الإحرام ثابتة من الثوابت في المذهب المالكي والشافعي والحنبلي والزيدي والإمامي والإباضي، والنصوص في ذلك قواطع: قال خليل بن إسحاق المالكي: " وركنهما الإحرام (3) " يعني الحج والعمرة. وقال شيخ الإسلام زكريا الأنصاري الشافعي في منهجه: " أركان الحج: إحرام "(4)
…
إلخ، وكذلك عدّ البهوتي الحنبلي أركانَ الحج أربعة، وذكر منها الإحرام (5) ، وعده المرتضى الزيدي ركنا وفرضا.
(1) مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي. القاموس المحيط: 4/231.
(2)
علي بن محمد الجرجاني. التعريفات: 51.
(3)
المختصر: 69.
(4)
المنهج بشرحه عليه: 2/488.
(5)
كشاف القناع عن متن الاقناع: 2/521.
جاء في البحر الزخار له: " أركان الحج هي: الإحرام، والوقوف، وطواف الزيارة، وفروضه الأركان وطواف القدوم " فعده ركنا وفرضا (1) ، وعده العاملي الإمامي الركنَ الأعظم لاستمراره ومصاحبته لأكثر الأفعال، وكثرةِ أحكامه (2) ، وعده أبو زكريا الجناوتي الإباضي ركنا من أركان الحج (3) .
وأما في المذهب النعماني فالإحرام كما يقول محمد علاء الدين الحصكفي في كتابه: " الدر المختار شرح تنوير الأبصار ": شرطٌ ابتداءً، وله حكمُ الركنِ انتهاءً.
وعلّل ركنيته انتهاءً بأن الذي فاته الحج لا يجوز له استدامة الإحرام ليقضي به من قابل (4) .
وتعقبه محشيه خاتمة المحققين في المذهب الحنفي ابن عابدين فقال: " قوله: وهو شرط ابتداء " حتى صح تقديمه على أشهر الحج وإن كُره، و " قوله: حتى لم يجز
…
إلخ " تفريع على شبهه بالركن، يعني أن فائت الحج لا يجوز له استدامة الإحرام، بل عليه التحلل بعمرة والقضاء من قابل، ويتفرع عليه أيضًا من أنه لو أحرم ثم ارتد – والعياذ بالله تعالى – بطل إحرامه، وإلا بالردة لا تبطل الشرط الحقيقي كالطهارة للصلاة، وكذا اشتراط النية فيه، والشرط المحض لا يحتاج إلى نية، وكذا ما مر من عدم سقوط الفرض عن صبي بلغ ما لم يجدده (5) .
(1) البحر: 2/294.
(2)
الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية: 1/173.
(3)
كتاب الوضع: 1/206.
(4)
الحصكفي: 2/147.
(5)
رد المحتار على الدر المختار: 2/147.
والذي يظهر من كلام ابن عابدين – رحمه الله – غلبةُ شبهةِ الركنية على الإحرام من الشرطية؛ لأنه عدّدَ وجوهَ الشبه في الركنية، واقتصر على وجه شبه واحد بالشرط.
النقطة الثانية
هل ركنية الإحرام قدر متفق عليه بين المذاهب؟
يبدو لنا الإجماع من خلال المذاهب السبعة المذكورة آنفا على ركنية الإحرام للنسك، ولو انتهاء كما هو الشأن في المذهب النعماني، أو إضافة الفرضية إلى الركنية، كما هو الحال في المذهب الزيدي، أو الركنية فقط كما هو الأمر في باقي المذاهب السبعة، مع وصفه بالركن الأعظم عند العاملي من الإمامية.
فما المراد بالركن في باب الحج؟
الركن في باب الحج هو الذي لو لم يفعل بطل الحج، ولا يجبر بالدم.
المبحث الثالث
الميقات الزماني للحج والعمرة
ويشتمل على نقاط خمسة:
النقطة الأولى: تعريف الميقات لغة.
النقطة الثانية: تعريف الميقات الزماني شرعا.
النقطة الثالثة: الميقات الزماني للعمرة.
النقطة الربعة: الميقات الزماني للحج.
النقطة الخامسة: الإحرام قبله.
النقطة الأولى والثانية
تعريف الميقات لغة وشرعا
الميقات: الوقت المضروب للفعل، قال تعالى:: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] قال الزجاج: جعل لها وقت واحد للفعل في القضاء بين الأمة. وقال الفرّاء: جمعت لوقتها يوم القيامة. وقال تعالى {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] أي موقتا مقدرا.
وقد يكون " وَقّت " بمعنى أوجب عليهم الإحرام في الحج والصلاة عند دخول وقتها (1) .
إذن كلمة ميقات تحمل بين طياتها: التحديد الموحد للزمن، كما جاء في تفسير الزجاج للآية الكريمة {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] ، والتحديد الموحد للمقدار الممارس من الفعل في ذلك الزمن كما تنطق بذلك الآية الكريمة:{إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] .
هذا والملاحظ أن هنالك تداخلا بين المعنى اللغوي وبين المعنى الشرعي، كما جاء في الفقرة الأخيرة:" وَقّتَ " بمعنى أوجب عليهم الإحرام في الحج والصلاة عند دخول وقتها.
وهذا الأمر خطير، وواجب المختصين في شؤون المعجم العربي أن يُصَفُّوا المعجم من هذا الأمر ومن غيره، مما لا علاقة له بالمعاني اللغوية حقيقة ومجازا.
ووجه خطورته أن مصادر التشريع من قرآن وسنة وآثار هي بلسان عربي مبين، فإذا أراد الفقيه أن يفسر آية أو يشرح حديثا ليستخلص فقها ولم يجد معاني لغوية محضة وقع في الخلط وسوء الفهم.
وأما تعريف الميقات الزماني شرعا هو أزمنة معينة لعبادة مخصوصة.
(1) ابن منظور. لسان العرب: 7/107 – 108 بتصرف.
النقطة الثالثة
الميقات الزماني للعمرة
الميقات الزماني للعمرة: العام كله، فجميعه وقت للإحرام بها، غير أن أبا حنيفة – رحمه الله – يقول: تجوز في كل السنة، إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق فمكروهة كراهة تحريم، قال محمد التمرتاشي في تنوير اللأبصار:" وكرهت يوم عرفة، وأربعة بعدها " وقال شارحه محمد الحصكفي: أي كرهت تحريما (1) ، ويزاد على الأيام خمسة كراهة فعلها في أشهر الحج لأهل مكة ومن بمعناهم، أي من المقيمين، ومن في داخل الميقات؛ لأن الغالب عليهم أن يحجوا في سنتهم فيكونوا مقيمين وهم عن التمتع ممنوعون، وإلا فلا يمنع المكي عن العمرة المفردة في أشهر الحج إذا لم يحج في تلك السنة (2) .
وكره مالك – رحمه الله لمن أحرم بالحج مفردا أن يحرم بعمرة بعد ذلك، من لدن يحرم بالحج حتى يفرغ من حجه ويحل، كما كان يكره الإحرام بالعمرة بعد الطواف بمكة أول ما دخل، أو بعد الخروج إلى منى، أو في وقوفه بعرفة، أو في أيام التشريق.
لكن هل كان مالك يأمر من أحرم بالعمرة في هذه الأيام المذكورة برفضها؟ قال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك أنه أمر برفضها.
(1) تنوير الأبصار بشرح الدر المختار: 2/151 – 152.
(2)
ابن عابدين. رد المحتار على الدر المختار: 2/152.
بقي: هل تلزمه؟ قال ابن القاسم: لا أحفظ عن مالك أنه قال: تلزمه، وأرى أنه قد أساء فيما صنع حين أحرم بالعمرة بعد إحرامه بالحج قبل أن يفرغ من حجه، ولا أرى العمرة تلزمه، وقد بلغني ذلك عن مالك (1) .
وإذا قلنا: لا تلزمه كما يرى ابن القاسم، فهل عليه عمرة مكان هذه التي أحرم بها في أيام الحج بعد فراغه بهذه التي لا يرى ابن القاسم لزومها له؟ ليس عليه شيء فيما يرى ابن القاسم (2)، وقوله: قد أساء فيما صنع، ينطق بالحرمة.
النقطة الرابعة
الميقات الزماني للحج
الميقات الزماني للحج الخُلْفُ يجري فيه على أربعة أقوال (3) .
1-
ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة وذو الحجة كله، وبهذا القول قال ابن مسعود، وابن عمر، وعروة بن الزبير، وعطاء، والربيع، ومجاهد، والزهري. ورواه ابن المنذر عن مالك – رضي الله عنهم جميعا (4) ، وهو المشهور عن مالك.
(1) اجتهاد ابن القاسم موافق لما بلغه عن مالك رحمه الله لكنه لم يحفظه عنه.
(2)
سحنون. المدونة: 1/370.
(3)
ميقات الحج الذي فيه الخلف أعلاه هو ميقات من ليس بمكة.
(4)
يراجع في ذلك: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي: 2/405، والتحرير والتنوير لسماحة الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور تغمده الله برحمته: 2/232.
2-
ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة والعشر الأوائل من ذي الحجة، وبه قال ابن عباس، وابن مسعود في رواية عنه، والسدي، والشعبي، والنخعي، وأبو حنيفة، ورواه ابن حبيب عن مالك، رضي الله عنهم جميعا (1) .
3-
ميقات الحج الزماني: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة. وبه قال من الصحابة ابن مسعود، وجابر بن عبد الله، وعبد الله بن الزبير، ومن التابعين الحسن البصري، وابن سيرين، والشعبي وهو قول الشافعي والثوري وأبي ثور، رضي الله عنهم جميعًا (2) .
4-
ميقات الحج الزماني: شوال وذو القعدة وثلاثة عشر يوما من ذي الحجة، وهو قول لمالك – رحمه الله – ذكره ابن العربي ولم ينسبه كما ذكره ابن الحاجب في جامع الأمهات ولم يعزه أيضًا (3) .
واستدل أصحاب القول الأول بأن الله تبارك وتعالى ذكر أشهر الحج بصيغة الجمع، وأقل الجمع المطلق ثلاثة، هذا أولاً، وثانيا: أن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك (4) .
(1) يراجع في ذلك المصدران السابقان، كل في جزئه وصفحته.
(2)
الخازن: لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.
(3)
يراجع في ذلك: أحكام القرآن لابن العربي: 1/131، والتحرير والتنوير للأستاذ محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله: 2/232.
(4)
الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.
واستدل أصحاب القول الثاني بأن طواف الإفاضة، وهو الطواف الركن يفعل في اليوم العاشر (1) .
واستدل أصحاب القول الثالث بصحة الوقوف بعرفة وهو الحج كله، وأنه يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها، فدل ذلك على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج (2) .
وأما أصحاب القول الرابع والأخير فقد احتجوا بأن الرمي من أفعال الحج وشعائره وهو يمارس في أيام التشريق (3) .
وثمرة الخلاف بين أئمة الفقه الإسلامي من لدن عصر الصحابة والتابعين إلى عصر نشأة المذاهب ما أشار إليه ابن رشد الحفيد بقوله: تأخر طواف الإفاضة إلى آخر الشهر، يقبل على القول الأول ولا يقبل على الأقوال الثلاثة الأخرى (4) . ويزيد ابن العربي المسألة بيانا فيقول: فائدة من جعله ذا الحجة كله، أنه إذا أخر طواف الإفاضة إلى آخره لم يكن عليه دم؛ لأنه جاء به في أيام الحج (5) .
هذا وما قرر في الميقات الزمني للحج على اختلاف مناحي الاجتهاد فيه إنما هو في غير من بمكة المشرفة.
(1) ابن العربي. أحكام القرآن: 1/132.
(2)
الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.
(3)
ابن العربي. المصدر السابق والجزء والصفحة.
(4)
ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/315.
(5)
ابن العربي. المصدر السابق والجزء والصفحة.
وأما أهل مكة – زادها الله شرفا – ومن بها من غيرهم، إذا كانوا بها فإهلالهم بالحج يكون عند رؤية هلال ذي الحجة، جاء في الموطأ عن عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – أنه قال:" يا أهل مكة، ما شأن الناس يأتون شعثا وأنتم مدهنون، أهلوا إذا رأيتم الهلال ". وجاء فيها أيضًا إن عبد الله بن الزبير أقام بمكة تسع سنين وهو يهل بالحج لهلال ذي الحجة، وعروة بن الزبير معه يفعل ذلك (1) .
وإهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم بالحج لرؤية هلال ذي الحجة لم يوافق عليه عبد الله بن عمر أباه، بل كان يهل بالحج يوم التروية.
وعلل الباجي فعل ابن عمر بعلتين:
(أ) أنه لم يرَ النبي صلى الله عليه وسلم يُهل حتى تنبعث به راحلته.
(ب) أن من دأب المحرم عدم الإقامة بموضع ينشئ فيه إحرامه، وإنما يحرم ويلبي عند أخذه في التوجه إليه حيث يقتضي إحرامه التوجه إليه، فكره أن يحرم بمكة، ثم يقيم بها بعد إحرامه ثمانية أيام (2) .
وبكل من القولين قال جماعة من السلف والأئمة، وهما روايتان عن مالك رحمه الله، بقول عمر جاءت رواية المدونة، وبقول عبد الله بن عمر جاءت الرواية عن مالك أيضًا (3) ، والخلاف في الأفضل، والكل جائز بالإجماع، جاء في المدونة: قلت (سحنون) لابن القاسم: أهل مكة في التلبية كغيرهم من الناس في قول مالك؟ قال: نعم. قال: وقال مالك: أحب إلي أن يحرم أهل مكة إذا أهل هلال ذي الحجة (4) .
(1) مالك. الموطأ. كتاب الحج، إهلال أهل مكة ومن بها من غيرهم: 2/258.
(2)
المنتقى: 2/219.
(3)
الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/258.
(4)
سحنون. المدونة: 1/369.
النقطة الخامسة
الإحرام قبل الميقات الزماني
الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وهي شوال وذو القعدة وذو الحجة جرى فيه الخلف بين الفقهاء على أقوال:
1-
ينعقد إحرامه إحرام عمرة، وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد والشافعي.
2-
يكره إحرامه وينعقد ويصح، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، رضوان الله عليهم جميعًا.
3-
لا يصح إحرامه، ذكره ابن رشد في بداية المجتهد ولم ينسبه (1) .
واستدل أصحاب القول الأول بأن من التزم عبادة وقت نظيرتها انقلبت إلى النظير، مثل أن يصوم نذرا في رمضان هذا أولا، وثانيا: الله جل جلاله جعل هذه الأشهر الثلاثة وقتا للإحرام بالحج وقال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] أي الحج حج أشهر معلومات فلو انعقد في غيرها لم يكن لهذا التخصيص وجه ولا فائدة، وثالثًا: الحج كالصلاة، وهذه لا تقع في غير وقتها فكذلك الحج.
واستدل أصحاب القول الثاني بعموم قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقالوا: متى أحرم انعقد إحرامه؛ لأنه مأمور بالإتمام، وربما شبهوا الحج في هذا المعنى بالعمرة، وشبهوا ميقات الحج الزماني بميقات العمرة، وتأولوا الآية:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] كالتالي: أشهر الحج أشهر معلومات، هذا أولاً، وثانيًا: احتجوا بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] وقالوا: المولى تبارك وتعالى جعل الأهلة كلها ظرفا للحج، فصح أن يحرم في جميعها.
(1) البداية: 1/315.
وأما أصحاب القول الثالث فلم يذكر ابن رشد لهم دليلاً فيما يبدو لي على حدة، ويصلح لهم الثالث من أدلة أصحاب القول الأول على ما يظهر من كلام ابن رشد في بدايته (1) .
والقول الأول والذي به يقول الإمام الشافعي يبدو أنه أصح الأقوال الثلاثة؛ وذلك لأن ما تمسك به أصحاب القول الثاني لم يثبت ثبوت أدلة الشافعي والتي سقنا البعض منها. وبيان ذلك أن أصحاب القول الثاني تمسكوا بعموم قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وليس بالتمسك القوي؛ لاحتمال أن الأمر:" أتموا " يراد به تحصيل الفعل من أول الأمر، وذلك من سنن العرب في كلامهم، كقولهم:" وسع فم الركية " أي أوجدها كذلك من أول الأمر، وكقولك: أسرع السير فادع لها فلانا، تخاطب به من لم يشرع في السير بعد، وإنما تأمره بإحداث سير سريع من بادئ الأمر، وكقول القرآن جريا على هذا الأسلوب:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150]، وهو ضرب من ضروب التعبير ليس بكناية ولا مجاز (2) فمدلول الآية: أوجدوهما من أول الأمر تامين.
وكذلك رُدَّ على أصحاب القول الثاني ما تمسكوا به من الاحتجاج بأية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] ، وبأن المراد منها جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وقالوا لهم: إن هذه الآية عامة، وآية {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] خاصة، والخاص مقدم على العام، وقيل أيضًا: إن آية: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189] مجملة، والثانية وهي آية:{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] مفسرة ومبينة لها، وهو بيان مؤخر عن المبين، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة (3) .
(1) ابن رشد: 1/315.
(2)
الأستاذ الإمام محمد طاهر ابن عاشور رحمه الله. التحرير والتنوير: 2/217 في غير السياق الذي استثمرنا كلامه فيه.
(3)
الخازن. لباب التأويل في معاني التنزيل: 1/126.
المبحث الرابع
الميقات المكاني للحج والعمرة
ويشتمل على تسع نقاط:
النقطة الأولى: تعريف الميقات المكاني شرعًا.
النقطة الثانية: الميقات المكاني لمن بالحل.
النقطة الثالثة: الميقات المكاني لمن بمكة المكرمة.
