المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهاداتالعلماء المسلمين والمعطيات الطبيةللدكتور محمد نعيم ياسين - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث

- ‌تقديم بقلم معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمة معالي د/ بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمة العددلمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمة افتتاح الدورةألقاهامعالي الدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي

- ‌توظيف الزكاةفي مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين

- ‌طرق الإنجابفي الطب الحديث وحكمها الشرعيلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌القضايا الأخلاقيةالناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجابالتلقيح الاصطناعيلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاةبين الفقهاء والأطباءلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌موت الدماغلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌نهاية الحياة البشريةللدكتور أحمد شوقي إبراهيم

- ‌متى تنتهي الحياة؟للدكتور حسان حتحوت

- ‌القلب وعلاقته بالحياةمدخل في مناقشة "متى تنتهي الحياة"للدكتور أحمد القاضي

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور مصطفى صبري أردوغدو

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهاداتالعلماء المسلمين والمعطيات الطبيةللدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌نظرة في حديث ابن مسعودللدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حقيقة الموت والحياةفي القرآن والأحكام الشرعية

- ‌توصياتمؤتمر الطب الإسلامي بالكويت

- ‌دراسةوزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية

- ‌ورقة العمل الأردنيةقدمت للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش

- ‌حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤيةفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌بحثلفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌بحثفريق علماء جامعة الملك عبد العزيزقسم علوم الفلك

- ‌توحيد بدايات الشهور القمرية(الشمس والقمر بحسبان)لسعادة الدكتور فخر الدين الكراي

- ‌الوثائق المقدمةتوحيد بداية الشهور القمريةلفضيلة الشيخ محمد علي السايس

- ‌المناقشةتوحيد بدايات الشهور القمرية

- ‌من أين يحرم القادمبالطائر جوًا للحج أو العمرة؟لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرةلفضيلة الشيخ تجاني صابون محمد

- ‌الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلاميلفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌كتاب حدود المشاعر المقدسةلفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحريةلفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرهاالقرار الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة

- ‌تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلاميلفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام أوراق النقود والعملاتلفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفي نظر الشريعة الإسلاميةلفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌النقود الورقيةلفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الربافضيلة الأستاذ أحمد بازيع الياسين

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه

- ‌أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلاميفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌المناقشةأحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر عبد الله أبو زيدرئيس مجلس المجمعكلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد

- ‌كلمة معاليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجةالأمين العام للمجمع

الفصل: ‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهاداتالعلماء المسلمين والمعطيات الطبيةللدكتور محمد نعيم ياسين

‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهادات

العلماء المسلمين والمعطيات الطبية

للدكتور محمد نعيم ياسين

كلية الشريعة والدراسات الإسلامية

جامعة الكويت

تمهيد:

لا شك في أن محاولة تحديد اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان في الدنيا، تحديدًا دقيقًا من الناحية الشرعية، أصعب من البحث في معرفة الزمن الذي تبدأ منه تلك الحياة؛ ذلك أننا وجدنا في هذه الثانية منطلقًا من نص نبوي شريف صحيح ننطلق منه في النظر، ونبني عليه ملاحظاتنا واستنتاجاتنا المستفادة من النصوص الأخرى، وأما قضيتنا هذه فليس فيها نص من قرآن أو سنة يمكن اتخاذه منطلقًا للبحث.

ومع غيبة النصوص في هذا الموضوع، وتعلقه بواقع مخلوق من مخلوقات الله عز وجل هو الإنسان، وابتنائه على الملاحظة والاختبار والتشخيص، أمام هذه الحقيقة نجد أنفسنا ملزمين بالاعتراف بأن الدور الحاسم في هذه القضية (متى تنتهي الحياة) ينبغي أن يكون من نصيب أهل التخصص، المشتغلين بملاحظة ذلك المخلوق وهم الأطباء، فهم الذين يقفون على الثغرة الحرجة من هذه المسألة، وعلى خط التماس مع الواقع محل البحث.

ولولا وجود النص في المسألة الأولى (بداية الحياة الإنسانية) لكان الأمر فيها كما هو في هذه القضية.

وهذا الاعتراف لا يعني الغض من الدور الذي يجب على علماء الشريعة أن يقوموا به، جنبًا إلى جنب مع إخوانهم الأطباء المسلمين، الذين يطلبون في ممارسة مهنتهم الانسجام مع حقائق الدين الحنيف.

ودور علماء الشرع سابق لدور أهل الاختصاص ولاحق له، فهم في أول الأمر يضعون بين أيدي إخوانهم الأطباء المبادئ والحدود والشروط العامة التي يلتزم بها المسلم في ممارسة اختصاصه، مهما كان متعلقه من موجودات هذه الحياة، وهم بعد ذلك يتسلمون من إخوانهم نتائج بحوثهم وملاحظاتهم، وينطلقون منها في تقرير الأحكام المتعلقة بها، وجميع هذا محصور في القضايا التي لم ترد فيها نصوص حاسمة كهذه القضية التي نبحث فيها.

ص: 214

منطلق البحث:

وبسبب ما ذكرنا من عدم وجود نص ننطلق منه في البحث عن اللحظة التي تنتهي فيها حياة الإنسان، فإن منطلقنا في ذلك سيكون من بعض المبادئ التي توصلنا إليها خلال بحثنا السابق عن مبدأ الحياة الإنسانية.

المبدأ الأول:

إن حياة الإنسان تنتهي بعكس ما بدأت به، فإذا كانت قد بدأت –كما توصلنا في المبحث السابق- ببدء تعلق مخلوق سماه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم الروح بالبدن، بناء على أمر الله وقدره سبحانه، فإن انتهاء هذه الحياة لا بد كائن بمفارقة هذا المخلوق للجسد الذي تعلق به.

المبدأ الثاني:

أن الروح مخلوق خلقه الله تعالى، يمكن للإنسان البحث فيه من حيث خصائصه وصفاته وأنشطته، وآثاره في البدن وتأثره، ووقت تعلقه به، ووقت مفارقته له.

أما المبدأ الأول فهو نتيجة منطقية، أصلها قاعدة السببية التي جعلها الخالق متحكمة في هذا الوجود، وفي كل نشاط يصدر عن موجوداته، والتي تفيد بأن كل شيء جعله الباري متوقفًا على سبب لا يمكن أن يقوم مع غيبة ذلك السبب، وبما أن الله عز وجل قد جعل لبداية الحياة سببًا هو اقتران الروح بالجسد، فإن نهايتها ينبغي أن تكون عند افتراقهما.

وكان مقتضى هذا أن يبدأ البحث من هذه النقطة (مفارقة الروح للجسد) وأعتقد أن هذه قناعة كل باحث في هذا الموضوع، لولا أن طائفة من الإخوة المفكرين أعرضوا عن ذلك؛ لاعتقادهم بأن الروح غيب حجب الله معرفته عن عباده، وأنه لا يجوز إدخاله تحت البحث بأية صورة من الصور؛ مما اضطرهم إلى التحول في البحث إلى منطلقات أخرى لا علاقة لها بالروح.

ولكن الدافع لهذا الإعراض عن الانطلاق المنطقي في البحث عن الوقت الذي تنتهي فيه حياة الإنسان، مبناه على سبب غير مسلم به عند كثير من العلماء المسلمين المعروفين بالحرص على الانسجام مع نصوص القرآن وكلام الرسول عليه الصلاة والسلام، ذلك أن اعتماد أولئك المعرضين إنما هو على نص غير قاطع الدلالة على حشر الروح في قائمة الغيبيات التي يحظر على المسلم الخوض فيها، وهو قول الله عز وجل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} وإعراض الرسول عليه الصلاة والسلام عن الخوض في هذه الروح المسؤول عنها بأكثر مما أمره الله سبحانه وتعالى.

