المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌حقيقة الموت والحياةفي القرآن والأحكام الشرعية - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث

- ‌تقديم بقلم معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمة معالي د/ بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمة العددلمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمة افتتاح الدورةألقاهامعالي الدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي

- ‌توظيف الزكاةفي مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين

- ‌طرق الإنجابفي الطب الحديث وحكمها الشرعيلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌القضايا الأخلاقيةالناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجابالتلقيح الاصطناعيلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاةبين الفقهاء والأطباءلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌موت الدماغلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌نهاية الحياة البشريةللدكتور أحمد شوقي إبراهيم

- ‌متى تنتهي الحياة؟للدكتور حسان حتحوت

- ‌القلب وعلاقته بالحياةمدخل في مناقشة "متى تنتهي الحياة"للدكتور أحمد القاضي

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور مصطفى صبري أردوغدو

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهاداتالعلماء المسلمين والمعطيات الطبيةللدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌نظرة في حديث ابن مسعودللدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حقيقة الموت والحياةفي القرآن والأحكام الشرعية

- ‌توصياتمؤتمر الطب الإسلامي بالكويت

- ‌دراسةوزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية

- ‌ورقة العمل الأردنيةقدمت للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش

- ‌حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤيةفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌بحثلفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌بحثفريق علماء جامعة الملك عبد العزيزقسم علوم الفلك

- ‌توحيد بدايات الشهور القمرية(الشمس والقمر بحسبان)لسعادة الدكتور فخر الدين الكراي

- ‌الوثائق المقدمةتوحيد بداية الشهور القمريةلفضيلة الشيخ محمد علي السايس

- ‌المناقشةتوحيد بدايات الشهور القمرية

- ‌من أين يحرم القادمبالطائر جوًا للحج أو العمرة؟لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرةلفضيلة الشيخ تجاني صابون محمد

- ‌الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلاميلفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌كتاب حدود المشاعر المقدسةلفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحريةلفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرهاالقرار الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة

- ‌تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلاميلفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام أوراق النقود والعملاتلفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفي نظر الشريعة الإسلاميةلفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌النقود الورقيةلفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الربافضيلة الأستاذ أحمد بازيع الياسين

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه

- ‌أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلاميفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌المناقشةأحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر عبد الله أبو زيدرئيس مجلس المجمعكلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد

- ‌كلمة معاليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجةالأمين العام للمجمع

الفصل: ‌حقيقة الموت والحياةفي القرآن والأحكام الشرعية

‌حقيقة الموت والحياة

في القرآن والأحكام الشرعية

للدكتور توفيق الواعي

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

يجب أولًا أن نعرف أن الحياة والموت بيد الله سبحانه، مصداقًا لقوله تعالى:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}

فكما أن الحياة سر من أسرار الله سبحانه، كذلك الموت، كل بقدر، وميعاد. وقد تتنوع معاني الحياة، ويتنوع معاني الموت، واللغة العربية، والدلالات القرآنية تستوعب هذا التنوع.

والمعروف أن الحياة مقابلة للموت، والموت مقابل للحياة، فإذا عرفنا الحياة كان ما يخرج عن التعريف ميت، وإذا عرفنا الموت كان ما يخرج عن التعريف حي.

تعريف الموت:

إذا أردنا أن نعرف الموت لغة وجدنا أن الميم، والواو، والتاء. تشير إلى ذهاب القوة من الشيء سواء كان حيوانًا أو نباتًا. قال صلى الله عليه وسلم:((من أكل من هذه الشجرة الخبيثة)) يعني الثوم ((فلا يقربن مصلانا إلا إذا أماتها بالطبخ)) .

فأصل الكلمة في اللغة إذن تدل على ذهاب القوة النامية. وقد تستعمل في ذهاب القوة الحسية، أو النفسية.

وعلى هذا تنوعت دلالات الكلمة، من هذه الدلالات إطلاقها على،

1-

السكون. فكل ما سكن فقد مات، يقال: ماتت النار إذا برد رمادها فلم يبق من الجمر شيء، وماتت الريح ركدت وسكنت.

2-

النوم. يطلق على النوم أنه موت حيث يقال في الدعاء المعروف: الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور.

3-

ذهاب القوة النامية. فيطلق على ذهاب القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات كقوله تعالى: {فَانْظُرْ إِلَى آَثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50]{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم:19] .

ص: 255

4-

يطلق على زوال القوة الحسية كقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} . [مريم: 23] .

5-

الجهالة. فيطلق على الجهالة موت: كقوله تعالى {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} [الأنعام: 122]

كقول القائل:

ليس مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء

إنما الميت من يعيش ذليلًا كاسفًا باله قليل الرحاء

6-

مقدمات الموت "الاحتضار" كقوله تعالى {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ} [البقرة: 133] .

7-

باعتبار ما سيكون: يطلق الموت على الشيء باعتبار ما سيكون، كقوله تعالى:{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَاَنٍ} .

8-

فقدان الحياة: كما يطلق الموت على فقدان الحياة ومغادرة الروح للجسد الإنساني كقوله تعالى {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] . (1)

الروح:

للروح في اللغة العربية إطلاقات ومعاني منها:

1-

يطلق على جبريل أنه روح لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) } [الشعراء: 163] .

2-

يطلق على الوحي أنه روح: لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] .

3-

وتطلق على السر الذي أودعه الله في آدم لقوله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} كما تكون بمعنى اللطيفة الربانية التي أودعها الله في الإنسان والتي أشار إليها الحق سبحانه بقوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85] .

(1) انظر في ذلك لسان العرب، ومقاييس اللغة، وبصائر ذوي التميز، والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري في المادة.

ص: 256

وإذا أردنا نلقي الضوء على الروح التي هي اللطيفة الربانية التي أودعها الله في الإنسان، وجدنا أنفسنا أمام تعريفات عدة، ولكن حسبنا أن نذكر التعريف المعول عليه عند المحققين من العلماء، وهو:

"الروح عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس" سرى فيه سريان الماء في الورد، والدهن في الزيت، والنار في الفحم، لا تقبل التحلل والتبدل والتفريق والتمزق، تعطي الجسم المحسوس الحياة وتوابعها إذا كان الجسم قد تم استعداده لها، وهو المراد بقوله تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وتظل هذه ملازمة له ما دام صالحًا لقبولها، لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة، أو التلف والفساد، ومتى حدث ذلك حصل الموت لعدم صلاحية الجسم" وهذا هو رأي ابن سينا، والفخر الرازي وابن القيم وجمهور العلماء.

إذن فالروح هي التي تعطي الجسد الحياة، والجسد هو الذي يكون به الإنسان إنسانًا يتحرك وتجري عليه الأحكام، فبدونه أو بدون صلاحه لا روح ولا حياة.

