الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي
لفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي
توطئة
1-
إن من أبرز المشكلات الاقتصادية المعاصرة التي تمس الفرد والجماعة في أغلب دول العالم اليوم مشكلة التضخم، وما يرافقه من تأثير كبير وخطير على القوة الشرائية للنقد، حيث تضعف هذه القوة وتقل، مما يؤدي إلى رخص النقود تجاه السلع والمنافع والخدمات التي تبذل عوضًا عنها.
كما أن السياسية الاقتصادية لكثير من الدول الحاضرة قد تدعوها إلى تخفيض قيمة عملتها بالنسبة إلى بعض العملات الأخرى أو بالنسبة إلى الذهب، فتخفضها بالقدر المناسب، وقد تدعوها على عكس ذلك إلى رفع قيمة عملتها، فترفعها بالنسبة الملائمة.
وهناك العديد من الدول المعاصرة تحظر التعامل بنقدها خارج حدود أراضيها وفق سياسة اقتصادية معينة، وتمنع بالتالي إخراجه منها إلى أية دولة أخرى، ولو حدث أن أخرج منها بصورة ما، فإنها تمنع إدخاله إليها ثانية.
وقد تمنع بعض الدول التعامل بالذهب أو بأية عملة غير عملتها في داخل أراضيها، وتعتبر ذلك من قبيل النظام العام الذي لا تجوز مخالفته، وتجعل كل اتفاق على خلافه باطلاً، وقد تلغي بعض الدول شيئًا من عملاتها الرائجة، وتستبدلها بنقد آخر تصطلح على التعامل به.. وقد.. وقد..
هذا في نطاق السياسية الاقتصادية للدول، أما في مجال المعاملات الفردية، فكثيرًا ما يقرض المرء لغيره مبلغًا من المال إلى أجل معين؛ رفقًا به ومعونة له، ودفعًا لحاجته، وتفريجًا لكربته، فإذا ما حل أجل الوفاء، وجد المقرض أن هذا المبلغ الذي عاد إليه أقل أو أكثر – بقليل أو كثير – من المبلغ الذي دفعه له قرضًا من حيث قوته الشرائية، أو من حيث قيمته بالنسبة إلى الذهب، أو بالنسبة إلى العملات الأخرى يوم أقرضه، وإن كان مماثلاً له في الكم والعدد، وكثيرًا ما يشتري التاجر بضاعة بنقد محدد مؤجل الوفاء إلى أمد متفق عليه، وعندما يحل الأجل ويحين وقت الأداء، يجد كل واحد من المتبايعين أن المبلغ المتفق عليه قد اختلف حاله من حيث القوة الشرائية، أو من حيث القيمة بالنسبة إلى الذهب أو إلى العملات الأخرى عن الوضع الذي كان عليه وقت وجوبه في الذمة بالعقد، وفي كثير من البلدان الإسلامية جرى العرف بين الناس على جعل بعض مهر الزوجة أو أكثره أو كله دينًا مؤجلاً في ذمة الزوج، لا يحل إلا بالموت أو الفرقة، ويسمونه "المهر المؤجل". وواقع الأمر في غالب حالات المهر المؤجل طروء التغير الفاحش على قيمة النقد الذي جعل مهرًا، وصار دينًا في ذمة الزوج عند حلوله بالنظر إلى يوم ثبوته في ذمته.
هذه بعض صور القضية، وللقضية تعلقات شائكة وآثار خطيرة وأبعاد كثيرة لا تكاد تحصى، وأنها لتمس الفرد والمجتمع والدولة في مجالات مختلفة وجوانب شتى، غير أن الذي يعنينا بحثه في هذا المقام ما يتصل بالمعاملات المالية عند تغير أحوال النقد، وأثر ذلك على الديون في الذمم، أيًا كان سببها ومنشئوها.
وهذا الجانب – في الحقيقة ونفس الأمر – وإن كان عظيم الأهمية وبالغ الخطورة في هذا العصر على الخصوص، فإن مبادئه وأسسه موجودة ومعروفة في تعامل المسلمين وفقههم منذ أكثر من ألف عام مضى، ولفقهائهم في ذلك آراء ونظرات هامة جديرة بالعناية بها والإفادة منها، وبيان ذلك:
(أ) تغيرات النقود الذهبية والفضية
2-
إن الدين الثابت في الذمة إذا كان عملة ذهبية أو فضية محدودة مسماة، فغلت أو رخصت عند حلول وقت الأداء، فلا يلزم المدين أن يؤدي غيرها؛ لأنها نقد بالخلقة – كما يعبر الفقهاء – وهذا التغير في قيمتها لا تأثير له على الدين البتة (1) .
يقول ابن عابدين في رسالته "تنبيه الرقود على مسائل النقود": "وهذا كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما، ثم غلا أو رخص، بأن باع ثوبًا بعشرين ريالاً مثلاً، أو استقرض ذلك، يجب رده بعينه، غلا أو رخص"(2) .
ويقول أيضًا: "وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة – كالشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والريال – فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع (3) .
وعلى هذا نصت المادة (805) من "مرشد الحيران"، حيث جاء فيها: وإن استقرض شيئًا من المكيلات أو الموزونات أو المسكوكات من الذهب والفضة، فرخصت أسعارها أو غلت، فعليه رد مثلها ولا عبرة برخصها وغلوها".
3-
وحتى لو زادت الجهة المصدرة لهذه العملة سعرها أو أنقصته، فلا يلزم المدين إلا ما جرى عليه العقد (4) .
(1) تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/64.
(2)
تنبيه الرقود: 2/64.
(3)
تنبيه الرقود: 2/64.
(4)
منح الجليل لعليش: 2/534، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي (مطبوع ضمن الحاوي للفتاوى) : 1/97 وما بعدها.
يقول ابن عابدين: "ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه. والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال أفرنجي أو مائة ذهب عتيق"(1) .
4-
ولو أبطلت السلطة المصدرة لهذه العملة التعامل بها، فإنه لا يلزم المدين سواها وفاء بالعقد، إذ هي المعقود عليها دون غيرها. وعلى ذلك نص الإمام الشافعي والمالكية في المشهور عندهم (2) .