ص: 215

وقد تقدم في مبحث (بداية الحياة الإنسانية) أقوال العلماء في هذه الآية، وتفسيراتهم لموقف الرسول صلى الله عليه وسلم بما يدل في محصلته على أن هذا الدليل ليس فيه الكفاية لاعتبار الروح من الغيبيات التي لا تقع تحت طول الاجتهاد البشري، ولا يجوز له أن يحوم حولها.

ولسنا بمضطرين لتكرار ما أثبتناه هنالك، فيمكن الرجوع إليه وإلى المصادر التي أخذ منها، ولكنا نذكر مرة أخرى بأن كثيرًا من العلماء بحثوا في الروح، وألفوا حولها المؤلفات، وتكلموا عن صفاتها ونشاطها وأثرها في جسم الإنسان، وأثر الجسم عليها وغير ذلك، غير خائفين من الوقوع في التعارض مع النصوص مع تدينهم وحرصهم الفائق على الالتزام بمقتضيات الهدي القرآني والنبوي، حتى صرح بعضهم بأن الروح ليست من الغيب الذي يحرم الكلام فيه، وحتى الذين ذهبوا إلى حمل النص القرآني على إرادة الروح الآدمية، والنهي عن الكلام فيها بأكثر مما ورد في ذلك النص صرحوا بأن المقصود بذلك هو البحث في كنه الروح وذاتها، ولم يمنعهم ذلك الحمل تناولها من جوانب أخرى، بصورة قد نستفيد منها في بحثنا هذا حول تحديد نهاية الحياة الإنسانية.

ومما يدل على سلامة منهج أولئك العلماء الذين تكلموا في الروح وفصلوا القول في كثير من شؤونها؛ أنهم أرجعوا كلامهم في الروح إلى نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فمنها أخذوا حقيقة أنها مخلوقة وليست قديمة، ومنها أخذوا مبدأ دخولها في الجسد الإنساني، ومنها أخذوا كثيرًا من أحوالها، مما يشير إلى أن الروح التي أمر الرسول بالاقتصار في الكلام عنها على القول {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، ليست هي الروح الآدمية، أو أن المقصود بهذه الجملة ليس النهي عن أي بحث في الروح، وإنما البحث عن حقيقة ذاتها، وإلا ألبسنا النصوص ثوب التناقض من غير قصد، أعاذنا الله من الخطأ في فهم كلامه، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام لو فهم أن المقصود بقول الله تعالى {مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وأنه لا تجوز الزيادة في الكلام عن الروح عن هذا الجواب الرباني، لالتزمه بتوجيه ربه، ولما بَيَّن في أحاديثه الشريفة بيان يزيد عن ذلك، غير أننا وجدناه صلى الله عليه وسلم قد بين لنا أشياء كثيرة عن الروح، كمبدأ تعلقها بالجسد، وتآلفها وتعارفها، وتناكرها واختلافها وكيفية خروجها من جسد المؤمن، ومن جسد الكافر، وغير ذلك؛ فدل هذا على ما أسلفنا.

ص: 216

استلهام المبدأين السابقين في البحث عن نهاية الحياة الإنسانية:

فإذا سلم لنا المبدآن السابقان أمكننا استخدامهما في استثمار ما توصل إليه العلماء المسلمون من خلال النظر في النصوص الشرعية حول الروح، وما توصل إليه أهل الاختصاص من الأطباء بالنظر في واقع الكيان الإنساني، للخروج بنوع من غلبة الظن في تحديد نهاية الحياة الإنسانية يمكن أن تجعل أساسًا لبناء الأحكام الضرورية، وذلك على النحو الآتي:

أولًا- الدور الذي قام به علماء الشريعة:

من خلال النظر في كثير من نصوص الشرع استطاع علماء الإسلام تحصيل تصور معين عن الروح، التي تنفخ بإذن الرب تبارك وتعالى في بدن الإنسان، أهم معالمه ما يلي:

أ- أن الروح مخلوق من المخلوقات، ينشئها الخالق في الجسد الذي يريد خلقه إنسانًا، يشير إلى هذا قول ابن قيم الجوزية (يرسل الله سبحانه الملك إلى الجسد، فينفخ فيه نفخة تحدث له الروح بواسطة تلك النفخة فتكون النفخة هي سبب حصول الروح وحدثوها له، كما كان الوطء والإنزال سبب تكوين جسمه، والغذاء سبب نموه، فمادة الروح من نفخة الملك ومادة الجسم من صب الماء في الرحم، فهذه مادة سماوية، وهذه مادة أرضية.. الملك أب لروحه، والتراب أب لبدنه وجسمه)(1)

ب- إن من أهم وظائف الروح العلم والإدراك؛ بهذا عرَّفها من تعرَّض لتعريفها من العلماء؛ فهذا الجرجاني يعرف الروح الإنسانية "بأنها اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان الراكبة على الروح الحيواني نازل من عالم الأمر، تعجز العقول عن إدراك كنهه. وتلك الروح قد تكون مجردة وقد تكون منطبقة في البدن"(2) وأبو حامد الغزالي يعرفها بقريب من هذا فيقول: "الروح هي المعنى الذي يدرك من الإنسان العلوم وآلام الغموم ولذات الأفراح"(3)

وبناء على هذا التصور لوظيفة الروح، فإنها هي التي تدرك مختلف المعاني التي يمكن إدراكها، فهي التي تدرك العلوم ونتائج تحليلها، فتتعلم وتستنبط الجزئيات من الكليات، والكليات من الفروع وغير ذلك، وهي التي تدرك مختلف المعاني من ألم ولذة وفرح وحزن، وهي التي ترضى وتغضب وتنعم وتيأس، وتغتر وتحب وتكره، وتعرف وتنكر

(1) الروح ص 199 طبع بيروت- سنة 1402 هـ/ 1982م.

(2)

التعريفات ص 99 طبع الحلبي سنة 1357هـ / 1938م

(3)

إحياء علوم الدين أبو حامد الغزالي جـ 4 ص 494 طبع بيروت دار المعرفة

ص: 217

ويرى بعض العلماء أن جانبًا من مدركات الروح يحصل لها بواسطة أعضاء الجسد وأجهزته المختلفة، وجانبًا آخر منها يحصل لها من غير توقف على الجسد، كالتألم بأنواع الحزن والغم والكمد، والتنعم بأنواع الفرح والسرور؛ فإن عمل الروح المتعلق بهذه المعاني لا يتوقف على توظيفها لأي عضو من أعضاء الإنسان، وإنما تقوم به الروح بنفسها. (1)

جـ- ويرى العلماء أن الروح تؤثر في البدن الإنساني، وأن من أهم آثارها الحركة الاختيارية، وأن كل نشاط اختياري يقوم به الإنسان هو أثر من آثار الروح، وأن كل ما في العالم من الآثار الإنسانية إنما هو من تأثير الأرواح بواسطة الأبدان التي تعلقت بها؛ فالأبدان آلات للأرواح وجنود لها. (2)

ويفهم من ذلك أن العلماء المسلمين يرون أن الحركة الاضطرارية التي لا اختيار فيها ليست أثرًا من آثار الروح. وبما أنا الحركة الذاتية لا يمكن صدورها عن جماد، وإن كانت هذه الحركة اضطرارية، فإنه لا مناص من الاعتراف بوجود نوع من الحياة وراء كل حركة اضطرارية يقوم بها الجسد الإنساني بنفسه، أي بغير تحريكه بمحرك خارج عنه. ولعل هذه هي الحياة التي خلقها الله عز وجل في الجسد الإنساني قبل نفخ الروح، وجعلها في خدمة الروح بعد نفخها، وقد تبقى في بعض أعضاء الجسد بعد مفارقة الروح لها، وهي التي سماها بعض علماء الطب بالحياة الخلوية، وشبهها بعض علماء الإسلام بحياة النبات كما تقدم. ومقتضى ما تقدم من تصورهم لوظائف الروح أن الحركة الاضطرارية الناشئة عن هذا النوع من الحياة ليس فيها دلالة على وجود الروح الإنسانية.