والإنسان لا يصير إنسانًا إلا بالروح والحياة معًا. لقوله تعالى {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} فما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم إلا بعد أن استكمل خلقه جسدًا وروحًا.

الجسم الإنساني:

يعرف الفخر الرازي الإنسان فيقول: الإنسان جسم موصوف متولد عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص.

والفخر الرازي بهذا يعرف الإنسان بجسمه المادي الموجود أمامه يراه ويحسه ويسميه الجسم الأرضي، كما يسميه الناس اليوم الجسم العضوي.

ثم يزيد الفخر الرازي تعريف الجسم إيضاحًا فيقول: الجسم الذي تغلب عليه الأرضية هو: الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والغضروف والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد والدم، ثم قال: ولم يقل أحد من العقلاء أن الإنسان مغاير لهذا الجسم، ولم يقل أحد من العقلاء كذلك: إن الجسم عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء" (1) انتهى كلام الفخر.

(1) الفخر الرازي 21 /43/ 44

ص: 257

علاقة الجسد والروح بالإنسان.

صرح المعتزلة بأن الإنسان جسم مخصوص بشرط كونه موصوفًا بصفة الحياة والعلم والقدرة، والحياة عرض قائم بالجسم. أي أن الروح عرض قائم بذلك الجسم،وهم بذلك قد جعلوا الروح غير منفصلة عن الجسم، وليس لها ذات مستقلة.

فالإنسان على رأيهم عبارة عن جسم مخصوص بشرط كونه موصوفًا بصفة الحياة والعلم والقدرة، ويمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده، وهيئة أعضائه وأجزائه وبما أوتي من تمييز وعقل.

أما أهل السنة: فيقولون: إن الإنسان مكون من جسد، وروح تحل في هذا الجسد ما دام صالحًا لاستقبال الروح. فإذا فقد صلاحيته فقد روحه.

وكل من الرأيين يلتقي مع الآخر في أن الإنسان جسم يفترق عن الحيوان، لأن فيه إحساسًا وعقلًا وعلمًا وقدرة، وصفات عليا.

ويفترق الرأيان في الروح فيقول المعتزلة له: الروح عرض قائم بالجسم ولا يفترق عنه والجسد، والروح شيء واحد ولا انفصال بينهما.

أما أهل السنة فيقولون: إن الروح شيء والجسد شيء آخر، فهي منفصلة عنه بدليل قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} فهذا دليل على أن النفس لا تموت بموت البدن. لأن القرآن جعل النفوس ذائقة للموت. والذائق لا بد أن يكون حيًا حال الذوق. والمعنى كل نفس ذائقة موت البدن. وهذا يدل على أن النفس غير البدن، وعلى أن النفس لا تموت بموت البدن. وأيضًا فيه تنبيه على أن ضرورة الموت مختص بالحياة الجسمانية" (1) لقوله تعالى:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} "فالجسد إذا غير الروح المنفوخة فيه".

(1) تفسير الفخر الرازي – 9/ 125

ص: 258

الإشارة إلى الإنسان بالجسد والروح:

تكلم القرآن عن الإنسان مشيرًا إليه بالجسد وحده، وأعلم الخلق أن هذا الجسد ليس بخالد، وذلك مثل قوله في الأنبياء عليهم السلام:{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} .

فقد اقتضت حكمة الله أن يكون الرسل من البشر، يلتقون الوحي، وما كان الرسل من قبل إلا رجالًا ذوي أجساد، وما جعلهم الله أصحاب أجساد، ثم جعلهم لا يأكلون الطعام. فأكل الطعام من مقتضيات الجسدية، والجسدية من مقتضيات البشرية، والموت من مقتضيات تلك الجسدية، فهم إذن غير خالدين في هذه الحياة.

وأشار القرآن أيضًا إلى الإنسان بالروح والنفس فقال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) } [الشمس: 7] إذا فالقرآن يخاطب الإنسان بالجسد مرة وبالروح أخرى. وهذا دلالة واضحة على أن الإنسان بجسده وروحه يشار إليه بكل منهما.

الموت في القرآن:

ذكر الموت في القرآن بمعانيه المختلفة التي سبقت الإشارة إليها. والذي نعنيه هنا من هذه المعاني، هو حديث القرآن عن موت الإنسان، وعن صفة هذا الموت، وحالة الإنسان بعده فنجد أن القرآن دائمًا يركز على موت الجسد، ثم يتبع ذلك بذكر صفة هذا الجسد الميت سواء ذكر مع هذا الجسد الروح أو لم تذكر.

فالقرآن مثلًا يقول في وصف هلاك العصاة: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) } [يس: 29] .

والخمود: هو سكون الجسد وخلوه من الحركة أو التنفس أو أي علامة للحياة الجسدية ثم يقول في آية أخرى:

{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] ويقول {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) } [القمر: 20] .

يصف القرآن بذلك أجساد الهلكى بأنها صرعى لا حراك بها، قد تحللت ولم يبق إلا هياكلها كأنها أعجاز نخل خاوية منقعرة لا حراك بها ولا حياة.

ص: 259

ثم نجد أن القرآن يأتي بصورة أخرى للموت تخمد فيها الحياة والحس والنفس والحركة فيقول: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم: 98] حياة لا حركة ولا همس لا نبض لا تنفس، بل خمود وزوال.

تصور لك الآية فقد الحياة بكل معانيها ودلالتها وإحساساتها. ويتحدث القرآن في آيات أخرى على موت الإنسان ويحكي منظر مشاهدة الناس لهذا الوداع الأخير فيركز على أمرين، أمر غير مشاهد للناس وإنما هو معلوم لله سبحانه وأمر مشاهد للناس ومعلوم لهم وبه يعرف الحياة والموت.

فيقول: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) } فالناس لا يبصرون خروج الروح وهم جلوس حول الميت، إذا فبماذا يعرفون الموت؟ بعلامات جسدية تأتي في الآية اللاحقة.

فيقول القرآن: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) } قال المفسرون: بردت وماتت وفقدت حرارتها وكان عليها جوالًا" الماوردي 4/ 362.

وقال الفخر الرازي: يبست ساقاه والتصقت إحداهما بالأخرى فاقدة الحركة. الفخر الرازي 30/ 232.

موت القلب:

أشار القرآن في بعض آياته إلى أن توقف القلب من علامات الموت، فقال تعالى:{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} . [التوبة: 110] .

ص: 260

المعجزة القرآنية في الإحياء والإماتة:

نجد القرآن ينبه ويلفت دائمًا إلى الإعجاز الباهر في خلق هذا الإنسان وفي تكوينه وتصويره على أحسن صورة وأفضلها، فيقول في سورة المؤمنين:

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) } أي أن هذا الجسد البديع الخلق ينحل ويزول ويخمد ويتلاشى ثم يحييه الله سبحانه يوم القيامة. والإماتة والإحياء ينصب على تلاشي الجسد وخموده بكل يقين نسمع في ذلك القرآن الكريم في كثير من الآيات التي تقرر ذلك.

