الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق
لفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي
بسم الله الرحمن الرحيم
توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحق
الله سبحانه وتعالى وزع الصدقات المفروضة فجعلها مصروفة إلى ثمانية أصناف المذكورة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} .
بيان هذه الأصناف ومذاهب الفقهاء فيها:
الصنف الأول والثاني هم الفقراء والمساكين، ولا شك أنهم المحتاجون الذين لا يفي خرجهم بدخلهم، ثم اختلفوا في الفرق بينهما، فقال بعضهم الذي يكون أشد حاجة هو الفقير، وهذا قول الشافعي رحمه الله وأصحابه، وقال آخرون: الذي أشد حاجة هو المسكين، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه رضي الله عنهم، ومن الناس من قال: أنه لا فرق بين الفقراء والمساكين والله وصفهم بهذين الوصفين والمقصود شيء واحد وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله.
مقدار سهمهما:
اختلف الفقهاء في مقدار ما يعطى الفقير والمسكين من الزكاة، ويمكن حصر خلافهم في اتجاهين كما قاله الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة.
الاتجاه الأول: إعطاؤهما ما يكفيهما تمام الكفاية بالمعروف دون تحديد مقدار معين من المال.
الاتجاه الثاني: إعطاؤهما مقدارًا محددا من المال.
وقد انقسم أصحاب الاتجاه الأول إلى مذهبين:
1-
مذهب يقول بإعطاء كفاية العمر الغالبة.
2-
مذهب يقتصر على إعطاء كفاية السنة.
والمذهب الأول: يتجه إلى أن يعطى الفقير ما يكفيه بصفة دائمة، ولا يحوجه إلى الزكاة مرة أخرى، وقال الإمام النووي في المجموع:(المسألة الثانية) في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين، وقال أصحابنا العراقيون، وكثير من الخراسانيين: يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى، وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام، وهذا هو نص الشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الهلالي رضي الله عنه:((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل المسألة إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يصيبها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوى الحجا من قومه: قد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش، فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا)) ، رواه مسلم في صحيحه.
قال أصحابنا: فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه
…
قالوا فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشتري به حرفته أو آلات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي بكفايته غالبا تقريبا ويختلف باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص فإن لم يكون محترفا ولا يحسن صنعة أصلا ولا تجارة ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة.
ووضح ذلك الشمس الرملي في شرح المنهاج للنووي فذكر أن الفقير والمسكين إن لم يحسن كل منهما كسبا بحرفة ولا تجارة يعطى كفاية ما بقي من عمر الغالب لأمثاله في بلده لأن القصد اغناؤه ولا يحصل إلا بذلك فإن زاد عمره عليه أعطي سنة بسنة وليس المراد بإعطائة من لا يحسن الكسب إعطاءه نقدا يكفية تلك المدة بل ما يكفيه دخله منه فيشترى له به عقارا يستغله ويغتني به عن الزكاة فيملكه ويورث عنه.
قال: والأقرب كما بحثه الزركشي أن للإمام دون المالك شراءه له وله إلزامه بالشراء وعدم إخراجه عن ملكه وحينئذ ليس له إخراجه فلا يحل ولا يصح فيما يظهر ولو ملك هذا دون كفاية العمر الغالب كمل له من الزكاة كفايته كما بحثه السبكي قال الماوردي: لو كان معه تسعون ولا يكفيه إلا مائة أعطي العشرة الأخرى وهذا كله فيمن لا يحسن الكسب أما من يحسن حرفة لائقة تكفية فيعطى ثمن آلة حرفته وإن كثرت ومن يحسن تجارة يعطى رأس مال يكفيه ربحه غالبا باعتبار عادة بلده ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والنواحي " أهـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج لشمس الدين الرملي م6 ص 159 وهذا ما نصه الشافعي في الأم وما رجحه وأخذ به أصحابه.
وفي مذهب الإمام أحمد رواية تماثل ما نص عليه الشافعي فأجاز للفقير أن يأخذ تمام كفايته دائما بمتجر أو آلة صنعة أو نحو ذلك وقد اختار هذه الرواية بعض الحنابلة ورجحوا العمل بها وهذا يوافق ما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه" إذا أعطيتم فاغنوا " وقال للموظفين الذين كانوا يعملون في توزيع الصدقات على المستحقين " كرروا عليهم الصدقة وإن راح أحدهم على مائة من الإبل ".