د- ومع أن علماء الإسلام لم يحددوا اللحظة التي يفارق فيها الروح بدن الإنسان، لكن الذين بحثوا في هذه القضية، منهم أشاروا بصورة واضحة إلى قاعدة، سنرى مدى فاعليتها في تحديد زمن مفارقة الروح للبدن، إذا ما جمعت مع الاكتشافات الطبية الحديثة؛ ذلك أنهم أكدوا أن ملازمة الروح للجسد الإنساني مرهونة بصلاحية هذا الجسد لخدمة هذه الروح، وتنفيذ أوامرها وقبول آثارها، وأن الله عز وجل قد كتب عليها أن تفارق مسكنها المؤقت، وهو جسد الإنسان عندما يغدو عاجزًا عن القيام بتلك الوظائف.

(1) إحياء علوم الدين جـ 4 ص 494، الروح ص 286، 287

(2)

الروح ص 242، 285، شرح العقيدة الطحاوية ص 381 الطبعة الثالثة.

ص: 218

فهذا ابن قيم الجوزية يعرف الروح (بأنه جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف حي متحرك ينفذ في جوهر الأعضاء، ويسري فيها سريان الماء في الورد، وسريان الدهن في الزيتون والنار في الفحم، فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف، بقي ذلك الجسم اللطيف مشابكًا لهذه الأعضاء، وأفادها هذه الآثار من الحس والحركة الإرادية، وإذا فسدت هذه الأعضاء، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها، وخرجت عن قبول تلك الآثار، فارق الروح البدن، وانفصل إلى عالم الأرواح، ثم عقب على ذلك بقوله (وهذا القول هو الصواب في المسألة، وهو الذي لا يصح غيره، وكل الأقوال سواء باطلة، وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة

) ، ثم ساق على هذا المذهب في تعريف الروح وعلاقتها بالجسد الإنساني مائة وستة عشر دليلًا من القرآن والسنة والمعقول، وأجاب بعد ذلك على اثنتين وعشرين شبهة أوردها المخالفون عليه (1) وممن تبنى مذهب ابن القيم في الروح شارح العقيدة الطحاوية والشيخ محمود السبكي (2)

ومذهبه هذا فيه شبه كبير مما ذهب إليه أبو حامد الغزالي في تفسير الموت، ودور الروح فيه؛ حيث قال (معنى مفارقة الروح للجسد انقطاع تصرفها عن الجسد بخروج الجسد عن طاعتها، فإن الأعضاء آلات الروح تستعملها، حتى إنها لتبطش باليد وتسمع بالأذن، وتبصر بالعين، وتعلم حقيقة الأشياء بنفسها.. وإنما تعطل الجسد بالموت يضاهي تعطل أعضاء الزمن بفساد مزاج يقع فيه، وبشدة تقع في الأعصاب تمنع نفوذ الروح فيها، فتكون الروح العالمة العاقلة المدركة باقية مستعملة لبعض الأعضاء، وقد استعصى عليها بعضها. والموت عبارة عن استعصاء الأعضاء كلها، وكل الأعضاء آلات، والروح هي المستعملة لها.. ومعنى الموت انقطاع تصرفها عن البدن، وخروج البدن عن أن تكون آلة له، كما أن معنى الزمانة خروج اليد على أن تكون آلة مستعملة، فالموت زمانة مطلقة في الأعضاء كلها..)(3)

(1) الروح ص 242- 290

(2)

شرح العقيدة الطحاوية ص 381، الدين الخالص –محمود السبكي جـ 7 ص 186 طبع سنة 1368هـ

(3)

إحياء علوم الدين جـ 4 ص 494

ص: 219

والنتيجة التي نخرج بها من أقوال هؤلاء العلماء أن حياة الإنسان في هذه الدنيا تنتهي عندما يغدو الجسد الإنساني عاجزًا عن خدمة الروح والانفعال لها، ومعنى هذه النتيجة أن العلم إذا استطاع أن يعرف اللحظة التي يصبح فيها الجسد عاجزًا عن القيام بكافة وظائفه الإرادية بصورة نهائية، فقد وصل إلى الجواب عن السؤال: متى تنتهي الحياة الإنسانية؟

هـ- ذلك هو فهم طائفة من علماء المسلمين حول علامات رحيل الروح الإنسانية عن بدن الإنسان، لم ينطلقوا في بحثهم من حاجتهم إلى استنباط أحكام فقهية لتصرفات إنسانية لها علاقة بنهاية الحياة، ولكن من منطلق الحاجة إلى معرفة حقيقة الإنسان من خلال المعلومات التي حصلوها من النصوص والحقائق الشرعية، فماذا كان موقف العلماء الذين سخروا طاقاتهم للبحث عن الأحكام العملية الشرعية، وهم الفقهاء؟ ألم يتعرضوا لحاجات واقعية ومواقف عملية اضطرتهم لإظهار رأيهم في هذه القضية بحسم ووضوح؟

الواقع أن استخراج رأي الفقهاء في هذه المسألة من أصعب الأمور، والذي يظهر أن معظم القضايا الواقعية التي تعرضوا لها في هذا المجال لم تكن كافية لتضطرهم إلى البحث عن نهاية الحياة الإنسانية بدقة وتحديد، وإنما كفاهم فيها الصورة الواضحة القاطعة لهذه النهاية والتي يندرج ضمنها النهاية الحقيقية وجزء من الزمن يمر عليها في حالات الوفاة، وهي الصورة المشاهدة المعلومة لمعظم الناس، عالمهم وجاهلهم، فبنوا أحكامهم عليها، سواء ما تعلق منها بجسد الميت من غسل وتكفين وصلاة ودفن وغير ذلك، وما تعلق منها بالحقوق التي كانت له قبل الوفاة، من نفوذ وصية وقسمة تركة، وما تعلق بالواجبات التي تفرض على زوجة المتوفى كالعدة، والفرق في النتيجة بين بناء هذه الأحكام على لحظة الوفاة الحقيقية، وبين بنائها على زمن الوفاة المتضمن تلك اللحظة وسويعات أخر، ليس بكبير.

وبالرغم من أن هذا هو حال معظم القضايا المتعلقة بنهاية حياة الإنسان، فإن الفقهاء تعرضوا لمسألة وجدوا فيها أنفسهم مضطرين للبحث عن الزمن الدقيق الذي حصلت فيه الوفاة، وتحصيل غلبة الظن فيه، وبناء الأحكام عليه، وذلك التماسًا لتحقيق العدل في توزيع مسؤوليات خطيرة، يترتب على الخطأ فيه إهدار أرواح لا تستحق الموت، وإفلات أرواح مجرمة من العقوبة العادلة، وهذه هي مسألة الاشتراك في القتل العمد على التتابع، وصورتها: أن يعتدي مجرم على شخص ويتركه في حالة خطيرة، ثم يأتي مجرم آخر، ويجهز على المجني عليه، فمن منهما يعتبر قاتلًا ويستحق القصاص؟

ص: 220

وفي الجواب على هذا السؤال، وتحديد القاتل في نوع هذه المسائل يكاد الفقهاء يجمعون على قاعدة أساسها النظر إلى الحالة التي صار إليها المجني عليه، بسبب الفعل الأول، وقبل ورود الفعل الثاني عليه، فإن صار إلى وضع يفقد فيه كل إحساس من إبصار ونطق وغيرهما، وكل حركة اختيارية إلى غير رجعة، كان صاحب الفعل الأول هو القاتل الذي يستحق القصاص، وصاحب الفعل الثاني –مهما كان- يعزر ولا يقتص منه، وأما إذا صيره الفعل الأول إلى حالة لا يفقد معها كل إحساس وكل حركة اختيارية، كان صاحب الفعل الثاني هو القاتل الذي يستحق القصاص، ولزيادة هذه المسألة وضوحًا نثبت فيما يلي بعض النصوص الفقهية:

يقول بدر الدين الزركشي (الحياة المستقرة هي أن تكون الروح في الجسد ومعها الحركة الاختيارية، دون الاضطرارية، كما لو كان إنسان، وأخرج الجاني أو حيوان مفترس حشوته وأبانها، لا يجب القصاص في هذه الحالة.. ولو طعن إنسان وقطع بموته بعد ساعة أو يوم، وقتله إنسان في هذه الحالة وجب القصاص، لأن حياته مستقرة، وحركته الاختيارية موجودة؛ ولهذا أمضوا وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، بخلاف ما إذا أبنيت الحشوة، لأن مجاري النفس قد ذهبت وصارت الحركة اضطرارية.