قال الشافعي في "الأم": "ومن سلف فلوسًا أو دراهم أو باع بها، ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي سلف أو باع بها"(3) .
وجاء في نوازل ابن رشد ما نصه: "وسئل رضي الله عنه عن الدنانير والدراهم إذا قطعت السكة فيها وأبدلت بسكة غيرها، ما الواجب في الديون والمعاملات المتقدمة وأشباه ذلك؟
فقال: المنصوص لأصحابنا وغيرهم من أهل العلم رحمهم الله، أنه لا يجب عليه إلا ما وقعت به المعاملة.
فقال له السائل: فإن بعض الفقهاء يقول: أنه لا يجب عليه إلا السكة المتأخرة؛ لأن السلطان قد قطع تلك السكة وأبطلها، فصارت كلا شيء.
فقال: لا يلتفت إلى هذا القول، فليس بقول لأحد من أهل العلم. وهذا نقض لأحكام الإسلام، ومخالفة لكتاب الله وسنة النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن أكل المال بالباطل" (4) .
ثم قال: "ويلزم هذا القائل أن يقول: "إن السلطان إذا أبدل المكاييل بأصغر أو أكبر، أو الموازين بأنقص أو أوفى، وقد وقعت المعاملة بينهما بالمكيال الأول أو الميزان الأول أنه ليس للمبتاع إلا بالكيل الأخير، وإن كان أصغر. وأن على البائع الدفع بالثاني أيضًا وإن كان أكبر. وهذا مما لا خفاء في بطلانه. وبالله التوفيق (5) .
5-
وقال بعض المالكية: إذا أبطلت تلك العملة واستبدلت بغيرها. فيرجع إلى قيمة العملة الملغاة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة ذهبًا (6) .
6-
أما إذا عدمت تلك العملة أو انقطعت أو فقدت في بلد المتعاقدين، فتجب عندئذ قيمتها.
(1) تنبيه الرقود: 2/66.
(2)
حاشية الرهوني: 5/118، 119، ومنح الجليل: 2/534، حاشية المدني على كنون: 5/118.
(3)
الأم: 3/33.
(4)
حاشية الرهوني: 5/119.
(5)
حاشية الرهوني: 5/119.
(6)
حاشية الرهوني: 5/119.
جاء في مختصر خليل وشرحه لعليش: "وإن بطلت فلوس فالمثل، أو عدمت الفلوس أو الدنانير أو الدراهم بعد ترتبها في ذمة شخص ببيع أو قرض من بلد المتعاقدين، وإن وجدت في غيرها، فالقيمة واجبة على من ترتبت عليه مما تجدد التعامل به، معتبرة وقت اجتماع الاستحقاق – وذلك يوم حلول أجلها – والعدم لها، ولا يجتمعان إلا وقت المتأخر منهما. فإن استحقت ثم عدمت، فالتقويم يوم العدم. وإن عدمت ثم استحقت، قومت يوم استحقاقها"(1) .
7-
ولو قلت أو عز وجودها في أيدي الناس، فإنه لا يجب غيرها، لإمكان تحصيلها مع العزة، بخلاف انقطاعها وانعدامها وفقدها (2) .
جاء في "تحفة المحتاج" للهيثمي: "ولو باع بنقد دراهم أو دنانير، وعين شيئًا موجودًا، اتبع وإن عز"(3) .
8-
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن الحنابلة قيدوا القول بإلزام الدائن بقبول مثل النقد الذي ثبت في ذمة المدين، وإلزام المدين بأدائه إذا كان متوفرًا: بأن يكون التعامل بذلك النقد مسموحًا به من قبل الدولة. أما إذا منعت الدولة الناس من التعامل به، فلا يجبر الدائن على قبوله، ويكون له القيمة وقت ثبوت الدين من غير جنسه من النقود إن ترتب على أخذ القيمة من جنسه ربا الفضل (4) سواء اتفق الناس على ترك التعامل بهذا النقد أو لم يتفقوا (5) .
(1) منح الجليل: 2/535.
(2)
نهاية المحتاج للرملي: 3/397.
(3)
تحفة المحتاج: 4/255.
(4)
أما إذا لم يترتب على أداء القيمة من جنسه ربا الفضل، فلا مانع من أن يكون الوفاء بقيمته من جنسه.
(5)
كشاف القناع: 3/301، الشرح الكبير على المقنع: 4/358، المغني: 4/365، المبدع: 4/207، المحرر: 1/335.
جاء في "منتهى الإرادات" وشرحه للبهوتي: "
…
ما لم يكن القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة فيحرمها السلطان – أي يمنع التعامل بها – ولو لم يتفق الناس على ترك التعامل بها. فإن كانت كذلك، فله – أي المقرض – قيمته، أي القرض المذكور وقت قرض نصًا؛ لأنها تعيبت في ملكه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا. وتكون القيمة من غير جنسه – أي القرض – إن جرى فيه – أي أخذ القيمة من جنسه – ربا فضل، بأن اقترض دراهم مكسرة، وحرمت، وقيمتها يوم القرض أنقص من وزنها، فإنه يعطيه بقيمتها ذهبًا (1) .
(ب) تغيرات النقود الاصطلاحية
9-
أما إذا كان الدين الثابت في الذمة نقدًا بالاصطلاح لا بالخلقة، كسائر العملات الأخرى غير الذهبية والفضية (2) ، فطرأ عليه تغير عند حلوله، فعندئذ يفرق بين خمس حالات.
(1) شرح منتهى الإرادات: 2/226.
(2)
يقول العلامة الشيخ أحمد الزرقاء في "شرح القواعد الفقهية، ص 121: "هذا والذي يظهر أن الورق النقدي المسمي الآن بالورق السوري الرائج في بلادنا الآن، ونظيره الرائج في البلاد الأخرى، وهو معتبر من الفلوس النافقة، وما قيل فيها من الأحكام السابقة يقال فيه؛ لأن الفلوس النافقة هي ما كان متخذًا من غير النقدين، الذهب والفضة، وجرى الاصطلاح على استعماله استعمال النقدين، والورق المذكور من هذا القبيل، ومن يدعي تخصيص الفلوس النافقة بالمتخذ من المعادن فعليه البيان ".
