الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
متى تنتهي الحياة؟
للدكتور حسان حتحوت
منذ كان الإنسان عرف الحياة وعرف الموت.. ودفن موتاه ولا يزال يستوي في ذلك إنسان القرون الأولى وإنسان القرن العشرين.. ومجتمع لا يعرف القراءة ولا الكتابة وآخر يعيش آخر صيحات العلم الطبي وغير الطبي. وما عرف الإنسان الحيرة ولا التردد وهو يقرر أن فلانا قد مات، ولا شغل فكره أو فتح على نفسه باب القلق بأن يجابه نفسه سائلًا ماذا يعني الموت بالضبط؟ وما هي على وجه الدقة والتحديد اللحظة من الزمن التي يقال عندها: إن العمر انتهى ووقعت الوفاة؟
وواضح أن موت الإنسان في جملته لا يعني موت أعضائه أو أنسجته أو خلاياه كلا على حدة.. فهناك فترة زمنية بعد إعلان الوفاة لو أخذت خلالها عضلة منه ونبهتها بالكهرباء لانقبضت، ولو أخذت جزءًا من خلاياه فاستزرعتها في سائل مغذ مناسب لتكاثرت، بل لو أخذت قلبه أو كليته ووصلتها بالدورة الدموية في شخص آخر لاستمر في الحياة مظهرًا ووظيفة بكل ما تعنيه الحياة.. ويمر وقت بين وفاة الإنسان ككل وبين دبيب الموت إلى أجزائه المتفرقة ثم إلى خلاياه في كل أجزائه.
وقد كان تعامل البشر مع الموت ولا يزال قائمًا على اعتبار أن الموت هو انتهاء حياة الفرد في إجمالها، وليس انتظار تطرق الموت إلى آخر خلية من خلاياه. فلما تقدم العلم الطبي حتى وصل إلى إمكان نقل عضو من إنسان لإنسان، كان من الطبيعي بالنسبة لتلك الأعضاء التي لا غنى لحياة الإنسان عنها كالقلب مثلًا أن يثور السؤال الحتمي المنطقي: إن فلانًا من الناس قد مات لتوه ولكن قلبه أو كبده، أو رئتيه لم تمت بعد، فماذا لو شققنا عنها فاستخلصناها لتزرع في مريض لا أمل له في الحياة إلا إن استبدل بعضوه التالف عضو صحيح؟ وهو سؤال أجاب عنه الإسلام بالإيجاب. بحكم أن الضرورات تبيح المحظورات فالضرورة في إنقاذ الحي تبيح المحظور في جرح الميت وأخذ عضو منه. وبحكم أنه حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله والمصلحة في إبراء المريض المشرف على الهلاك جلية واضحة، وقد صدرت بذلك الفتاوى كتلك التي أصدرتها لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف بالكويت في 31/12/1979 مفصلة تفصيلًا.
ثم تسلسل الأمر إلى تلك المواقف التي لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد، لأنه ما زال محتفظًا بأمارات تعارف الناس على أنها من أمارات الحياة كنبضة القلب وتردد الأنفاس شهيقًا وزفيرًا، في حالات معلوم فيها أن هذه الأمارات ليست ذاتية ولا تلقائية، ولكنها ترتكز على وصل الجسم بوسائل الإنعاش الصناعية، وما دامت دورة الدم والتنفس قائمتين ففي وسع سائر أعضاء الجسم أن تستوعب نصيبًا من الغذاء والأكسجين يُبقي عليها حياتها فلا يدب إليها الموت.. ويمضي زمان يطول أن يقصر حتى تفشل وسائل الإنعاش الصناعية فتنطفئ الحياة تمامًا.
نقول هذه حالات لم تعلن فيها وفاة الإنسان بعد.. فلماذا استعملنا هذا التعبير ولم نقل إنهم أحياء؟
ذلك أن العلم الطبي قد اهتدى إلى أن العبرة في الموت ليست أساسًا بتوقف القلب والتنفس.. ولكنها تتوقف أولًا وآخرًا على موت المخ.. الذي يستبين بتوقف النشاط الكهربائي للمخ تمامًا وهو ما يمكن قياسه بجهاز خاص. فإذا غاضت كهرباء المخ تمامًا، فهو مخ ميت ويكون باقي الجسم قد دخل في نطاق الموت إلى مرحلة اللاعودة، ومهما احتفظ الإنعاش الصناعي بالتنفس ودورة الدم فمحال أن يعود المريض إلى الحياة أبدًا.
موت المخ إذن هو معنى الموت عند الأطباء.. واللحظة التي يخمد فيها المخ تمامًا كهربائيًا هي لحظة حدوث الوفاة علميًا، ووسائل الإنعاش الصناعي تصون الجسم أو فلنقل الجثة في نطاق الحياة فترة ما فلا تتحلل ولا تتفتت ولكنها فترة إلى انتهاء.
ونشأ عن هذا في العالم الطبي موقفان:
الأول: ما دام الكشاف الكهربائي للمخ قد أعلن وفاة المخ.. بصدق وإخلاص وعدم تزييف، فقد أصبح الأطباء في حِلٍّ من نزع أحد أعضاء الميت الحيوية كالقلب مثلًا لزرعه لمريض تالف القلب مشرف على الهلاك ولا أمل له إلا قلب بديل صحيح، وتستغل وسائل الإنعاش الصناعي في حفظ هذا القلب حيًا في جثة صاحبه، ريثما يتم الإعداد للعملية واستدعاء المريض وتحضيره للجراحة، وهي إجراءات تستغرق بعض الوقت، ولولا تلك الوسائل الصناعية لخاس القلب وبدأت فيه تحللات الموت وفقد صلاحيته للزرع، ولما يتم تجهيز المريض المنقول إليه بعد.