{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}

{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ}

{وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}

{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) } .

إذًا فحياة الجسد سواء كانت حياة خلوية أو حياة متحركة هي حياة تدل على إبداع الخالق وعلى عظيم صنعه. فما زالت الكلية تعمل وهذا إعجاز وما زال القلب يعمل وهذا إعجاز، وما زال الكبد والطحال والأمعاء وسائر أجهزة الجسم تعمل بإعجاز تام مع الحياة الخلوية التي يقال عنها. فهل يكون هذا حياة أو موت، تلك الأجهزة الإلهية العاملة هي صناعة إنسان أم خلق خالق. وإن كان الأطباء يمدون الجسد ببعض ما يحتاجه من غذاء أو أشياء منشطة وإن كان، ولكن هذا يديم الحياة لا يديم الموت أو يلغي الحياة.

القصص القرآني يوضح الفرق بين الجسد الميت وبين الجسد الحي.

نرى القرآن في قصصه عن الموت والحياة يسير حسب القاعدة العامة في حديثه عن الإحياء والإماتة، فيوضح لنا الفرق بين إنسان مات ثم بعث وبين إنسان فقد إحساسه ثم أيقظ وكان الفرق الوحيد بينهما، انحلال الجسد في الموت، وعدم انحلاله في الإيقاظ.

ولنأخذ مثلًا من القصص القرآني الذي يتكلم عن موت الجسد وحياته فنذكر قصتين.

ص: 261

الأولى: عن الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.

والثانية: قصة إبراهيم عليه السلام وطلبه من الله أن يريه إحياء الموتى"

فأما عن القصة الأولى فهي قصة عزير كما يسميها بعض المفسرين فقد قال الله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آَيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) } .

قال ابن كثير أحياه الله: فأول ما أحيا منه أحيا عينيه ليرى بهما كيف تسري الحياة إلى جسده ويرى بهما صنع الله في خلق الحياة في الجسد.

ثم لفته الله سبحانه إلى حياة حماره فنظر إلى العظام التي تجمع واللحم الذي يكسو تلك العظام.

يقول الفخر الرازي: انضمت أجزاء العظام بعضها إلى بعض، ثم التصق كل عضو بما يليق به، الضلع إلى الضلع والذراع إلى مكانه، ثم الرأس ثم العصب والعروق ثم أنبت اللحم عليهما ثم الجلد ثم نبت الشعر على الجلد، ثم نفخ فيه فإذا هو قائم".

وأما القصة الثانية فهي قصة إراءة إبراهيم عليه السلام إحياء الموتى إذا قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} .

قال المفسرون: قطع إبراهيم عليه السلام أجساد الطيور الأربعة ثم فرقها على جبال أربعة ثم أمسك برؤوسهن في يده، ثم دعاهن فتجمعت الأجزاء المتفرقة وجاءت الأجساد تسعى إليه كل يعرف رأسه التي مع إبراهيم عليه السلام. فقال إبراهيم: أعلم أن الله عزيز حكيم. من هذا نعرف أن حياة الجسد حياة قد ركز القرآن عليها ولفت إليها الأنظار؛ لأنها محل الإعجاز والدلالة على قدرة الله سبحانه.

وسائل الإنسان نفسه قائلًا: إذا لم تسم حياة الجسد حياة، فبماذا تسمى، وإذا كان في الدماغ حياة تستطيع أن تؤثر على باقي الجسم، ففي الجسم كذلك أعضاء تفعل نفس الشيء مثل القلب والرئتين والكبد والأمعاء وكثير من الأشياء في جسم الإنسان، بدونه لا تستمر حياة الإنسان، فلماذا التركيز على عضو معين وترك باقي الأعضاء. ولماذا إضافة الحياة والموت إليه فقط.

ص: 262

القرآن لا يعد تعطل الإحساس موتًا.

إن تعطل الإحساس لا يدل على فقد الحياة اللهم إلا إذا كان ذلك على سبيل المجاز أو التشبيه، فلا يقول عاقل مثلًا أن النائم ميت، ولا يقول أن المجنون فاقد للحياة، كما لا يقال ذلك لناقص الأهلية كالصبي غير المميز، لا يقال إن هؤلاء يعاملون معاملة الأموات، كما لا يقال أن المريض حين يكون في غيبوبة طالت أم قصرت تحت أي ظروف يعامل معاملة الأموات، إلا إذا كان الموت والحياة أصبح بيد البشر وحاشا لله أن يدعي أحد ذلك.

ولهذا نرى القرآن الكريم يقص علينا قصة غيبوبة طويلة ظلت ثلاثمائة عام، وظل الجسد فيها صالحًا ثم عاد إليه الإحساس بعد تلك المدة الطويلة وبعد هذه الغيبوبة الكبيرة ولم يسم ذلك القرآن موتًا. مع العلم أن تسمية ذلك موتًا كان سهلًا وميسورًا ويدل في نظر البعض على معجزة تساوي حفظ الأجساد حية. وهي المعجزة التي أظهرتها القصة الآتية.

قال تعالى {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) } أجمع الفقهاء والمفسرون على أن كلمة بعثناهم معناها أيقظناهم لأن أجسامهم كانت حية وفيها الحياة ولم تفقدها بدليل قول الله في الآيات بعد ذلك {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} إلى أن قال: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} .

فرق بين موت وحياة:

والناظر في القصتين قصة عزير السابقة وقصة أصحاب الكهف هذه يلاحظ في النظرة العجلى أمورًا منها:

1-

عبر القرآن في قصة أصحاب الكهف بقوله {فَضَرَبْنَا عَلَى آَذَانِهِمْ} ولم يقل فأمتناهم أو ألقينا عليهم الموت، مثلًا وإنما خلت القصة من ذكر الموت تمامًا لأنه فقدان للإحساس فقط، والحياة مستمرة، ولهذا حرص القرآن على أن ينبهنا إلى سلامة الجسد وعلى عدم تحلله، بل وعلى نماء شعورهم في تلك الفترة الطويلة التي ذكرها القرآن على خلاف العادة وهي {ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) } ونماء ما ينمو في الجسد مثل الأظافر وغيرها وذلك مشار إليه في القصة بقوله {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وذلك لطول شعورهم ونمو أظافرهم ولحاهم إلى غير ذلك مما يغير الملامح ويخيف عند زيادته عن المألوف والمتعارف.

ص: 263

أما في قصة عزير فقد تحلل الجسد وذهب وصرحت القصة بالموت صراحة ثم البعث بعد جمع العظام والأشلاء، فقالت {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} إلى أن قالت {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} .

2-

حرص القرآن في القصة على أن يعلمنا كيف نحفظ الأجساد حين ذهاب العقل حتى لا يتلف الجسد ويفقد الحياة إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا، ويفيق الإنسان أو ترد إليه الحياة الشعورية، وذلك بأمرين:

أولهما: التدفئة المناسبة.