وأما حياة عيش المذبوح، فهي التي لا يبقى معها إبصار ولا نطق ولا حركة اختيارية

) (1)

وقال الرملي (وإن أنهاه –أي المجني عليه- رجل إلى حركة مذبوح، بأن لم يبق فيه إبصار ونطق وحركة اختيار، وهي –أي حركة الاختيار- المستقرة التي يبقى معها الإدراك، ويقطع بموته بعد يوم أو أيام، ثم جنى عليه آخر فالأول قاتل، لأنه صيره إلى حالة الموت، ومن ثم أعطى حكم الأموات مطلقًا ويعزر الثاني، لهتكه حرمة ميت

) وقال الشبراملسي (ظاهر إطلاقهم عدم الضمان على الثاني أنه لا فرق في فعل الأول بين كونه عمدًا أو خطأ أو شبه عمد، بل عدم الفرق بين كونه مضمونًا أو غير مضمون، كما لو أنهاه سبع إلى تلك الحركة فقتله آخر، ويلحق بالحياة المستقرة حياة من شك في موته) ثم قال الرملي (ويرجع فيمن شك في وصوله إلى حالة الحياة غير المستقرة إلى عدلين خبيرين

) (2)

(1) المنثور في القواعد – بدر الدين الزركشي جـ 2 ص 105 وما بعدها نشر وزارة الأوقاف - الكويت - الطبعة الأولى سنة 1402 هـ / 1982 م

(2)

انظر هذه الأقوال في نهاية المحتاج وحاشية الشبراملسي عليه جـ 8 ص 15، 16، وانظر أيضًا قريبًا مما ذكر: المهذب – أبو إسحاق الشيرازي جـ 2 ص 174، 175 – مطبعة عيسى البابي الحلبي – مصر، والإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد جـ 9 ص 451، 452- علاء الدين أبو الحسن علي بن سليمان المرداوي –تحقيق محمد حامد الفقي- الطبعة الأولى سنة 1377هـ/ 1957م، والجريمة للشيخ محمد أبو زهرة ص 404 هـ طبع دار الفكر العربي، والبحر الرائق شرح كنز الدقائق لابن نجيم جـ 8 ص 335، طبع بيروت –دار المعرفة- الطبعة الثانية، والأم – الشافعي - جـ 6 ص 20، 21- طبعة مصورة عن طبعة بولاق 1321هـ.

ص: 221

وهذا الذي ذهب إليه الفقهاء في هذه المسألة يشير إلى أنهم اعتبروا فقدان الإحساس والحركة الاختيارية علامات تورث غلبة الظن بوصول المجني عليه إلى مرحلة الموت، وأن الحركة الاضطرارية الصادرة عن المجني عليه لا تعطي غلبة الظن ببقاء الروح في الجسد إذا كانت وحدها، ولم تقترن بأي نوع من الإحساس أو الحركة الاختيارية، وإلا لجعلوا القصاص من نصيب الجاني الثاني، إذ يكون فعله القاتل واردًا على جسد فيه روح. ولعلهم في هذا تأثروا بما قرره علماء الطائفة الأولى أمثال ابن القيم والغزالي من أن الروح ترحل عن جسد صاحبها في اللحظة التي يصبح فيها الجسد عاجزًا عن الانفعال للروح بأي نوع من الإحساس أو الاختيار.

هذا وإن من مقتضى الأمانة العلمية في عرض مذهب الفقهاء في هذه القضية، أن نشير إلى مسألة يمكن أن ترد على ما استنتجناه من أقوال الفقهاء في صورة الاشتراك في جريمة القتل على التتابع، وتشكك في قوته.. وهذا المسألة هي أن المجني عليه إذا كان قد صار إلى مرحلة الحياة غير المستقرة بسبب مرض، لا بسبب جناية، أو فعل حيوان مفترس، كما لو صار إلى مرحلة النزع، فأجهز عليه مجرم وهو في هذه الحالة؛ فإن جمهور الفقهاء يذهبون إلى إيجاب القصاص على هذا المجرم؛ حتى قال الزركشي (إن المريض لو انتهى إلى سكرات الموت، وبدت مخايله لا يحكم له بالموت، حتى يجب القصاص على قاتله..)(1)

وفرق الزركشي بين حالة ورود الجناية على الجناية، وبيَّن هذه الحالة، أن هذه لا يوجد فيها سبب يحال عليه الهلاك، بخلاف الحالة الأولى. (2)

(1) المنثور في القواعد جـ 2 ص 106

(2)

المنثور في القواعد جـ 2 ص 106

ص: 222

والذي يظهر أن هذا الفرق الذي ذكره الزركشي بين الصورتين غير مؤثر في اختلاف الحكم؛ ويدل على ذلك ما صرح به نفسه، وصرح به غيره من علماء الشافعية، فيما نقلناه سابقًا، أن صاحب الفعل الأول لو كان حيوانًا مفترسًا، وأخرج حشوة المقتولة وأبانها فإن القتل لا يضاف إلى أي صاحب فعل لاحق، مهما كان. وإضافة الفعل الأول إلى حيوان مفترس لا يختلف من حيث النتيجة عن إضافته إلى أي حادث سماوي، يوصل الشخص إلى النتيجة نفسها، كانهيار بيت عليه مثلًا ونحو ذلك.

ولكن المعنى المعقول الذي يمكن أن يفرق به بين الصورتين هو مدى التحقق من وصول الشخص إلى الحياة غير المستقرة التي يتيقن من عدم إمكان انعكاسها إلى حياة مستقرة. ومظاهر النزع في عهد أولئك الفقهاء لم تكن كافية لتغليب الظن –فضلًا عن التيقن- على أن المريض قد انتقل فعلًا إلى مرحلة عيش المذبوح، كما سموه؛ بدليل أن حالات كثيرة يوصف فيها الشخص بأنه وصل إلى حالة النزع الأخير ثم يتجاوزها ويعيش إلى ما شاء الله تعالى.

وإذا كان هذا هو الفرق الحقيقي بين الصورتين السابقتين، فإنه لا يؤثر على فهمنا السابق لموقف الفقهاء من تحديد زمن الوفاة في مسألة الاشتراك على التتابع في جريمة القتل بل يؤيده ويقويه.

خلاصة تصور علماء الشريعة عن الروح وعلاقتها بالجسد:-

وخلاصة ما تقدم من بيان حول دور العلماء المسلمين في مسألة الروح وعلاقتها بالبدن الإنساني:

أن الإنسان في تصورهم جسد وروح، ولا يكتسب وصف الإنسانية بواحد من العنصرين دون الآخر.

وأن الجسد مسكن الروح في هذه الدنيا طوال فترة الحياة المقررة للإنسان.