النقطة الرابعة: الميقات المكاني للأفقيين.
النقطة الخامسة: الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقت المواقيت.
النقطة السادسة: المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها.
النقطة السابعة: جواز الإحرام قبل المواقيت.
النقطة الثامنة: الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة.
النقطة التاسعة: الإحرام لمن لم يمر بالمواقيت.
النقطة الأولى
تعريف الميقات المكاني شرعا
لم أعرف الميقات المكاني لغة للمجانسة الموجودة بينه وبين التعريف اللغوي للميقات الزماني.
وأما تعريفه شرعا فحين طلبته في كتب الفقه لم أظفر به في صورته الجامعة المانعة، وإنما وجدت تعريفات لا تزيد على ذكر خاصة من خواص الميقات المكاني تقربه إلى الأذهان، كقول سليمان الجمل الشافعي:"مكان العبادة "(1)، وكقول البهوتي الحنبلي:" موضع معين لعبادة مخصوصة "(2) فحاولت تعريفه في صورته المطردة المنعكسة فقلت: الميقات المكاني: الموضع المعين من لدن صاحب الشرع، والذي لا يجوز تأخير التلبس بالإحرام عنه لمريد النسك اتفاقا، ولغيره عند الجمهور، لغير ضرورة بهما، ولا حرج.
النقطة الثانية
الميقات المكاني لمن بالحل
إن الميقات المكاني يختلف باختلاف الحجاج والعمار فإنهم أنماط ثلاثة:
1-
حليون.
2-
مكيون، أو حرميون بعبارة أشمل.
(1) حاشية على شرح المنهج لزكريا الأنصاري: 2/395.
(2)
كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/399.
3-
آفاقيون (1)
والحليون: هم الذين يقطنون بعد المواقيت، ودون الحرم.
والمذهب النعماني في إحرام الحليين لا يفرق بين من سكن عند الميقات وبين من سكن وراءه في المنصوص من الرواية، كما صرح بذلك الكمال بن الهمام في الفتح، أو ابن نجيم في البحر وغيرهما من فقهاء الحنفية.
والحليون هؤلاء لا يخلو حالهم من أمرين:
(أ) أن يدخلوا مكة المشرفة بنية النسك.
(ب) أن يدخلوا مكة المشرفة بغير نية ذلك، ولحاجة.
(1) نسبة إلى الجمع آفَاق، وهي خطأ مشهور بين الفقهاء، والصواب أُفُقي وأُفُقيون بضمتين أو أَفَقي وأَفَقيون بفتحتين على غير قياس تخفيفا، قال الفيومي في مصباحه: والنسبة إلى آفاق أُفُقي ردا على الواحد وربما قيل: أَفَقي بفتحتين تخفيفا على غير قياس حكاهما ابن السكيت وغيره. ولا ينسب إلى الآفاق على لفظها: 1/12. وقد أشار ابن مالك إلى هذه القاعدة في الخلاصة (الرجز) : والواحد اذكر ناصبا للجمع إن لم يشابه واحد في الوضع
وفي الصورة الأولى يجب عليهم الإحرام قبل دخول الحرم بميقاتهم الحل كل الحل إلى الحرم.
ومما يجب التيقظ إليه – كما قال القطبي في منسكه -: ما يفعله أهل جدة (1) ، وحدة (2) ، وأهل الأودية الغربية من مكة المشرفة، فإنهم غالبا ما يقدمون مكة – زادها الله شرفا – سادس أو سابع ذي الحجة بلا إحرام، ويحرمون للحج من مكة، فعليهم دم لمجاوزة الميقات بلا إحرام، لكن بعد توجههم إلى عرفة ينبغي سقوطه عنهم بوصولهم إلى أول الحل ملبين، إلا أن يقال: إن هذا لا يعد رجوعا إلى الميقات لعدم قصدهم العودة لجبر ما لزمهم بالمجاوزة، بل قصدوا التوجه إلى عرفة. وقال القاضي محمد عيد في شرح نسكه: والظاهر السقوط؛ لأن الرجوع إلى الميقات مع مصاحبة التلبية له، مسقط للهدي الذي ترتب على مجاوزة الميقات بغير إحرام، ولو لم يكن هنالك قصد لحصول المقصود وهو التعظيم (3) .
وفي الصورة الثانية يجوز له دخولها بغير إحرام لنفي الحرج كحطابي مكة إذا دخلوا للحل ولم يتجاوزوا المواقيت الموقتة للأفقيين (4) .
(1) جُدّة: بضم الجيم وتشديد الدال المهملة: بلدة على ساحل البحر بينها وبين مكة مرحلتان. (النووي. تهذيب الأسماء واللغات: 2/202) .
(2)
حدة: بالفتح: موضع بين مكة وجدة، وكانت تسمى حداء (الفيروز آبادي. القاموس المحيط: 1/297) .
(3)
ابن عابدين. رد المحتار: 2/155.
(4)
محمد علاء الدين الحصكفي. الدر المختار: 2/155.
بقي لابد من ملاحظة، وهي أن من وجد بين ميقاتين كمن كان منزله بين ذي الحليفة والجحفة، فإنه بالنظر إلى الجحفة خارج الميقات ولا يحل له دخول الحرم إلا بإحرام، وبالنظر إلى ذي الحليفة داخل الميقات (1) فيجوز له ذلك.
وأما في مذهب مالك فالحليون لا يخلو حالهم من أمور أربعة هي:
1-
حلي منزله عند الميقات أو داخله.
2-
حلي بين ميقاتين كأهل بدر بين ذي الحليفة وبين الجحفة.
3-
حلي بين الميقات وبين مكة كأهل جدة وحدة.
4-
حلي سافر إلى ما قبل المواقيت.
وفي الصورة الأولى مكان إحرامه منزله، فإن كان منزله قريبا من الميقات ندب له الذهاب إليه، والإحرام منه.
وفي الصورة الثانية مكان إحرامه داره أيضًا.
وفي الصورة الثالثة مكان إحرامهم مساكنهم ويخيرون بين بيوتهم وبين مساجدهم.
وفي الصورة الرابعة يخير بين التأخير إلى منزله، وبين الإحرام من الميقات، وإحرامه من الميقات أفضل.
(1) ابن عابدين، المصدر السابق والصفحة والجزء
وفي الصور الأربعة المذكورة إن تجاوزوا المنازل بغير إحرام فعليهم الهدي، كمن تجاوز من الآفاقيين ميقاته بدون إحرام (1) .
وأما على مذهب الشافعي فالحليون مكان إحرامهم منازلهم إن أرادوا النسك، قال سليمان الجمل: وهذا مقيد بما إذا لم يكن بينه وبين مكة ميقات آخر كأهل بدر والصفراء، فإنهم بعد ذي الحليفة وقبل الجحفة، وميقاتهم الثاني وهو الجحفة (2) .
وأما على مذهب الإمام أحمد بن حنبل فالأمر يختلف عن مذهب الإمام الشافعي، لولا ذلك القيد الذي ذكره سليمان الجمل، قال البهوتي: ومن منزله بين الميقات ومكة كأهل خليص وعسفان، ميقاته من موضعه.
واحتج لذلك بحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي وَقّتَ لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، فهن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلن ممن كان يريد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمن أهله، حتى أهل مكة يهلون (3) منها (4) .
(1) يراجع في ذلك الشرح الصغير لأحمد الدردير: 1/266؛ وأسهل المدارك: 1/452- 453 لأبي بكر بن حسن الكشناوي
(2)
حاشية على شرح المنهج: 2/404.
(3)
كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/401.
(4)
البخاري الجامع الصحيح كتاب الحج باب مهل من كان دون المواقيت: 3/388 مع فتح الباري.
النقطة الثانية
الميقات المكاني لمن بمكة المشرفة:
قبل الكلام عن الميقات المكاني لمن بمكة المشرفة حدا بي أن أُمهد بتمهيد يتضمن المسألتين التاليتين:
1-
أن مكة حرم، وما أحاط بها قريبا حرمٌ أيضًا، والحرم قد ضرب على حدوده بالمنار القديمة التي أظهر خليل الله إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم مشاعرها. ومن لدن عهد إبراهيم عليه السلام وحدود الحرم متعارفة، وقريش سكان الحرم المبارك يعلمون أن ما دون المنار إلى مكة – زادها الله شرفا – من الحرم، وما وراء المنار ليس من الحرم (1) قال ابن عابدين: إن على الحرم علامات منصوبة في جميع جوانبه نصبها إبراهيم الخليل عليه السلام وكان جبريل يريه مواضعها، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتجديدها، ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية (2) وقال مالك في المدونة: وسأل عمر في أعلام الحرم واتبع رعاةً قدماء مشيخة من مكة كانوا يرعون في الجاهلية، حتى تتبع أنصاب الحرم مجددة، فهو الذي حد أنصاب الحرم ونصبه (3) .
(1) ابن منظور لسان العرب: 49/122.
(2)
رد المحتار على الدر المختار: 2/156.
(3)
المدونة: 1/352.
وحدود الحرم على مقتضى ضبط خليل بن إسحاق المالكي في مختصره هي:
1-
من جهة طيبة الغراء أربعة أميال أو خمسة للتنعيم.
2-
من جهة العراق ثمانية أميال للمقطع.
3-
من جهة عرفة تسعة أميال.
4-
من جهة جدة عشر أميال لآخر الحديبية.
وكما ضبطها – رضي الله عنه – بالمسح، ضبطها بالعلامة وهي وقوف سيول الحل كلها دونه (1)، ولله در شمس الدين بن حزم إذا يقول (البسيط) :
إِنْ رُمْتَ لِلْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مَعْرِفَةً
فَاسْمَعْ وَكُنْ وَاعِيًا قَوْلِي وَمَا أَصِفُ
وَاعْلَمْ بَأَنْ سُيُولَ الْحِلَّ قَاطِبَةً
إِذَا جَرَتْ نَحْوَهُ فَدُونَهُ تَقِفُ
(2)
.
والضبط بالعلامة أغلبي. قال عبد الباقي الزرقاني: فلا ينافي قول الأزرقي: يدخله من جهة التنعيم، ولا قول الفاكهاني من جهات أخر (3) .
(1) المختصر: 78.
(2)
أبو عبد الله سيدي محمد الطالب بن حمدون بن الحاج حاشيته على صغير ميارة: 2/98.
(3)
شرحه على مختصر خليل: 2/310.
1-
أن من يسكنون في الحرم، وليسوا من أهل مكة كأهل منى ومزدلفة حكمهم حكم أهل مكة، ومن أقام بها إقامة تقطع السفر أو لا.
وبعد هذا التمهيد نقول: إن أهل مكة ومن حكمهم لا يخلو حالهم من أمرين:
(أ) أن يكونوا بالحج محرمين.
(ب) أن يكونوا بالعمرة محرمين.
فإن كانوا محرمين بالحج ففي المذهب النعماني الحرم كله مكان للإحرام من أي مكان شاؤوا أحرموا، من الأبطح أو من غيره، والمسجد أفضل؛ لأن الإحرام عبادة، والعبادة في المسجد أولى كالصلاة.
ولو خالف الحرمي فأحرم من الحل لزمه دم، إلا إذا عاد إلى الحرم ملبيا وأحرم منه.
وأما إن كانوا محرمين بالعمرة ومهلهم الحل ليقع الجمع بين الحل والحرم، كما وقع بالحج عند الوقوف بعرفة، وعرفة في الحل، وأي مكان في الحل وقع الإحرام منه كفى، والتنعيم أفضل، وهو أقرب موضع من الحل، ويعرف بمسجد عائشة رضي الله عنها وهو في المذهب الحنفي الإحرام منه أفضل من الإحرام من الجعرانة؛ لأمره عليه الصلاة والسلام عبدَ الرحمن بأن يذهب بأخته أم المؤمنين عائشة إلى التنعيم لتحرم منه.
ولا يرد على الأحناف إحرامه صلوات الله وسلامه عليه من الجعرانة؛ لأن هذه سنة فعلية، وتلك سنة قولية، والسنة القولية مقدمة على الفعلية في الاستدلال بما عندهم، خلافا للشافعي رضي الله عنه (1) .
وأما على مذهب مالك رحمه الله فالمحرمون بالحج لا يخلو حال أحوالهم من أمرين:
(أ) الإفراد.
(ب) القِران.
فإن أحرموا بالحج مفردا أحرموا من أي مكان في الحرم وندب لهم الإحرام بالمسجد الحرام في مواضع صلاتهم وهم جلوس، وليس عليهم القيام من مصلاهم، ولا أن يتقدموا جهة البيت، ثم يلبون بعد ذلك، بل يشرعون في التلبية من مواضع صلاتهم.
هذا وندب لأفقيٍّ الخروج إلى ميقاته الموقّت له إذا توفر شرطان:
1-
أن يكون في الوقت سعة بحيث يتأتى الذهاب إلى الميقات، والرجوع منع، وأدراك الوقوف بعرفة هنيهة قبل طلوع الفجر.
2-
أن يتحقق من الأمن في الطريق ذهابا وإيابا.
(1) ابن عابدين رد المحتار: 2/155.
قال الصاوي: ومع عدم الأمن لا يندب له، بل ربما كان رجوعه حراما (1) .
وأما إن أحرموا قارنين بين الحج وبين العمرة، فمكان إحرامه الحل على المشهور من المذهب خلافا لعبد الملك؛ وذلك لأن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحرم والحل، فلو أحرم بالقران من مكة لم يجمع في إحرامه بين الحل والحرم بالنسبة إلى العمرة؛ لأن خروجه إلى عرفة – وهو حل- إنما هو للحج فقط، بخلاف إحرامه بالحج من مكة فإنه يخرج إلى عرفة وهو في الحل، فيقع الجمع بين الحل والحرم الذي هو شرط في كل إحرام.
ولا يطلب في القران مكان معين من الحل.
هذا هو حكم المحرمين إفرادا وقرانا في مذهب مالك رحمه الله.
وأما المحرمون بالعمرة في مذهبه فمكان إحرامه الحل أيضًا، جاء في الموطأ: وسئل مالك عن رجل من أهل مكة، هل يهل من جوف الكعبة بعمرة؟ قال: بل يخرج إلى الحل (2) ، والعلة ما سلف من الجمع في كل إحرام بين الحرم وبين الحل.
(1) بلغة السالك: 1/266.
(2)
الموطأ مع شرح الزرقاني: 2/259.
ويندب للمعتمرين الإحرام من الجعرانة، ففي الموطأ عن مالك أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل من الجعرانة بعمرة (1) .
والمذهب الشافعي الميقات المكاني للحج فيه لمن بمكة نفس مكة، مكيا كان أو أفقيا، والميقات المكاني للعمرة الحل ولو بأقل من خطوة ليقع الجمع بين الحل والحرم، كما في الحج، فإن فيه الجمع بين الحرم والحل بعرفة.
وأفضل بقاع الحل الجعرانة، ثم التنعيم، ثم الحديبية (2) .
وأما المذهب الحنبلي فالإحرام بالحج لمن بمكة نفس مكة، ولو كان متمتعا لقول جابر:((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما أحللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى فأهللنا من الأبطح)) (3) وذكر البهوتي في كشاف القناع من متن الإقناع مازجا كلامه بكلام صاحب المتن، ونصه في رواية حرب: من المسجد، وفي الإيضاح والمبهج: من تحت الميزاب ويسمى الحطيم، ويجوز إحرامه من سائر الحرم ومن الحل كالعمرة.
وأما الإحرام بالعمرة فمن الحل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عبد الرحمن أن يعمر عائشة من التنعيم؛ ولأن أفعال العمرة كلها في الحرم، فيلزم الحل للقاعدة القائلة: أن كل إحرام لابد فيه من الجمع بين الحرم والحل بخلاف الحج، فإنه يخرج إلى عرفة وهو من الحل، فيحصل الجمع بين الحل وبين الحرم (4) .
(1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 2/241.
(2)
إبراهيم البيجورى حاشيته على شرح ابن قاسم الغزى على متن أبي شجاع: 11/387- 388.
(3)
ابن تيمية الجد، منتقى الأخبار مع نيل الأوطار، كتاب المناسك، باب النهي عن التحلل بعد السعي إلا للمتمتع إذا لم يسق هديا وبيان متى يوجه المتمع إلى منى ومتى يحرم بالحج: 5/129.
(4)
البهوتي: 2/401.
النقطة الرابعة
الميقات المكاني للأفقيين
تعدد الميقات المكاني للأفقيين بتعدد الأصقاع المحيطة بالحرم، وعدد المواقيت المكانية للأفقيين خمسة:
1-
ذو الحليفة، وهي ميقات أهل المدينة – زادها الله شرفا – تبعد على المدينة بستة أميال، قال العلامة ابن عابدين: وقيل: سبعة، وقيل أربعة، قال العلامة القطبي في منسكه: والمحرر من ذلك ما قاله السيد السنهوري في تاريخه: قد اختبرت ذلك، فكان من عتبة باب المسجد النبوي الشريف المعروف بباب السلام إلى عتبة مسجد الشجرة بذي الحليفة تسعة عشر ألف ذراع ونصف ذراع، بذراع اليد.
وذلك دون خمسة أميال، فإن الميل عندنا (في عصر ابن عابدين) أربعة آلاف ذراع بذراع الحديد المستعمل الآن، والله أعلم.
وتبعد على مكة بعشر مراحل أو تسع (1) .
وهذا الخلاف في التحديد بالمسح يثير إشكالا خطيرًا في بادئ الأمر؛ لأن من بالمدينة لا يخلو حاله أما أن يحرم قبل الميقات أو يتجاوز الميقات غير محرم، لكن العلامة ابن تيمية يُرجع ذلك إلى تعدد الطرق واختلافها قُربا وبعدًا من مكة المكرمة (2) .