ثانيهما: التقليب المستمر.

وكأن القصة بهذا تعلمنا صورة من صور التمريض المتقدم، والتي تقول: يستمر الإنسان في الحياة بدون القوى العاقلة فترات طويلة، بشرط كفاءات التمريض، وعلاج الأمراض العارضة وانتظام الغذاء الأنبوبي والعناية المستمرة بالجلد وتقليبه، أو تغيير أوضاع المريض كل ساعتين بصفة مستمرة، لمنع قرح الفراش، مع العناية بتصريف البول والبراز وإذا تم ذلك بعناية يمكن أن يعيش الإنسان حياة عادية حتى سن الستين "ونلحظ في القصة أن القرآن يركز على عنصرين أساسيين: التدفئة والتقليب الجسدي المستمر، أما الغذاء فهو غذاء رباني تولاه الله، ومثل هذا الغذاء لا بول معه ولا براز فبقي ما ذكرته القصة من التقليب والتدفئة المشار إليهما في القصة بقوله تعالى {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} هذه هي التدفئة، وقوله تعالى {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} هذه هي العناية السريرية.

إذن فقصة أصحاب الكهف قصة فقدان للإحساس والشعور استمر ثلاثمائة عام ولم يسم هذا القرآن موتًا وإنما سماه إيقاظًا لأن الجسد لم يفقد طبيعته أو يتحلل أما في قصة عزير فالأمر مختلف ولهذا سماه القرآن موتًا وبعثًا.

فلماذا نسمي من يفقد الإحساس لبضعة أيام ميت، ولم يسمه القرآن كذلك في ثلاثمائة عام وازدادوا تسعًا".

ص: 264

الحياة والموت عند فقهاء المسلمين:

تكلم الفقهاء في الموت والحياة في أبواب عدة من كتب الفقه، في الجنائز، وفي الميراث وفي الجنايات وفي الجهاد "الاستشهاد" وغير ذلك من الأبواب التي تتعلق بهذا الإنسان الميت.

فمثلًا تكلم الفقهاء في تحديد الحياة والموت، في بدء حياة الإنسان، لما يترتب على ذلك من حقوق كالميراث، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((إذا استهل المولود ورث)) (1) وقوله:((لا يصلي عليه ولا يرث ولا يورث حتى يستهل)) (2) لهذا احتاج الفقهاء أن يعرفوا الحياة والموت، بعلامات الحياة التي تظهر على جسد الجنين في حركاته وسكناته وصوته إلى غير ذلك مما سنتعرض إليه، لأن الحياة لا تعرف إلا بدلالاتها وآثارها، قال تعالى:{فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [سبأ: 14]

علامات الحياة:

تكلم الفقهاء على علامات الحياة مثل الصياح –الصوت الخارج من جسد الطفل- أو العطاس أو التنفس، أو الحركة طويلة كانت أم يسيرة، كحركة القلب، أو التنفس أو الجسد، ويناسبنا في هذا المقام أن نتكلم على قسمين من هذه العلامات وهما:

التنفس:

قرر الحنفية والشافعية والحنابلة (3) أن التنفس يأخذ حكم الحركة في إثبات الحياة لأن التنفس حياة وحركة ذاتية يتحرك فيها الصدر وينبض بها القلب تلقائيًا في الجسد فكان ذلك دلالة حياة صاحب الجسد.

الحركة:

اتفقت المذاهب على أن الحركة في الجسد من علامات الحياة، غير أن بعضهم اعتبر الحركة الطويلة –أي التي تستمر دقيقة أو أكثر- وبعضهم اعتبر مطلق الحركة في الجسد، ومن هذا يتبين أمران:

(1) رواه أبو داود

(2)

رواه الترمذي وابن ماجة

(3)

المبسوط 16/ 114، الجمل 2/ 191، شرح الروض 3/ 19، الخرشي 2/ 46، الإنصاف 7/ 331

ص: 265

الأول: أن الجسد هو المعول عليه في معرفة الحياة والموت حيث إن الحركة تنبعث منه.

الثاني: اعتبر العلماء مطلق الحركة، أو الحركة الطويلة التي تدل على الحياة، وهل هناك مثلًا حركة تدل على الحياة أكثر من حركة القلب ونبض الدم في العروق والتنفس وحركة الصدر وعمل باقي الأعضاء من كبد وكلية وأمعاء وغير ذلك، ولهذا نجد أن الفقهاء لم يجعلوا أبدًا العقل أو الإحساس هو مصدر الحياة، وإلا فكيف يعرف ذلك في الوليد حتى يقولوا به؟

أقوال الفقهاء في نهاية الحياة:

تكلم الفقهاء عن نهاية الحياة في الإنسان، وما يجب أن يتبعها من أعمال خاصة بتجهيزه وقبره، لأن الموت دائمًا يعقبه قبر الميت مباشرة مصداقًا لقوله تعالى:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} وما يلزم ذلك المقبور من تغسيل وتكفين وصلاة وغير ذلك.

فقالوا: إذا تيقن الحاضرون من موت الميت، وعلامة ذلك، انقطاع نفسه وانفراج شفتيه، وأضاف بعضهم أوصافًا أخرى مثل انخساف صدغيه أو ميل أنفه واسترخاء أعصابه ورجليه، وامتداد جلد وجهه، وتقلص خصيتيه إلى فوق مع تدلي الجلدة (1)

ثم يتبعون تلك الأوصاف بشروط أخرى، فيقول النووي في روضة الطالبين جـ 2 ص 98: فإن شك في موته بأن يكون به علة، واحتمل أن يكون له سكتة، أو ظهرت عليه أمارات فزع أو غيره، كأن يكون هناك احتمال إغماء أو خلافه آخر حتى اليقين بتغير الرائحة أو غيره".

بعد هذا البيان في علامات الموت عند الفقهاء، نرى أنهم حرصوا على أنه لا يحكم بالموت إلا بعد فقدان الجسم للحياة، أي حياة فقدانًا كاملًا، واشترطوا اليقين في ذلك والتأكد الذي لا يخالطه شك، فإذا كان هناك أدنى ريبة، ترك الجسد حتى تتغير رائحته وينتفي معه أي شك في الموت، هذا هو ما عليه إجماع الفقهاء من لدن الصدر الأول إلى اليوم.

(1) انظر الفتاوى الهندية 1/ 154، مختصر خليل 1/ 37، منتهى الإيردات 1/ 323، روضة الطالبين 2/ 98، ابن عابدين طـ الحلبي 1/ 189

ص: 266

لكن أن يكون الجسد حي والصدر يعلو وينخفض والنَّفَسُ يتردد والقلب ينبض والأعضاء والغدد تعمل وكل شيء حي، ما عدا المخ كما يقال، ثم يأتي من يقول: إن الإنسان قد مات، وهو ما زال راقدًا وفيه ما فيه من الحياة هذا أمر غريب لم يقل به فقيه أو حتى طبيب إلى اليوم احترامًا للحياة وللإنسان وللآدمية، إلا إذا أطلق عليه أنه ميت باعتبار ما يؤول إليه، وما يكون من أمره بعد وقت بعينه.