وأن العلم والإدراك والحس والاختيار أهم وظائف الروح.

وأن وظيفة الجسد بكل ما فيه من أعضاء وأجهزة وأنظمة، خدمة الروح والانفعال لتوجيهاتها، وليس له وظيفة أخرى في فترة حياة الإنسان.

وأن الروح تقوم بجانب كبير من وظائفها بواسطة الجسد، وتقوم بجانب آخر بدون وساطته.

ص: 223

وأن الجسد الإنساني لا يصدر عنه أي نشاط اختياري في هذه الدنيا بغير أمر الروح، وأن كل ما يصدر عنه هو بتأثيرها الذي أودعه الله فيها.

وأن الموت معناه مفارقة الروح للجسد، وأنه يحصل للإنسان عند صيرورة الجسد عاجزًا عن الانفعال لأمر الروح.

وأن وجود أي نوع من الحس والإدراك والحركة الاختيارية يدل على بقاء الروح في الجسد، وغياب هذه المظاهر غيابًا كاملًا يدل على مفارقة الروح للجسد.

وأن مجرد وجود حركة اضطرارية لا معنى له سوى وجود بقايا الحياة المجردة عن معية الروح.

ثانيًا- دور أهل الاختصاص:-

ذلك هو دور علماء الإسلام واجتهاداتهم حول معنى الحياة والموت. وأما دور أهل الاختصاص، فالذي يظهر لنا منه بصورة إجمالية: أن الجسد الإنساني الحي هو مجال بحثهم، وأنهم في سبيل المحافظة عليه وتقدم المعونة له من أجل تمكينه من القيام بوظائفه، قاموا بدور جليل يحمدون عليه:

فكشفوا الستار الذي ظل مسدلًا آمادًا طويلة عن مجاهل كثيرة من جسد الإنسان؛ فتعرفوا على أعضائه وأجهزته والأنظمة التي تسير عليها، وعلاقة بعضها ببعض، وتوقف بعضها على بعض، ووظيفة كل منها وأهميته.

ومن أهم معالم الدور الذي قاموا به أنهم تمكنوا من التعرف على الكيفيات التي يؤدي بها ذلك الجسد كثيرًا من وظائفه، كالحس والإدراك والحركة وغير ذلك، ووصفوا بدقة العمليات الداخلية التي تتم بها كل وظيفة من تلك الوظائف، وما يحدث في الجسم عندما نبصر أو نسمع أو نتألم خطوة خطوة حتى تتم العملية بكاملها.

ص: 224

ومن أخطر ما توصلوا إليه اكتشافهم العضو الذي يقع من أعضاء الجسم وأجهزته المختلفة في مركز القائد المتحكم، الذي يعتبر صلاحه شرطًا لتمكن أي عضو آخر من القيام بوظيفته، ألا وهو المخ؛ فقد أفادوا أنه ما من عملية إرادية يقوم بها أي عضو من أعضاء الجسم، إلا كان مصدرها نشاطًا معينًا يقوم به الدماغ. وأنه هو الأساس في كل ذلك. وأن أي تلف جزئي فيه يقابله عجز أو تلف في أعضاء وأجهزة معينة. وأن عجزه الكامل سبب حتمي لعجز بقية الجسد عن القيام بجميع وظائفه الإرادية.

كذلك أفادوا أنهم يستطيعون بواسطة الأجهزة الحديثة تشخيص حالة هذا العضو الرئيس إجمالًا وتفصيلًا، وتحديد مدى قدرته على مزاولة نشاطاته وإدراك نوعية عجزه، وتحديد ما إذا كان هذا العجز مستمرًا أو غير مستمر، قابلًا للعلاج أو غير قابل، وبالتالي تحديد حالة الجسد الإنسان ومدى قدرته على القيام بالأعمال الإرادية.

ومن أخطر ما أنجزوه تمكنهم من المحافظة على أصل الحياة (أو الحياة الخلوية) في أعضاء الجسد الإنساني، وهي في معزل عنه وعن المخ وعن الروح المتعلقة به، ونقل هذه الأعضاء من جسد إلى جسد آخر.

ثالثًا- محصلة الجمع بين الدورين:-

الذي يغلب على الظن بالنظر فيما توصل إليه علماء الإسلام من نتائج، وما توصل إليه أهل الاختصاص من الأطباء، أنه ليس بينهما أي تناقض، وأن دور كل منهما مكمل للآخر على طريق البحث عن جواب السؤال المطروح: متى تنتهي حياة الإنسان؟

نعم قد يقع باحث متعجل يلتقط من ظواهر الأمور، ولا يغوص في أعماقها، قد يقع مثل هذا الباحث في ظن التناقض بين الطرفين فيما قدماه من تصور حول نهاية الحياة الإنسانية.

فقد يظن أن علماء الشريعة قد نسبوا إلى الروح من الوظائف والأنشطة ما يشبه إلى حد كبير، ما اكتشفه أهل الاختصاص أنه من وظائف المخ وأعماله. وأنهم أطلقوا الروح على عضو حسي يخضع للاختبار والتشريح والملاحظة في عرف أهل الطب، في الوقت الذي جزموا فيه أنا لروح لا يمكن أن تكون جسمًا ماديًا، وأن هذا الخطأ إنما وقعوا فيه بحكم وجودهم في عصر من التاريخ لم يكن علم الطب فيه متقدمًا كما هي حاله الآن.

ص: 225

واعتقادي أن هذا نظر سطحي منطلقه أساسًا من طغيان التفسير المادي، وتعميمه على كل الظواهر، حسية كانت أو غير حسية.

ذلك أن العلماء الماديين لا يبحثون إلا في المحسوس، ولا يعترفون إلا بنتائج هذا البحث المادي؛ فإذا أرادوا تفسير أي نشاط يقوم به الإنسان، تتبعوا ما يحدث لأجزاء الجسم المحسوسة عند ممارسة هذا النشاط، ولاحظوا مختلف التطورات والأفعال وردود الأفعال المحسوسة، التي تقوم بها أعضاء الجسم المختلفة، فإذا انتهى بهم المطاف إلى آخر نشاط حيوي يقع تحت آلاتهم، نسبوا إلى العضو الذي صدر عنه هذا النشاط الأخير التصرف الذي قام به الإنسان.

وهكذا عندما اكتشفوا أن المخ هو العضو الأخير الذي ينفعل بأنواع من الانفعالات لكل تصرف يصدر عن الإنسان، نسبوا إليه كل تصرف إنساني مادي كان أو غير مادي.

والحقيقة أنهم قد يكونون على حق في تفسير جميع الخطوات المادية التي تتم داخل الجسم عند قيام الإنسان بتصرف ما؛ فهذا مجالهم وهم أدرى به.

ولكن الذي لا يقرون عليه أن ينسبوا النتائج النهائية، وهي صدور التصرفات الإنسانية بأشكالها النهائية، إلى العضو المادي الذي كانت فيه خاتمة الانفعالات المادية قبيل صدور ذلك التصرف؛ وذلك أن جميع التصرفات الإرادية الصادرة عن الإنسان فيها عنصر معنوي غير مادي هو الإرادة. والذي تدل عليه سنن الحياة ومعهودات الكون أن المادة لا يمكن أن تنتج المعاني، وإنما ينتج عن المادة مادة مثلها. ولا بد أن يكون هناك مخلوق غير مادي في جسد الإنسان خلقه الله عاقلًا، يستفيد من الحركات المادية التي تقوم بها أعضاء الجسد بتأثيره هو، وتتجمع محصلتها في المخ، فيصدر عن ذلك المخلوق التصرف الإنساني بصورته النهائية.

إن مما يصعب تصديقه أن مجرد حركات تظهر على الأعضاء وتظهر محصلتها على العضو الرئيس –المخ- تنتج في النهاية إحساسًا بالألم، واللذة والسرور والطمأنينة وغير ذلك من المدركات بمختلف أنواعها.