وأنا أقول: وهو الشأن بالنسبة إلى المدينة المنورة (3) .
وهي أبعد المواقيت وتقع شمال مكة، وفي الجنوب الغربي للمدينة، وحكمة ذلك أن يعظم أجور أهلها.
(1) رد المحتار على الدر المختار: 2/152.
(2)
الفتاوى: 26/99.
(3)
وقد ضبط الشيخ أحمد الشرباصى بُعد ذي الحليفة على المدينة بالكيلو متر، فقال: تبعد بنحو 18 كيلو متر (يسألونك في الدين والحياة: 1/174 – دار الجيل بيروت) .
ولهذا الميقات خصوصية على غيره من المواقيت؛ لأن المحرم منه يحرم من حرم المدينة، ويحل في حرم مكة، فله شرف الانتهاء والابتداء أيضًا هو ميقاته صلى الله عليه وسلم (1) ، ومن أجل ذلك إن مر من أهل الشام وأهل مصر ومن وراءهم بذى الحليفة، فأحب أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة، فذلك واسع، ولكن الأفضل له أن يهل من ميقات النبي عليه السلام إذا مر به (2) ولو كان المار حائضا أو نفساء تَرجوانِ رفعَ الدم عند الوصول إلى الجحفة، فالأفضل أن تحرما منه، ولو من غير صلاة للإحرام لأن ركوعها للإحرام لا يفى بفضل تقديم إحرامها من الميقات الباقي الشريف (3) .
وما ذكرته هو المقرر في مذهب مالك رحمه الله وبه قال الحنفية وأبو ثور وابن المنذر من الشافعية، ومن هنا يتبين خلاف الصواب فيما حكاه الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم فقال شارحا قوله صلى الله عليه وسلم:((ولمن أتى عليهن)) معناه أن الشامى إذا مر بميقات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له ميقات الشام الذي هو الجحفة وكذا الباقي من المواقيت، وهذا لا خلاف فيه (4) .
(1) أحمد بن غنيم النفراوي: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني: 2/62.
(2)
سحنون. المدونة: 1/377.
(3)
الحطاب. مواهب الجليل: 3/37.
(4)
النووي: 5/201 بهامش إرشاد الساري، وكذلك نفي الخلاف في شرح المهذب.
وقد حاول الحافظ ابن حجر العسقلاني تصويب ما حكاه الإمام النووي من الاتفاق بأنه أراد اتفاق الشافعية (1) ولكن هذه المحاولة لا تثبت فيما يبدو لوجود ابن المنذر مخالفا للشافعية وهو من أجل فقهائهم.
هذا ومكان الإحرام من ذي الحليفة المندوب إليه، المرغب فيه من مسجد الشجرة؛ لما جاء في الموطأ عن سالم بن عبد الله: أنه سمع أباه يقول: " بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها، ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد. يعني مسجد ذي الحليفة (2) .
2-
الجحفة: وهي قرية كبيرة كانت عامرة، وقد زالت معالمها واندرست، تقع في الشمال الغربي لمكة المكرمة على بعد سبعة وثمانين ومائة كيلو متر منها على ساحل البحر الأحمر الشرقى. وهي ميقات أهل الشام، كما في حديث الموطأ الآتى فيما بعد، وزاد النسائي من حديث عائشة: ومصر، وزاد الشافعي في روايته: والمغرب (3) وأهلها يحرمون الآن من رابغ احتياطا، وهي شمال الجحفة، فالمحرم منها كالمحرم من الجحفة على ما اختاره المنوفي، واقتصر عليه ابن فرحون في مناسكه.
(1) فتح الباري: 3/386.
(2)
مالك. الموطأ. كتاب المناسك، العمل في الإهلال: 2/244.
(3)
محمد الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/239.
وحجة هذا الاختيار إجماع الناس على الإحرام منه.
وذهب عبد الله بن الحاج صاحب المدخل إلى القول بأنها قبل الميقات فيكره الإحرام منها، إذ هي تبعد على مكة بأربع ومائتى كيلو متر، وأشار خليل في مختصره إلى تردد شيخيه فقال:" وفي رابغ تردد "(1) ، (2) .
3-
قرن المنازل (3) : وهو ميقات أهل نجد (4) ، وهو جبل شرقي مكة يشرف على عرفات، بينه وبين مكة مرحلتان أي أربع وتسعون كيلو متر، وهو أقرب المواقيت إليها.
(1) أبو عبد الله محمد الطالب بن حمدون بن الحاج. حاشيته على صغير ميارة: 2/76.
(2)
خليل. المختصر: 69.
(3)
ضبطه الجوهرى في صحاحه بفتح القاف والراء، قال: والقرن موضع، وهو ميقات أهل نجد، ومنه أويس القرني: 6/2181. وضبطه النووي بفتح القاف وإسكان الراء وقال: " لا خلاف في هذا بين رواه الحديث، وأهل اللغة، والفقهاء، وأصحاب الأخبار، وغيرهم، وغلطوا الجوهرى صاحب الصحاح في قوله: أنه يفتح الراء وفي قوله: أن أويس القرني رضي الله عنه منسوب إليه، فإن الصواب المشهور لكل أحد أن هذا ساكن الراء، وأن أويسا رضي الله تعالى عنه منسوب إلى فوق بفتح القاف بطن من قبيلة مراد المعروفة. تهذيب الأسماء واللغات: 2/100.
(4)
نجد: اسم لعشرة مواضع، والمراد هنا منها أعلى تهامة واليمن وأسفلها الشام والعراق (محمد الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/239.
4-
يلملم (1) : جبل تهامة، على مرحلتين من مكة – شرفها الله تعالى – وهو ميقات أهل اليمن، وضبط المسافة بينه وبين مكة بالكيلو متر أربع وتسعون كيلو متر.
5-
ذات عرق (2) : وهي الحد بين أهل نجد وتهامة، ومنها يحرم أهل العراق، على مرحلتين من مكة المكرمة أي ما يساوي أربعًا وتسعين كيلو متر، وتقع في الشمال الشرقي لمكة المكرمة.
6-
العقيق (3) : وهو الميقات المستحب عند بعض الأئمة من أهل السنة لأهل العراق ومن يمر عليه من غيرهم، والمتعين في حق من ذكر عند الإمامية، يقول أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسى:" فوقت لأهل العراق ومن حج على طريقهم العقيق، وله ثلاثة أوقات: أولها المسلح (4) وهو أفضلها، ولا ينبغي أن يؤخر الإنسان الإحرام منه إلا عند الضرورة، وأوسطه غمرة (5) ، وآخره ذات عرق، ولا يجعل إحرامه من ذات عرق إلا عند الضرورة والتقية، ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على حال "(6) .
وهو واد يجري ماؤه من غوري تهامة، وأوسطه بحذاء ذات عرق، ويبعد عن مكة بمائة كيلو متر على التقريب.
(1) يلملم: بفتح الياء واللامين وإسكان الميم بينهما، ويقال: الملم قال الفيومي: ولا يكون من لفظ لملمت لأن ذوات الأربعة لا تلحقها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها مثل دحرج فهو مدحرج. المصباح: 1/14.
(2)
ذات عرق. بكسر العين وإسكان الراء النووى. تهذيب الأسماء واللغات: 1/114.
(3)
العقيق: الوادى الذي شقه السيل قديما وهو في بلاد العرب عدة مواضع، منها العقيق الذي يجري ماؤه من غوري تهامة. وأوسطه بحذاء ذات عرق الفيومى. المصباح المنير: 2/44.
(4)
المسلح: منزل على أربع منازل من مكة (ابن منظور. لسان العرب: 10/488. وفي تحرير الوسيلة: المسلخ بالخاء المعجمة ولعله تحريف مطبعي.
(5)
غمرة: منهل بطريق مكة فصل بين تهامة ونجد. الفيروز آبادى. القاموس المحيط: 2/108
(6)
النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 210.
النقطة الخامسة
الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وقتها:
المواقيت السالفة الذكر في النقطة الرابعة من نقاط المبحث الرابع أجمع الفقهاء على أن الأربعة الأول منها وَقّتَها رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال:((أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل المدينة أن يهلوا من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن)) (1) .
قال عبد الله بن عمر: أما هؤلاء الثلاثة فسمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأُخْبرتُ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((ويهل أهل اليمن من يلملم)) ، وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنال، ولأهل اليمن يلملم، وهن لهن ولمن أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) (2) .
(1) الموطأ. كتاب الحج. مواقيت الأهلال: 2/239 – 240 مع شرح الزرقاني، وكان الأولى نقل الحديث الذي قبله، لأنه سلسلة الذهب.
(2)
البخاري. الجامع الصحيح مع الفتح. كتاب الحج، باب مهل مكة للحج والعمرة: 3/384.
واختلف الفقهاء في ميقات أهل العراق من وجهين:
1-
ما هو؟
2-
من وَقَّتَه؟
أما ما هو؟ فقال جمهور فقهاء الأمصار: ميقاتهم ذات عرق وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأبي ثور وغيرهم.
لكن قال الشافعي: إن أهلوا من العقيق كان أحبُّ إلينا، وبقوله قال ابن عبد العزيز من المالكية، والثوري (1) .
وعند الإمامية الميقات الموقّت من لدنه صلى الله عليه وسلم لأهل العراق ولمن مر بهم، والذي لا يجوز الإحرام قبله ولا ينعقد (2) .
وأما من وقته؟ فقالت طائفة: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبه قال مالك في المدونة، ونصها: وَقّتَ عمرُ بن الخطاب ذاتَ عرق لأهل العراق (3)، وكذلك قال الشافعي: لم يثبت عن النبي أنه حد ذات عرق، وإنما أجمع عليه الناس (4) .
وهذا يدل على أن ميقات ذات عرق ليس منصوصا، وبه قطع الغزالي والرافعي في شرح المسند والنووي في شرح مسلم.
وصحح الحنفية والحنابلة، وجمهور الشافعية، والرافعي في الشرح الصغير، والنووي في شرح المهذب أنه منصوص (5) .
واحتج أصحاب القول الأول بما جاء في صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((لما فُتح هذان المصران أتوا عمر، فقالوا: يا أمير المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق)) (6) .
(1) ابن رشد. بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1/313.
(2)
أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي. النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 210.
(3)
سُحنون. المدونة: 1/377.
(4)
ابن حجر العسقلاني. فتح الباري: 3/389.
(5)
المرجع السابق: 3/389- 390.
(6)
البخاري. الجامع الصحيح مع الفتح: كتاب الحج، باب ذات عرق لأهل العراق: 3/389.
واحتج أصحاب القول الثاني بما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وَقّتَ لأهل العراق ذات عرق (1) .
وخلاصة القول أن التنصيص على ذات عرق ميقاتا للعراق ومن أتى عليها من غير أهل العراق، ليس في القوة كغيره، فإن ثبت فليس ببدع أن يجتهد الفاروق مطابقا له، فإن كان موفقا للصواب، فهو مجتهد في الحالتين: حالة ثبوته، وحالة عدم ثبوته بطريق الأولى.
النقطة السادسة
المواقيت لأهلها ولمن مر بها من غير أهلها
من مر بغير ميقاته، هل يجب عليه الإحرام منه، وإن كان سيمر بميقاته أو لا؟
اختلف الفقهاء في ذلك.
1-
قال فقهاء السادة الأحناف: لو مرّ بميقاتين، فإحرامه من الأبعد أفضل إذا أمن الوقوع في محظورات الإحرام، وجاء في كتاب الكافي للحاكم الشهيد الذي هو جمع كلام محمد بن الحسن الشيباني في كتب ظاهر الرواية (2) :" ومن جاوز وقته غير محرم، ثم أتى وقتا آخر فأحرم منه أجزأه، ولو كان أحرم من وقته كان أحبَّ إليّ "(3) .
(1) أبو داود: السنن: كتاب المناسك: باب في المواقيت: 2/243.
(2)
كتب ظاهر الرواية: مصطلح حنبلي يقصد به الكتب التي ألفها محمد بن الحسن الشيباني والتي بقيت مستندًا في مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه، وهي الجامع الصغير والكبير، والسير الصغير والكبير، والمبسوط، والزيادات.
(3)
انظر رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2/153 دون التقيد بوجهة نظره.
ويظهر مما نقله الحاكم الشهيد في كافيه عن محمد أن الحكم يعم كل المواقيت إذا مر بميقاتين منها كان الثاني أمامه أم لا.
2-
استثنى المالكية من عموم قوله صلى الله عليه وسلم ((هن لهن، ولمن أتى عليهم من غير أهلهن)) من ميقاته الجحفة يمر بذي الحليفة فلا يجب إحرامه منها لمروره على ميقاته بعد، ولكن يندب له الإحرام من ذي الحليفة، قال خليل:" وحيث حاذى واحدا أو مر ولو ببحر، إلا كمصري يمر بذى الحليفة، فهو أولى وإن لحيض وفي رفعه "(1) .
هذا وإن لم يرد المرور بميقاته الجحفة ولا محاذاته وجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة، كما يجب إحرام النجدي والعراقي واليمني وسائر أهل البلدان سوى مَن ميقاتُهم الجحفة من المغاربة والمصريين والشاميين فمن ذي الحليفة، إذ لا يتعدونها إلى ميقات لهم بدون إحرام.
3-
الشافعية: يقول فقهاء الشافعية: من سلك طريقا، ومر بمقاتين فيجب عليه أن يحرم من الأول وإن لم يكن مؤقتا له، فإذا حج الشامي من المدينة، ومر بذي الحليفة وجب عليه الإحرام منه، ولا يجوز له تأخير إحرامه إلى ميقاته الجحفة، ولو حج من اليمن بميقاته يلملم أو من العراق بميقاته ذات عرق أو العقيق استحبابا، وهلم جرا. قال النووي معقبا على قوله صاحب المهذب:" وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها؛ لما روى ابن عباس: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأحل المدينة ذا الحليفة)) الحديث. وهذا الحكم الذي ذكره المصنف متفق عليه، فإذا مر شامي من طريق العراق أو المدينة، أو عراقي من طريق اليمن، فيمقاته ميقات الإقليم الذي مر به، وهكذا عادة حجيج الشام في هذه الأزمان أنهم يمرون بالمدينة، فيكون ميقاتهم ذا الحليفة، ولا يجوز لهم تأخير الإحرام الجحفة "(2) .
(1) خليل. المختصر: 69.
(2)
المجموع: 7/198.
وقال في شرحه على صحيح مسلم شارحا قوله صلى الله عليه وسلم ((ولمن أتى عليهم من غير أهلهن)) معناه أن الشامي إذا مر بمقيات المدينة في ذهابه لزمه أن يحرم من ميقات المدينة، ولا يجوز له تأخيره إلى ميقات الشام الذي هو الجحفة، وكذا الباقي من المواقيت، وهذا لا خلاف فيه " (1) .
وبقول الشافعية قال الحنابلة، قال ابنُ قدامة: مَن سلك طريقا فيها ميقات فهو ميقاته، فإذا حج الشامي من المدينة فمر بذي الحليفة فهي ميقاته، وإن حج من اليمن فميقاته يلملم، وإن حج من العراق فميقاته ذات عرق، وهكذا لكل من مر على ميقات غير ميقات بلده صار ميقاتا له (2) ، وبقول الشافعية والحنابلة قال إسحاق.
بقي إذا مر من غير طريق ذي الحليفة أحرم من الجحفة مطلقا شاميا كان أو مدنيا؛ لما روى أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يُسأل عن المهل، فقال: سمعته (ثم انتهى وقال)، أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:((مهل أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الآخر الجحفة)) (3) ، (4) .
(1) النووي: 5/201 بهامش إرشاد الساري.
(2)
المغني: 3/263.
(3)
مسلم. صحيحه. كتاب الحج، باب المواقيت: 5/204 – 205 مع النووي.
(4)
ابن قدامة. المغني: 3/263 – 264.
والاحتجاج بحديث جابر كان من ابن قدامة صاحب المغني وهو حنبلي (1) .
وأما النووي الشافعي فقد قال في شرحه على صحيح مسلم: " لا يحتج بهذا الحديث مرفوعا؛ لكونه لم يجزم برفعه "(2) .
وبعد عرض هذه الأقوال جدير بي التنبيه على ما وقع فيه الإمام النووي رضي الله تعالى عنه من خلاف الصواب حين حكى الاتفاق في السالك لطريق يؤدي إلى ميقاتين، وقال: يجب عليه الإحرام من الأول، ورده يسير، فالمذهبان الحنبلي والمالكي على خلافه، وابن المنذر من الشافعية على خلافه
…
إلخ، ما رددت به هذا الرأي في المبحث الرابع عند الكلام على النقطة الرابعة.
ولنسارع لذكر أدلة أصحاب الأقوال الثلاثة فنقول:
استدل أصحاب القول الأول والثاني كل من زاويته بأدلة منها:
1-
ما روي عن أبي قتادة الأنصاري في قصة صيده للحمار الوحشي وهو غير محرم، قال ((فقال النبي صلى الله عليه وسلم –لأصحابه، وكانوا محرمين: هل منكم أحد أمره، أو أشار إليه بشيء؟ . فقالوا: لا. قال: فكلوا ما بقي من لحمه)) (3) ، ووجه الاستدلال بهذا الحديث أن أبا قتادة أخر إحرامه إلى الجحفة، ولم يحرم من ذي الحليفة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائر أصحابه، ولم ينكر عليه الرسول ذلك، فدل ذلك على جواز التأخير للإحرام لمن يمر بميقاتين أبعد وأقرب عند الأحناف، أو لمن يمر بذي الحليفة وأمامه الجحفة من المدنيين والشاميين والمصريين والمغاربة عند المالكية.