والأحكام الإسلامية دائمًا تبنى على التحري لا على الشك وخصوصًا في مثل هذه الحالات فنرى مثلًا في إجراء أحكام الميت على المفقود في سفر أو في جهاد أو حرب أو غير ذلك، فإنه ينتظر مدة معينة حددها الفقهاء للتأكد من موته أو لغلبة الظن بحسب عادة الناس أنه لا يعيش بعد هذه المدة، ثم يعلنون موته، فتعتد امرأته ويقسم ماله ويؤخذ فيه العزاء إلى غير ذلك.

الشريعة وكرامة النفس الآدمية:

قررت الشريعة الإسلامية في كثير من النصوص حرمة النفس البشرية، كما أعلت شأنها ورفعت قدرها، فقال سبحانه {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} .

وقد أكدت الشريعة حرمة الاعتداء على النفس البشرية بما لم يسبق إليه فقال تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} .

ورتب الإسلام عقوبات رادعة لكل من تخول له نفسه الجناية عليها، ولم يكتف بمضاعفة الإثم والوعيد بالعذاب الأليم والخلود في الجحيم لقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} النساء 93، وإنما رتب على ذلك عقوبات دنيوية رادعة أيضًا، وهذه العقوبات وإن اختلفت حسب العمد أو الخطأ أو النية إلا أنها مغلظة في كل أحوالها ويصاحبها مع ذلك القصاص أو الدية، كل ذلك حفاظًا على النفس لما لها من كرامة وحقوق وحرمة.

ومما يجب أن يذكر في هذا المجال اتفاق فقهاء المسلمين على أن للجنين حرمة من حين نفخ الروح فيه، لما في ذلك من إزهاق نفس محترمة بغير حق، هذا وقد ارتفعت شفافية بعض الفقهاء فقالوا بحرمة البويضة الملقحة وحرمة النطفة حتى قبل نفخ الروح فيها، لأنها بويضة وبذرة آدمي له حرمته وكرامته.

ص: 267

ولهذا ينبغي أن نلفت النظر إلى ما يلي:

1-

إذا كان هذا هو منطق الشريعة الإسلامية، وهذه هي أقوال فقهائها، أفلا يكون من الأولى والأجدر حفظ حياة إنسان مازالت فيه حياة نابضة منظورة قوية، واحترام حياة تتنفس وتنمو؟

2-

الإنسان ما زال موطن الأسرار، وحياته وموته ما زالت يكتنفها الغموض وإن كان العلم قد بدأ يزيح الستار عن بعض هذه المجاهيل، إلا أنه كل يوم يظهر تقدم جديد في مجال خدمة الحياة الإنسانية، فالحكم على حياة الإنسان وموته بدون تحقق وتأكد، يكون حكمًا مبنيًا على المجازفة.

3-

من الأدلة الشرعية المعترف بها الاستصحاب، وهو الحكم على الشيء بما كان ثابتًا له ما دام لم يقم دليل قطعي بغيره، فمن عرف إنسانًا حيًا حكم بحياته وبنى تصرفاته على هذه الحياة، حتى يقوم الدليل الأكيد على وفاته، ومن عرف فلانة زوجة فلان شهد بالزوجية ما دام لم يقم دليل له على إنهائه، فأين هو الدليل الشرعي على انتهاء الحياة الإنسانية والجسد حي وما زال يقبل الغذاء ويبول وجسده لم يتغير بل ينمو؟ وكيف يحكم بالموت في هذه الحالة والقاعدة الشرعية المعروفة تقول:"الأصل بقاء ما كان حتى يثبت ما يغيره" وكذلك قاعدة "ما يثبت باليقين لا يزول بالشك" فكيف يدعى اليقين والجسد ينبض والحياة مليئة بالأسرار؟ وما ثبت اليوم ينقص غدًا "وما هو مستحيلًا اليوم هو حقائق الغد".

الأحكام الشرعية لفاقد الحياة العاقلة:

قد يكون الإنسان فاقد للحياة العاقلة فيكون فاقدًا للأهلية، كالطفل في زمن طفولته وكالمجنون في أي سن كان، فكل منهما لكونه لا عقل له فلا يكون له أهلية للأداء ولا تترتب آثار شرعية على أقواله وأفعاله.

قال صلى الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلي حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر)) حديث صحيح، أخرجه أبو داود من حديث عائشة بهذا اللفظ، وأخرجه من حديث علي وعمر بلفظ ((عن المجنون)) حتى يبرأ وعن النائم حتى يعقل، وأخرجه أيضًا عنهما ((عن المجنون حتى يفيق)) وبلفظ ((عن الصبي حتى يحتلم)) فلا يجب إذن على المجنون صلاة ولا صوم ولا حج، وإذا بريء لا يقضي صلاة ولا صومًا وإذا صلى أو صام أو حج لا يقبل منه.

ص: 268

كما يكون له أحكام شرعية في غير العبادات فعقوده وتصرفاته باطلة، غاية ما في الأمر إذا جنى أحدهما أي المجنون أو الطفل على نفس أو مال يؤاخذ ماليًا لا بدنيًا فإذا قتل الطفل أو المجنون أو أتلف مال غيره ضمن دية القتيل أو ما أتلفه ولكنه لا يقتص منه وهذا معنى قول الفقهاء "عمد الطفل أو المجنون خطأ" لأنه ما دام لا يوجد العقل لا يوجد القصد فلا يوجد العمر.

ومع أن فاقد الأهلية يكون فاقدًا للأداء كما قدمنا إلا أنه تكون له أهلية وجوب كاملة.

فتثبت له الحقوق، فيصح أن يوهب وأن يرث ويورث، وأن تفرض له نفقة ويكون عليه واجبات كذلك من ماله من نفقة زوجته وأولاده وما عليه من حقوق، أو تلف في مال الغير، إذن فتثبت له حقوق ويجب عليه واجبات، وهذه تثبت لكل إنسان من حين ولادته، فهو في طفولته وفي سن عدم تمييزه وبعد التمييز وبعد البلوغ وفي حالة العقل وفي حالة زواله - على أي حال كان وفي أي طور من أطوار الحياة - له أهلية وجوب كاملة بوصفه أنه إنسان سواء كان ذكرًا أم أنثى وسواء كان جنينًا أم طفلًا، مميزًا أم بالغًا أم رشيدًا أم سفيهًا، عاقلًا أو مجنونًا صحيحًا أو مريضًا؛ لأنها مبنية على خاصية فطرية في الإنسان فأهليته للوجوب هي إنسانيته، أي بمعنى أوضح هي حياته الجسدية لا حياته العقلية، فما دام له جسد حي فله أهلية وجوب كاملة.