الحالة الأولى
الكساد العام للنقد
10-
وذلك بأن توقف الجهة المصدرة للنقد التعامل به، فتترك المعاملة به في جميع البلاد، وهو ما يسميه الفقهاء بـ "كساد النقد"(1) .
ففي هذه الحالة: لو اشترى شخص سلعة ما بنقد محدد معلوم، ثم كسد ذلك النقد قبل الوفاء، أو استدان نقدًا معلومًا ثم كسد قبل الأداء، أو وجب في ذمته المهر المؤجل من نقد محدد، ثم كسد قبل حلوله، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
11-
القول الأول: لأبي حنيفة، وهو أن النقد الذي كسد إذا كان ثمنًا في بيع، فإنه يفسد العقد، ويجب الفسخ مادام ممكنًا؛ لأنه بالكساد خرج عن كونه ثمنًا؛ لأن ثمنيته ثبتت بالاصطلاح، فإذا ترك الناس التعامل به، فإنها تزول عنه صفة الثمنية، فيبقى المبيع بلا ثمن، فيفسد البيع.
أما إذا كان دينًا في قرض أو مهرًا مؤجلاً، فيجب رد مثله ولو كان كاسدًا، لأنه هو الثابت في الذمة لا غيره (2) .
وحجة أبي حنيفة كما حكى الزيلعي في "تبيين الحقائق": "أن القرض إعارة، وموجبها رد العين معنى، وذلك يتحقق برد مثله – ولو صار كاسدًا – لأن الثمنية زيادة فيه، حيث إن صحة القرض لا تعتمد الثمنية، بل تعتمد المثل، وبالكساد لم يخرج من أن يكون مثلاً. ولهذا صح استقراضه بعد الكساد، وصح استقراض ما ليس بثمن كالجوز والبيض والمكيل والموزون وإن لم يكن ثمنًا، ولولا أنه إعارة في المعنى لما صح؛ لأنه يكون مبادلة الجنس بالجنس نسيئة، وأنه حرام. فصار المردود عين المقبوض حكمًا، فلا يشترط فيه الرواج، كرد العين المغصوبة، والقرض كالغصب، إذ هو مضمون بمثله"(3) .
وقد جاء في "بدائع الصنائع": "ولو اشترى بفلوس نافقة، ثم كسدت قبل القبض انفسخ عند أبي حنيفة، وعلى المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، وقيمته (4) أو مثله (5) إن كان هالكًا"(6) .
(1) الكساد في اللغة: من كسد الشيء يكسد – من باب قتل -: لم ينفق لقلة الرغبات، فهو كاسد وكسيد. ويتعدى بالهمزة، فيقال:"أكسده الله". وكسدت السوق، فهي كاسد- بغير هاء – في الصحاح، وبهاء في التهذيب، ويقال: أصل الكساد الفساد (المصباح المنير: 2/644) . أما الكساد في اصطلاح الفقهاء: "فهو أن يبطل التداول بنوع من العملة، ويسقط رواجها في البلاد كافة" (شرح المجلة لعلي حيدر: 1/108، تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود: 2/60.
(2)
الفتاوى الهندية: 3/225، بدائع الصنائع: 7/3244 وما بعدها، تبيين الحقائق: 4/142، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 3/94.
(3)
تبيين الحقائق: 4/144.
(4)
أي أن كان قيميًا. (الزيلعي: 4/142) .
(5)
أي أن كان مثليًا. (الزيلعي: 4/142) .
(6)
بدائع الصنائع: 7/3244.
وفيها أيضًا: "ولو استقرض فلوسًا نافقة وقبضها فكسدت، فعليه رد مثل ما قبض من الفلوس عددًا في قول أبي حنيفة"(1) .
12-
والقول الثاني: لأبي يوسف (2) والحنابلة على الراجح (3) عندهم والمالكية في غير المشهور (4) ، وهو أنه لا يجزئ رد المثل بعد ما كسد، ويجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد – يوم التعامل – من نقد آخر (5) .
وبهذا الرأي أخذت المادة (805) من مرشد الحيران، حيث جاء فيها:"إذا استقرض مقدارًا معينًا من الفلوس الرائجة والنقود غالبة الغش (6) فكسدت وبطل التعامل بها، فعليه رد قيمتها يوم قبضها لا يوم ردها".
واستدلوا على ذلك:
أولاً: بأن إيقاف التعامل بها من قبل الجهة المصدرة لها منع لنفاقها وإبطال لماليتها، إذ هي أثمان بالاصطلاح لا بالخلقة، فصار ذلك إتلافًا لها، فيجب بدلها، وهو القيمة بناء على قاعدة الجوابر.
ثانيًا: ولأن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ عوض منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به.
13-
وإنما اعتبرت القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة.
يقول ابن قدامة في "المغني": "وان كان القرض فلوسًا أو مكسرة، فحرمها السلطان، وتركت المعاملة بها، كان للمقرض قيمتها، ولم يلزمه قبولها، سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، وقال: يقوّمها كم تساوي يوم أخذها ثم يعطيه، وسواء نقصت قيمتها قليلاً أو كثيرًا"(7) .
14-
وذهب فريق آخر من المالكية – في ثمن المبيع – أنه تجب قيمة السلعة يوم قبضها من النقد الرائج (8) .
(1) بدائع الصنائع: 7/3245
(2)
تبيين الحقائق: 4/142، الفتاوي الهندية: 3/225، درر الحكام: 3/94.
(3)
كشاف القناع: 3/301، شرح منتهى الإرادات: 2/226، الشرح الكبير على المقنع: 4/358.
(4)
حاشية الرهوني: 5/120، حاشية المدني: 5/118.
(5)
وقد حكى صاحب "الذخيرة البرهانية" أن هذا القول هو المفتى به في مذهب الحنفية؛ وذلك لأنه أيسر، حيث إن القيمة يوم التعامل تكون معلومة، بخلاف يوم الكساد فإنها لا تعرف فيه إلا بحرج. (انظر الفتاوي الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/144، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/132، تنبيه الرقود: 2/59.
(6)
المراد بالنقود غالبة الغش: العملة التي يكون غالبها من معدن غير الذهب والفضة.
(7)
المغني: 4/365.
(8)
حاشية المدني: 5/118، حاشية الرهوني: 5/120.
