الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية
لفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود
جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحرية
لقد طلب مني أحد العلماء الأجلاء أن أدلي بدلوي في استنباط طريق الفقه الشرعي في جواز الإحرام بالحج من جدة أو عدمه.
لهذا وجب علي أن أبين للناس ما ظهر لي في حكمه حسب ما وصل إليه علمي، وقد يخفى علي ما عسى أن يظهر لغيري.
" إذ الحق فوق قول كل أحد. وفوق كل ذي علم عليم".
وأنه مما لا خلاف فيه ولا خفاء ما ثبت في البخاري ومسلم، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وتسمى الآن: آبار علي وميقات أهل الشام الجحفة، وميقات أهل نجد قرن المنازل. وميقات أهل اليمن يلملم، هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة)) .
وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما فتح هذا المصران (العراق ومصر) أتوا عمر. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنًا، وهو جور عن طريقنا، وإنا إن أردنا قرنًا شق علينا. قال: فانظروا حذوها من طريقكم. فحد لهم (أهل العراق) ذات عرق. وهذه المواقيت المكانية تعد من معجزات النبوة، حيث وقتها رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه البلدان قبل إسلام أهلها، كما أشار إليه النظم بقوله:
وتعيينها من معجزات نبينا
لتعيينه من قبل فتح المعدد
لكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح في زمنه سوى مكة والطائف، والذي حج مع النبي صلى الله عليه وسلم هم أهل المدينة، وعرب الحجاز ومن يليهم من أهل نجد، وبعض من أسلم من أهل اليمن، فكانوا قليلين بالنسبة إلى الحجاج في هذه السنين.
وهذا التحديد بهذه الصفة، وقع حيث كان حج الناس على الدواب من الإبل والخيل والحمير، ويمرون بهذه الطرق، وهي المواقيت المكانية لسائر أهلها، ولمن مر عليها إلى يوم القيامة.
وقد انتشر الإسلام، وامتد سلطان المسلمين على كثير من البلدان التي لم يقع لها ذكر في التحديد، كمصر، والسودان، والمغرب، وسائر أفريقيا، وبلدان الترك، والهند، وكثير من المسلمين الذين يسكنون في بلدان النصارى، وفي الصين، واليابان، وروسيا، بحيث أنهم في تلك الأزمنة لا يستطيعون حيلة في الوصول إلى مكة، ولا يهتدون إليها سبيلاً، فلم يقع لهم ذكر في التحديد من جهة البحر سوى قوله:((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (1) .
ومن المعلوم أن ركاب الطائرات لا يأتون إلى هذه المواقيت، ولا يمرون عليها.
وقد صار حج جميع أولئك على متون الطائرات التي تحلق بهم إلى أجواء السماء مسافة الألوف من الأقدام في الارتفاع، حتى تهبط بهم على ساحل جدة بحيث لا يمرون بشيء من المواقيت.
والحكم يدور مع علته، ولكل حادث حديث، ولن يعجز الفقه الإسلامي الصحيح الواسع الأفق عن إخراج حكم صحيح في تعيين ميقات يعترف به لحج هؤلاء القادمين على متون الطائرات؛ لكون شريعة الإسلام كفيلة بحل مشاكل العالم ما وقع في هذا الزمان، وما سيقع بعد أعوام.
(1) رواه مسلم عن ابن عباس.
وحاجة تعيين ميقات في جدة للقادمين على الطائرات آكد من هذا كله، ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًّا ويرى كثرة النازلين من أجواء السماء إلى ساحة جدة، يؤمنون هذا البيت للحج والعمرة، لبادر إلى تعيين ميقات لهم من جدة نفسها، لكونها من مقتضى أصوله ونصوصه.
والحكمة في وضع المواقيت موضعها، أنها جعلت بمسالك طرق الناس إلى مكة، فهي كالأبواب إلى دخول مكة المشرفة. وفيها يعمل الحاج عمله في تنظيم دخوله في إحرامه، وما يلزم ذلك من التنظيف والاغتسال، وقلم الأظفار، والطيب، ثم التخلي عن المخيط، ولبس الإحرام المشبه بالأكفان، إزار ورداء، ثم تعليم العوام كيفية الدخول في النسك، وهذه الأعمال تطلب وقتًا ومكانًا، فشرع تعيين المواقيت لها، أو ما علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع نزل بذي الحليفة ميقات أهل المدينة، ضحى، فأقام بها يومه وليلته وبعض اليوم الثاني، بحيث صلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم رقد تلك الليلة حتى صلى الصبح، فلما أضحى من اليوم الثاني اغتسل وتطيب.