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه فقه الزكاة وتستطيع الدولة المسلمة بناء على هذا الرأي أن تنشئ من أموال الزكاة مصانع وعقارات ومؤسسات تجارية ونحوها وتملكها للفقراء كلها أو بعضها لتدر عليهم دخلا يقوم بكفايتهم ولا تجعل لهم الحق في بيعها ونقل ملكيتها لتظل شبه موقوفه عليهم. وهذا استنتاج قوي واضح وأما إنشاء الدولة المسلمة من أموال الزكاة ذلك المذكور من المصانع والعقارات ونحوها ثم تجعل الفقراء موظفين في تلك المشاريع وإعطائهم أجرة عملهم كراتب شهري من غلات هذه المشاريع من أموال الزكاة بدون تمليكهم فهذا بعيد عما فهمه الفقهاء من نظام توزيع الزكاة وخاصة سهم الفقراء والمساكين الذي يجب تمليكه لهم.
المذهب الثاني: يعطي كفاية سنة وقال المالكية وجمهور الحنابلة وآخرون من الفقهاء: فيعطى الفقير والمسكين من الزكاة ما تتم به الكفاية لنفسه ولمن يعوله سنة كاملة ولم ير أصحاب هذا المذهب ضرورة لإعطائه كفاية العمر الغالب كما لم يروا أن يعطى أقل من كفاية سنة وإنما حددوا الكفاية بسنة لأنها في العادة أوسط ما يطلبه الفرد من ضمان العيش له ولأهله قوت سنة ولأن أموال الزكاة في غالبها حولية وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم ادخر لأهله قوت سنة فلا داعي لإعطاء كفاية العمر وفي كل عام تأتي حصيلة جديدة من موارد الزكاة ينفق منها على المستحقين.
ويري القائلون بهذا المذهب أن كفاية السنة ليس لها حد معلوم لا تتعداه من الدراهم أو الدنانير بل يصرف للمستحق كفاية سنة بالغة ما بلغت فإذا كانت كفاية السنة لاتتم إلا بإعطاء الفقير الواحد أكثر من نصاب من نقد أو حرث أو ماشية أعطي من الزكاة ذلك القدر وإن صار به غنيا لأنه كان فقيرا مستحقا حين الدفع إليه.
ويقول الدكتور يوسف القرضاوي في ترجيح أحد المذهبين: والذي اختاره أن لكل من المذهبين مجاله الذي يعمل به فيه ذلك أن الفقراء والمساكين نوعان:
نوع يستطيع أن يعمل ويكسب ويكفي نفسه بنفسه كالصانع والتاجر والزارع ولكن ينقصه أدوات الصنعة أو رأس مال التجارة أو الضيعة وآلات الحرث والسقي فالواجب في مثل هذا أن يعطى من الزكاة ما يمكنه من اكتساب كفاية العمر وعدم الاحتياج إلى الزكاة مرة أخرى بشراء ما يلزمه لمزاولة حرفته وتملكه إياه استقلالا أو اشتراكا على قدر ما تسمح حصيلة الزكاة والنوع الآخر عاجز عن الكسب كالزمن والأعمى والشيخ الهرم والأرملة والطفل ونحوهم فهؤلاء لا بأس أن يعطى الواحد منهم كفاية سنة أو يعطى راتبا دوريا يتقاضاه كل عام بل ينبغي أن يوزع على أشهر العام إن خيف من المستحق الإسراف وبعثرة المال في غير حاجة ماسة وهذا هو المتبع في عصرنا فالرواتب تعطى شهرا بشهر وكذلك المساعدات الدورية. اهـ من فقه الزكاة.
الصنف الثالث: العاملون عليها:
وهم السعاة لجباية الصدقة ويدخل فيهم الحاشر والعريف والحاسب والكاتب والقاسم وحافظ المال ويقصد بهم كل من يعمل في الجهاز الإداري لشؤون الزكاة من تحصيلها وحفظها وتوزيعها على المستحقين لها ويعطى العامل عند أبي حنيفه ومالك ما يكفية ويكفي معاونيه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما دام المال باقيا.