15-
والقول الثالث: لمحمد بن الحسن الشيباني (1) وبعض الحنابلة (2) ، وهو أنه يجب على المدين رد قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر وقت الكساد، أي في آخر نفاقها، وهو آخر ما تعامل الناس بها؛ لأنه وقت الانتقال إلى القيمة، إذ كان يلزمه رد مثلها مادامت نافقة، فإذا كسدت انتقل إلى قيمتها وقتئذ.
جاء في "جواهر الفتاوى": "قال القاضي الزاهدي: إذا باع شيئًا بنقد معلوم، ثم كسد النقد قبل قبض الثمن، فإنه يفسد البيع، ثم ينظر: إن كان المبيع قائمًا في يد المشتري يجب رده عليه، وإن كان خرج من ملكه بوجه من الوجوه، أو اتصل بزيادة بصنع من المشتري، أو أحدث في صنعة متقومة، مثل أن كان ثوبًا فخاطه، أو دخل في حيز الاستهلاك وتبدل الجنس، مثل أن كان هناك حنطة فطحنها أو سمسمًا فعصره أو وسمة فضربها نيلاً؛ فإنه يجب عليه رد مثله إن كان من ذوات الأمثال – كالمكيل والموزون والعددي الذي لا يتفاوت كالجوز والبيض – ومن كان من ذوات القيم – كالثوب والحيوان – فإنه يجب قيمة المبيع يوم القبض من نقد كان موجودًا وقت البيع لم يكسد، ولو كان مكان البيع إجارة، فإنه تبطل الإجارة، ويجب على المستأجر أجر المثل. وإن كان قرضًا أو مهرًا يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة.
(1) وقد جاء في كتب الحنفية نقلاً عن المحيط واليتيمة والحقائق أن الفتوى في المذهب بقول محمد بن الحسن رفقًا بالمدينين، حيث إن القيمة في آخر النفاق تكون عادة أقل منها يوم التعامل (انظر الفتاوي الهندية: 3/225، الزيلعي: 4/143، الشلبي على تبيين الحقائق: 4/142، تنبيه الرقود: 2/59، درر الحكام: 3/94) .
(2)
الشرح الكبير على المقنع: 4/358.
وقال أبو يوسف: "يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل" وقال محمد: "يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس"(1) .
16-
والقول الرابع: للشافعية (2) والمالكية على المشهور (3) ، وهو أن النقد إذا كسد بعد ثبوته في الذمة وقبل أدائه، فليس للدائن سواه، ويعتبر هذا الكساد كجائحة نزلت بالدائن، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الدين قرضًا أو ثمن مبيع أو غير ذلك.
جاء في "نهاية المحتاج" للرملي: "ولو أبطل السلطان ما باع به أو أقرضه لم يكن له غيره بحال"(4) .
وجاء فيها أيضًا: "ويرد المثل في المثلي؛ لأنه أقرب إلى حقه، ولو في نقد بطلب المعاملة به، فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زماننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها وإخراج غيرها، وإن لم تكن نقدًا"(5) .
وقال النووي في "المجموع": "إذا باع بنقد معين، أو بنقد مطلق، وحملناه على نقد البلد فأبطل السلطان المعاملة به قبل القبض، قال أصحابنا: لا ينفسخ العقد، ولا خيار للبائع، وليس له إلا ذلك النقد المعقود عليه، كما لو اشترى حنطة فرخصت قبل القبض، أو أسلم فيها فرخصت قبل المحل، فليس له غيرها. هكذا قطع به الجمهور.
وحكى البغوي والرافعي وجها أن البائع مخير: إن شاء أجاز البيع بذلك النقد، وإن شاء فسخه، كما لو تعيب قبل القبض، والمذهب الأول.
قال المتولي وغيره: ولو جاء المشتري بالنقد الذي أحدثه السلطان، لم يلزم البائع قبوله فإن تراضيا به، فهو اعتياض، وحكمه حكم الاعتياض عن الثمن.
دليلنا عليه في الأول: أنه غير الذي التزمه المشتري، فلم يجب قبوله، كما لو اشترى بدراهم، وأحضر دنانير.
ودليلنا في الثاني: أن المعقود عليه باق، مقدور على تسليمه، فلم ينفسخ العقد فيه، كما لو اشترى شيئًا في حال الغلاء فرخصت الأسعار" (6) .
(1) تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/58.
(2)
تحفة المحتاج وحاشية الشرواني عليه: 4/258، 5/44، أسنى المطالب: 2/143، قطع المجادلة عند تغيير المعاملة: 1/97 وما بعدها، المجموع شرح المهذب: 9/331، الأم: 3/33.
(3)
الخرشي على مختصر خليل: 5/55، الزرقاني على خليل: 5/60، حاشية الرهوني: 5/120، 121.
(4)
نهاية المحتاج: 3/399.
(5)
نهاية المحتاج: 4/223.
(6)
المجموع شرح المهذب: 9/282.
وجاء في "منح الجليل" لعليش: "ومن ابتاع بنقد أو اقترضه، ثم بطل التعامل به، لم يكن عليه غيره أن وجد، ومن اقترض دنانير أو دراهم أو فلوسًا أو باع بها وهي سكة معروفة، ثم غير السلطان السكة وأبدلها بغيرها، فإنما عليه مثل السكة التي قبضها ولزمته يوم العقد.
وفيها (أي المدونة) : ومن أسلفته فلوسًا، فأخذت بها رهنا، فكسدت الفلوس، فليس لك عليه إلا مثل فلوسك، ويأخذ رهنه. وإن بعته سلعة بفلوس إلى أجل، فإنما لك مثل هذه الفلوس يوم البيع، ولا يلتف لكسادها، (1) .
الحالة الثانية
الكساد المحلي للنقد
17-
وذلك بأن يكسد النقد في بعض البلاد لا في جميعها. ومثله في عصرنا الحاضر العملات التي تصدرها بعض الدول وتمنع تداولها في خارج حدود أراضيها.