الثاني: أنه ما دام المخ قد مات فهذه هي الوفاة فعلًا ويكون الإصرار على الاستمرار في الإنعاش الصناعي ما لم يكن مؤقتًا وهادفًا إلى استخلاص لعضو لزرعه في مريض من الناحية الفعلية إطالة لعملية الموت وليس حفاظًا على الحياة وإرهاقًا لأعصاب الأهل في غير طائل، وإسرافًا في استعمال وسائل الإنعاش الصناعي، وهي باهظة الكلفة شحيحة التعداد، وحرمانًا منها لمريض آخر قد يكون في حاجة إليها ولم يزل مخه حيًا فله الفرصة إذن في شفاء حقيقي وحياة سوية.
فهل للطبيب إذن أن يمد يده إثر موت المخ فيفصل الكهرباء عن جهاز الإنعاش ويرفعه عن جسم المريض حتى ولو كان نابض القلب متردد الأنفاس فإن فعل توقف التنفس وتوقف القلب عاجلًا أو آجلًا وعجل الغسل والدفن؟
َكلا الموقفين بطبيعة الحال رهن بموافقة الأهل أو وصية المتوفي، أما الموقف الأول فمن أمثلته أول عملية زرع قلب ناجحة وكان إجراؤها في جنوب إفريقيا على يد الجراح كريستيان برنارد. أسرة زنجية شابة تستروح في نهاية الأسبوع بلعب الكرة في الحديقة وفجأة يسقط الزوج الشاب، ويحمل للمستشفى، ويكون التشخيص نزفًا في المخ لا يجدي العلاج ويموت المخ وما زال قلبه الفتي ينبض بفعل الإنعاش الصناعي، وهناك طبيب أسنان يهودي على شفا الهلاك من هبوط قلبه ويشرح الطبيب الموقف للزوجة الشابة وللأم فتوافقان على أخذ القلب ليزرع في طبيب الأسنان فيعيش به.. تصرف نبيل وحاسم في موقف عصيب وقاس.. وقلب شاب زنجي لرجل أبيض في جنوب إفريقيا التي لا تقدم للزنوج إلا كل ما يثير الحقد ويبعث على المرارة.
وبقى أن ننظر بشيء من التفصيل إلى مسألة مد اليد لإيقاف أجهزة الإنعاش في المريض الذي انطفأ مخه، وما زال قلبه يدق وما زال يتنفس وما زال جسمه يتغذى ويفرز.
والخلاف حول هذه النقطة في العالم الطبي ليس خلافًا علميًا، فالموت العلمي هو موت المخ رغم أن باقي الجسم لم يزل حيًا.
فريق يبني تصرفه على هذه الحقيقة العلمية ويقول: أمد يدي لإطفاء الجهاز، والفريق الآخر: يرى أن الأفعال والتصرفات لا تحكمها الحقائق العلمية ولكن تحكمها القوانين الوضعية أو الأحكام الشرعية.
وفي الشريعة والقانون تعتبر دقة القلب وتردد الأنفاس واستيعاب الغذاء وإفراز العصارات والفضلات بالتأكيد من دلائل الحياة، فإن مد الطبيب يده وبحركة واحدة أطفأ كل ذلك فهل اعتدى على الحياة فيقع بذلك تحت طائلة المساءلة أو العقوبة بالدية أو القصاص؟
وليس هذا كل ما في الأمر فلو اعتبرنا لحظة الموت هي لحظة موت المخ وإن بقي الشخص من بعدها نابض القلب متنفسًا متغذيًا مفرزًا من بعد ذلك شهرًا أو شهرين ثم مات من بعد ودفن.
فمن أي التاريخين تكتب شهادة الوفاة؟
ومن أي التاريخين تبدأ عدة زوجته التي توفي عنها؟
وأي التاريخين يحتسب أساسًا للمواريث؟ وهل يحجب إخوته أبناءه إن مات أبوه فيما بين التاريخين؟ لأنه مات (بمخه) قبل موت أبيه، أو يرث ثم يرثه أبناؤه لأنه كان حيًا بدليل النبض والتنفس حال موت أبيه؟
هذه وغيرها أمور تدل على أن في الموضوع أكثر مما يظهر للنظرة السطحية العجلى أو الطبية المجردة.
ولا بد أولًا من أن يضع الأطباء هذه الحقائق أمام رجال التشريع، فإن استقر الرأي على أن الموت موت المخ وأن الوفاة تبدأ من لحظته فمن الطبيعي إذن أن يقنن هذا ويدخل إلى أحكام المساءلة وأحكام عدة المتوفى عنها زوجها وأحكام المواريث.
وليس من الصالح أن يظل الأطباء في عزلة عن القوانين، أو تظل القوانين في غفلة أو في إغماض على هذا المجال الهام من مصالح الناس.
ونوقن أن شريعة الإسلام لا تضيق عن استيعاب المحدثات والتقنين للجدائد والوفاء بالمصالح وحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.