وعند الشافعية يعطون من سهم العاملين وهو الثمن قدر أجرة عملهم فإن زادت أجرتهم على سهمهم تمم لهم وقيل من سائر السهام وقيل من بيت المال وهذا أيضا قول عبد الله بن عمر وابن زيد وقال مجاهد وإسحاق يعطون ثمن الصدقات وقال الأكثرون حق العامل بقدر مؤنته عند الجباية والجمع ويسقط سهم العامل إذا أدى الزكاة صاحب المال إلى الإمام أو إلى الفقراء مباشرة ويشترط في العامل الإسلام والتكليف والعلم بأحكام الزكاة والقدرة على العمل.
الصنف الرابع" وفي الرقاب " فيه حذف كما قاله الزجاج وتقديره وفي فك الرقاب واختلف العلماء في تفسير الرقاب على ثلاثة مذاهب وهي كالآتي: -
1 -
مذهب الشافعي والليث بن سعد أن سهم الرقاب موضوع في المكاتبين ليعتقوا به.
2 -
مذهب الإمام مالك وأحمد وأصحابه أنه موضوع لتعتيق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون.
3 -
مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسعيد بن جبير والنخعي أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب.
ويقول الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين من المسلمين ونصف يشترى به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون من الزكاة.
أدلة المذاهب.
وحجة الشافعي وموافقوه: أن قوله تعالى " وفي الرقاب"" وفي سبيل الله " وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين فكذا هنا يجب الدفع إلى الرقاب ولا يمكن الدفع إلى الشخص الذي يراد فك رقبته إلا إذا كان مكاتبا ولو اشترى سهم الرقاب عبيد لم يكن الدفع إليهم وإنما هو دفع إلى سادتهم وانتفاعهم بالعتق ليس تمليكا لأن العتق إسقاط واحتجوا أيضا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "وفي الرقاب" يريد المكاتبين وتأكد هذا بقوله تعالى " وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ" وحجة المالكية وموافقوهم أن الرقاب جمع رقبة وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها والعتق لا يكون إلا في القن كما في المكفارات فلا بد من عتق رقبة كاملة ولأنه لو اختصت بالمكاتب لدخل في حكم الغارمين لظنه غارم ولأنه شراء الرقبة لتعتق أولى من إعانة المكاتب لأنه قد يعان ولا يعتق لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولأن شراء العبيد متيسر في كل وقت بخلاف الكتابة.
وحديث البراء يدل على أن فك الرقاب غير عتقها ونص هذا الحديث عن البراء بن عازب قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل يقربني إلى الجنة ويبعدني عن النار فقال: ((اعتق النسمة وفك الرقبة)) قال: يا رسول الله، أوليسا واحدا؟ قال:((لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها)) ورواه أحمد والدارقطني وقال في مجمع الزوائد رجاله ثقات وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن يعتق من زكاة ماله ذكره عنه أحمد والبخاري.
وحجة الحنفية: أن قوله تعالى " وفي الرقاب يقتضي أن يكون للمزكي مدخل في عتق الرقبة وذلك ينافي كونه تاما فيه والقول المختارالجمع بينهما كما قال الزهري.
ومن العلماء من قال: يفك الأسارى من سهم الرقاب بحجة أن فداء المسلم تخليصه من أيدي الكفار أولي من عتق مسلم تملكه يد مسلمة.
وقال الشافعي وأصحابه: يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده ويجوز صرفها إلى سيده بإذن المكاتب ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب والأولى صرفها للسيد بإذن المكاتب لأن الله تعالى أضاف الصدقات للأصناف الأربعة الأولى باللام ولما ذكر الرقاب أبدل حرف اللام بحرف " في فقال " وفي الرقاب " فلا بد لهذا العدول من فائدة وهي أن الأصناف الأربعة الأولي يدفع إليهم نصيبهم من الصدقات على أنه ملك لهم يتصرفون فيه كما شاءوا وأما المكاتبون فيوضع نصيبهم في تخليص رقبتهم من الرق فكان الدفع إلى السداد محققا للغرض فصرف إلى الجهة التي من أجلها استحق المكاتبون سهم الزكاة وكذلك القول في الغارمين يصرف سهمهم إلى قضاء ديونهم وفي الغزاة يصرف سهمهم إلى إعداد ما يحتاجون إليه في الغزو وابن سبيل الله كذلك يدفع سهمهم إلى إعداد ما يعينهم في بلوغ مقصدهم فيصرف المال إلى الأصناف الأربعة الأولى حتى يتصرفوا فيه كيف يشاءون وفي الأربعة الأخيرة إلى جهات الحاجات المعتبرة والصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة.