18-
ففي هذه الحالة إذا اشترى شخص بنقد نافق ثم كسد في البلد الذي وقع فيه البيع قبل الأداء، فإن البيع لا يفسد، ويكون البائع بالخيار بين أن يطالبه بالنقد الذي وقع به البيع، وبين أخذ قيمة ذلك النقد من عمله رائجة. وهذا هو القول المعتمد في مذهب الحنفية (2) .
جاء في "عيون المسائل"(3) : "وعدم الرواج إنما يوجب الفساد إذا كان لا يروج في جميع البلدان (4) ؛ لأنه حينئذ يصير هالكًا، ويبقي المبيع بلا ثمن. فأما إذا كان لا يروج في هذه البلدة فقط، ويروج في غيرها فلا يفسد البيع؛ لأنه لم يهلك، ولكنه تعيب، فكان للبائع الخيار: إن شاء قال: أعطني مثل النقد الذي وقع عليه البيع، وإن شاء أخذ قيمة ذلك دنانير"(5) .
وقال ابن عابدين: "وان كانت تروج في بعض البلاد لا يبطل، ولكنه يتعيب إذا لم يرج في بلدهم، فيتخير البائع: إن شاء أخذه، وإن شاء أخذ قيمته"(6) .
19-
وحكى عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إذا كسد النقد في بلدة واحدة فيجري عليه فيها حكم الكساد العام في سائر البلاد اعتبارًا لاصطلاح أهل تلك البلدة (7) .
(1) منح الجليل: 2/534.
(2)
تبيين الحقائق للزيلعي: 4/143.
(3)
حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود لابن عابدين: 2/59.
(4)
أي على رأي الإمام أبي حنيفة.
(5)
المراد بها الدنانير الذهبية.
(6)
تنبيه الرقود: 2/60.
(7)
حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/143.
الحالة الثالثة
انقطاع النقد
20-
وذلك بأن يفقد النقد من أيدي الناس، ولا يتوفر في الأسواق لمن يريده (1) .
وفي هذه الحالة لو اشترى شخص سلعة بنقد معين، ثم انقطع قبل أن يؤدي الثمن، فقد اختلف الفقهاء في ذلك على أربعة أقوال:
21 – القول الأول: للحنابلة (2) ومحمد بن الحسن الشيباني وهو المفتى به في مذهب الحنفية (3) ، وهو أن على المشتري أداء ما يساويه في القيمة في آخر يوم قبل الانقطاع؛ لتعذر تسليم مثل النقد بعد انقطاعه، فيصار إلى بدله وهو القيمة. ومثل ذلك يقال في دين القرض وغيره.
وإنما اعتبرت القيمة قبيل الانقطاع؛ لأنه الوقت الذي ينتقل الوجوب فيه من المثل إلى القيمة.
جاء في "تنبيه الرقود" لابن عابدين: "وإن انقطعت تلك الدراهم اليوم، كان عليه قيمة الدراهم قبل الانقطاع عند محمد، وعليه الفتوى"(4) .
وفي "المضمرات": فإن انقطع ذلك فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. وهو المختار" (5) .
(1) وحد الانقطاع – كما جاء في تبيين الحقائق والذخيرة البرهانية – هو "ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت". (انظر تبيين الحقائق: 4/143، تنبيه الرقود: 2/60) وفي شرح المجلة لعلي حيدر: "الانقطاع: هو عدم وجود مثل الشيء في الأسواق، ولو وجد ذلك المثل في البيوت، فإنه ما لم يوجد في الأسواق، فيعد منقطعًا "(درر الحكام: 1/108) . وقال الخرشي والزرقاني في ضابط الانقطاع: "إن العبرة بالعدم في بلد المعاملة، أي البلد التي تعاملا فيها، ولو وجد في غيرها فإنه يعتبر منقطعًا". (انظر شرح الخرشي: 5/55، شرح الزرقاني علي خليل: 5/60) .
(2)
الشرح الكبير على المقنع: 4/358.
(3)
تبيين الحقائق للزيلعي وحاشية الشلبي عليه: 4/142.
(4)
تنبيه الرقود: 2/59.
(5)
تنبيه الرقود: 2/60.
22-
والقول الثاني: لأبي يوسف، وهو أنه يجب على المدين أداء ما يساويه في القيمة يوم التعامل؛ لأنه وقت الوجوب في الذمة (1) .
23-
والقول الثالث: لأبي حنيفة، وهو أن الانقطاع كالكساد يوجب فساد البيع (2)
قال التمرتاشي في رسالته: "بذل المجهود في مسألة تغير النقود": والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك. فإذا اشترى بالدراهم ثم كسدت أو انقطعت بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان هالكًا وكان مثليًا، وإلا فقيمته. وإن لم يكن مقبوضًا فلا حكم لهذا البيع أصلاً. وهذا عند الإمام الأعظم.
وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد لاحتمال الزوال بالرواج (3) .
24-
والقول الرابع: للشافعية والمالكية، وهو أنه وإن أمكن الحصول على ذلك النقد مع فقده وانقطاعه، فيجب الوفاء به، وإلا فتجب قيمته، سواء أكان دين قرض أو ثمن مبيع أو غير ذلك.
لكن أصحاب هذا القول اختلفوا في الوقت الذي تقدر فيه القيمة عندما يصار إليها:
- فقال الشافعية: تجب في وقت المطالبة (4) .
- وقال المالكية في المشهور عندهم (5) : تجب في أبعد الأجلين من الاستحقاق – وهو حلول الأجل – والعدم، الذي هو الانقطاع (6) .
- وذهب بعض المالكية إلى أن القيمة إنما تقدر وقت الحكم (7) .
(1) الفتاوى الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/142.
(2)
الفتاوى الهندية: 3/225، تبيين الحقائق: 4/142.
(3)
تنبيه الرقود: 2/59.
(4)
تحفة المحتاج للهيثمي: 4/258، وانظر قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي: 1/97.
(5)
منح الجليل: 2/535، الخرشي على خليل: 5/55، الزرقاني على خليل: 5/60.
(6)
سواء مطله المدين بها أم لا، كما هو ظاهر كلام خليل والمدونة. وذهب الخرشي وغيره إلى أن هذا مقيد بما إذا لم يحصل من المدين مطل، وإلا وجب عليه ما آل إليه الأمر من السكه الجديدة الزائدة على القديمة؛لأنه ظالم. وقال صاحب تكميل المنهاج: هذا ظاهر إذا آل الأمر إلى الأحسن، فإن آل إلى الأردأ فإنما يعطيه ما ترتب في ذمته. (انظر الخرشي: 5/55، شرح الزرقاني: 5/60، منح الجليل: 2/535، حاشية الرهوني: 5/121.