(1) المغني: 3/263- 264.
(2)
النووي: 5/204 – 205.
(3)
ابن حجر العسقلاني. بلوغ المرام من أدلة الأحكام، كتاب الحج، باب المواقيت: 2/193.
2-
ما روي عن سعيد بن المسيب أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت في سنه مرتين: مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة.
3-
ما ذكره ابن المنذر وغيره عن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت العمرة من الجحفة.
ولو لم تكن الجحفة ميقاتا لذلك، لما جاز تأخير إحرام العمرة إليها؛ لأنه لا فرق بالنسبة للأفقي بين ميقات الحج وبين ميقات العمرة.
وتمسك الشافعية والحنابلة ومن قال بقولهم بما يلى:
1-
ما رواه ابن عباس رضي الله عنها من قوله صلى الله عليه وسلم: ((هن لهن ولمن أتى عليهم من غير أهلن)) ، وقالوا: هذا الحديث يعمُّ من ميقاته بين يدي هذه المواقيت التي مر بها ومن لا.
2-
أن أي ميقات هو كسائر المواقيت لا يجوز تجاوزه بغير إحرام (1) .
ويبدو لى أن هذا المعنى الاجتهادى للشافعية والحنابلة ومن قال بقولهم هو الراجح – رغم قول إمام دار الهجرة مالك بن أنس – رضي الله عنه – في المدونة وهي أم المذهب، وظاهرها نص، وقولها دليل:((ومن مر من أهل الشام، واهل مصر، ومن وراءهم، بذى الحليفة، وأحب أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة فذلك له واسع، ولكن الفضل له، في أن يهل من ميقات – النبي عليه السلام)(2) .
(1) ابن قدامة. المغنى: 3/263.
(2)
سحنون. المدونة: 1/377.
وذلك لأن حديث البخاري من قواطع الأدلة في هذه المسألة، ولأن ما تمسكوا به طرقه الاحتمال فسقط به الاستدلال كما هو القاعدة. وسأرد أدلة أصحاب القول الأول والقول الثانى دليلاً فأقول: رد استدلالهم بحديث أبي قتادة من وجوه أربعة:
1-
أن أبا قتادة بعثة رسول الله في مهمة وهي كشف عدو للمسلمين بالساحل.
2-
لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم –بل بعثة أهل المدينة.
3-
أن المواقيت لم توقت بعد، وذلك لأن ما وقع من أبي قتادة كان عام الحديبية، والمواقيت وقتت في حجة الوداع (1) .
4-
أن أبا قتادة لم يمر في احتمال حسب الرد الأول والثانى بذى الحليفة، ومن لم يمر بها أحرم من الجحفة. لحديث جابر حين سئل عن المهل فقال:((مهل أهل المدينة ذي الحليفة، وللطريق الآخر الجحفة)) الحديث، وهذا الرد الرابع رد به الاستدلال بحديثى عائشة – رضي الله عنها – فهي لم تتجاوز ذا الحليفة غير محرمة إلى الجحفة وإنما لم ترم به (2) .
(1) يراجع سبل السلام للصنعانى: 2/193.
(2)
ابن قدامة: 3/264.
النقطة السابعة
الإحرام قبل المواقيت المكانية
إذا أحرم الحاج أو المعتمر قبل المواقيت المكانية فما حكم ذلك؟
اختلف الفقهاء في ذلك على قولين:
1-
ذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أفضلية الإحرام للحاج أو المعتمر من دويرة أهلة بشرطين:
(أ) أن يكون ذلك في أشهر الحج (1) .
(ب) أن يأمن على نفسه الوقوع في محظورات الإحرام.
2-
ذهب المالكية والحنابلة إلى أن الأفضل لمن فوق الميقات أن يحرم من الميقات لا قبله، جاء في المدونة: قلت لابن القاسم: أكان مالك يكره للرجل أن يحرم من قبل أن يأتي الميقات؟ قال: نعم. قلت: فإن أحرم قبل الميقات، أكان يُلزمه مالك الإحرام؟ قال: نعم. (2) وأشار خليل في مختصره، وهو الذي يلتزم ما به الفتوى، إلى هذه المسألة فقال:" وكُره قبله كمكانه "(3)، أي كره الإحرام قبل الميقات الزمني كما كُره الإحرام قبل الميقات المكاني وقال ابنُ مفلح الحنبلي: يكره الإحرام قبل الميقات ويصح، قال أحمد: هو أعجب إليّ (4) .
(1) محمد علاء الدين الحصكفى. الدر المختار: 2/155.
(2)
سحنون. المدونة: 1/363.
(3)
خليل المختصر: 69.
(4)
ابن مفلح: كتاب الفروع: 3/284.
وأما الشافعية فقد جرى عندهم خلاف في هذه المسألة فقيل: " الأفضل لمن فوق الميقات إحرام منه "(1) وقيل الأفضل من دويرة أهله، والقول الأول هو الأظهر عندهم (2) ، والروايتان عن الشافعي رضي الله عنه (3) .
ولكل من القولين وجهة وأدلة.
احتج أصحاب القول الأول بحجج منها:
1-
أن التقديم على المواقيت بشرطيه أكثر أجرًا؛ لأنه أكثر تعظيما وأوفر مشقة، والأجر على قد المشقة (4) .
2-
جمع من الصحابة والتابعين كانوا يستحبون الإحرام بالحج والعمرة من الأماكن البعيدة، فابنُ عمر أحرم من بيت المقدس، وعمران بن الحصين من البصرة، وابن عباس من الشام، وابن مسعود من القادسية، رضوان الله عليهم جميعا (5) . وقال أبو داود: يرحم الله وكيعا أحرم من بيت المقدس (6) .
(1) زكريا الأنصارى المنهج وشرحه: 2/403.
(2)
سليمان الجمل. حاشيته على المنهج: 2/403.
(3)
ابن قدامة. المغني 3/264. والقاضي عبد الوهاب. الأشراف: 1/224.
(4)
ابن عابدين: رد المحتار: 2/155.
(5)
ابن عابدين. رد المحتار: 2/155.
(6)
السنن. كتاب المناسك. باب المواقيت: 2/144.
3-
أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام؛ غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وما تأخر)) أو ((وجبت له الجنة)) شك عبدُ الله أيتهما قال (1)
…
(وعبد الله هو ابن عبد الرحمن ابن يحنس) .
4-
روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]، أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك (2) .
هذا أهم ما استدل به أصحاب القول الأول.
واحتج أصحاب القول الثاني بحجج أهمها ما يلي:
1-
أن حديث البخاري السالف الذكر: ((وَقّتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة..)) الحديثَ، يقضي بالإهلال من هذه المواقيت، ويقضي بنفي النقص والزيادة، فإن لم تكن الزيادة حراما، فلا أقل من الكراهة، ولولا ما حكاه ابن المنذر: من إجماع أهل العلم على أن من أحرم قبل الميقات محرم يلزمه الإحرام، لكان الإحرام قبل الميقات محرما، لأحاديث التوقيت، ولأن الزيادة على المقدرات من المشروعات كأعداد الصلاة ورمى الجمار، لا تشرع، كالنقص منها، وإنما لم يقع الجزم بالحرمة لورود الإجماع على كراهة ذلك (3) .
(1) المرجع السابق.
(2)
ابن عابدين: المرجع السابق.
(3)
الصنعاني. سبل السلام: 2/189.
2-
إنكار سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عمران بن حصين إحرامه من البصرة (1) ، وإنكار سيدنا عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان أو كرمان (2) .
3-
تضييق الحجاج والعمار على أنفسهم ما وسّع الله عليهم، وأنه لا يؤمن ما يقع من التباس على الناس في الميقات، ولا يؤمن الوقوع في محظورات إن طال ذلك عليهم، وقال عطاء بن أبي رباح: انظروا هذه المواقيت التي وُقِّتت لكم، فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك.
4-
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات، ولا يفعلون إلا الأفضل، ومن بعده خلفاؤه الراشدون وأصحابه رضوان الله عليهم أجمعين، وهم أفضل الخلق من بعده ومن قبله خلا رسل وأنبياءه، وأحرص على الدرجات العلى (3) .
(1) الزرقاني. شرح الموطأ: 2/241.
(2)
البخاري. الجامع الصحيح. كتاب الحج. باب قول الله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُر مَّعْلُومَات}
…
إلخ. (مع الفتح) : 3/419.
(3)
ابن قدامة. المغني: 3/265.
ويبدو لي أن القول الثاني أرجح؛ لأن خير الهدي هديه صلى الله عليه وسلم، وما استدل به أصحاب القول الأول لا يثبت على محك النقد.
أما الدليل الأول وهو: أن التقديم للاحترام على المواقيت المكانية أعظم أجرا وأكثر تعظيما، فليس بصواب؛ لأن (وَقّت) في حديث ابن عباس وغيره تقضي بالإهلال من هذه المواقيت، فيكون التقديم من الزيادة على المقدرات من المشروعات، وذلك لا يجوز، فهذا أولا، وثانيا: أن الأجر يكون على قدر المشقة، إنما يكون صحيحًا إذا كانت لازمة لتحصيل الأعمال التي يتوجه قصد المكلف إليها، لا ما جعلها المكلف هدفا من أهدافه، روى أمام دار الهجرة مالك بن أنس رضي الله عنه في الموطأ عن حميد بن قيس وثور بن زيد الديلي أنهما أخبراه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهما يزيد في الحديث على صاحبه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رأى رجلاً قائما في الشمس، فقال: ما بال هذا؟ فقالوا: نذر إلا يتكلم، ولا يستظل من الشمس، ولا يجلس ويصوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليجلس وليتم صيامه)) (1) .
قال مالك رحمه الله: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتم ما كان لله طاعة، ويترك ما كان لله معصية (2) .
ويتضح من الحديث، ومن تعليق ذي الإمامتين عليه أن الحنيفية السمحة ليس فيها مما يُتقرب به إلى الله إدخال المشقة والإعنات عن النفس.
(1) الموطأ كتاب النذور والإيمان. مالا يجوز من النذور في معصية الله: 3/11 مع شرح الزرقاني.
(2)
الموطأ: 3/61 مع شرح الزرقاني.
وهذا الأصل من الأصول المقطوع بها في الشريعة الإسلامية؛ لأن أدلته في نصوصها كثيرة منتشرة.
وأما الدليل الثاني من أدلة أصحاب القول الأول وهو: أن جمعا من الصحابة والتابعين كانوا يستحبون الإحرام بالحج والعمرة من الأماكن البعيدة
…
إلخ، فمردود بإنكار سيدنا عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وبإنكار سيدنا عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان أو كرمان، وهذا أولا، وثانيا: أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه وخلفاءه الراشدين وأصحابه - خلا من ذُكِرَ وهم قلة - لم يفعلوا ذلك، وأحرموا من المواقيت (1) ، وخصوصا أن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس رويا حديثي التوقيت السالفين، فدلت مخالفتهما لما رويا أنهما فقها أن المراد منع مجاوزة المواقيت حلالا، لا منع الإحرام قبلها، وأما الكراهة فلقدر آخر لعلة أخرى (2) سبق ذكرها في أدلة أصحاب القول الثاني.
وأما الدليل الثالث فمردود؛ لأن حديث أم سلمة رضي الله عنها كما قال ابن المنذر: اختلفت الرواة في متنه وإسناده اختلافا كثيرًا، وضعفه عبد الحق وغيره (3) هذا أولا، وثانيا: إن سلمنا أن إسناد الحديث جيد كما هو رأي جماعة من الرواة (4) ، فيحتمل اختصاص هذا ببيت المقدس – أرجعه الله إلى حظيرة الإسلام، آمين – دون غيره، ليجمع الحاج أو المعتمر بين الصلاة في المسجد الأقصى المبارك والمسجد الحرام، في إحرام واحد، ولذلك أحرم ابن عمر منه، ولم يكن يحرم من غيره إلا عند الميقات (5) ، وثالثا تؤول بأن ينشئ الحاج والمعتمر سفرا من بيت المقدس (6) .
وأما الدليل الرابع من أدلة أصحاب القول الأول وهو: ما روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما في تفسير قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] أنهما قالا: اتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، فمردود بأن عليا وعمر لم يحرما إلا من الميقات. هذا أولا، وثانيا تؤول مرادهما أن يوجد مريد النسك له سفرا من بلده كما فعل صلى الله عليه وسلم لعمرة الحديبية والقضاء، سفرا من المدينة.
ومما يعضد ما ذكرنا قولنا سابقا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخلفاءه وجماهير صحابته لم يحرموا من دويرة أهلهم، ومنهم علي وعمر (7) .
(1) ابن قدامة. المغني: 3/265.
(2)
الزرقاني. شرحه على الموطأ: 2/241 بتصرف.
(3)
المرجع السابق.
(4)
ابن مفلح. كتاب الفروع: 3/285.
(5)
ابن قدامة. المرجع السابق.
(6)
الصنعاني. سبل السلام: 2/190.
(7)
يراجع مغنى ابن قدامة: 3/266.
النقطة الثامنة
الإحرام بعدها بين الضيق وبين السعة
فائدة نصب المواقيت تعيين الإحرام عندها، فإن أحرم قبلها فقد علمنا ذلك، وإن أحرم بعدها فلا يخلو الحال من أمرين:
1-
أن يكون مريدا للنسك، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا.
2-
أن لا يريد ذلك، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا.
فإن أراد النسك، وتجاوزها غير محرم، فعليه أن يرجع إلى الميقات ويحرم منه، إن تسنى له ذلك، ولا فرق في مجاوزة الميقات بين أن يكون عالما بأنه تجاوزه، وبين أن يكون غير عالم بذلك، وبين أن يكون عارفا بحكم المجاوزة أو جاهلا بالحكم.
فإن رجع إلى الميقات فأحرم منه فلا شيء عليه بلا خلاف (1) ما لم يشارف مكة عند مالك في قول وعليه الدم (2) ، لأنه أي الذي رجع إلى الميقات قد أحرم من الميقات فكأنه لم يتجاوزه، وكأن شيئا لم يكن.
وإن تجاوز مريد النسك الميقات، وأحرم من دونه، فقد اختلف الفقهاء على أقوال:
1-
قال أبو حنيفة: إن رجع إلى الميقات فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط (3) .
2-
قال مالك: يتمادى ولا يرجع، وعليه دم تعدي الميقات، ولا يسقط عنه إن رجع، وبقوله قال الثورى وغيره (4) .
مذهب الشافعية: أن من جاوز الميقات من مريدي النسك غير محرم، وأحرم من دونه فلا شيء عليه قبل تلبسه بنسك ويسقط عنه الدم.
وأما إن عادة بعد تلبسه بنسك، ولو طواف قدوم فلا يسقط الدم عنه لتأدي النسك بإحرام ناقص، وحيث لم يجب بعوده، لم تكن مجاوزته محرمة كما جزم به المعاملي والروياني (5) .
4-
الحنابلة: إن أحرم من الميقات فلا إشكال كما سلف، وإن تجاوز الميقات بلا إحرام وأحرم بعده من موضع التجاوز فعليه دم وأن رجع.
(1) ابن قدامة. المغني: 3/266.
(2)
ابن عبد البر. الكافى: 1/281.
(3)
الكاسانى. البدائع: 2/165.
(4)
الأبي. إكمال المعلم: 3/298.
(5)
الرملي. نهاية المحتاج: 2/254.
وهذا هو المذهب، وجزم به في المغني ابن قدامة، وفي الفروع ابن مفلح وغيرهما.
وفي رواية عن الإمام أحمد: يسقط الدم إن رجع إلى الميقات (1) .
5-
وعن. عطاء والحسن والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات بدون إحرام.
6-
وعند سعيد بن جبير رضي الله عنه: لا حج لمن ترك الميقات.
ودليل الجمهور ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من ترك نسكا فعليه دم)) روي موقوفا ومرفوعا هذا أولا، وثانيا: أحرم دون ميقاته فاستقر عليه الدم، كما لو لم يرجع، أو كما لو طاف عند الشافعي، أو كما لو لم يلب عند أبي حنيفة؛ ولأنه ترك الإحرام من ميقاته فلزمه الدم، ولأن الدم ترتب على تركه الإحرام من الميقات فلا يسقط عنه برجوعه إلى الميقات ولا بتلبيته (2) .
ودليل أبي حنيفة أنه استدرك ما فاته بالرجوع ملبيا، وتحمل ما نقصه هذا أولا، وثانيا: ما روي عن ابن عباس أنه قال للذى أحرم بعد الميقات: أرجع إلى الميقات فلب وإلا فلا حج (3) .
وذكر ابن العربي وجها لمن أسقط على المتجاوز الميقات والمحرم بعده الدم وقال: وجه من قال: لا دم عليه، أنه لم يخل بعمل وإنما أخره، والدم إنما يجب على من ترك شيئا وأسقطه (4) .
ولم يظهر لي مدرك قول سعيد بن جبير.
بقي أنه لابد من التنبيه على الفرق بين مريد النسك الذي ترك الميقات، ثم عاد إليه ولم يحرم وأحرم منه، وبين مريد النسك الذي ترك الميقات وأحرم بعده، ثم عاد إليه، فالأول لم يترك الإحرام ولم يهتكه، والثاني ترك الإحرام منه وهتك حرمته (5) .
وإذا لم يعد إلى الميقات وأفسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة، إن كان إحرامه بعمرة، أو قبل الوقوف بعرفه إن كان إحرامه بحج، أو بعبارة أشمل أفسد المحرم من دون الميقات نسكه، فهل يسقط عنه الدم؟
(1) المرداوي. الإنصاف: 3/429.