والصنف الخامس هو (والمؤلفة قلوبهم) :
وهذا الصنف من مصاريف الزكاة ليس من شأن الأفراد في العادة الغالبة وإنما هو من شأن الدولة أو أهل الحل والعقد في الأمة فهم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها.
وقال الإمام الشافعي: المؤلفة قلوبهم من دخل في الإسلام ولا يعطى من الصدقة مشرك ليتألف على الإسلام وإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم بعض المشركين من المؤلفة يوم حنين كان ذلك العطاء من الفيء ومن مال النبي صلى الله عليه وسلم خاصة واستدل الشافعي على ذلك بأن الله جعل الصدقات من المسلمين مردودة فيهم لا على من خالف دينهم ويشير إلى حديث معاذ وما في معناه ((تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم)) ونقل الرازي في تفسيره جـ16 ص 111 عن الواحدي قال: إن الله أغنى المسلمين عن تأليف قلوب المشركين فإذا رأى الإمام أن يؤلف قلوب قوم لبعض المصالح التي يعود نفعها إلى المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز ذلك إذ لا يجوز صرف شيء من زكوات الأموال إلى المشركين فإنما يعطون من مال الفيء لا من الصدقات.
وذكر النووي عن الشافعي: أن الكفار إن جاز تأليفهم فإنما يعطون من المصالح من الفيء ونحوه لا من الزكاة لأن الزكاة لا حق فيها للكفار عنده.
واختلف في سقوط سهم المؤلفة قلوبهم بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب أحمد وأصحابه إلى أن حكم المؤلفة قلوبهم باق لم يلحقه نسخ ولا تبديل وبهذا قال الزهري وأبو جعفر الباقر.
وعند الشافعية قولان في إعطائهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم:
الأول: لا يعطون لأن الله أعز الإسلام فأغنى عن التأليف بالمال.
والثاني: يعطون لأن المعني الذي أعطوه به قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي مذهب المالكية قولان:
الأول: بانقطاع سهم المؤلفة قلوبهم بعز الإسلام وظهوره.
والثاني: ببقائه.
وقال جمهور الحنفية: انتسخ سهم المؤلفة قلوبهم وذهب ولم يعطوا شيئا بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يعطى الآن.
الصنف السادس (والغارمين)
والمراد بالغارمين المدينون فإن حصل الدين بمعصية لا يدخل في الآية لأن المقصود من صرف مال الزكاة الإعانة ولا إعانة في المعصية أما إذا حصل الدين بدون معصية فهو قسمان: دين حصل بسبب نفقات ضرورية ودين حصل بسبب حمالات وإصلاح ذات البين والكل داخل في الآية وروى الأصم في تفسيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة لا نملك الغرة يا رسول الله فقال لحمد بن مالك النابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم وكان محمد على الصدقة يومئذ.
الصنف السابع (وفي سبيل الله) :
والسبيل هو الطريق وسبيل الله هو الطريق الاعتقادي والعملي الموصل إلى مرضاة الله ومثوبته وقد جاء في القرآن ذكر الهجرة في سبيل الله والضرب في الأرض من سبيل الله والإنفاق في سبيل الله هو طريق البر عامة ولكن اختلف الفقهاء في معنى المراد من قوله تعالى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ}
فعند الحنفية قولان في معنى المراد من ذلك وهما:
1 -
الغزاة الفقراء.
2 -
الحجاج الفقراء.