وقد قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه "إعلام الموقعين"، قال: فصل في تغير الفتوى واختلافها، بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوايد. قال:"وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة، وتكليف ما لا يطاق، مما يعلم أن الشريعة الباهرة لا تأتي به؛ لأن الشريعة مبناها على الحكمة والمصلحة للعباد في المعاش والمعاد، وهي عدل ورحمة ومصالح، وكل ما خرج عن العدل والرحمة والمصلحة فليس من الشريعة وأن نسب إليها". انتهى.
وقد يظن بعض من يسمع هذا الكلام، أن العلامة ابن القيم يقول بجواز تغير نصوص الدين وأصوله عن أصله كما سبق إليه فهم بعض الناس. وإنما يعني به: تغير الفتوى في فروع الفقه، مما وقع فيه التسهيل والتيسير في الشريعة نفسها، فما جعل عليكم في الدين من حرج، كما وقع من النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الصور، من ذلك ما روى الإمام أحمد، وأبو داود، والدارقطني، عن عمرو بن العاص، أنه احتلم في ليلة باردة شديدة البرد في عزوة ذات السلاسل، قال: فأشفقت أن اغتسلت أن أهلك، فتيممت وصليت بأصحابي صلاة الصبح، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر له أصحابي ما صنعت، فقال لي: يا عمرو أصليت بأصحابك وأنت جنب؟ قلت: نعم يا رسول الله، ذكرت قول الله:{وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فتيممت وصليت. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يقل شيئًا مما يدل على إقراره لهذه السنة بمقتضى سكوته عنها، وهي حقيقة في تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان والأحوال، إذ الأصل وجوب الغسل لواجد الماء.
ومثله ما روى الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، أن سعد بن عبادة ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رويجلا ضعيفًا في أبياتهم زنى بامرأة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اضربوه حده" فاقل سعد: أنه أضعف من ذلك. قال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخا فاضربوه به ضربة واحدة، ففعلوا.
فقد عرفت كيف تغيرت فتوى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا من حالة الشدة إلى حالة التيسير والتسهيل إذ الأصل في جلد الحد تفريق الضربات حتى تأخذ كل ضربة مكانها من جسده ونظرا لضعف حاله جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدة واحدة بعثكول فيه مائة شمراخ.
وله نظائر كثيرة، وقد أفتى الصحابة بجواز فطر الحامل والمرضع متى خافتا على أنفسهما أو على ولديهما، وليس كل حامل أو مرضع تفتى بهذا.
وهذا هو عين الفقه، ولو حكم بموجبه قاض لرموه بالتشنيع والزراية، ونسبوه إلى عدم الرواية والدراية، وإلى التساهل في أمر الدين، كما أنهم الآن يعيبون كل من أفتى بالتيسير فيما يقتضيه، متى وجد العالم إليه سبيلاً، فيرمونه بالتساهل في أمر دينه، وكونه مستخفًا بحرمات الله وحدوده؛ لأن بعض الفقهاء المتحجرة أفهامهم يميلون إلى التشديد في أقضيتهم وأحكامهم، ويقيدون الشريعة بقيود توهن الانقياد، ويجعلونها ضيقة النطاق.
وقد قال لي أحد الفقهاء في محضر محشود بكبار العلماء، قد عقد للمناظرة في قولي بجواز رمي الجمار قبل الزوال في أيام التشريق عند حصول هذا الحشد العظيم، حينما فتحت مشارق الأرض ومغاربها لحج بيت الله العتيق بالآلات الحديثة من السيارات والطائرات حتى ضاقت الأرض، فكان من قول هذا العالم:"أن من تتبع الرخص تزندق"، قاله بمسمع من جميع العلماء الحاضرين، حتى كأن التشديد والغلو من سنة الدين.
وخفي على هذا العالم أن هذه كلمة كبيرة عند الله تنادي بإبطال سنة الله التي شرعها لعبادة؛ صدقة منه عليهم، ورحمة منه بهم؛ إذ الرخصة هي التسهيل، وهي ما ورد على خلاف أمر مؤكد لمعارض راجح، وضد الرخصة العزيمة، وهي الأمر المؤكد، ولما نزل قوله سبحانه:{فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101] . ولما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((هي صدقة من الله تصدق بها عليكم فاقبلوا صدقته)) . فقصر الصلاة في السفر رخصة، وفطر الصائم في السفر رخصة، وفطر المريض رخصة، والمسح على الخفين رخصة، والمسح على الجبيرة رخصة.
أفيكون من عمل بهذه الرخصة زنديقًا؟ سبحانك هذا بهتان عظيم، فإن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته. وقد سمى الله الرخصة تيسيرًا في جواز فطر المريض، والمسافر، والشيخ الكبير، فقال سبحانه:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
ولما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا وأبا موسى الأشعري إلى اليمن. قال لهما: ((يسرا ولا تعسرا)) . وقال يومًا لأصحابه: ((إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين)) . فالتيسير متى وجد العالم إليه سبيلاً، وجب أن يفتي بموجبه؛ لأنه من شريعة الدين الذي قال الله فيها:{وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] .