(2)
ابن قدامة. المغني: 3/267.
(3)
الكاساني. البدائع: 2/165.
(4)
عارضة الأحوذي: 3/52.
(5)
ابن قدامة: المرجع السابق.
قال الحنفية: سقط عنه ذلك الدم؛ لوجوب القضاء عليه، فينجبر ذلك كله بالقضاء (1) ، وبهذا القول الثوري (2) .
وقال المالكية: لا يسقط عنه الدم لتماديه على إحرامه، قال بعض: ولا أعلم فيه خلافا كما هو ظاهر كلام خليل في مختصره (3) ، وبقول المالكية قال الشافعي وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر (4) .
ودليل الحنفية قياسه على من سها في صلاته ثم أفسدها فقضاها، أنه لا يجب عليه سجود السهو، وكذلك إذا أفسد حجه لزمه القضاء، وليس عليه دم (5) .
ودليل الجمهور أن الدم واجب عليه بموجب هذا الإحرام، فلم يسقط بوجوب القضاء كبقية المناسك وكجزاء الصيد (6) .
ومن جاوز الميقات من مريدي النسك غير محرم، فخشي فوات الحج أحرم من موضعه، قال ابن قدامة: لا نعلم في ذلك خلافا، إلا أنه روي عن سعيد بن جبير:" من ترك الميقات فلا حج له " وما عليه الجمهور أولى، فإنه لو كان من أركان الحج، لم يختلف باختلاف الناس والأماكن كالوقوف والطواف.
وإذا أحرم من موضعه بعد الميقات فعلية دم، لا نعلم في ذلك خلافا عند من أوجب الإحرام من الميقات؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:((من ترك نسكا فعليه دم)) .
وإنما أبيح له الإحرام من موضعه بعد الميقات من اجل إدراك الحج، فإن مراعاة ذلك أولى من مراعاة واجب فيه مع فواته.
ومن لم يمكنه الرجوع لعدم الرفقة، أو الخوف من عدو أو لص أو مرض أو لا يعرف الطريق ونحو هذا مما يمنع الرجوع، فهو كخائف الفوات يحرم من موضعه بعد الميقات وعليه دم (7) .
بقي لابد من بيان أن ما قرر من الأحكام السابقة إنما هو في حق من خوطب بالحج.
(1) راجع بدائع الكاسانى: 2/165.
(2)
ابن قدامة. المغني: 3/267.
(3)
عبد الباقى الزرقاني. شرحه على مختصر خليل: 2/255.
(4)
راجع مغني ابن قدامة: 3/267.
(5)
الكاساني. البدائع: 2/165.
(6)
ابن قدامة. المرجع السابق.
(7)
ابن قدامة. المرجع السابق: 3/270.
أما غير المخاطب به من عبد وصبي وكافر إذا تجاوز الميقات وهو على حالته المذكورة، ثم تغيرت حالته بعد ذلك بأن عتق العبد وبلغ الصبي وأسلم الكافر، فإنهم يحرمون من الموضع الذي تغيرت فيه حالتهم، ولا دم عليهم. وبهذا قال عطاء ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق، وهو قول الحنفية في الكافر يسلم، والصبي يبلغ، وقالوا في العبد: عليه دم، وقال الشافعي: على كل واحد منهم دم، وعن أحمد في الكافر يسلم كقوله، ويتخرج في الصبي والعبد كذلك قياسا على الكافر يسلم؛ لأنهم تجاوزوا الميقات بغير إحرام، وأحرموا دونه، فلزمهم الدم كالمسلم البالغ العاقل.
ودليل الجمهور أن العبد الذي عتق، والصبي الذي بلغ، والكافر الذي أسلم بعد مجاوزة الميقات بغير إحرام، ثم أحرم من موضعه، أنهم أحرموا من المكان الذي وجب عليهم الإحرام منه، فأشبهوا المكي، ومن قريته دون الميقات كبستان بني عامر إذا أحرم منها، ولا يشبهون بحال من خوطبوا بالإحرام قبل الميقات، ثم مروا به وتركوا الإحرام؛ لأنهم تركوا الواجب عليهم (1) .
وأما من لا يريد نسكا أصلا، وهو ممن يخاطب بالإحرام وجوبا، فمذهب الحنفية أن مكة حرام، فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلا بالإحرام واستثنى الحنفية من ذلك من لم يرد مكة ولا الحرم، وإنما أراد أن يأتي ما بين الميقات والحرم كبستان بني عامر أو غيره مما هو داخل الميقات لحاجة فلا شيء عليه؛ لأن لزوم الحج، أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة، وتمييزا لها من بين سائر البقاع في الشرف والفضيلة فيصير ملتزما للإحرام منه، فإذا لم يرد البيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شيء.
فإن حصل في البستان، أو فيما وراءه من الحل، ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام، فله؛ ذلك لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد منهم ولهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام فكذا له (2) .
وروى عن أبي يوسف رحمه الله أنه لا يسقط عنه الإحرام ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام، ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا؛ لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن في حقه إلا بنية مدة الإقامة (3) .
(1) ابن قدامة. المغني: 3/268 – 269.
(2)
الكاساني. البدائع: 2/116.
(3)
الكاسانى. البدائع: 2/166.
وأما مذهب المالكية: فمن أتي الميقات لا يريد نسكا، ولا دخول مكة، وإنما حاجته دونها أنه كان غير ضرورة، أو ضرورة ولا يستطيع، لم يلزمه إحرام، فإن كان مستطيعا ففي لزوم الإحرام له قولان، سببهما: هل الحج واجب على الفور أو على التراخي؟ (1) ؟
وأما من أتى الميقات لا يريد نسكا ويريد دخول مكة فإن دخلها لقتال بوجه جائز، أو تكرر كالحطابين وأصحاب الفواكه، وغيرهم ممن قرب إلى مكة، فكل هؤلاء يجوز أن يدخلوها حلالا، والاستحباب أن يأتى أول مرة محرما، فإذا تكرر منه ذلك لم يكن في ذلك شيء.
وأما أن دخلها لتجارة وما شاكلها مما لا يتكرر من الحاجات، فذكر ابن القصار عن مالك رحمة الله أنه استحب أن يدخل مكة حراما والى هذا يرجع قوله في المدونة، وإن فعل فلا شيء عليه، وذكر عبد الوهاب عنه أنه قال: عليه الدم وأرى أن الإحرام واجب عليه (2) .
وأما مذهب الشافعية: فقال النووي رضي الله تعالى عنه: من أتى الميقات لا يريد نسكا فلا يلزمه الإحرام لدخول مكة على الصحيح من مذهبنا سواء دخل لحاجة تتكرر كحطاب وحشاش وصياد ونحوهم، أو لا تتكرر كتجارة وزيادة ونحوهما.
وللشافعى قول ضعيف إنه يجب الإحرام بحج أو عمرة إن دخل مكة أو غيرها لما لا يتكرر (3) بشرط أن لا يدخل لقتال، ولا خائفا من ظهوره وبروزه (4) .
وأما مذهب الحنابلة: فمن أتى الميقات لا يريد نسكا، ولا دخول مكة ولا الحرم بصفة عامة، لم يلزمه إحرام؛ لأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أتوا بدرا مرتين، وكانوا يسافرون للجهاد، فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام.
وأما إن أتى الميقات لا يريد نسكا، ويريد دخول مكة، فإن فعلها لقتال مباح، أو خوف، أو حاجة متكررة، ومكي يتردد إلى قريته بالحل، جاز للجميع دخولها بغير إحرام.
(1) الأبي إكمال المعلم: 3/298.
(2)
أبو الحسن الصغير. تقييده على المدونة (تهذيب البرادعي) : 1/99 وجها – 155 ظهرا.
(3)
شرحه على صحيح مسلم: 5/200.
(4)
المرجع السابق: 5/188.
وأدلة ذلك دخوله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وعلى رأسه المغفر، ولم يُنقل عنه، ولا عن أحد من أصحابه الإحرام يومئذ، وألحق الخوف بالقتال المباح، هذا بالنسبة للقتال المباح والخوف، وأما بالنسبة لذوي الحاجات المتكررة فما رواه حرب عن ابن عباس:" لا يدخل إنسان مكة إلا محرما، إلا الحمالين والحطابين، وأصحاب منافعها " احتج به أحمد، وأما بالنسبة للمكي المتردد إلى قريته بالحل، فلنفي الحرج الذي هو أصل من أصول الدين الحنيف هذا أولا، وثانيا: قال ابن عقيل: وكتحية المسجد في حق قيمه للمشقة (1) .
والذي يظهر لى أن المذهب الصحيح عند الشافعية هو القوي وذلك لأمور:
1-
ما رواه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: ((هن لهن ولكل آت عليهن من غيرهم ممن أراد الحج والعمرة)) مفهومه أن من أتى المواقيت لا يريد حجا ولا عمرة لا إحرام عليه، وهو مفهوم عام.
2-
ما رواه مالك عن نافع، أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد جاءه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام (2) .
3-
لما يلزم على الأقوال الأخرى من إيجاب حج غير واجب، أو عمرة غير واجبة.
4-
دخلها صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وعلى رأسه المغفر وهو غير محرم (3) .
هذا ولو لم يأت أي دليل وقعت الكفاية بأنه لم يأت بإيجاب الإحرام على من قصدها لغير حج أو عمرة، والله أعلم.
النقطة التاسعة
إحرام من لم يمر بالمواقيت
المواقيت التي وَقّتها رسول الله صلى الله عليه وسلم محيطة بالحرم المكي الشريف، وإن اختلفت قربا وبعدا، فذو الحليفة شامية ويلملم يمانية، والجحفة غربية، وقرن شرقية، وذات عرق حذوها.
إذا علمنا هذا، فمن سلك طريقا لا يمر فيه بميقات من المواقيت فمن أين يحرم؟ الجواب عن هذا السؤال أسٌّ متين من أسس هذا البحث:" الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلامي "، وقد تجانست فيه المذاهب أصلا، واختلفت تجزئة وتفصيلا، ونذكر اجتهادات المذاهب في هذه النقطة من نقاط هذا البحث كالتالي فنقول:
(1) البهوتى. كشاف القناع عن متن الإقناع: 2/403.
(2)
الموطأ مع شرح الزرقاني. كتاب الحج، جامع الحج: 2/398.
(3)
إشارة إلى الحديث المروي عن مالك، والذي انفرد به ولم يروه أحد عن الزهري سواه (الموطأ مع شرح الزرقاني انظر الشرح: 2/397) .
1-
المذهب الحنفى: من كان في بر أو بحر، لا يمر بواحد من هذه المواقيت المذكورة، فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها (1)
وآخر المواقيت أقربها إلى مكة، وأقربها إليها – زادها الله شرفا – قرن المنازل فالمسافر من المغرب الأقصى أو الجزائر أو تونس، أو ليبيا أو مصر أو بلاد الشام، إذا سلك طريقا برا أو بحرا، لا ينتهي إلى رابغ، وإنما يحاذيه، له أن يؤخر إحرامه إلى محاذاة قرن المنازل؛ لأنه آخر المواقيت، قال العلامة ابن نجيم في البحر:" آخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل "(2) .
وسبيل معرفة المحاذاة، سؤال ذوي الخبرة بالطرق: إن وُجدوا، وإلا اجتهد السالك لطريق لا ينتهي إلى الميقات وأحرم، والتحري أن يغلب على ظنه أنه محاذ له (3) ، فإن لم يعلم المحاذاة لا باجتهاده ولا وجد أهل الخبرة بذلك، أحرم حين يصل إلى مكان يبعد مرحلتين عن مكة المشرفة.
(1) ابن نجيم: البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 2/241.
(2)
المرجع السابق.
(3)
ابن عابدين رد المحتار: 2/154.
ووجه التقدير عند جهل المحاذاة بالمرحلتين أن ذلك أوسط المسافات،، وإلا فالاحتياط الزيادة (1) .
بقي مما ينبغي التنبيه إليه في هذه المسألة الأخيرة قول ابن نجيم في البحر: " فإذا لم يكن بحيث يحاذي "(2) إلخ، فليس بصواب لأن المواقيت محيطة بالحرم كما أسلفت ففي أي جهة كان حاذى، وكذلك قول الحصكفي في الدر المختار:" فإن لم يكن بحيث يحاذي "(3) ، وإن اختلف التعبير بينهما فصاحب البحر عبر بـ (إذ) المفيدة لليقين، وصاحب الدب بـ (إن) المفيدة للشك.
وسبب هذا الخطأ عدم المعرفة بجغرافية الحرم المكي الشريف وما حوله.
هذا ولم يعرض ابن نجيم في البحر، ولا الحصكفي في الدر، ولا ابن عابدين في حاشيته عليهما لمعنى المحاذاة الدقيق، فطلبتها من مكانها الأصلي وهو معاجم اللغة العربية، فوجدت الزمخشري في الأساس يقول:" حذى لي النَّعّال نعلا: قطعها على مثال، وحذوت النعل بالنعل: قطعتها مماثلة "(4) والمماثلة تعني المشابهة والمساواة، وجاء فيه أيضًا:" ومثله به، وتمثل به، تشبه به ومثل الشيء بالشيء: سوي به، وقدر تقديره "(5)، ووجدت الفيروز آبادي يقول:" حاذاه: آزاه، والحذاء: الإزاء، ويقال: هو حذاءك، وحذوتك، وحذتك، بكسرهن، ومحاذاك، وداري حذوه داره، وحذتها، وحذتها بالفتح مرفوعا ومنصوبا: إزاؤها "(6)، والإزاء هنا يفسره صاحب القاموس بقوله:" وهم إزاؤهم: أقرانهم وأزى الشيء: حاذاه، وحاره "(7) ، " والحرا، والحراة: الناحية "(8)، ويزيد ابن منظور المعنى وضوحا فيقول:" وجاء الرجلان حذيتين: أي كل واحد منهما إلى جنب صاحبه، وجاء الرجلان حذتين: أي جميعا، كل واحد منهما إلى جنب صاحبه "(9) .
(1) ابن عابدين، رد المحتار: 2/154.
(2)
البحر: 2/241.
(3)
الحصكفي: 2/154.
(4)
الزمخشري: 78.
(5)
الزمخشري: 420.
(6)
القاموس المحيط: 4/317.
(7)
القاموس: 4/301.
(8)
المرجع السابق: 4/318.
(9)
اللسان: 59/171.
وبعد عرضنا لنصوص بعض المعاجم الأساسية فيما يتعلق بمعنى المحاذاة يتضح لنا أنها تعنى: الازاء، والجانب ميامنة، أو مياسرة مع المماثلة والمساواة.
بقي هل يشترط في المذهب النعماني أن تكون المحاذاة قريبة؟
قال الحصكفي: " وأحرم إذا حاذاه أحدها "(1)، وقال صاحب البدائع:" إذا قصدها (أي مكة المكرمة) من طريق غير مسلوك فإنه يحرم إذا بلغ موضعا يحاذي ميقاتا من هذه المواقيت "(2) .
وقال عبد الغني الغنيمي الدمشقي الحنفي من علماء القرن الثالث في مصنفه: " اللباب في شرح الكتاب ": وإن لم يمر بميقات، تحرى وأحرم إذا حاذى أحدها " (3) ، و (أحد) في عبارة صاحب الدر وصاحب اللباب نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم، صرح به إمام الحرمين في البرهان، وتابعه عليه الأنبارى في شرحه له، واقتضاه كلام الآمدى وابن الحاجب (4) ، وكذلك " موضعا " في عبارة صاحب البدائع، وإذا قلنا بإفادة (أحد) وموضوع العموم اتضح عدم اشتراط القرب في المحاذاة، فقول ابن نجيم في البحر: " ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من الميقات " يتنافى وما يفهم من عبارات فقهاء الأحناف مثل التي ذكرنا المفيدة للعموم، هذا أولا، وثانيا: رده أخوه عمر بن نجيم في النهر بقوله: " من لم يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها قربت المحاذاة أو بعدت " (5) .
(1) الدر المختار: 2/154.
(2)
الكاساني: 2/164.
(3)
اللباب: 2/170.
(4)
عبد الرحيم الإسنوي. التمهيد في تخريج الفروع على الأصول: 318.
(5)
ابن عابدين. حاشيته على البحر الرائق: 2/242.
2-
المذهب المالكي: ليس هنالك اتفاق داخل المذهب في خصوص هذه المسألة بل اختلفت الأنظار فيها على النحو التالي:
1-
حيث حاذى أحد المواقيت المذكورة أحرم ببر أو ببحر، سواء كان البحر محاذيا للميقات كبحر السويس بالنسبة للجحفة، محاذاة قريبة، أو محاذاة بعيدة كبحر عيذاب بالنسبة لها، ولا يؤخره إلى البر، فإن أخر لزمه دم، قال خليل:" وحيث حاذى واحدا ولو ببحر "(1) وقال الخرشي معقبا على قوله: " ولو ببحر " يعني أن من سافر في البحر، فإنه يحرم إذا حاذى الميقات، ولا يؤخر إلى البر، ظاهره سواء كان ببحر القلزم أو ببحر عيذاب على ظاهر المذهب.
بقي إذا كان محاذيا في البر لأحد المواقيت المذكورة، وكان منزله قريبا من الميقات، فالأفضل الذهاب إليه، والإحرام منه (2) .
2-
يفصل وهو لسند بن عنان، ويقوم تفصيله على تقييده لإطلاق قول مالك الذي أورده ابن أبي زيد في النوادر نقلا عن محمد بن المواز والذي يقول فيه مالك:" ومن حج في البحر من أهل مصر وشبههم إذا حاذى الجحفة ".