وفي كتاب تبيين الحقائق للزيلعي الحنفي شرح كتاب الدقاق مع حاشية الإمام الشلبي على هذا الشرح م1 ص 298 ما نصه: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} منقطع الغزاة عند أبي يوسف أي الفقراء منهم وعند محمد منقطع الحجاج وهم الفقراء لما روي أن رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل عليه الحجاج قلنا: الطاعات كلها سبيل الله ولكن عند الإطلاق يفهم منه الغزاة ولا يصرف إلى غيرهم وإنما إفراده بالذكر مع دخوله في الفقراء والمساكين لزيادة حاجته وهو الفقر والانقطاع وفي الوبري هم الحجاج والغزاة المنقطعون عن أموالهم وليس معهم شيء وقال ابن المنذر في الإشراف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: {سَبِيلِ اللَّهِ} هو الغازي دون الحجاج وفي الغزنوي وفي سبيل الله منقطع الغزاة وعن محمد منقطع الحاج فهذا يدل على أن ذلك رواية محمد خلاف ما ذكر الجماعة ولهذا فالأصح عند الحنفية هو القول الأول.
وقال الشافعي والمالكية والحنفية في الرواية الأولي يصرف سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا وانفرد أبو حنيفة باشتراط الفقر في المجاهد.
وقال أحمد رحمه الله في أصح الروايتين عنه يجوز صرفه إلى مريد الحج وروي مثله عن ابن عمر وفي كتاب المقنع من أشهر كتب الحنابلة في عد الأصناف ما نصه: السابع {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} وهم الغزاة الذين لا ديوان لهم ولا يعطى منها في الحج وعنه أن الإمام أحمد يعطى الفقير قدر ما يحج به الفرض.
وحجة الجمهور (الشافعية والمالكية والحنفية على أصح القولين عندهم) أن المفهوم المتبادر في معنى (سبيل الله) في الآية هو الغزو وكثيرا ما جاء في القرآن كذلك وأن حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يدل على ذلك وهو ما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا تحل الصدقة لغني إلا خمسة: لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل جار مسكين فأهدى المسكين إليه فإنه ذكر في الحديث ممن تحل الصدقة الغازي وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة إلا الذين نعطيهم في سبيل الله.
وحجة الإمام أحمد ما روي عنه بحديث أبي داود عن ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وأنها سألتني الحج معك فقالت: احججني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ما عندي ما أحملك عليه قالت: احججني على جملك فلان فقلت ذلك حبيس في سبيل الله فقال أما إنك لو حججتها عليه كان في سبيل الله.
وأجاب الجمهور بأن الحج يسمى سبيل الله ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه.
وفسر بعض الحنيفة سبيل الله بطلب العلم كما فسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه جميع وجوه الخير مثل تكفين الموتى وبناء القناطر والحصون وعمارة المساجد.
وفي تفسير المنار يجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير المياه والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد له صرف آخر وترى أنه قيد بهذا القيد " إن لم يوجد له صرف آخر ولم يجوز مطلقا بل للضرورة فقط وكذلك يصرف من هذا السهم على الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة ولكن الذي يجهز به الغازي يعود بعد الحرب إلى بيت المال إن كان مما يبقى كالسلاح والخيل وغير ذلك لأنه لا يملكه دائما بصفة الغزو التي قامت به بل يستعمله في سبيل الله ويبقى بعد زوال تلك الصفة منه في سبيل الله بخلاف الفقير والعامل والغارم والمؤلفة قلوبهم وابن السبيل فإنهم لا يردون ما أخذوا ويدخل عمومه إنشاء المستشفيات العسكرية لا التجارية والبواخر المدرعة والمناطد والطائرات الحربية والحصون والخنادق وإعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم في بلاد الكفر من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال كما يفعله الكفار في نشر دينهم والمدارس الشرعية ومعلميها.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في أحكام القرآن قوله {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} قال مالك سبيل الله كثير ولكني لا أعلم خلافا في أن المراد بسبيل الله ههنا الغزو من جملة سبيل الله
…
إلا ما يؤثر عن أحمد وإسحاق فإنهما قالا: إنه الحج. والذي يصح عندي من قولهما أن الحج من جملة السبيل مع الغزو لأنه طريق بر فأعطي منه باسم السبيل وما جاء قط بإعطاء الزكاة في الحج أثر فقد قال علماؤنا: ويعطى منها الفقير بغير خلاف لأنه قد سمي في الآية ويعطى الغني عند مالك بوصف سبيل الله وإن كان غنيا في بلده أو في موضعه الذي يأخذ به.