صحيح أن المخ وبقية أعضاء الجسد تختلف عن الأجهزة المادية الجامدة بأنها تتكون من خلايا حية تنمو وتتطور وتموت، ولكن هذه الحياة غير عاقلة، وهي عينها حياة الجنين قبل نفخ الروح، وهي عينها حياة القلب النابض المقلوع من جسد الإنسان، المحفوظ تحت ظروف معينة.

ص: 226

إن محاكمة عقلية بسيطة تدلنا على خطأ تلك النتيجة النهائية التي يدعيها العلماء الماديون بنسبة كل تصرف إنسان إرادي للمخ والوقوف عنده، وهذه المحاكمة هي:-

أنه إذا كان المخ وراء كل حركة إرادية في أعضاء الجسد فهل عمله هو –أي المخ- عمل إرادي أو غير إرادي؟ أي عندما يصدر المخ أوامر للأعضاء، وعندما يتسلم منها نتائج تنفيذ تلك الأوامر، ويقوم بتحليلها وإصدار النتائج النهائية على ضوئها: هل هذه الأنشطة المختلفة الصادرة عن المخ إرادية أو غير إرادية؟

لا سبيل إلى القول: إنها أنشطة اضطرارية غير إرادية؛ فإنها دعوى مخالفة للمحسوس، وتؤدي إلى القول بأن كل عمل يقوم به الإنسان عمل اضطراري، كأي نشاط يصدر عن خلايا النبتة الحية، أو خلايا الكلية الحية المفصولة عن جسد صاحبها!

وإذا كانت تلك الأنشطة إرادية، فإنه لا سبيل إلى نسبتها إلى خلايا المخ المادية المحسوسة؛ لما تقدم من استحالة صدور المعاني عن المواد دون تدخل من مصدر آخر لهذه المعاني، له طبيعة خاصة مختلفة عن المحسوسات.

وإذا كان كذلك فلا مناص من التسليم بوجود مخلوق حي عاقل غير مادي وغير محسوس يقف وراء كل نشاط إرادي من أنشطة الدماغ المختلفة.

والذي يغلب على الظن في تفسير علاقة الروح بالجسد بصورة عامة، وبالمخ بصورة خاصة، على ضوء ما استقيناه من تصور علمائنا المسلمين، الذي يمتد بجذوره إلى كثير من النصوص، ومن النتائج العلمية التي توصل إليها أهل الاختصاص في تفسير نشاطات الأعضاء، الذي يغلب على الظن أن الجسد الإنساني الحي، بما فيه من مخ وأعضاء أخرى عبارة عن مجمع دقيق من الآلات الحيوية المتشابكة بأسلوب معجز، جعله الباري في خدمة مخلوق عاقل نفخه الله في ذلك المجمع الحيوي، اسمه الروح في مصطلح القرآن والسنة. وأن هذه الروح تسيطر على ذلك الجسد الحي في هذه الدنيا بواسطة المخ؛ فهو يشتغل بتشغيلها له وينفعل بتوجيهاتها، فيحرك أعضاء الجسد الأخرى، فيرسل عن طريقها ما تريد الروح إرساله، ويستقبل عن طريقها ما تريد الروح استقباله، فتقرأ الروح ما يتجمع في الدماغ، وتصدر الأحكام والنتائج في صورة تصرفات إنسانية، وأنه –أي المخ- إذا أصابه تلف جزئي عجز بصورة جزئية عن الانفعال لأوامر الروح، وظهر ذلك العجز الجزئي على بعض الأعضاء، وأثمر بالتالي عجزًا جزئيًا عن ممارسة التصرفات.

ص: 227

وأنه –أي المخ- إذا أصابه تلف كامل بسبب ما يطرأ عليه مما سماه علماؤنا بالأخلاط الغريبة، التي تبدأ بالأمراض والحوادث، مما يعرف تفصيلاته أهل الاختصاص، إذا حدث ذلك للمخ كان عاجزًا بصورة كلية عن الاستجابة لإرادة الروح، وعجزت سائر الأعضاء أيضًا بعجزه. فإن كان هذا العجز نهائيًا لا رجعة فيه، ولا أمل في استدراكه، رحلت الروح عن الجسد بإذن ربها، وقبضها ملك الموت، وأخذها في رحلة جديدة لا نعلم منها إلا ما علمنا ربنا عن طريق المصطفى عليه الصلاة والسلام، وليس مجال تفصيله في هذا البحث.

فإذا استطاع أهل الاختصاص أن يعرفوا بصورة جازمة الوقت الذي يصبح فيه المخ عاجزًا عجزًا كاملًا عن القيام بأي نشاط بسبب انتهاء حياته الخلوية، ومستعصيًا استعصاء كاملًا على العلاج، لم يكن هناك أي مبرر لإنكار موت الإنسان عند هذه الحالة.

هذا ما يمكن تحصيله من إجراء التفاعل بين دور علماء الشريعة الإسلامية ودور علماء الطب. المفصلين آنفًا، ويمكن تلخيصه في هذه المقابلة بين الفريقين:-

علماء الشرع علماء الطب النتيجة

1-

الروح التي تدرك مختلف المدركات عمليات الحس والإدراك تتم في مخ الإنسان الروح تدرك المدركات باستعمال المخ

2-

الروح هي التي تتصرف بالجسد في جميع حركاته الاختيارية المخ هو الذي يسيطر على بقية أعضاء الجسد في حركاتها الاختيارية الروح هي التي تتصرف بالأعضاء بواسطة المخ

3-

علامة اتصال الروح بالجسد الحس والحركة الاختيارية علامة صلاحية المخ الحس والحركة الاختيارية علامة اتصال الروح بالجسد صلاحية المخ

4-

علامة مفارقة الروح للجسد غياب الحس والحركة الاختيارية بصورة نهائية علامة موت المخ غياب كلي نهائي للحس والحركة الاختيارية علامة مفارقة الروح للجسد موت المخ بصورة نهائية

5-

الحركة الاضطرارية لا تدل على اتصال الروح بالجسد الحركة الاضطرارية لا تدل على صلاحية المخ لا كليًا ولا جزئيًا الحركة الاضطرارية لا تدل على حياة أو موت الإنسان

6-

لا تتصل الروح بالجسد في الدنيا إلا بعد مرور أربعة أشهر على تكون الجنين إمكان فصل كثير من أعضاء الجسد مع المحافظة على حياة الخلايا المكونة لهذه الأعضاء حياة الخلايا الجسدية غير حياة الروح، وإمكان اتصالهما وانفصالهما.