أراد الله تيسيرًا وأنتم
من التعسير عندكم ضروب
ولا ينبغي لنا أن نكون من سجناء الألفاظ، بحيث متى حفظ أحدنا قولاً من أقوال فقهائنا القدماء ليس له نصيب من الدليل والصحة، جعلناه حقًا لا محيص عنه ولا محيد، فنكون من سجناء الألفاظ الذين عناهم العلامة ابن القيم بقوله:
وأكثرهم بسجن اللفظ محبو
سون خوف معرة السجان
والكل إلا الفرد يقبل مذهبا
في قالب ويرده في ثاني
جواز جعل جدة ميقاتًا لركاب الطائرات الجوية والسفن البحرية
إنه متى كان أصل فرض الحج موقوفًا على الاستطاعة، وكونه يسقط بجملته عمن لا يستطيعه سقوطًا كليًا بدون استنابة على القول الصحيح. ويسقط عمن يخاف على نفسه خوفًا محققًا، فكذلك سائر واجباته تسقط عمن لا يستطيعها بدون استنابة ولا فدية، ومتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن جميع الطائرات التي تحمل الحاج مكلفة حسب النظام بالنزول في مطار جدة، ولا يحيد أحد عن هذا النظام الحكومي، وقد هيأت الحكومة - حرسها الله - للحجاج في مطار جدة سائر ما يحتاجون إليه، من وسائل الراحة والرفاهية، فأعدت لهم المحلات الواسعة المنظمة بالماء للشرب وللوضوء والاغتسال، ومواضع الراحة والصلاة، وكذا الكهرباء والأكل، بحيث يتمكنون من فعل الإحرام براحة وسعة.
ويوجد هناك من العلماء من يرشدهم إلى تعليم الدخول في النسك، وتعليم ما ينبغي لهم فعله، وبيان ما يجب عليهم اجتنابه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في المواقيت:((هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن)) (1) . ومن العلوم أن مرور الطائرة فوق سماء الميقات، وهي محلقة في السماء، لا يصدق على أهلها أنهم أتوا الميقات المحدد لهم، لا لغة ولا عرفًا؛ لكون الاتيان هو الوصول إلى الشيء في محله، كقوله سبحانه {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] . فإتيان البيوت هو: الوصول إليها أو دخولها، فلا يأثم من جاوزها في الطائرة، ولا يتعلق به دم عن المخالفة، كما أنه لن يتمكن ركاب الطائرات من الإحرام في بطن الطائرة بين السماء والأرض؛ لكونهم مشغولين بالاضطراب والخوف من خطر الطائرة خشية وقوع الحادث بها، ولن يزالوا في خوف حتى يصلوا إلى ساحل السلامة.
(1) رواه مسلم عن ابن عباس.
فمتى كان الأمر بهذه الصفة، وأن القضية هي موضع اجتهاد، وتطلب من العلماء والحكام تحقيق النظر في تعيين الميقات لهؤلاء القادمين على متون الطائرات لحجهم وعمرتهم، ولا أَوْفَقَ ولا أَرْفَقَ مِن جَعْلِ جدة هي الميقات، إذ هي باب الدخول إلى مكة من جهة البحر، فتكون ميقاتًا لجميع القادمين إليها على الطائرات أو البواخر والسفن لتمكن الحاج من فعل ما يسن في الإحرام، أشبه ما فعله عمر حين وقت لأهل العراق ذات عرق، ويجب على جميع الكافة طاعتهم ومتابعتهم على هذا التوقيت؛ لقوله سبحانه:{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} [النساء: 59]، فألو الأمر هم: العلماء والحكام الذين تجب طاعتهم في مثل هذا، إذ هو من طاعة الله سبحانه.
وبما أن الحكمة في وضع المواقيت في أماكنها الحالية كونها بطرق الناس وعلى مداخل مكة، وكلها تقع بأطراف الحجاز، وقد صارت جدة طريقًا لجميع ركاب الطائرات، ويحتاجون بداعي الضرورة إلى تعيين ميقات أرضي يحرمون منه لحجهم وعمرتهم، فوجبت إجابتهم، كما وقت عمر لأهل العراق ذات عرق، إذ لا يمكن جعل الميقات في أجواء السماء أو في لجة البحر الذي لا يتمكن الناس فيه من فعل ما ينبغي لهم فعله، من خلع الثياب والاغتسال للإحرام والصلاة وسائر ما يسن للإحرام؛ إذ هو مما تقتضيه الضرورة، وتوجبه المصلحة، ويوافقه المعقول، ولا يخالف نصوص الرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه نصحيتي للملوك والحكام، وللعلماء الكرام، والله خليفتي عليهم، والسلام.