وفي كتاب مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج شرح للشيخ محمد الخطيب الشربيني على متن منهاج الطالبين للنووي م3 ص 111 ما نصه وسبيل الله غزاة ذكور لا فيء لهم أي لا سهم في ديوان المرتزقة بل يتطوعون بالغزو حيث نشطوا له وهم مشتغلون بالحرف والصنائع فيعطون من الزكاة مع الغنى لعموم الآية وإعانة لهم على الغزو بخلاف من لهم الفيء وهم المرتزقة الثابت أسماؤهم في الديوان فلا يعطون من الزكاة ولو عدم الفيء في الأظهر قال ابن عباس رضي الله عنهما " كان أهل الفيء على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعزل عن أهل الصدقات وأهل الصدقات بمعزل عن أهل الفيء" ولأنهم أخذوا بدل جهادهم من الفيء فلو أخذوا من الزكاة أخذوا بدلين عن بدل واحد وذلك ممتنع ولكل ضرب منهما أن ينتقل إلى الضرب الآخر وأنا أفسر سبيل الله بالغزاة لأن استعماله في الجهاد أغلب عرفا وشرعا بدليل قوله تعالى في غير موضع {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فحمل الإطلاق عليه وإن كان سبيل الله بالوضع هو الطريق الموصلة إليه هو أعلم ولعله اختص بالجهاد لأنه طريق إلى الشهادة الموصلة إلى الله تعالى فهو أحق بإطلاق سبيل الله عليه.
وفي كتاب المجموع للنووي م6 ص103 ما نصه " فلو أراد الإمام أن يشتري ذلك بمال الزكاة ويسلمه إلى الغازي بغير إذنه هل يجوز؟ فيه وجهان أحدهما: لا يجوز بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو إذنه وبه قطع جماعة من العراقيين وهو ظاهر عبارة آخرين منهما وأصحهما يجوز وهو الذي صححه الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه وقطع به جماعة منهم قال الخراسانيون: الإمام بالخيار إن شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه وإن شاء استأجر ذلك له وإن شاء اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالى أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب قلة المال وكثرته.
وفي نفس المجلد من المجموع ص188 ما نصه " وينبغي للإمام وللساعي إذا فوض إليه تفريق الزكوات أن يعتني بقسط المستحقين ومعرفة أعدادهم وقدر حاجاتهم واستحقاقاهم بحيث يقع الفراغ من جميع الزكوات بعد معرفة ذلك معه ليتعجل وصول حقوقهم إليهم وليأمن من هلاك المال عنده".
وندرك مما ذكر أن المذاهب الأربعة قد اتفقت على دخول الجهاد في سبيل الله ومشروعية الصرف من الزكاة لأشخاص المجاهدين وعدم جواز صرف الزكاة في جهات الإصلاح العام من بناء السدود والقناطر وإنشاء المساجد والمدارس وإصلاح الطريق وتكفين الموتى ونحو ذلك وإنما عبء ذلك على موارد بيت المال الأخرى وذلك لعدم التمليك فيها أو لخروجها عن المصارف الثمانية.
وفي كتاب التفسير الكبير للإمام الفخر الرازي م15 في شرح {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} {إنما} تفيد الحصر ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: ((إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن قال)) في آخر الآية {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} منصوب على التأكد لأن قوله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ} لهؤلاء جار مجري قوله فرض الله الصدقات لهؤلاء فريضة وذلك كالزجر عن مخالفة هذا الظاهر وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إن الله تعالى لم يرض بقسمة الزكاة أن يتولاها ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه " والمقصود من هذا التأكيدات تحريم الزكاة عن هذه الأصناف. أهـ.
الصنف الثامن (وابن السبيل)
والمراد من ابن السبيل المسافر المنقطع عن بلده وماله فيعطى من الزكاة ما يعينه إلى بلوغ غرض وإن كان غنيا في بلده نظرا لما يلحقه في سفره وانقطاعه من الحاجة والعوز.
وفي فتح الباري م3 ص 366 في باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل بعد ذكر إيراد حديث ": أن ناسا من عرينة اجتووا المدينة فرخص لهم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها" فغاية ما يفهم من حديث الباب أن للإمام أن يخص بمنفعة مال الزكاة دون الرقبة صنفا دون صنف بحسب الاحتياج.