وتقييده لقول مالك هذا هو التالي: من أتى بحر عيذاب حيث لا يساحل البر، فلا يجب عليه الإحرام في البحر إلى أن يصل إلى البر، إلا أن يخرج على بر أبعد من ميقات أهل الشام، وأهل اليمن، ولا يلزمه بتأخير الإحرام هدي.
وأما أن أتي بحر القلزم حيث يساحل البر، فالإحرام عليه في البحر واجب، لكن يرخص له التأخير إلى البر ويلزمه أن يهريق دما.
وبنى سند هذه التفرقة بين من في اللجة كالمسافر في بحر عيذاب، وبين من يساحل كالمسافر في بحر القلزم، على أساس أن الأول لو أحرم في البحر وهو في اللجة ولا يساحل الميقات ففى ذلك خطر خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما، ويطول إحرامه، حتى يتسنى له أن يقلع إقلاعا سالما، وفي ذلك أعظم الحرج المنفي من الدين.
وإذا ثبت جواز تأخير الإحرام بالنسبة له إلى البر فلا يلزمه دم، حتى يقوم دليل على اللزوم، ولا دليل.
وأما الثاني فإنه قادر على الإحرام من البر، حيث يمكنه النزول إلى البر والإحرام منه، لكن فيه مضرة بمفارقة رحله، فيجوز له تأخير الإحرام إلى البر للمضرة وعليه دم، كما يجوز استباحة ممنوعات الإحرام للضرورة مع لزوم الفدية.
(1) المختصر: 66.
(2)
شرحه الصغير على المختصر: 2/303.
ومما يجب التنبيه عليه أن النقل لقول سند ساده الغموض والإجمال عند جماعة من فقهاء المالكية، ومن بينهم العلامة خليل بن إسحاق الذي نقل في مناسكه ما يلي: ومن سافر في البحر أحرم أيضًا في البحر إذا حاذاه على ظاهر المذهب، خلافا لسند في قوله: يحرم إذا وصل البر، خوفا من أن ترده الريح فيبقى محرما، وهو ظاهر من جهة المعنى ونقل ابن الحاج عن ابن نافع مثل قول سند فقال: وقال ابن نافع: لا يحرم في السفن، ورواه عن مالك.
ونلاحظ على ما نقله خليل ملاحظتين:
1-
أنه في قول سند أجمل ولم يبين، كما بينا سابقا.
2-
أنه تقييد سند لما نقله ابن المواز عن مالك، ليس كقول ابن نافع من كل وجه.
لكنه في توضيحه نقل تقييد سند المذكور ولم يتعقبه بأنه خلاف ظاهر المذهب كما قال في مناسكه، وكذلك القرافى في ذخيرته، وابن عرفة، والتادلى، وابن فرحون في شرحه على جامع الأمهات وفي مناسكه، وقال الحطاب: ظاهر كلامهم أنهم قبلوا تقييد سند لكلام مالك بما ذكر، وهذا هو الظاهر، وقد شاهدت الوالد (محمد بن عبد الرحمن الحطاب) يفتي بما قاله سند غير مرة، والله أعلم.
بقي إذا أخر إحرامه إلى البر: قال سند: لا يرحل من جدة إلا محرما؛ لأن جواز التأخير إنما كان للضرورة، وقد زالت.
وهل يحرم إذا وصل البر؟ أو إذا ظعن من جدة؟ الوجهان محتملان، والظاهر إذا ظعن؛ لأنه سنه من أحرم، وقصد البيت أن يتصل إهلاله بالمسير.
وهذا التفصيل الذي ذكره سند في جهة الشام في بحر عيذاب وبحر القلزم (السويس) يقال مثله في جهة اليمن والهند، وهذا ظاهر (1) .
وبعد عرضنا لمذهب مالك رضي الله عنه في من حاذى ببر أو بحر، نلاحظ أن فقهاء المالكية اضطربوا في بيان مدلول كلمة محاذاة بين تارك لتفسيرها كالحطاب في مواهب الجليل (2)، وبين محدد لها كالشيخ عبد الباقى الزرقاني الذي شرح قول خليل السالف:" وحيث حاذى واحدا، ولو ببحر ": فساوى بمقابلة، أو ميامنة أو مياسرة. وهو تحديد لم يسلم من الخطأ، وقد بين الخطأ محشيه المحقق البناني بقوله: قول الزرقاني: ساوى بمقابلة
…
إلخ، بل ميامنة ومياسرة فقط، ولا تتصور المقابلة (3) ، وفي نفس الخطأ وقع أبو البركات الشيخ أحمد الدردير في شرحيه الكبير (4) والصغير (5) ، وفيه وقع الشيخ على العدوى في حاشيته على صغير الخرشى، حيث تابع الخرشي في تفسير حاذى بسَامَتَ، وأضاف إليه: أي سَامَتَ من بُعدٍ بمقابلة أو ميامنة أو مياسرة (6) ، ولا تتصور المقابلة؛ لأن للميقات سيصل إليه، ويحرم منه، ما لم ينحرف، وأن أحرم حين قابله الميقات، كان إحرامه قبله، وهو جائز مع الكراهة، وإن انحرف وأصبح محاذيا حين الوصول إليه أخذ حكم المحاذي.
(1) الحطاب. مواهب الجليل: 3/35- 36.
(2)
السابق: 3/34.
(3)
شرحه على مختصر خليل: 2/252 مع حاشية البنانى عليه.
(4)
الدردير: 2/23
(5)
الشرح الصغير للدردير: 1/266.
(6)
الخرشي: 2/303.
وليس هذا الخطأ في تفسير هذه الكلمة " محاذاة " مقصورًا على من ذُكر، وإنما نبهت عليهم بالخصوص لتداول كتبهم بين المشتغلين بدراسة الفقه الإسلامي من خلال مذهب أمام دار الهجرة رضي الله عنه.
3-
المذهب الشافعي: من سلك طريقا لا يؤدي إلى ميقات من المواقيت المذكورة، أحرم بالنسك حين يحاذي ميقاتا منها، قال الشيرازي: قد اجتهد عمر في ميقات أهل العراق واعتبر المحاذاة (1)، قال النووي: وهذا الذي ذكره المصنف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب.
وسبيل معرفة أنه حاذى ميقاتا سؤالُ ذوي الخبرة إن وُجدوا وإلا تحرى مريد النسك، واستظهر حتى يتيقن أنها حاذى الميقات أو فوقه استحبابا عند جمهور فقهاء الشافعية، ووجوبا عند القاضى أبي الطيب منهم، والمذهب ما عليه الجمهور (2) .
فإن حاذى ميقاتين أحرم من محاذاة أقربهما إليه.
فإن استويا في القرب أحرم من محاذاة أبعدهما من مكة.
وإن لم يحاذ ميقاتا أحرم على مرحلتين من مكة (3) .
هذا وقد فسر فقهاء الشافعية الذين رجعتُ إلى كتبهم كلمة محاذاة تعبيرا صحيحا. ومنهم شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الذي يفسر المحاذاة بالمسامتة بيمينه أو يساره (4)، ويضيف إليه سليمان الجمل تكميلاً فيقول: لا بظهره ولا بوجهه؛ لأن الأول وراءه والثانى أمامه (5) .
4-
المذهب الحنبلي: من سلك طريقا لا يمر بميقات من المواقيت المذكورة، أو عرج عن الميقات، بأن مشى في طريق لا تمر عليه أحرم إذا حاذى أقرب المواقيت لقول عمر رضي الله عنه لأهل العراق:" انظروا حذوها من طريقكم ". فحد لهم ذات عرق، وسبيل معرفة المحاذاة الاجتهاد والتقدير كالقبلة.
وإن جهلت المحاذاة يستحب الاحتياط، فإن الإحرام قبل الميقات مكروه وتأخيره عنه حرام (6) .
هذا وإن تساوى الميقات في القرب إلى طريقه أحرم من حذو أبعدهما عن مكة من طريقة، وأطلق الآجري فقال: من خرج عن المواقيت يحرم إذا حاذى (7) .
(1) المهذب مع المجموع: 7/198. بتصرف.
(2)
المجموع: 7/198.
(3)
إبراهيم البيجوري، حاشية على شرح ابن قاسم الغزي على متن أبي شجاع: 1/388.
(4)
المنهج وشرحه له: 2/404.
(5)
حاشيته على شرح المنهج: 2/404.
(6)
البهوتي. كشاف القناه عن متن الإقناع: 2/402.
(7)
المرداوي. الإنصاف: 3/427.
وإما من لم يحاذ ميقاتا أصلا، فإنه يحرم بمقدار مرحلتين من مكة، نقل هذا ابن مفلح في كتابه الفروع ووصفه بأنه متجه (1) ونقله عنه المرداوي في الإنصاف وأقره (2) .
5-
المذهب الزيدى: من سلك طريقا غير طريق المواقيت، فمن أرائها وعليه اليقين أن أمكنت المعاينة، وإلا فالظن كالقبلة، والاحتياط بتقديم الإحرام على المواقيت أفضل (3) .
6-
المذهب الإمامي: لو حج على طريق لا يمر فيه بميقات من المواقيت، قيل: يحرم إذا غلب على ظنه محاذاة أقرب المواقيت إلى مكة، وكذا من حج في البحر (4) .
قال محمد جواد في مغنيه: ولا فرق في المحاذاة بين أن يكون السفر في البر أو البحر، أما السفر في الجو فلا تتحقق فيه المحاذاة إطلاقا،؛ لأن المحاذاة معناها أن يكون المحاذي عن يمينك أو يسارك، لا تحتك أو فوقك.
(1) ابن مفلح: 3/277.
(2)
الإنصاف: 3/427.
(3)
أحمد بن يحيى المرتضى. البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: 2/288.
(4)
نجم الدين جعفر بن الحسن الحلي: 4/1/241.
وتثبت بقول أهل الخبرة، ويكتفى فيها بحصول الظن (1) .
المذهب الإباضي: من حاذى ميقاتا في بر أو بحر فميقاته المحاذاة، فالجحفة مثلاً ميقات من سلك من أهل المغرب طريق الساحل، فمن مر بها أو عن يمينها أو عن يسارها، أو في البر أو في البحر، فليحرم من مقابلها أو قبله.
"وقال الشيخ نور الدين السالمي في شرح حديث المواقيت من الجامع الصحيح للربيع بين حبيب ما نصه: قال أبو صفرة رحمه الله تعالى: كنا نحرم من جدة في الصيف، فلما جاء الشتاء، شق ذلك بنا، فصرنا نحرم من ذات عرق، وذلك أنه كان رحمة الله عليه من أهل العراق، وكلامه هذا يدل على أن جدة كانت أبعد من مكة من ذات عرق يحرمون منها قبل الميقات (2) .
وقال الشيخ بيوض إبراهيم عمر متحدثا عن مسألة إحرام ركاب الطائرات من جدة ما نصه: " ليس على حجاج الطائرات الذاهبين إلى جدة إحرام إلا من ميقات أهل جدة، ولا نرى هذا رخصة بل نراه عزيمة، فإنها لم تعارض دليلاً معتبرًا، ولقد روينا عن شيوخنا الأمر بفتوى الناس بما يسعهم، ومن أراد التضييق فيشدد على نفسه، قال العلامة الجليل أبو أيوب وائل بن أيوب من طبقة الربيع بن حبيب رحمه الله: " إنما الفقيه الذي يعلم ما يسع الناس فيه مما يسألونه، وأما التضييق فمن شاء أخذ بالاحتياط " وقال الإمام أبو سعيد الكدمى من كبار آئمة العلم بعمان: ليس العالم من حمل الناس على ورعه، إنما العالم من أفتى الناس بما يسعهم من العلم " (3) .
(1) فقه جعفر الصادق: 1/170.
(2)
محمد بن يوسف أطفيش: شرحه على كتاب النيل وشفاء الغليل: 4/42.
(3)
أجوبة وفتاوى: 5/17- 18.
المبحث الخامس
الإرخاص لركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة
ويشتمل على النقاط الآتية:
النقطة الأولى: مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة.
النقطة الثانية: تيسرات خاصة بالحج.
النقطة الثالثة: نصوص فقهاء الإسلام ترخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة.
النقطة الأولى
مقاصد شرعية عامة تساعد على الترخيص للافقيين
من ركاب الطائرات في تأخير الإحرام إلى جدة
قبل الشروع في دراسة مسائل هذه النقطة، لابد من تقديم نقطتين هامتين هما:
1-
أن هذه المقاصد الشرعية التي سأتناولها بالدرس قطعية ثابتة بالأدلة الفاشية المنتشرة في نصوص الشريعة الإسلامية.
2-
أن اعتمادي عليها اعتماد دعم للنصوص المنقولة عن أئمة الفقه الإسلامي، واستعانة على التخريج عليها لا استمدادا مباشر منها، فذلك داب المجتهدين.
وبعد هذا التقديم نشرع في دراسة مسائل هذه النقطة فنقول: المقاصد الشرعية العامة المساعدة بالاعتبار السالف على الترخيص لركاب الطائرات من الأفقيين في تأخير الإحرام إلى جدة هي:
1-
أن الشريعة الإسلامية تعتمد التيسير أصلا من أصولها القواطع الثابتة بالأدلة الفاشية المنتشرة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآثار السلف الصالح لهذه الأمة.
أما القرآن الكريم فآي كثيرة منها قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، وقوله جل من قائل:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله تبارك وتقدس:{مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مَّن حَرَج} [المائدة: 6] .
وأما السنة النبوية الشريفة فأحاديث كثيرة منها قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسدودا وقاربوا، وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة)) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم لما بعث أبا موسى الأشعري ومعاذا إلى اليمن: ((يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)) (2) .
(1) البخاري. الجامع الصحيح. كتاب الإيمان باب الدين يسر: 1/93 مع الفتح.
(2)
البخاري، الجامع الصحيح، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع: 8/62 مع الفتح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)) . (1)، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت:((ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين قط، إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثما، فإن كان إثما كان أبعد الناس منه)) الحديث (2) .
وأما آثار السلف فكثيرة: منها قول مطرف بن الشخير التابعي " خير الأمر أوساطها "(3)، ومنها قول الشعبي:" إذا اختلف عليك في أمرين فخذ بأيسرهما "، ثم قرأ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] (4)، ومنها قول أمام الفقه والحديث مالك بن أنس رضي الله عنه في مواضع كثيرة من الموطأ:" دين الله يسر "(5) ، ولا أخاله قالها إلا بعد استقراء تام لنصوص الشريعة ومواردها، واستخلاص هذا المقصد من مقاصدها.
واليسر وسط بين الشدة والتساهل، والتشدد والتساهل يدعو إليهما الهوى، وقد حذرنا الشرع من اتباعه في مواضع كثيرة، فقال تعالى:{وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]، وقال جل وعلا:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء: 171] ، وقال جل جلاله، محذرا هذه الأمة المحمدية من الغلو في الدين والابتداع كما فعل ذلك أهل الكتاب فاستوجبوا غضب الله:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27]، وقال صلوات الله وسلامة عليه في حق إليهود:((إنما أمروا بأدنى بقرة، ولكنهم لما شدودا شدد الله عليهم الحديث)) (6) .
وحين نقف موقفا وسطا بين الشدة وبين التساهل في قضية الإرخاص لركاب الطائرات من الأفقيين في الإحرام من جدة، نجد أن قيام الشريعة على الوسيطة يساعدنا على إيجاد الجواب الصحيح، وهو الجواز فيما يبدو؛ لأن الحاج من الأفقيين على الطائرة لابد من النزول بجدة، وفيما يؤذن له، أو لا يؤذن بدخول مكة من طرف الحكومة السعودية، فإذا أضفنا إلى ذلك مشقة ركوب الطائرة وحمل الأمتعة بعد النزول واجتياز الجمارك، ومكاتب جوازات السفر، واستعداد ذي النسك بعد ذلك لتبديل عملته، وحمل أمتعته، والسفر إلى مكة، فهل من تيسير الشريعة الذي سقنا أدلته أن يقوم بهذه الأعمال كلها وهو محرم؟ ويكفي ما يتعرض إليه من توتر الأعصاب والإرهاق والغضب وكبح النفس عن الشهوات، مما يجبره قصرا وهو يعاني هذه الأتعاب إلى حرج شديد عند الأكثر، وإلى سباب وشتم عند البعض.
(1) ابن حمزة الحسيني، البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف: 2/111.
(2)
مالك، الموطأ، كتاب الجامع، ما جاء في حسن الخلق: 4/251.
(3)
ابن عاشور رحمه الله، مقاصد الشريعة 62، قال وبعضهم يرويه حديثا.
(4)
الخطيب البغدادي، الفقيه والمتفقه 2/204.
(5)
ابن عاشور أصول النظام الاجتماعى في الإسلام: 26-27.
(6)
ابن جرير الطبرى. جامع البيان في تفسير القرآن: 1/175.
ونحن نعلم أن الخصام من محظورات الإحرام، فعلينا بالتدبر والاعتبار في هذا كله واضعين نصب أعيننا أن السماحة أول أوصاف الإسلام وأكبر مقاصده، وأن الإسلام قد حافظ على استدامة السماحة وقدر لها إن عرض لها عارض من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصيرها مشتملة على شدة، انفتح لها باب الرخص المشروع بقوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وبقوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمة)) (1) ، (2) ، أفلا يكون من اليسر مع هذا المقصد أن نيسر على حجاج البيت وعماره بواسطة الطائرات، فنرخص لهم في الإحرام من جدة، فذلك ما تقتضيه الفطرة السليمة التي تأبى الإعنات والشدة، وذلك ما يستلزمه عموم الإسلام وخلوده من نفي الضيق والحرج على هذه الأمة، قال تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، وقال تبارك وتقدس:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال الجصاص: قال ابن عباس: مِن ضيق، وكذلك قال مجاهد، ويحتج به في كل ما اختلف فيه من الحوادث إن أدى إلى الضيق فهو منفي، وما أوجب التوسعة فهو أولى " (3) وقال الشاطبي في عديد من المواضع من كتاب المواقيت:" إن الأدلة على رفع الحرج في هذه الأمة بلغت مبلغ القطع "(4) .