ص: 228

قوة تلك النتيجة:

لا نستطيع أن ندعي أن تلك النتيجة في تحديد نهاية الحياة الإنسانية قطعية يقينية، لا تقبل إثبات خلافها. وإنما هي نتيجة مبناها على غلبة الظن؛ لأن مقدماتها وإن كان بعضها قطعيًا، لكن بعضها ظني؛ ذلك أن تحديد العجز الكامل النهائي للمخ، بما وصل إليه العلم الحديث، قد يدخله بعض الشك؛ فإن المخ كما تبين مما سبق ذكره عضو من أعضاء الجسم وإن كان رئيسها، وليس هو الروح بعينها، ولم يقم دليل شرعي ولا علمي على حلول الروح فيه دون غيره. وتعطله يكون نتيجة أمراض معينة. وكل مرض وجد أو سيوجد، اكتشف علاجه أو لم يكتشف فيه قابلية الشفاء، كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام ((ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء)) (1) وقد يأتي يوم يتقدم فيه العلم أضعافًا مضاعفة عما هو عليه الآن، ويكتشف أن العلامات التي يقررها أطباء اليوم لموت المخ نهائيًا ليست قاطعة، وأن معالجة المخ بالرغم من ظهور تلك العلامات عليه ممكنة. أو قد يأتي يوم يتمكن العلماء فيه من نقل مخ حي إلى إنسان تلف مخه بصورة كاملة. ولا يرد على ذلك ما أورده أحد الإخوة الأطباء من أن نقل مخ حي يقطع بعدم جوازه شرعًا؛ لأن صاحبه يكون حيًا بالاتفاق، ونقل مخه يكون قتلًا له؛ إذ قد يتصور أن يكون صاحب المخ الحي محكومًا عليه بالإعدام بفصل رأسه عن جسده بالسيف مثلًا، كما هو الحال في بعض الدول، وما دام العلم كما ذكر بعض الإخوة الأطباء، قد توصل إلى إمكان تبريد المخ لبضع ساعات، محتفظًا بقابليته للانبعاث من جديد، فإن احتمال إمكان النقل يظل واردًا عقلًا وشرعًا. ولو حصل هذا الاحتمال فإن معناه إمكان الحفاظ على الروح في الجسد بتعويضها عن مخ صاحبها بمخ جديد. (2)

(1) أخرجه البخاري في كتاب الطب من صحيحه

(2)

ولو حصل هذا لم يكن هناك أي داع للتخوف من انتقال المعاني والمسؤوليات من إنسان إلى إنسان؛ لأن المخ كما استنتجنا ليس هو الروح، وإنما هو الآلة الرئيسة لبقية آلات الجسد، ومثله في ذلك كمثل القلب، وإن كان أبلغ في أهميته.

ص: 229

هل يمكن بناء الأحكام العملية على هذه النتيجة؟

ليس هنالك خلاف يعول عليه بين علماء الإسلام في أن الأحكام العملية تبنى على غلبة الظن المحصلة بالأمارات والدلائل، وقد أشار إلى ذلك علماء الأصول. (1)

وترتيبًا على ذلك فإنه يمكن بناء ما يحتاج إليه من الأحكام العملية على تلك النتيجة التي توصلنا إليها في تحديد نهاية الحياة الإنسانية؛ فيمكن الاستفادة منها لتحديد القاتل عند اشتراك الجناة على التتابع، كما يمكن استخدامها لمعرفة حكم نقل الأعضاء الآدمية.

غير أنه في كل مرة تتخذ هذه النتيجة أساسًا لبناء حكم عملي عليها ينبغي توفر جميع الشروط اللازمة لمنع استغلالها أو الخطأ فيها؛ فينبغي أن يصدر قرار انتهاء الحياة الإنسانية بموت المخ النهائي عن لجنة من أهل الاختصاص ذوي الكفاءة والنزاهة، وأن يكون ذلك بالإجماع، وأن تسبق عملية النقل موافقة صاحب المخ الميت في خلال حياته، وأن لا يكون قد رجع عنها قبل موته، وموافقة ذويه بعد وفاته، وأن لا يكون هنالك أي بديل آخر يتوصل إليه العلم ويحقق المراد.

هذا ولقائل أن يقول: كيف يصح أن تبنى أحكام خطيرة، كحكم نقل القلب، على نتيجة مبناها على غلبة الظن، والخطأ فيها معناه إهدار حياة موجودة؟

والجواب عن هذا الاعتراض أن جانبًا كبيرًا من حقائق الحياة لا يعرف إلا بغلبة الظن لا بالقطع واليقين. والاقتصار في بناء الأحكام على تحصيل اليقين، فيه تعطيل لكثير من المصالح الخطيرة. وكثير من أحكام الشرع مبناه على الظن الغالب، وبعض هذه الأحكام خطيرة جدًا قد يترتب على الخطأ في بنائها إزهاق أرواح بريئة؛ من ذلك إلزام القاضي ببناء أحكامه في قضايا الحدود والقصاص على طرق الإثبات الشرعية فيجب على القاضي أن يحكم برجم الزاني المحصن الذي يشهد عليه أربعة من الرجال العدول. وأن يحكم بالقصاص على القاتل الذي تثبت جريمته بشهادة اثنين من الرجال العدول وغير ذلك. واحتمال كذب الشهود مهما كانوا عدولًا في الظاهر أمر قائم، واحتمال خطأ الحاكم في حكمه في أمثال هذه القضايا الخطيرة لا ينكره أحد، والخطأ فيها قد يؤدي إلى إهدار أرواح بريئة كما يرى، ولم يقل أحد بحرمة إصدار الأحكام في غير محل اليقين، بل الكل مجمعون على وجوبه بحصول الظن الغالب عن طريق اتباع الطرق الشرعية.

(1) انظر: كتاب المنخول من تعليقات الأصول –لأبي حامد الغزالي ص 327 وما بعدها طبع دمشق سنة 1400هـ – 1980م- دار الفكر.

ص: 230

على أن هناك من الصور الواقعية ما تقترب فيه غلبة الظن من اليقين، بحصول الوفاة، قبل فقدان أعضاء الميت، ومنها القلب، لقابلية الانبعاث من جديد، والاستفادة من نقلها في إحياء إنسان مشرف على الموت؛ وذلك كما لو أصيب شخص بحادث أدى إلى انفصال رأسه عن جسده، وتناثر دماغه على مسرح الحادث، واستطاع الأطباء الوصول إلى قلبه، وهو في حالة يمكن فيها الاستفادة منه: أليس من المبالغة الواضحة الجنوح إلى تحريم تلك الاستفادة؟! كذلك عندما يحكم على إنسان بالإعدام شنقًا أو بالسيف، فإذا تمت عملية الإعدام وبقي القلب نابضًا، واستطاع الأطباء الاستفادة من ذلك القلب في إنقاذ إنسان آخر من الموت في حدود ما تقدم من الشروط والقيود، فأي قاعدة شرعية تمنع ذلك؟!

خلاصة ومثال من الواقع:

وبناء على ما تقدم فإن أغلب الظن عندي أن مجرد وجود قلب ينبض أو كلية خلاياها حية، أو غير ذلك من أعضاء الجسد الإنساني سوى المخ، ليس قرينة على وجود الروح أو عدم وجودها؛ وذلك لإمكان قيام هذه الأعضاء بخلاياها الحية مع وجود الروح ومع غيابها. وإنما ترتبط الروح الآدمية وجودًا وعدمًا مع حياة الدماغ.

ص: 231

وإلى الذين يخالفون هذا الرأي أضرب هذا المثل الذي لا يستبعد وقوعه في الحياة:

إنسان حكم عليه بالإعدام بالسيف، وله ولد أفاد الأطباء بصورة قطعية أن قلبه تالف، ولا أمل له في استمرار حياته إلا بتعويضه عن قلبه بقلب سليم (بعد مشيئة الله تعالى) فأوصى الوالد بقلبه بعد تنفيذ الحكم عليه لولده المريض. وفور تنفيذ الحكم عليه، وفصل رأسه عن جسده، تلقفه الأطباء وحفظوا الجسد المفصول بما فيه من قلب وغيره بوسائلهم وأمدوه بما يلزم للحفاظ على حياة الخلايا فيه، وبقي القلب الموصول بالأجهزة نابضًا:

ففي هذه الحالة هل يمتنع في حكم الدين أن ينقل هذا القلب النابض إلى ذلك الولد المبتلى بقلب يوشك أن يخمد ويتوقف نبضه؟! وهل يستطيع أحد أن يدعي بقاء الروح في هذا الجسد الذي استطاع الطب –بعون الله تعالى- المحافظة على الحياة في خلاياه؟!