الخلاصة.
اتفق الفقهاء على أنه لايجوز صرف الصدقات المفروضة إلا على الأصناف الثمانية المذكورة في الآية {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلخ من سورة التوبة وقد اختلفوا في المقدار المصروف على الفقراء والمساكين على ثلاثة أقوال:
1 -
قدر كفايتهم لعمر الغالب.
2 -
قدر كفايتهم في السنة
3 -
أقل من قدر كفايتهم.
وللدولة المسلمة أن تنشئ من سهم الفقراء والمساكين مشاريع ومصانع وعقارات ونحوها من المشاريع الإنمائية ثم تمليك تلك المشاريع للفقراء والمساكين لتدر لهم دخلا يقوم بكفايتهم كاملة وأما إنشاء تلك المشاريع من أموال الزكاة ثم جعل الفقراء والمساكين كموظفين فيها وإعطاء أجرة عملهم أو كفايتهم إن كانوا قادرين على العمل وإعطاءهم راتبا شهريا من غلات هذه المشاريع إن كانوا عاجزين عن العمل بدون تمليك تلك المشاريع لهم، فهذا بعيد عما فهمه الفقهاء من نظام توزيع سهم الفقراء والمساكين عليهم تمليكا لهم.
2 -
حق العامل عند الأكثرين يقدر بمؤنته ويسقط إذا كان صاحب المال يؤدي الزكاة من ماله إلى الإمام أو إلى المستحقين مباشرة.
3 -
وصف المؤلفة قلوبهم ليس من شأن الأفراد، وإنما هو من شأن الدولة الإسلامية أو أهل الحل والعقل وهم الذين يستطيعون إثبات الحاجة إلى تأليف القلوب أو نفيها.
4 -
والمراد من المدينون المديونون بشرط عدم حصولها بالمعصية.
5 -
وأما سبيل الله فقد اتفق الجمهور بأنه يصرف سهمه على الغزاة المتطوعين ومصالح الجهاد من آلات الحرب وغيره. والدولة هي التي ينبغي أن تنظر فيما يحتاجه من آلات الحرب وفيما تسترده منه بعد انقضاء الحاجة.
وقال بعض الفقهاء: يصرف سهم سبيل الله إلى الحجاج والمعتمرين من الفقراء وقد توسع بعضهم في سهم سبيل الله حتى أجاز صرفه في كل قربة من إنشاء المساجد، وإصلاح الطرق وتكفين الموتى وغير ذلك.
الاستنتاج
ومما ذكر يتضح لنا بأن توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحق بمعنى استرباح أموال الزكاة عن طريق إقامة مشاريع استنمائها غير جائز للأسباب التالية:
1 -
أن هذه الأعمال تعرض المال للفائدة والخسارة فربما يترتب عليها ضياع أموال الزكاة.
2 -
أن توظيف أموال الزكاة في أي من المشاريع الإنمائية يؤدي إلى انتظار الفائدة المترتبه عليها وهذا قد يأخذ وقتا طويلا فيكون سبب لتأخير تسليم أموال الزكاة لمستحقيها بدون دليل شرعي مع أن المطلوب التعجل في أداء حقوقهم كما قاله النووي في الروضة.
3 -
أن أموال الزكاة أمانة في أيدي المسئولين عنها حتى يسلموها إلى أهلها وشأن الأمانة الحفظ فقط، إن تصرف الإمام أو الساعي في أموال الزكاة بدون تمليك المستحقين لها أو صرفها عليهم فغير جائز إلا في المنافع التي لا تزول أعيانها كالركوب مثلا وشرب ألبانها وما شاكل ذلك.
4 -
فإذا اقتضت الحاجة من إنشاء المشاريع حربية وتصنيع الطائرات والدبابات والمدافع والصواريخ ونحوها من سهم سبيل الله فإنه يجوز للإمام أو من يقوم مقامه أن يجعل هذه المشاريع كالوقف على مصالح الجهاد وله الخيار فيما يسترده من الغازي بعد انقضاء الحاجة منه وما لا يسترده منه ويعطيه تمليكا به باعتبار المصلحة العامة كما نفهم من عبارة النووي في المجموع التي ذكرتها في معرض هذا البحث.
هذا وبالله التوفيق.