(1) راجع مبحث السماحة في كتاب " أصول النظام الاجتماعى في الإسلام " للأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور: 27.
(2)
ابن حجر العسقلاني. بلوغ المرام مع سبل السلام كتاب الصلاة باب صلاة المسافر: 2/28.
(3)
أحكام القرآن: 3/251.
(4)
الشاطبي. الموافقات: 1/203- 204.
2-
ما أقره الفقهاء قاعدةً أساسية من قواعد الفقه الإسلامي: المشقة تجلب التيسير، وقد ذكر السيوطى " أن على هذه القاعدة خرجت جميع رخص الشرع وتخفيفاته، كما ذكر أن أسباب التخفيف في العبادات وغيرها أولها: السفر، وهو نوعان: طويل وغير طويل، ورخصه ثمانية على ما قال النووى، وهي تنقسم - باعتبار طول السفر وقصره - أربعة أقسام:
1-
ما يختص بالسفر الطويل: القصر، والفطر.
2-
ما لا يختص به قطعا: وهو ترك الجمعة، وأكل الميتة.
3-
ما فيه خلاف والأصح اختصاصه به، وهو الجمع.
4-
ما فيه خلاف والأصح عدم اختصاصه كالتنفل عن الدابة ونحوه (1) .
والحج سفر طويل على كل المذاهب في تحديد السفر الطويل، فيه من المشاق المادية والمعنوية ما وصفت سالفا، ولو كان بالطائرة أفلا يكون هذا السفر مدعاة للتخفيف واليسر، وهما روح الحنيفية السمحة المبنية على نفي الحرج والضيق.
والعجب أن فقهاءنا المعاصرين يفتون المسافر بالقصر والفطر والجمع طريقا ومكوثا بالنزل الفاخرة لا يقطع السفر، وبعضهم لا يفتيه بتأخير إحرامه إلى جدة، معرضا صفحا عما يعانيه من المشاق، مقترحا تقديم إحرامه من دويرة أهله، أو من المطار في بلده، غير مراع ما يحصل من المشاق المادية والنفسية، وبخاصة الجنسية في الطائرة، وبعد النزول كما وصفت، أو غير حاسب حسابا للطبائع البشرية هذا أولا.
وثانيا: فقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خرسان، قال الحافظ ابن عبد البر: وهذا من هؤلاء – والله أعلم – كراهة أن يضيق المرء على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه، وقال عطاء: انظروا هذه المواقيت التي وُقتت لكم فخذوا برخصة الله فيها، فإنه عسى أن يصيب أحدكم ذنبا في إحرامه، فيكون أعظم لوزره، فإن الذنب في الإحرام أعظم من ذلك. وعن سفيان بن عيينة قال: قال رجل لمالك بن أنس: من أين أحرم؟ قال: أحرم من حيث أحرم صلى الله عليه وسلم. فأعاد عليه مرارًا، وقال: فإن زدتُ على ذلك. قال: فلا تفعل، فإني أخاف عليك الفتنة. قال: وما في هذا من الفتنة؟ إنما هي أميال أزيدها. فقال مالك: قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63]، قال: وأى فتنة في هذا؟ قال: وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك أصبت فضلا قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ترى اختيارك لنفسك في هذا خير من اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) .
(1) الأشباة والنظائر: 77.
(2)
الحطاب مواهب الجليل: 3/40.
وقال ابن العربي في الرد على القول بأفضلية الإحرام من دويرة الأهل: فإنها مشقة رفعها الشرع وهدمتها السنة بما وقت النبي صلى الله عليه وسلم من المواقيت (1) . فإن وجدت المشقة جاز القياس، ورجعت المشقة كما فعل عمر في توقيت ذات عرق باجتهاده؛ دفعا للمشقة الحاصلة لأهل العراق إذا أحرموا من قرن وهو جور عليهم، وأما القصد إلى الاحتياط بالزيادة فهو من الزيادة على المقدرات الشرعية، ومزلفة نحو هاوية الفتنة إن نوى حصول فضل زائد عن صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم ((وخير ديننا أيسره)) الحديث (2) أو كما قال صلوات الله وسلامه عليه.
3-
تتبع الرخص: يبدو لى أن من أفضل الطرق لمعالجة المشاكل المستجدة التي حدثت حصيلة التقدم الحضاري والتقني أن نأخذ برخص المذاهب الفقهية، خصوصا ونحن نعاني فقدان المجتهد في حاضرنا الإسلامي، إذا لم يمنع من ذلك مانع شرعي، بأن نأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل، في أمور ديننا عبادات ومعاملات، قال الكمال بن الهمام في تحريره:" ولا يمنع منه (تتبع الرخص) مانع شرعي، إذا للإنسان أن يسلك الأخف عليه إذا كان له إليه سبيل، وكان عليه الصلاة والسلام يحب ما خف على أمته "(3) وعلل محمد العزيز جعيط شيخ الإسلام المالكي بالديار التونسية سابقا جوازَ تتبع الرخص فقال: " لأنه نوع من اللطف بالعباد، والشريعة لم ترد بقصد مشاق العباد، بل تحصيل الصالح، كالطبيب يريد بالدواء شفاء المريض لا إيذاءه، وإن لزم من ذلك الإيذاء، والمسألة ذات خلاف. وممن مال إلى القول بالجواز عز الدين بن عبد السلام، والشهاب القرافى والكمال بن الهمام "(4) .
(1) ابن العربي أحكام القرآن: 1/118.
(2)
حديث الخطيب البغدادي الفقه والمتفقه: 2/24
(3)
محمد بخيت المطيعى. سلم الوصول لشرح نهاية السول: 4/626.
(4)
مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/114- 115.
ولعل مما يدعم الأخذ بالرخص ما لم يمنع مانع شرعى ما جرى على ألسنة السلف الصالح لهذه الأمة، وتغنى به خلفها، وهو: أن خلاف الفقهاء رحمة؛ لأنه من تيسير الله على العباد، وأوضح ذلك القاسم بن محمد فقال:" لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرا منه قد عمله "، وعنه أيضًا:" أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء "، ومثله مروي عن عمر بن عبد العزيز:" ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم "، قال القاسم:" لقد أعجبني قول عمر ابن عبد العزيز: " ما أحب أن أصحاب رسول الله لم يختلفوا " (1) .
وعلل ذلك شيخ الإسلام المالكي محمد العزيز جعيط بقوله: " لأنه لو كان قولا واحدا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة "(2) .
وهذا على رأي من يرى تخيير العامي في العمل بآراء المجتهدين، والمسألة ذات خلاف، ولكن من تيسير مواكبة الشريعة الإسلامية لقافلة الحياة الإسلامية المعاصرة في غيبة الاجتهاد أن نعمل بهذا الرأي.
(1) محمد العزيز جعيط. مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/111-112.
(2)
المرجع السابق.
وبناء على ذلك أقول: قد سبق لنا أن الحسن وعطاء والنخعي لم يروا في مجاوزة الميقات بدون إحرام شيئا، أي أثما أو دما، وناهيك بهؤلاء من خيرة فقهاء التابعين، وروى ابن نافع عن مالك أنه قال رحمه الله:" ولا يحرم في السفن "، وعلق عليه الأستاذ الإمام المغفور له محمد الطاهر بن عاشور بقوله: وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات وفيه مشقة ينبغي نفيها عن الدين، ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض " (1) ، وأنا أقول: والاحتمال الثانى هو الذي يتناسب مع المقصد الشرعي الذي ردده مالك في مواضع من الموطأ أن " دين الله يسر " هذا أولا.
وثانيا قال ابن ناجي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيروانى: " ذكر لى بعض أشياخي أن في المذهب قولا آخر، أنه يؤخر الإحرام إلى البر "(2)، وابن ناجي يقول في مقدمة شرحه المذكور:" مهما عبرت ببعض شيوخنا، فهو الشيخ الفقيه العالم الصالح التقى الزاهد أبو عبد الله محمد بن الشيخ الصالح المجاور المرحوم أبي عبد الله محمد بن عرفة الورغمى "(3)، وقال ابن حزم أما المدرسة الظاهرية بالأندلس:" ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت فليحرم من حيث شاء برا أو بحرا "(4) .
فإذا تخيرتُ هذه الأقوال الميسرة وما شاكلها، وجنحتُ إلى القول بترخيص الإحرام من جدة للأفقيين القادمين بطريق الجو، أفعليَّ حرج في ذلك؟ خصوصا وأن القادمين بطريق الجو لا يتأتى منهم المرور بالميقات، كما جاء في فتوى الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور حيث يقول:" أما المسافر في الطائرة فهو لا يمر بالأرض أصلا "(5) ، وأكد ذلك سماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – دام حفظه – في فتواه في نفس الموضوع، فقال:" إن المسافر في الطائرة لا يمر بالميقات بالأرض أصلا "(6) وغيرهما كثير مشرقا ومغربا، لكن لم أر لواحد تعليلا في عدم اعتبار من طار فوق الميقات مارا به.
ويبدو لي أن حديث المواقيت جاء فيه ((هن لهن، ولمن أتى عليهن)) ، و (على) في كلام العرب تفيد الاستعلاء، وهو كما قال ابن هشام: أما على المجرور كقوله تعالى: {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] ، أو على ما يقرب منه، نحو:{أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} [طه: 10] وقوله:
وبات على النار الندى والمعلق
(7)
.
(1) محمد الطاهر ابن عاشور. إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية، والهداية: عدد 2 س 5 ذو القعدة 1379 هـ/21.
(2)
ابن ناجي. شرح الرسالة: 1/347.
(3)
المرجع السابق: 1/4.
(4)
المحلى: 7/71.
(5)
محمد الطاهر ابن عاشور إحرام المسافر إلى الحج في المركبة الجوية الهداية: عدد 2 س 5 ذو القعدة 1379 هـ./21.
(6)
محمد الحبيب ابن الخوجة فتاوى الهداية. الهداية. عدد 6 س 4 رجب 1397 هـ - 91.
(7)
المغني: 1/116.
وهو المراد هنا بمعنى قوله صلوات الله وسلامه عليه ((ولمن أتى عليهن)) إتيانا ملاصقا أو قريبا، ويدعم ذلك أن شراح الحديث جميعهم فيما رأيت فسروا كلمة أتى بـ (مر)، كما فسرت كلمة أتى بمعنى المجيء بعينه في القرآن بـ (مر) قال الزمخشرى في كشافه في تفسير قوله تعالى {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ} [الفرقان: 40] ، يعني أن قريشا مروا مرارا كثيرة في متاجرهم إلى الشام على تلك القرية التي أهلكت بالحجارة من السماء (1)، وقال في تفسير قوله تعالى:{فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: 138] ، مروا على قوم (2) ، ومر يتعدى إلى المفعول به بنفسه، وبحرفي الجر الباء وعلى، كما في القاموس: تقول " مره ومر به: جاز عليه، وامتر به وعليه كمر "(3) .
والباء في التراكيب السابقة تفيد الإلصاق وهو المعنى الذي لا يعارض بالرغم من تعدد معانيها حتى أوصلها ابن هشام إلى أربعة عشر معنى، ومن أجل كون معنى الإلصاق لا يفارقها في جميع معانيها اقتصر عليه سيبويه، يقال: مررت بزيد، أي ألصقت مروري بمكان يقرب من زيد (4) .
إذا علمنا هذا فأي إلصاق؟ وأي مرور قريب بالميقات لراكب طائرة تجتاز السحاب، ولا يتسنى نزولها إلا في المطارات، والمطار المعد لنزول الطائرات المقلة لحجاج البيت وعماره هو مطار جدة، ولا يُعترض علينا بأن سطح المسجد من المسجد، وبأن الهواء تابع للقرار، فالتابع غير المبتوع، ونحن متعبّدون بالمرور بالميقات أو المحاذاة له، وواضح عدم تصور المحاذاة لركاب الطائرة؛ لأن محاذاتك للشيء أن يكون على يمينك أو يسارك، لا فوقك ولا تحتك.
هذا والأخذ من كل مذهب بما هو الأهون والأسهل وقع فعلا من أعلام في الفقه الإسلامي، انتقلوا من مذهبهم إلى مذهب آخر قصد التيسير في زمن لم ينقطع فيه اجتهاد المذهب، أو اجتهد الفتوى على الأقل، لا في وقت لا يوجد فيه إلا من يقلد، حُكِيَ أنه أقيمت صلاة الجمعة، وهمَّ القاضى أبو الطيبِ بالتكبير، فإذا طائر قد ذرق عليه، فقال: أنا حنبلي. ثم أحرم بالصلاة، ومعلوم أن الشيخ شافعي يقول بنجاسة ذرق الطائر، فلم يمنعه مذهبه من تقليد المذهب الحنبلي قصدَ التيسير ودفعا للحاجة، كما ذكروا أن القاضى أبا عاصم العامري الحنفي كان يفتي على باب مسجد القفال، والمؤذن يؤذن بالمغرب، فترك الفتوى ودخل المسجد، فلما رآه القفال أمر المؤذن أن يُثني الإقامة، وقدّم القاضي للإمامة، فتقدم وجهر بالبسملة مع القراءة جريا على المذهب الشافعي.
(1) الزمخشرى. الكشاف: 2/110.
(2)
المرجع السابق: 1/505.
(3)
الفيرروز آبادي. القاموس المحيط: 2/137.
(4)
المغني: 1/88.
ونقل صاحب الفتاوى البزازية أن الإمام أبا يوسف صلى يوم الجمعة إماما بالناس مغتسلا من الحمام، وبعد تفرق الجماعة أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام، فقال – وهو المجتهد –: إذن نأخذ بقول إخواننا أهل المدينة: " إذا بلغ الماء القلتين لم يحمل خبثا ". وما ذلك إلا لقصد التيسير، نقل هذا الشرنبلالي في رسالته في جواز التقليد ساكتا عليها (1) .
4-
أن منافع الإنسان مقدمة على العبادات، جاء في صحيح البخاري عن الأزرق بن قيس قال:" كنا بالأهواز نقاتل الحرورية، فبينا أنا على جرف، إذا رجل يصلي، وإذا لجام دابته بيده، فجعلت الدابة تنازعه، وجعل يتبعها – قال شعبة: هو أبو برزة الأسلمي – فجعل رجل من الخوارج يقول: اللهم افعل بهذا الشيخ. فلما انصرف الشيخ قال: أنى سمعت قولكم، وإني غزوت مع رسول الله ست غزوات - أو ثمانيا - وشهدت تيسيره، وأني أن كنت أن أراجع مع دابتي أحب إلى من أن أدعها ترجع إلى مألفها فيشق علي "(2) .
قال ابن حجر العسقلاني قد أخذ الفقهاء قاعدة أن كل شيء يخشى إتلافه من متاع وغيره يجوز قطع الصلاة لأجله (3) .
(1) محمد العزيز جعيط. مجالس العرفان ومواهب الرحمان: 1/110- 111.
(2)
البخاري. الجامع الصحيح باب إذا انفلتت الدابة في الصلاة 3/81 مع الفتح.
(3)
ابن حجر. فتح الباري: 3/82.
ووقع في رواية حماد: فقال: " إن منزلي متراخ - أي متباعد - فلو صليت وتركته – أي الفرس – لم آت أهلي إلى الليل " أي لبعد المكان (1) .
وترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: باب: إذا انفلتت الدابة في الصلاة، وقال قتادة: إذا أخذ ثوبه يتبع السارق، ويدع الصلاة " (2) ، وفقه البخاري يتجلى في تراجمه.
وعلق عليه الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمه الله فقال: مشاهدته أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم المتعددة، استخلص منها أن من مقاصد الشريعة التيسير، فرأى أن قطع صلاته من أجل إدراكه فرسه، ثم الرجوع إلى استئناف صلاته، أولى من استمراره على صلاته مع إضاعة فرسه؛ لما في ذلك من شديد الحرج، فهذا المقصد بالنسبة لأبي برزة مظنون ظنا قريبا من القطع (3) .
وإن ظهر للأستاذ الإمام فيما عقب به على هذا الحديث الحرج الشديد في إضاعة الفرس، فإن الحرج يسير في الوصول إلى المنزل متأخرًا، وأيسر منه إضاعة الثوب، ولكن سيدنا قتادة رضي الله عنه يقول: إذا أخذ ثوبه يتبع السارق ويدع الصلاة.
وإذا كانت الصلاة يقطعها من أجل أن لا يدرك أهله متأخرا، أو من أجل ثوب أخذه سارق، أو من أجل متاع وغيره يخشى أتلافه، أفلا يرخص للحاج أو المعتمر وهو يعاني مشاق السفر التي وصفت في تأخير إحرامه إلى جدة، والصلاة عماد الدين والفيصل بين الكفر والإيمان، وأفضل من الحج ومقدمة عليه، قال الشهاب القرافي رحمه الله: " تقدم ركعة من العشاء على الحج، إذا لم يبق قبل الفجر إلا مقدار ركعة العشاء والوقوف. قال أصحابنا رحمهم الله: يفوّت الحج ويصلي. وللشافعية رحمهم الله أقوال: يفوّتها ويقدم الحج لعظم مشقته، يصلي وهو يمشي كصلاة المسايفة، والحق مذهب مالك لأن الصلاة أفضل، وهي فورية إجماعا (4) .