إذن فالحياة الجسدية هي المعتبرة في هذه الحالة لا الحياة العقلية وقد اعتبرت الحياة العقلية في الأداء كما قدمنا، وغالب ذلك مختص بالعبادات والتكاليف الشرعية بين العبد وربه، فكيف يأتي من يقول: لا اعتبار للحياة الجسدية ولا حرمة لها ويخالف الكتاب والسنة وإجماع المسلمين في ذلك؟

الحياة غير المستقرة:

الحياة غير المستقرة في عرف الفقهاء هي اللحظات التي تسبق خمود الجسد، وهي ما يسميها الناس بحركة خروج الروح.

ص: 269

وهذه وإن كان لها أحكامها الخاصة من حيث حل الذبح في الحيوان وعدمه، فلها أحكامها، كذلك عند الإنسان في إثبات الفعل المؤثر في إنهاء الحياة الإنسانية، إذا تعددت المؤثرات، لما يترتب عليه من عقاب للمتسبب الحقيقي، ولما يترتب عليه من تحديد حجم الجناية والعقوبة إذا لم تتعدد المؤثرات على أثر واحد.

ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه الحياة غير المستقرة سماها الفقهاء حياة لا يجوز تخطيها أو إعلان حالة الوفاة إلا بعد الانتهاء من أي حياة والتحقق من ذلك بجمود الجسد وسكونه سكونًا أبديًا.

والسؤال الذي يطرح الآن: وهو اعتداء الطبيب على الإنسان في هذه الحالة بوقف الأجهزة المنشطة أو بنزع الأنابيب المغذية ما حكمه؟

نقول: إذا كان الاعتداء بدون سبب ضروري فله حكمه المعروف، وهو قتل بالتسبب ولذلك عقوبته المعروفة.

أما إذا كان لا يوجد إلا جهاز واحد في المستشفى وهناك من يتحقق شفاؤه إذا وضع له هذا الجهاز فنقول: أولًا: يجب على أولي الأمر أن يوفروا الأجهزة اللازمة لذلك وإلا أثموا لأن ذلك من الضروريات، فإذا لم تتوفر لقلة ذات اليد أو لعدم العثور عليها أو عدم توفرها أو إمكان الحصول عليها فلا بأس بنزع الجهاز ممن يتأكد أنها لا تجدي معه، وتركب للذي يحتاجها لإنقاذ حياته، وهذا يشبه في نظري إجهاض الأم وإخراج الجنين للإبقاء على حياة الأم المريضة التي لا تتحمل الحمل أو تستطيعه لما فيه من التضحية بحياة مشكوك فيها لبقاء حياة مؤكدة.

وقد أجازت لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية بتاريخ 14/ 12/ 81 نزع الأجهزة من شخص يتحقق موته بعد قليل إلى شخص تتحقق حياته في نظر الأطباء إذا ركبت له هذه الأجهزة.

نقل الأعضاء:

أفتى العلماء بجواز نقل الأعضاء من حيوان إلى إنسان ولا شيء في ذلك ومن إنسان إلى إنسان بشروط:

ص: 270

فإن كان من إنسان حي يشترط لذلك شروط:

1-

أن يكون المتبرع بالعضو المنقول عاقلًا بالغًا راشدًا حيا يستطيع الحكم على الأشياء ويكون أدرى بمصلحته.

2-

يشترط ألا تتعرض حياة المتبرع للخطر المحقق.

3-

أن تكون هناك ضرورة لذلك كأن يكون هناك إنسان يحتاج ذلك العضو للإبقاء على حياته.

4-

أن يكون البديل معدومًا أو لا يؤدي إلى الغاية المطلوبة.

أما نقل الأعضاء من الميت عند موته لإحياء نفس معرضة للهلاك فهذا لا بأس به لقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} ولأن هذا يدخل في إغاثة الملهوف وهي واجبة لإنقاذ نفس مشرفة على الهلاك، ولأن هذا ليس فيه انتهاك لحرمة الميت، لأن المصلحة الراجحة في إنقاذ إنسان مشرف على الهلاك والموت أولى، أما عن استئذان الأهل فهذا شيء للترضية وتطيب الخاطر ولمنع حدوث فتنة، فهم لا يملكون بذل شيء من الميت أو عدمه وبهذا يكون لا مشكلة في نظري حتى تستبقي الأجساد حية للأخذ منها، فالأعضاء التي تؤخذ من الميت حال الوفاة، تحفظ وتثلج وتنقل اليوم من قطر إلى قطر دون تلف فما هو الداعي لترك الإنسان حيًا والحكم عليه بالموت، حتى تؤخذ منه قطع غيار بدون حاجة فورية إلى هذا؟

ثم ما هو الضمان حتى لا تكون هناك تجاوزات بأن تكون هذه وسيلة أخرى لبيع الأعضاء وإنشاء سوق معينة لبيعها؟ كما يلاحظ بعض التجاوزات في بعض الدول التي يباع فيها جثث أو أعضاء الموتى للطلاب ولغيرهم دون ضوابط، أو زواجر مما لا يكون في أي مجتمع يحترم نفسه فضلًا عن المجتمعات الإسلامية التي تجعل للميت حرمة كحرمة الحي، يشهد لذلك ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها فيما أخرجه الموطأ والترمذي بسند صحيح "كسر عظام المؤمن ككسره وهو حي" وهذا معروف بأن يكون هذا للتعدي أو الاستهجان أو بغير ضرورة أو لمجرد التسيب أما إذا كان لضرورة ومنفعة كما بينا، فلا بأس.

ص: 271

ما يترتب على إعلان الوفاة:

تترتب على الوفاة أمور معينة في الدين والدنيا منها:

1-

ثبات عقود معينة كان قد أبرمها الميت، وانفساخ عقود أخرى كالقراض وغيره.

2-

نفاذ الوصية حيث تخرج من ماله بقدر معين منه، أو من الشريعة، وتدخل في ملك الموصى له.

3-

خروج ماله عن ملكه وذهابه إلى الورثة ومن يستحقون التركة من الورثة.

4-

إخراج ديونه، ما حل منها وما لم يحل.

5-

آثار الموت في الكفالة والحوالة.

6-

سقوط النفقة التي كانت تجب عليه لأربابها زمن حياته.

7-

ارتفاع النكاح –وبدء العدة للمرأة- ولزوم ما تأخر من مهر.

8-

رد الأمانات إلى أصحابها.

9-

تولية خليفة أو تنصيب إمام أو قاضي بدلًا عن الميت.

10-

عزل بعض الولاة بموت الإمام.

11-

نقض الهدنة والنظر في العهود وما إلى ذلك.

هذه مثلًا بعض الأمور الدنيوية التي تلزم بإعلان الوفاة.

وهناك أمور أخرى يجب أن تتم وأحكام يجب أن تتبع ديانة منها:

1-

غسل الميت ودفنه لما ورد من عدم تأخير دفن الميت إذا تحقق موته.