(7)
منح الجليل: 2/535، شرح الزرقاني على خليل: 5/60.
قال الرملي في "نهاية المحتاج": فإن فقد وله مثل وجب، وإلا فقيمته وقت المطالبة. وهذه المسألة قد عمت بها البلوى في زمننا في الديار المصرية في الفلوس" (1) .
وقال القرافي: "ولو انقطع ذلك النقد حتى لا يوجد، لكان له قيمته يوم انقطاعه إن كان حالاً، وإلا فيوم يحل الأجل، لعدم استحقاق المطالبة قبله (2) .
وجاء في "شرح الخرشي على مختصر خليل": وإن عدمت فالواجب على من ترتبت عليه قيمتها مما تجدد وظهر، وتعتبر قيمتها وقت أبعد الأجلين عند تخالف الوقتين عن العدم والاستحقاق" (3) .
الحالة الرابعة
غلاء النقد ورخصه
25-
وذلك بأن تزيد قيمة النقد أو تنقص بالنسبة إلى الذهب والفضة (4) . ويعبر الفقهاء عن ذلك بـ "الغلاء و"الرخص".
وفي هذه الحالة إذا تغيرت قيمة النقد غلاء أو رخصًا بعد ما ثبت في ذمة المدين بدلا في قرض أو دين مهر أو ثمن مبيع أو غيره، وقبل أن يؤديه، فقد اختلف الفقهاء في ما يلزم المدين أداؤه على ثلاثة أقوال:
26-
القول الأول: لأبي حنيفة (5) والمالكية في المشهور عندهم (6) والشافعية (7) والحنابلة (8) ، وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد، والثابت دينًا في الذمة، دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه. وقد كان القاضي أبو يوسف يذهب إلى هذا الرأي أولاً ثم رجع عنه.
جاء في "بدائع الصنائع" في الكلام على تغير الثمن: "ولو لم تكسد، ولكنها رخصت قيمتها أو غلت، لا ينفسخ البيع بالإجماع، وعلى المشتري أن ينقد مثلها عددًا، ولا يلتفت إلى القيمة ههنا؛ لأن الرخص والغلاء لا يوجب بطلان الثمنية، ألا ترى أن الدراهم قد ترخص وقد تغلو، وهي على حالها أثمان"(9) .
(1) نهاية المحتاج: 3/399.
(2)
منح الجليل: 2/534.
(3)
الخرشي: 5/55.
(4)
يقول العلامة علي حيدر في "درر الحكام": "وقد اعتبر الذهب والفضة هما المقياس الذي تقدر بالنظر إليه أثمان الأشياء وقيمتها، ويعدان ثمنًا. أما النقود النحاسية والأوراق النقدية "البنكنوت" فتعد سلعة ومتاعًا، فهي في وقت رواجها تعتبر مثلية وثمنًا، وفي وقت الكساد تعد قيمية وعروضًا". (درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 1/101) .
(5)
تنبيه الرقود: 2/60، حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/142، 143.
(6)
الزرقاني علي خليل: 5/60، حاشية الرهوني: 5/121.
(7)
قطع المجادلة عند تغيير المعاملة للسيوطي: 1/97-99.
(8)
الشرح الكبير على المقنع: 4/358، شرح منتهى الإرادات: 2/226.
(9)
بدائع الصنائع: 7/3245.
وجاء فيه أيضًا – في الكلام على تغير قيمة دين القرض -: "ولو لم تكسد، ولكنها رخصت أو غلت، فعليه رد مثل ما قبض"(1) .
وقال ابن قدامة في "المغني": وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيرًا – مثل إن كانت عشرة بدانق فصارت عشرين بدانق – أو قليلاً؛ لأنه لم يحدث فيها شيء، إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت" (2) .
وقال البهوتي في "كشاف القناع": "إن الفلوس إن لم يحرمها – أي يمنع السلطان المعاملة بها – وجب رد مثلها، غلت أو رخصت أو كسدت"(3) .
وقال السيوطي في رسالته "قطع المجادلة عند تغيير المعاملة": " وقد تقرر أن القرض الصحيح يرد فيه المثل مطلقًا، فإذا اقترض منه رطل فلوس، فالواجب رد رطل من ذلك الجنس، سواء زادت قيمته أم نقصت".
أما في صورة الزيادة، فلأن القرض كالسلم، وأما في صورة النقص، فقد قال في "الروضة" من زوائده: ولو أقرضه نقدًا، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقد الذي أقرضه. نص عليه الشافعي رضي الله عنه، فإذا كان هذا مع إبطاله، فمع نقص قيمته من باب أولى" (4) .
ثم قال فيها في معرض كلامه من السلم: "ومنها السلم، والأصح جوازه في الدراهم والدنانير والفلوس بشرطه، فإذا حل الأجل لزمه القدر الذي أسلم فيه وزنا، سواء زادت قيمته عما كانت وقت السلم أم نقصت، ويجب تحصيله بالغًا ثمنه ما بلغ"(5) .
وجاء في "مختصر خليل" وشرحه لعليش: "وإن بطلت فلوس فالمثل لما بطل التعامل به على من ترتب في ذمته، وأولى إن تغيرت قيمتها مع استمرار التعامل بها"(6) .
وفي "المدونة": "وكذلك إن أقرضته دراهم فلوسًا، وهو يومئذ مائة فلس بدرهم، ثم صارت مائتي فلس بدرهم، فإنما يرد إليك مثل ما أخذ لا غير ذلك"(7) .
وبهذا الرأي أخذت مجلة الأحكام الشرعية الحنبلية، حيث جاء في م (750) منها:"إذا كان القرض فلوسًا أو دراهم مكسرة أو أوراقًا نقدية، فغلت أو رخصت أو كسدت ولم تحرم المعاملة بها وجب رد مثلها، وكذا الحكم في سائر الديون، وفي ثمن لم يقبض، وفي أجرة عوض خلع وعتق ومتلف، وثمن مقبوض لزم البائع رده".