ولو أعمل الفقهاء المخرّجون على أقوال الأئمة فيما يَجِدُّ من المسائل النظرَ مليا، فيما كان عليه سلفنا الصالح من مراعاة مقصد التيسير؛ لَيَسَّرُوا على المسلمين ولم يعنتوهم.
(1) ابن حجر. السابق.
(2)
البخاري، الجامع الصحيح مع الفتح: 3/81.
(3)
مقاصد الشريعة الإسلامية: 18.
(4)
الفروق: 2/230.
النقطة الثانية
تيسيرات خاصة بالحج
الحج مبني على كثرة المشاق فناسبه التخفيف، ذلك ما صرح به الشهاب القرافي في فروقه، وذلك ما ينطبق على شرط الاستطاعة لحج البيت.
وقد جاءت هذه التيسيرات من النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، وصحابته الخيرة المنتجبين، وورثة هديه علماء أمته العاملين، رضوان الله عليهم أجمعين.
وإحصاء هذه التيسيرات الخاصة بالحج يحتاج إلى تأليف خاص، ولكن سنعرض لنماذج من هذه التخفيفات، تفتح لنا باب التيسير على ذوي النسك القادمين إلى الحج أو العمرة بطريق الجو، وتساعدنا على الفتوى بالإرخاص لهم في الإحرام من جدة، وهذه النماذج هي:
1-
توقيت المواقيت من لدنه عليه الصلاة والسلام، نمط من رخص الله للأمة الوسط، وتخفيف من المشاق.
2-
وقوفه عليه الصلاة والسلام بمنى، وتيسيره على أمته أداء النسك، روى مالك في الموطأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: "وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى، والناس يسألونه، فجاءه رجل فقال له: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أنحر. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:((انحر ولا حرج)) ، ثم جاءه آخر فقال: يا رسول الله، لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. قال:((أرم ولا حرج)) قال: فما سئل صلى الله عليه وسلم عن شيء قُدِّمَ ولا أُخِّرَ إلا قال: ((افعل ولا حرج)) (1) .
(1) كتاب الحج، جامع الحج: 2/390- 391.
3-
رخص الرعاة: روى مالك في الموطأ، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أبيه أن أبا البداح بن عاصم بن عدي أخبره عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أرخص لرعاء الإبل في البيتوته خارجين عن منى يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر)) (1) .
وروي عن مالك، عن يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، أنه سمعه يذكر أنه ((أرخص للرعاة أن يرموا بالليل، يقول: في الزمان الأول)) (2) .
والرخصة التي تضمنها الحديث الثانى أولوية؛ لأنه إذا رخص لهم في تأخير اليوم الثانى فرميهم بالليل أولى.
4-
انعقاد الإجماع على جواز التمتع: روى مالك في الموطأ، عن ابن شهاب، عن محمد بن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب أنه حدثه ((، أنه سمع سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال الضحاك بن قيس: لا يفعل ذلك إلا من جهل أمر الله عز وجل. فقال سعد: بئس ما قلت يا ابن أخى. فقال الضحاك: فإن عمر بن الخطاب قد نهى عن ذلك. فقال سعد: قد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصنعناها معه.)) (3) .
والمسألة مفصلة في كتب الفقه، ولا نريد أن نطيل هنا بجلب ما قيل فيها، ولكن سنقتصر على ما رواه مسلم حين سُئل عمر عما أحدث في التمتع من نهي، فقال:((قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلوا معرسين بهن في الأراك، ثم يروحون في الحج تقطر رؤسهم.)) (4) .
قال الزرقاني: فبيّن عمرُ العلة التي لأجلها كره التمتع، وكان من رأيه عدم التوجه للحاج بكل طريق، فكره قرب عهدهم بالنساء؛ لئلا يستمر الليل إلى ذلك، بخلاف من بعد عهده به، ومن تفطم ينفطم (5) .
5-
حد عمر رضي الله عنه لأهل العراق ذات عرق باجتهاد منه اعتمادا على محاذاتها لقرن، ولو محاذاة بعيدة، حين قالوا له: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّ لأهل نجد قرنا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنا شق علينا؟ قال:((فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم ذات عرق)) .
(1) الموطأ كتاب الحج، الرخصة في رمي الجمار: 2/371.
(2)
المرجع السابق.
(3)
الموطأ كتاب الحج، ما جاء في التمتع: 2/265.
(4)
مسلم، صحيحه، كتاب الحج، باب جواز التمتع: 5/335.
(5)
الزرقاني شرحه على الموطأ: 2/265.
6-
إنكار عمر وعثمان على من قَدّم الإحرام: فقد أنكر عمر على عمران بن حصين إحرامه من البصرة، وأنكر عثمان على عبد الله بن عامر إحرامه من خراسان، قال الحافظ ابن عبد البر معللا ذلك: وهذا من هؤلاء – والله أعلم – كراهةَ أن يضيقَ المرءُ على نفسه ما وسع الله عليه، وأن يتعرض لما لا يُؤْمَن أن يحدث في إحرامه.
7-
اتحاد الفدية لمن ارتكب العديد من محظورات الإحرام متأولا بسقوط الأجزاء، أو جاهلا بموجب إتمامه: قال الشهاب القرافى في كتاب " الفروق " في الفرق الثانى عشر بعد المائة بين قاعدة تداخل الجوابر في الحج، وقاعدة ما لا يتداخل الجوابر فيه في الحج: قال مالك رحمه الله: من أفسد حجه فأصاب صيدا، أو حلق، أو تطيب مرة بعد مرة تعددت الفدية وجزاء الصيد أن أصابه.
فإن كان متأولا بسقوط أجزائه، أو جاهلا بموجب إتمامه اتحدت الفدية؛ لأنه لم يوجد منه الجرأة على محرم، فعذره الجهل، وإن كانت القاعدة عدم عذره به؛ لأنه جهل يمكن دفعه بالتعلم، كما قال في الصلاة، غير أنه لاحظ هنا معنى مفقودًا في الصلاة، وهو كثرة مشاق الحج، فناسب التخفيف (1) .
وبعد عرض هذه التيسيرات من المنعوت في القرآن الكريم بالرؤوف الرحيم محمد صلى الله عليه وسلم ومن خلفائه الراشدين المهديين بهديه من بعده، وورثة فقه شريعته من الأئمة المجتهدين رضوان الله عليهم أجمعين، أفلا نتأسى بهم، ونرخص لحجاج البيت وعماره بطريق الجو في الإحرام من جدة التي هم مضطرون إلى النزول بها لا مختارون، والتي منها يؤذن لهم، أو لا يؤذن في الدخول إلى مكة، فهم بنفي الحرج أولى، وقد نفاه الرسول بمنى على من قدّم أو أخر بعض الواجبات عن بعض، ولم يراعِ الترتيب المطلوب، حتى قال راوي الحديث: فما سئل عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: ((افعل ولا حرج)) ، وأن ندفع عنهم المشاق ما أمكن حتى يكملوا واجبات التعارف، واجتياز حرس الحدود، وتبديل العملة وتهيئة السفر إلى مكة
…
كما دفعها عمر رضي الله عنه عن أهل العراق حين شق الإحرام من قرن عليهم، وأن نراعي أثر محظورات الإحرام عن نفس ذي النسك، خصوصا أن نصوص فقهاء الإسلام إذا أُحسن تخريجها تُرخص في ذلك بلا تعسف.
(1) الزرقاني شرحه على الموطأ: 2/265.
النقطة الثالثة
نصوص فقهاء الإسلام ترخص للقادمين جوا في تأخير الإحرام إلى جدة
هذه المسألة من المسائل المستحدثة، فلا توجد صرائح النصوص الدالة عليها بصريح العبارة، ولكن بقرب من التخريج غير المتكلف نجد نصوص الفقه ترخص للقادمين إلى جدة بطريق الجو في الإحرام منها.
ففى المذهب الحنفى: إذا ثبت أن راكب الطائرة لا يمر بالميقات أصلاً؛ لأن الميقات أرضي وهو لا يمر بالأرض، ولا يحاذيه من باب أولى، لأن المحاذاة المسامتة ميامنةً أو مياسرةً فحسب، فقد نص فقهاء هذا المذهب على حكم من لم يمر بالميقات وجهل المحاذاة، فقال خاتمة المحققين العلامة ابن عابدين: فإن لم يعلم المحاذاة فعلى مرحلتين من مكة، ووجهه أن المرحلتين أوسط المسافات، وإلا فالاحتياط الزيادة.
ومن انعدم عنده المرور بالميقات؛ لأنه طائر في أجواز الفضاء وفوق السحاب، ولا تتصور بالنسبة إليه محاذاة، أولى أن يحرم قبل مكة بمرحلتين وجدة تبعد عن مكة بمرحلتين.
وأما في المذهب المالكي فقد سبق أن نقلنا ما نقله صاحب المدخل في مناسكه عن ابن نافع رواية عن مالك أنه قال: " لا يحرم في السفن " بإطلاق، وعلق الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه على هذه القولة فقال:" وهذا يحتمل وجوب النزول إلى الميقات وفيه مشقة ينبغى نفيها عن الدين، ويحتمل أن يريد أنه يرخص له تأخير الإحرام إلى النزول إلى الأرض "، وأنا أقول: والاحتمال الثانى هو الذي يتناسب مع المقصد الشرعي الذي ردده مالك في مواضع كثيرة من الموطأ؛ أن " دين الله يسر " وأيضا فما يدعمه ما نقله ابن ناجي في شرحه على رسالة ابن أبي زيد القيرواني حيث قال: " ذَكر لى بعض أشياخي أن في المذهب قولا آخر أنه يؤخر الإحرام إلى البرّ "، وابن ناجي ذكر أنه إذا قال: قال بعض شيوخى، فالمقصود ابن عرفة، نقادة المذهب المالكى، ونقل الحطاب في مواهب الجليل عن أبي إسحاق التونسي أنه قال: " ومن كان بلده بعيدًا عن الميقات، مشرقا عن الميقات أو مغربا عنه، وإذا قصد إلى الميقات شقّ عليه ذلك، لإمكان أن تكون مسافة بلده إلى الميقات مثل مسافة بلده إلى مكة، فإذا حاذى الميقات بالتقدير والتحري أحرم ولم يلزمه السير إلى الميقات (1) .
(1) الحطاب مواهب الجليل: 3/34.
وما نقله الحطاب عن أبي إسحاق التونسي، وجه الاستدلال به أن هذا الفقيه جعل من لم يمر بالميقات، وجهل المحاذاة ممن وصف يحرم بالتحري والتقدير، ولم يلزمه بالذهاب إلى الميقات؛ دفعا للمشقة وتيسيرا على ذوى النسك، كما حد عمر رضي الله عنه ذات عرق لأهل العراق لما شق عليهم قرن المنازل، أفلا نرخص لركاب الطائرات من ذوى النسك، وهم الذين لا يمرون بالميقات بالأرض أصلا، ولا تتصور منهم محاذاة، أن يحرموا من جدة حين يحاذون قرن المنازل محاذاة بعيدة مع العلم أني لم أر في كتب المالكية والحنابلة والشافعية من اشترط القرب من المحاذاة، وحين قال ابن نجيم في البحر:" ولعل مرادهم بالمحاذاة القريبة من الميقات " تعقبه محشيه ابن عابدين ردا عليه بما قاله أخوه (عمر بن نجيم) في النهر "من لم يمر على المواقيت يحرم إذا حاذى آخرها، قربت المحاذاة أو بعدت "، وقواعد المذهب المالكي لا تأباه، بل ربما يستروح ذلك من تقييد سند القائم على التفريق بين من يساحل الجحفة كالمسافر في بحر السويس، وبين من لا يساحل كالمسافر في بحر عيذاب.
هذا وقد أفتى علم مشهور من أعلام المالكية في العالم الإسلامي الأستاذ الإمام محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه المسافر إلى الحج في المركبة الجوية بالإحرام من جدة؛ معتمدًا بالدرجة الأولى في فتواه المشار إليها في النقطة الأولى من هذا المبحث تقييد سند بن عنان لقول مالك الذي يرويه ابن أبي زيد في النوادر عن ابن المواز عن مالك أنه قال: " ومن حج في البحر من أهل مصر، وشبههم إذا حاذى الجحفة " الذي وسعت القول فيه في النقطة التاسعة من المبحث الرابع.
ويظهر أنه قاس من في الطائرة على المحاذي في اللجنة ولا يستطيع النزول إلى البر كالمسافر في بحر عيذاب، وما استظهرته هو الذي أكده بوضوح سماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة – دام حفظه – حيث قال " إن المسافر في الطائرة لا يمر بالميقات بالأرض أصلا، ولا يتصور فيه إمكان النزول إلى البر قبل الوصول إلى مركز الميناء الجوي المعد لنزول الطائرة، فأشبه حاله حال من سافر في بحر لا يحاذي الشواطئ مثل بحر الهند، وبحر اليمن، وبحر عيذاب ".
قال سند: من أتى بحر عيذاب حيث لا يحاذي البر، فلا يجب عليه الإحرام في البحر، إلى أن يصل إلى البر، ولا يلزمه بتأخير الإحرام إلى البر هدي.
وهذا هو الذي نراه، وهو ما أفتى به شيخنا المقدس المبرور محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه إلخ الفتوى التي أشرت إليها في النقطة الأولى من نقاط هذا المبحث.
وأما في المذهب الشافعي فيبدو أن ما قرر في حق من سلك طريقا لا ميقات فيه من بر أو بحر، ولم يحاذ ميقاتًا أحرم على مرحلتين من مكة.
وركاب الطائرات لا يمرون بالميقات بالأرض أصلا، ولا يحاذون، إذ المحاذاة كما فسرها شيخ الإسلام زكريا الأنصارى الشافعي في شرحه على منهج: المسامتة بيمينه أو يساره، وأكملها محشيه سليمان الجمل فأضاف إلى تيسيره قوله: " لا بوجهه، ولا بظهره؛ لأن الأول أمامه، والثانى وراءه، ومن هنا يحرمون على مرحلتين من مكة، وجدة تبعد عن مكة بمرحلتين.
وكذلك الشأن في المذهب الحنبلى، يقول البهوتي في كشاف القناع عن متن الإقناع:" وإحرام من لم يحاذ ميقاتا بقدر مرحلتين عن مكة ".
هذا ما اهتديت إليه من تخريج لقضية البحث: " الإحرام من جدة لركاب الطائرات " والله أسأل أن يكون صوبا من فضله جل جلاله.
ولا يفوتني هنا أن أشير إلى كثرة ما صدر في هذه القضية من فتاوى يتسنى تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
1-
القسم الأول يجيز بإطلاق غير راء على المحرم من جدة إثما ولا دما، ومن هؤلاء محمد الطاهر ابن عاشور رحمة الله عليه وسماحة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، والشيخ محمد المهيري من تونس والشيخ عبد الله كنون من المغرب، والشيخ بيوض إبراهيم بن عمر من بني ميزاب من الجزائر، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، والشيخ عبد الله الأنصارى من قطر، ولجنة الفتوى بالأزهر الشريف في تصحيحها لفتوى المرحوم الشيخ جعفر بن أبي اللبني الحنفي المدرس بالحرم المكي لركاب السفن في الإحرام من جدة، والتي نشرها في شكل رسالة سماها:" دفع الشدة بجواز تأخير الآفاقي الإحرام إلى جدة "، وطبعت في الأستانة سنة 1327 هـ، وغيرهم.
2-
المجيز بتقييد وهو القائل بنفي الإثم ولزوم الهدي، ولم أطلع على فتوى من هذا القبيل، ولكن رأيت ذلك في " أسهل المدارك شرح إرشاد السالك في فقه إمام الأئمة مالك " لأبي بكر بن حسن الكشناوي من العلماء المعاصرين يقول:" قد أفتى العلماء المعتبرون من أهل العصر بوجوب الهدي على من تعدى الميقات على الطائرة وغيرها من المركوب الحادث".
وعلى تلك الفتوى لو أحرم القادم على الطائرة وغيرها قبل الميقات المكاني لسقط عنه الدم، وإن كان الإحرام قبل الميقات مكروها، والكراهة لا تنافي الجواز، فلقد قال الحافظ أحمد الطبري في " القرى لقاصد أم القرى ": والتقديم جائز بالإجماع وإنما كرهه قوم (1) .
3-
المانع لركاب الطائرات أن يحرموا من جدة ومن أشهرهم سماحة العلامة عبد العزيز بن عبد الله بن باز، سواء فيما نشر بركن الفتاوى في مجلة الدعوى السعودية بملحق خاص بمناسبة موسم الحج سنة 1403 هـ، أو في " التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيادة على ضوء الكتاب والسنة " قبل ذلك، أو في رده على ما أملاه الشيخ عبد الله الأنصارى، ونقل في التقويم القطرى المنشور بمجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحت عنوان " بيان خطأ من جعل جدة ميقاتا لحجاج الجو والبحر "(2) .
ولكل وجهة، ونسأل الله إجزال الأجر والثواب لكل من قصد بتيسيره أو أخذه الحيطة في اجتهاد ابتغاء مرضاة الله، وخدمة شريعته، إنه سميع مجيب، وهو حسبي ونعم الوكيل (3) .
(1) الطبري القرى: 1/451.
(2)
عدد 53 المحرم – صفر - ربيع الأول 1402، 0/93 – 94- 95- 96.
(3)
سأصور ما تصل إليه يدى من الفتاوى التي ذكرتها، وتكون ملحقا لهذا البحث بعونه تعالى