2-

الصلاة عليه –حيث يجب الصلاة على الميت قبل الدفن، فهل يصلى عليه ويغسل فور إعلان توقف مخه أو دماغه، أم بعد وفاة الأعضاء، وغسله والقصد إلى دفنه؟ أم لا صلاة ولا دفن ما دام الميت سيفتت قطعًا ويوزع على المرضى كما يقول بعض الإخوة الأطباء؟

3-

العزاء: هل سيؤخذ العزاء بعد الدفن أم قبله والمريض يرقد في المستشفى؟ وهل هذه الأحكام الدنيوية السابقة يبدأ فيها فور إعلان وفاة المخ أم بعد وفاة الجسد؟

تطلق المرأة وتعتد وتوزع التركة إلى غير ذلك.

وهل سيستبقى شيء للتكفين والتجهيز أم ماذا؟

يجب أن يُلقى الضوء على ذلك..

ص: 272

أسئلة:

1-

لقد استطاع العلماء أن يوجدوا بديلًا للمخ في إدارة حركة الدورة الدموية والجهاز التنفسي والجهاز الهضمي والإبقاء على صلاحية الجسد والحياة فيه وذلك هو الأجهزة فلم يعتبرون الإنسان ميتًا والبديل يعمل.

2-

ركز القائلون بالموت إذا فقد المخ الحياة على فقدان الشعور، وهذا لا ينهض دليلًا على الموت.

وإلا كان المجنون والمغمى عليه والمشلول ميتًا، وهذا ما لم يقل به إنسان إلى اليوم.

3-

ما حكم من وقف قلبه وتنفسه وحركته، ثم عولج بالتدليك أو بالصدمة الكهربائية وعاد القلب إلى النبض من جديد هل يسمى في عرف الأطباء أنه مات ثم رجعت له الحياة من جديد أم لا يعتبر هذا في الحياة والموت وإنما يعتبر الدماغ فقط وما قولهم فيمن يموت اليوم ومن مات أمس ولم تقاس لهم موجات الدماغ أماتوا أحياء، أم أن هناك موت وموت، موت إذا وجد الجهاز وموت بدونه.

4-

تدحرجت بعض الأمم حتى اعتبرت الإنسان في الشيخوخة عبء يستحسن التخلص منه، إما بإيداعه في مصلحة، أو دار للعجزة، أو ملجأ للرعاية مادام قد أصبح عديم التأثير أو النفع، فهل ستعمم تلك الفكر وتتطور حتى تنسحب على الناس كافة في حالة عجزهم أو فقدهم للقوى المؤثرة؟

إذا كان هذا اليوم شعار يسري في الأمم التي جنحت إلى الالتفات إلى المادة فقط فنحن والحمد لله ما زلنا نتمسك بتعاليم الإسلام التي تعتز بالإنسان قويًا كان أو ضعيفًا وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ((هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم؟)) ..

ص: 273

نهاية الحياة

للأستاذ عبد القادر بن محمد العماوي

القاضي بالمحكمة الشرعية الأولى بقطر

الموت:

لا ريب أن الموت الطبيعي يكون تدريجيًا، فتموت الخلايا أولًا ثم الأنسجة ثم الأعضاء والأجهزة الحيوية، وبعد ذلك يتوقف الجسم بكامله عن العمل، ولكن هناك موتًا غير طبيعي، فإذا قطع الوتين مثلًا مات الشخص، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) } (1) وقالوا: إن الوتين هو نياط القلب وهو عرق يجري في الظهر حتى يتصل بالقلب إذا انقطع بطلت القوى ومات صاحبه، قال ابن تيمية: ولم يرد أنا نقطع ذلك العرق بعينه، ولكنه أراد لو كذب علينا لأمتناه، لكان كمن قطع وتينه، ومثله قوله صلى الله عليه وسلم ((مازالت أكلة خيبر تعاودني وهذا أوان قطع أبهري)) ، وقالوا: إن الأبهر عرق يتصل بالقلب فإذا انقطع مات صاحبه فكأنه قال هذا وإن قتلي بالسم فكنت كمن انقطع أبهره.

وقال الفقهاء في أمارات الموت في الذي يموت من علة باسترخاء قدميه ولا ينتصبان ويميل أنفه أو ينخسف صدغاه أو تمتد جلدة وجهه أو ينخلع كتفاه عن ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه إلى فوق مع تدلي الجلدة، وقال الفقهاء: فإن كان هذا شك واحتمل أن يكون به سكتة لعدم العلة، أو ظهرت أمارات فزع أو غيره أحرى إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيرها.

وقال بعض الفقهاء: إن حقيقة الموت تعتبر بجس العرق الذي بين الكعب والعرقوب وبجس عرق في الدبر، وقالوا أيضًا: إن من علامات الموت سكون الحركة في البدن كله وتغير لونه وانقطاع نفسه، ولذلك يعتبر موت الحامل بوضع كفة الميزان أو ما أشبهها على سرتها، فما دامت الكفة تتحرك فهي حية وهذا إذا تبين حملها إما بقولها أو بقول غيرها مما لا يتهم على ذلك، وهم يقولون ذلك لأنهم عاجزون عن الكشف عن الحقيقة إذ لم يكن في متناول أيديهم أجهزة كما هي الآن.

والواقع أننا لا نستطيع أن نحدد الحد الفاصل بين الحياة والموت، وإذا كان الأطباء قد قالوا سابقًا: إن توقف القلب عن العمل هو الحد الفاصل، وقالوا الآن: إن موت الدماغ هو الحد الفاصل، فما يدرينا أن يكتشف العلم وسائل لإنعاش المريض وتنشيط الدماغ مثل ما حصل للقلب؟

(1) سورة الحاقة / 44، 45، 46، 47

ص: 274

لذلك فنرى ألا نعتبر الحياة شرعيًا قد انتهت ونحكم على الشخص إنه في عداد الموتى إلا إذا كانت هناك أمارات ظاهرة كما قررها الفقهاء، فنرتب على ذلك الإرث وانتهاء العدة وغيرها من الأحكام الشرعية، أما مسألة ما توصل إليه الطب من أن موت المخ هو الموت الحقيقي للشخص، فيكون ذلك في حكم الميئوس من حياته فلا يلزم الطبيب أن يبقى عليه الأجهزة التي تطيل عليه حالة النزع والاحتضار بما لا فائدة فيها، وقد قال الفقهاء إن حكم من هو في النزع حكم الميت فلا حرج على الطبيب إن هو مد يده إلى إطفاء الجهاز؛ لأن الحياة المتوقفة على جهاز غير طبيعي، ليست حياة في الحقيقة.

وهم يقولون ذلك لأنهم عاجزون عن الكشف عن الحقيقة إذا لم يكن في متناول أيديهم أجهزة كما هي الآن.