(1) بدائع الصنائع: 7/3245.
(2)
المغني: 4/365.
(3)
كشاف القناع: 3/301.
(4)
قطع المجادلة: 1/97.
(5)
قطع المجادلة: 1/97.
(6)
منح الجليل: 2/534.
(7)
نقل عن منح الجليل: 2/535.
27-
والقول الثاني: لأبي يوسف، وعليه الفتوى عند الحنفية (1) وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض (2) .
قال التمرتاشي في رسالة "بذل المجهود في مسألة تغير النقود" – بعد كلام في المسألة طويل – " (وفي البزازية معزيًا إلى المنتقى: غلت الفلوس أو رخصت فعند الإمام الأول (3) والثاني (4) أولاً (5) : ليس عليه غيرها. وقال الثاني (6) ثانيًا (7) : عليه قيمتها من الدراهم يوم البيع والقبض (8) .
هكذا في الذخيرة والخلاصة بالعزو إلى المنتقى. وقد نقله شيخنا في بحره وأقره. فحيث صرح بأن الفتوى عليه في كثير من المعتبرات، فيجب أن يعول عليه إفتاء وقضاء؛ لأن المفتي والقاضي واجب عليهما الميل إلى الراجح من مذهب إمامهما ومقلدهما، ولا يجوز لهما الأخذ بمقابله؛ لأنه مرجوح بالنسبة إليه" (9) .
(1) قاله ابن عابدين، (انظر تنبيه الرقود: 2/60، 61) .
(2)
تنبيه الرقود: 2/60، 63.
(3)
أي أبي حنيفة.
(4)
أي أبي يوسف.
(5)
، أي في قوله الأول الذي وافق فيه الإمام أبا حنيفة، ثم رجع عنه.
(6)
أي أبي يوسف.
(7)
أي في قوله الثاني الذي استقر عليه واعتمده.
(8)
أي يوم البيع في عقد البيع، ويوم القبض في عقد القرض. كذا في النهر. (انظر تنبيه الرقود: 2/63) .
(9)
تنبيه الرقود: 2/60.
28-
والقول الثالث: وجه عند المالكية، وهو أن التغير إذا كان فاحشًا، فيجب أداء، قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص. أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل (1) .
يقول الرهوني معلقًا على قول المالكية المشهور بلزوم المثل ولو تغير النقد بزيادة أو نقص: "قلت: وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر ذلك جدًا، حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه، لوجود العلة (2) التي علل بها المخالف"(3) .
29 – وبالنظر في هذه الأقوال الثلاثة وتعليلاتها يلوح لي:
(أ) أن الاتجاه الفقهي لإيجاب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة هو الأولى بالاعتبار من رأي الجهور الذاهبين إلى أن الواجب على المدين أداؤه، إنما هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت في الذمة دون زيادة أو نقصان، وذلك لاعتبارين:
أحدهما: أن هذا الرأي هو الأقرب للعدالة والإنصاف، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل. والله يأمر بالقسط.
والثاني: أن فيه رفعًا للضرر عن كل من الدائن والمدين، فلو أقرضه مالاً فنقصت قيمته، وأوجبنا عليه قبول المثل عددًا تضرر الدائن؛ لأن المال الذي تقرر له ليس هو المستحق، إذ أصبح بعد نقصان القيمة معيبًا بعيب النوع المشابه لعيب العين المعينة (حيث إن عيب العين المعينة هو خروجها عن الكمال بالنقص، وعيب الأنواع نقصان قيمتها) . ولو أقرضه مالاً فزادت قيمته، وأوجبنا عليه أداء المثل عددًا تضرر المدين، لإلزامه بأداء زيادة عما أخذ، والقاعدة الشرعية الكلية أنه " لا ضرر ولا ضرار ".
(ب) أن الرأي الذي استظهره الرهوني من المالكية بلزوم المثل عند تغير النقد بزيادة أو نقص إذا كان ذلك التغير يسيرًا، ووجوب القيمة إذا كان التغير فاحشًا أولى في نظري من رأي أبي يوسف – المفتي به عند الحنفية – بوجوب القيمة مطلقًا؛ وذلك لاعتبارين:
(1) حاشية المدني: 5/118.
(2)
ويقصد العلة التي استدل بها أصحاب القول المقابل للمشهور في مسألة كساد النقلد، وهي أن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينتفع به (انظر حاشية الرهوني: 5/120، حاشية المدني: 5/118) .
(3)
حاشية الرهوني: 5/121.
أحدهما: أن التغير اليسير مغتفر قياسًا على الغبن اليسير والغرر اليسير المغتفرين شرعًا في عقود المعاوضات المالية من أجل رفع الحرج عن الناس نظرًا لعسر نفيهما في المعاملات بالكلية، ولغرض تحقيق أصل تشريعي مهم وهو استقرار التعامل بين الناس، بخلاف الغبن الفاحش والغرر الفاحش فإنهما ممنوعان في أبواب البيوع والمعاملات.
والثانى: أن التغير اليسير مغتفر تفريعًا على القاعدة الفقهية الكلية أن " ما قارب الشيء يعطي حكمه "(1) ، بخلاف التغير الفاحش، فإن الضرر فيه بين والجور فيه محقق.
الحالة الخامسة
التضخم والانكماش (2) .
(1) إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك للونشريسي: 170، المنثور في القواعد للزركشي: 3/144.
(2)
التضخم: مصطلح اقتصادي حديث يراد به: وضع يكون فيه الطالب الكلي متجاوزًا العرض الكلي، وعادة ما تكون هناك زيادة كبيرة في كمية النقود في الدولة – أوراق البنكنوت والودائع المصرفية – دون أن تصاحب ذلك زيادة مناظرة في حجم الناتج من مختلف السلع. وهنا فإن الزيادة في القوة الشرائية والطلب الفعال يؤدي في الاقتصاد الحر إلى ارتفاع في الأسعار والأجور، مما يفضي في النهاية إلى "دورة مفرغة" من الزيادات المتلاحقة في الأجور والأسعار. وعندما تفرض الدولة قيودًا على إنفاق المستهلكين في صور رقابة على الأسعار ونظام البطاقات فإن التضخم لا تتكشف مظاهره المألوفة. أما الانكماش: فيدل على الحالة العكسية، أي الحالة التي تعمد فيها السلطات النقدية إلى إنقاص كمية النقود والائتمان. وهنا يهبط مستوى الأسعار والأجور وتتفشى البطالة بين العمال (موسوعة المصطلحات الاقتصادية للدكتور حسين عمر: 69) .
30-
وهذه الحالة لم يذكرها الفقهاء في كتبهم ولم يتعرضوا لها في مدوناتهم، إذ لم يكن لها من الخطر في زمانهم مثل ما لها في عصرنا الحاضر. وحقيقة هذه الحالة أن يطرأ التضخم أو الانكماش بعد الوجوب في الذمة وقبل والوفاء، بحيث تنخفض أو ترتفع القوة الشرائية للنقد الثابت دينًا في الذمة تجاه السلع والمنافع الخدمات التي تبذل عوضًا عنه.
والذي يُستنتج من كلام الفقهاء في مسألة تغير النقود، أن التضخم أو الانكماش وحدهما لا تأثير لهما على الديون البتة، ولو حدث أن قارن التضخم والانكماش إحدى الحالات الآنفة الذكر، فإن الحكم يناط بتلك الحالة بغض النظر عن التضخم والانكماش الملازم أو العارض.
31-
هذا هو الحكم في الديون التي لا ارتباط لها عند وجوبها بالقوة الشرائية للنقد. أما الديون التي روعي في تحديدها قوة النقد الشرائية وقت الوجوب، ثم طرأ التضخم المالي وانخفضت تلك القوة الشرائية، فإنها تتغير بحسب نسبة التضخم الحادث، كما في دين النفقة إذا قدره القاضي وفرضه على من تجب عليه بالنظر إلى أسعار الأشياء التي يحتاجها مستحق النفقة وقت التقرير، ثم ارتفعت أسعار هذه الحاجيات في السوق، ففي هذه الحالة يحكم بتغير الدين تبعًا لتغير الوضع المالي للنقد؛ لأن القاعدة التي بنى عليها تقدير النفقة إنما هي تحقيق الكفاية للمنفق عليه، وهذا المبلغ المقرر بعد طروء التضخم أصبح غير كاف للوفاء بالغرض المناط به، فلهذا يتغير الدين تبعًا لتغير مناطه، ويزاد مقداره وفقًا لنسبة التضخم الحادث (1) .
(1) انظر قطع المجادلة عند تغير المعاملة للسيوطي: 1/100.
وعكس ذلك يقال في حالة طروء الانكماش في مثل هذه الواقعة. والله تعالى أعلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
المراجع
البهوتي: منصور بن يونس ت 1501 هـ.
- شرح منتهى الإرادات. ط. القاهرة من غير تاريخ.
- كشاف القناع عن متن الإقناع. مطبعة الحكومة بمكة المكرمة سنة 1394 هـ.
ابن حجر الهيثمي أحمد بن محمد بن علي المكي ت 974 هـ.
- تحفة المحتاج شرح المناهج. وبهامشه حاشية عبد الحميد الشرواني.
- وحاشية ابن قاسم العبادي عليه. المطبعة الميمنية بالقاهرة سنة 1315 هـ.
الخرشي: محمد بن عبد الله.
- شرح مختصر خليل. وبهامشه حاشية على العدوي الصعيدي. مطبعة بولاق سنة 1318 هـ.
الرملي: محمد بن أحمد المصري ت 1004 هـ.
- نهاية المحتاج شرح المنهاج. طبعة مصطفى البابي الحلبي بالقاهرة سنة 1357هـ 1938 م.
الرهوني: محمد بن أحمد.
- حاشية على شرح الزرقاني لمختصر خليل. وبهامشه حاشية محمد ابن المدني على كنون. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1306 هـ
الزرقاء: أحمد
- شرح القواعد الفقهية. تحقيق د/عبد الستار أبو غدة. دار الغرب الإسلامي ببيروت سنة 1403 هـ.
الزرقاني: عبد الباقي بن يوسف ت 1099 هـ.
- شرح مختصر خليل. مطبعة محمد مصطفى بالقاهرة سنة 1307 هـ وبهامشه حاشية محمد ابن الحسن البناني عليه.
الزيلعي: عثمان بن علي.
- تبين الحقائق شرح كنز الدقائق. وبهامشه حاشية أحمد الشلبي عليه. المطبعة الأميركية ببولاق سنة 1314 هـ.
السيوطي: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر ت 911 هـ.
- قطع المجادلة عند تغيير المعاملة. مطبوع ضمن كتابه الحاوي للفتاوى الطبعة الثانية لدار الكتب العلمية ببيروت سنة 1395 هـ/1975 م.
الشافعي: محمد بن إدريس ت 204 هـ.
- الأم. طبعة دار المعرفة ببيروت سنة 1393 هـ.
ابن عابدين: محمد أمين.
- تنبيه الرقود على مسائل النقود. مطبوعة ضمن رسائل ابن عابدين في إستانبول من غير تاريخ.
عالم كير: أبو المظفر محيي الدين محمد أورنك.
- الفتاوى الهندية. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1310 هـ.
علي حيدر:
- درر الحكام شرح مجلة الأحكام. تعريب فهمي الحسيني. ط. مكتبة النهضة في بيروت وبغداد.
عليش: محمد بن أحمد ت 1299 هـ.
- منح الجليل شرح مختصر الخليل. المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1294 هـ.
ابن قدامة: عبد الرحمن بن قدامة ت 682 هـ.
- الشرح الكبير على المقنع. مطبعة المنار بالقاهرة سنة 1374 هـ. بهامش المغني.
ابن قدامة: موفق الدين عبد الله بن أحمد المقدسي ت 620 هـ.
- المغني. مطبعة المنار بالقاهرة سنة 1347 هـ.
الكاساني: علاء الدين أبو بكر بن مسعود ت 587 هـ.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع. مطبعة الإمام بالقاهرة من غير تاريخ.
النووي: يحيي بن شرف ت 676 هـ.
- المجموع شرح المهذب. مطبعة التضامن الأخوي بالقاهرة سنة 1347 هـ.