غير أن ترتيب الأحكام الشرعية على أمور واضحة يطلع عليها أكبر عدد من الناس العاديين أولى من ترتيبها على أشياء لا يطلع عليها إلا المختصون أو عدد محدود، ولذلك فنرى أن التقيد بما قاله الفقهاء في مسألة إرث الجنين وغير ذلك من الأحكام سيمنع كثيرًا من المشاكل لو أننا رتبنا الأحكام هذه على الحياة في بطن الأم اعتمادًا على قول الطبيب، وكذلك في مسألة علامات الموت الظاهرة فنرى التقيد بها عند ترتيب الأحكام الشرعية.

ص: 275

نهاية حياة الإنسان

للشيخ صالح موسى شرف

عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر

عرف الإمام الغزالي وغيره الموت، بأنه إزهاق الروح أي خروجها بعد البدء ولهذا الخروج أسباب كثيرة كما قال القائل: تنوعت الأسباب والموت واحد، فمن الأسباب: القتل ومرض القلب وتلف أجهزة المخ وغير ذلك من الأسباب التي تؤدي إلى الموت.

فإذا وجد في شخص واحد من هذه الأسباب التي شوهدت وجربت استحالت حياته، ولذلك يقول الإمام الغزالي في التوفيق بين من يقول المقتول ميت بأجله أو بغير أجله: للموت أسباب كثيرة منها القتل وغيره من الأمراض التي تؤدي للموت، فإذا تجمعت هذه الأسباب كلها في المقتول مات بأجله لأنه لو لم يقتل لمات.

أما إذا لم يوجد غير القتل فقط وباقي الجسم سليم فإنه يكون ميتًا بغير أجله وعندئذ تضاعف العقوبة، ولذلك قال بعض المفسرين في قصة سيدنا موسى عليه السلام حينما وكزه فقضى عليه: إن موسى عليه السلام لم يقصد قتله، وإنما كانت هناك أمراض لهذا الشخص تؤدي إلى موته، ومن أجل هذا حينما يحصل حادث لشخص يستدعى الطبيب الشرعي لمعرفة هل هذا الحادث هو الذي أدى إلى الموت أم هناك أسباب أخرى مع الحادث أدت إلى الوفاة؟

بقي سؤال: هل يكفي في انتهاء حياة الإنسان تلف جميع أجهزة المخ مع أي نوع من الأسباب التي تؤدي إلى الموت أم يكتفى بأي نوع من أنواع المقاتل الأخرى؟ وأيضًا فإن المشاهد من التجارب هو الثاني.

فإن ذبح الإنسان مثلًا فيه إتلاف للأوردة الموصلة للدم لجميع أجزاء الجسم اللهم إلا أن يقال: إن في هذا الذبح إتلافًا لأجهزة المخ الذي انقطع عنه الشريان الذي يوصل إليه الدم بسبب الذبح.

لكن تلف المخ قد توجد معه الحياة زمنًا كما تحدث للمريض غيبوبة طويلة مع بقاء الأجهزة الأخرى سليمة كما حدث للمريضة في فنلندا فإنها كانت في غيبوبة طويلة ثم ماتت ووضعت طفلًا كامل النمو، فلو كانت بعض أجهزة المخ كافية في نهاية حياة الإنسان لماتت هذه المرأة.

ص: 276

بقي سؤال آخر حاصله: أنه إذا وجد بعض أسباب الموت مثل تلف المخ أو القلب أو الكبد ثم وجدت معه اضطرابات وحركات كالمذبوح فكيف مع هذا يقال: إنه قد مات؟ وقد نشاهد في الحيوان بعد هذا اضطرابًا وطيرانًا مما يتنافى مع الموت الذي هو سكون للجسم.

والجواب على ذلك: أن هذه الاضطرابات والحركات ناشئة من بطء خروج الروح وكل عضو من أعضاء الجسم يتنازع مع خروج الروح، ويقال: إن هذا الاضطراب أثر من آثار الحياة السابقة على الذبح.

والأحوط في هذا المقام الانتظار حتى يهدأ المذبوح ويتبين موته، ومن ثم تطبق الأحكام الشرعية المترتبة على الموت.

ثم إن المذبوح يتحرك ويضطرب إذا جاء شخص وأجهز عليه ينظر في الذبح فإذا كان الذبح كاملًا بأن قطع الأول الودجين فالمجهز الثاني لا يعد قاتلًا إنما عليه الإثم والتعزير حتى لا يجر ذلك لكثير من الناس للتعدي على المذبوح بحجة أنه يريحه ما دام أنه لا يقصد؛ لأن للميت حرمة وكرامة، أما إذا كان الذبح غير كامل فإن المجهز عليه يعد قاتلًا وعليه القصاص كالأول الذابح.

بقي أن يقال: إن إتلاف المخ وحده هو السبب الوحيد للقتل وأن الحياة تبقى في جميع بدن الجسم، واستدل القائل على هذه النظرية بزرع القلب في بدن آخر قلبه تالف فيحيا.

فما ذاك إلا أن أعضاء الجسم فيها حياة.

وللرد عليها نقول وبالله التوفيق:

أولًا: إن الموت والحياة متضادان فكيف يجتمعان في شخص واحد؟

ثانيًا: إن القرآن الكريم دل على إبطال هذه النظرية حيث يقول الله تعالى وقوله صدق: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} .

ص: 277

فقوله تعالى: {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا} يمسك التي قضى عليها دليل على موت جميع أجزاء الجسم؛ لأن النفس بها الحياة والإدراك والوعي، فما دام قد أمسكها الله عنده فقد انقطعت الحياة عن جميع أجزاء البدن.

ثالثًا: إن الإنسان إذا دخل على مريض محتضر يرى أن الروح تخرج منه شيئًا فشيئًا والعضو الذي خرجت منه لا يتحرك وأصبح كالثلج باردًا لا حرارة فيه.

أما الاستدلال بزرع الأعضاء في جسم حي فإن الحياة لهذا العضو المزروع قد استمدت من جسم الحي، فهو قد أفاض عليه حياة جديدة بعد أن قد مات، كالبذرة التي تضعها في الأرض ولا تتعهدها بالسقي فتموت، ثم إذا أرسلت إليها الماء عادت إليها الحياة، ولو أخذنا هذا القلب من إنسان ميت وزرعناه لإنسان آخر ميت فهل يحيا هذا القلب المزروع؟ طبعًا لا يحيا.

أما الحديث عن أخذ عضو من ميت ليوضع في آخر أشرف على الموت فقد أجاز ذلك العلماء بشرط أن يتحقق موت صاحب القلب، وبأن يأذن أهله في ذلك، لأن للميت حرمته ولا يجوز التمثيل به.

وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التمثيل بجثث أعداء الإسلام فكيف بجثث المسلمين؟ ولكن للضرورة وهي أن الحي أبقى من الميت أجاز الشارع ذلك، إذا أذن جميع أهله.

والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

ص: 278