لا أعتقد أن أحدًا يقول ببقاء الروح في جسد بلا رأس، مهما كانت خلاياه حية. وأما نقل بعض أعضاء ذلك الجسد فقد يتمسك متمسك بالمنع معتمدًا على حرمة الميت في شرع الله تعالى ولكن حرمة الميت ليست أشد ولا آكد من حرمة الإنسان الحي الذي أفتى كثير من العلماء بجواز نقل بعض أعضائه خلال حياته برضاه، كالكِلْيَةِ مثلًا. ولا شك في أن حاجة الإنسان الحي إلى كليته بل إلى ظفره أشد من حاجة جسد مفصول عنه الرأس إلى القلب الموجود فيه.

وكأني ببعض الإخوة الكرام يقول: إن هذا المثال الذي ضربته يختلف عن حالات موت الدماغ بأن المخ قد ذهب إلى غير رجعة، لانفصال الرأس عن الجسد، بينما الصور الأخرى يفترض فيها بقاء الدماغ في الرأس المتصل بجسده.

والجواب في هذا فرق غير مؤثر في الحكم، وهو لا يزيد عن الفرق بين إنسان مات بسكتة قلبية، وإنسان احترق بالنار، وصار جسده كله رمادًا؛ كلاهما ميت، ولا ومضة أمل في حياته ولا فرق كذلك بين دماغ ذهب وانفصل عن جسده، ودماغ حكم أهل الاختصاص بصورة قاطعة أن خلاياه قد ماتت كلها. (1)

وليس الفرق في حقيقة الأمر، إلا من حيث وضوح الموت في الحالة الأولى لكل ناظر وعدم وضوحه في الحالة الثانية إلا لأهل الاختصاص. وهذا فرق غير مؤثر في الحكم؛ لأن عدم إدراك الإنسان غير المختص لواقع معين ليس له أثر في نفي هذا الواقع، وإنما الأمر في ذلك للمختصين. وهذه قاعدة مضطردة؛ ألا يرى أن المبصر لو شهد برؤية ما لا يدرك بوسيلة أخرى غير البصر، ونفى ذلك أعمى، فإن الحكم يبنى على شهادة المبصر. ولو أن الأحكام توقفت على إدراك كل الناس للوقائع، لكان هذا تعطيلًا لمعظم الأحكام.

(1) أكد ذلك كثير من الأطباء الذين حضروا ندوة الحياة الإنسانية: بدايتها ونهايتها في المفهوم الإسلامي، ولم يخالف في ذلك أحد منهم

ص: 232

ولا شك في أن معرفة أحوال الدماغ من حيث صحته ومرضه، وحياته وموته أمر من أمور الدنيا؛ وليس أمرًا دينيًا ولا غيبيًا. والرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم أمرنا بالرجوع في أمور دنيانا إلى المختصين العدول، فإذا وجد بيننا علماء في الطب مسلمون لا نشك في علمهم ولا نتهمهم في إخبارهم عن الواقع، وجب أن نبني الأحكام على قولهم.

هذا وقد يقال لي: لماذا لم تلتزم بهذه القاعدة في رأيك عن بدء الحياة الإنسانية؟ أليس أكثر الأطباء يرون خلاف ما ذكرته هناك، وهم أهل الاختصاص؟

والجواب عن ذلك أن تلك القضية فيها نص حديث شريف، أسندت ظهري إليه، وفسرت الواقع بناء عليه، وهذا واجب كل مسلم مهما كان تخصصه ولم أخالف الأطباء فيما يدخل في اختصاصهم، وإنما فسرت بالشرع الواقع الذي أفادوه، ورددت عليهم ما ليس من تخصصهم؛ حيث حاولوا تفسير الواقع الذي اكتشفوه بما يتعارض مع حقيقة شرعية أخبر عنها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

وأخيرًا قد يجادل مجادل بأن المثال الذي ذكرته فيه فرق آخر، وهو أن المحكوم عليه بالإعدام لا حرمة له؛ لأنه مهدر الدم. وهذا فرق آخر لا قيمة له ولا أثر له في الحكم الذي ذكرناه؛ لأن المحكوم عليه بالإعدام غير محكوم عليه بخلع قلبه من صدره؛ وهذا أمر زائد عن العقوبة، وهو من المثلة المنهي عنها لو تجرد عن إذن صاحبه وعن غرض مشروع. وعلى أية حال فإن هذا مجرد مثال، والواقع قد يتمخض عن أمثلة كثيرة، وخاصة في هذا الزمان الذي تضاعفت فيه الأخطار على حياة ابن آدم. وهو متصور في حوادث السيارات والطائرات والقطارات وغيرها متصور بكثرة في الحروب.

ص: 233

نهاية الحياة

للدكتور محمد سليمان الأشقر

الموسوعة الفقهية الكويتية

بدأت حياة البشرية بنفخة، وتنتهي بنفخة، فسبحان الله الحي القدير. بدأت بنفخة في جسد آدم، وتنتهي بنفخة ينفخها إسرافيل في الصور {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أي ماتوا في الحال. وأما الواحد من بني آدم فقد يطول احتضاره ومعاناته لسكرات الموت الذي كان منه يحيد، حتى إن محمدًا صلى الله عليه وسلم قال:((اللهم أعنَّي على سكرات الموت)) .

ونهاية الحياة الإنسانية بما يقوم به ملك الموت ورسل الله، من إيجاد الانفصال الكامل بين تلك الروح وبين الطين الذي كان مسكنها ومطيتها، وذلك بتوفيها وإرجاعها إلى ربها الذي هي من أمره {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} .

وبينما الروح بعد ذلك في روح وريحان وجنة نعيم أو في نزل من حميم وتصلية جحيم، يبدأ ذلك الطين المشكل، والمسكن الذي كان معدا لإقامة النزيل يبدأ بالتحلل، بعد رحيل ذلك النزيل شيئًا فشيئًا ليعود ترابًا كما كان، وليندمج في الأرض التي منها بدأ.

ولن تستطيع قوة أو علم أو حكمة أن تجمع بين ما فرقه الله {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) } .

وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لحصول ذلك الافتراق أمارة ترى: فعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الروح إذا قبض أتبعه البصر)) (رواه مسلم) وعن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح. وقولوا خيرًا، فإنه يؤمن على ما يقول أهل الميت)) رواه أحمد في المسند.

ويذكر الفقهاء أمارات أخرى وصل إليها علمهم، وعرفوها بمقتضى التجربة البشرية "استرخاء رجليه، وانفصال كفيه، وميل أنفه، وامتداد جلدة وجهه، وانخساف صدغيه" (المغني 2/ 452.

ولا بد للحكم بموته من أن تنعدم كل أمارات الحياة. ويذكرون ذلك في استهلال المولود ليرث، قالوا "لا بد أن ينفصل حيًا حياة مستقرة، فلو مات بعد انفصاله حيًا حياة مستقرة فنصيبه لورثته، ويعلم استقرار حياته عند الحنابلة والشافعية إذا استهل صارخًا، أو عطس، أو تثاءب، أو مص الثدي، أو تنفس وطال زمن تنفسه، أو وجد منه ما يدل على حياته، لاحتمال كونها كحركة طويلة ونحوها ولو لم تكن حياة مستقرة، بل كالحركة اليسيرة، والاختلاج، والتنفس اليسير، لم يرث؛ لأنه لا يعلم بذلك استقرار حياته لاحتمال كونها كحركة المذبوح، أو كما يقع للانتشار من ضيق، أو استواء الملتوي (العذب الفائض في الفرائض 3/ 91) .

ص: 234

وفي شرح السراجية مما تعلم الحياة المستقرة به "صوت أو عطاس أو بكاء أو ضحك أو تحريك عضو".

ولو كان عندك شاة أصيبت وقاربت الموت، فذكيتها بالذبح، فإن علمت أنك ذبحتها وفيها حياة مستقرة فهي حلال، وإن ذبحتها وهي ميتة فلا ذكاة لميت. وروي ((أن امرأة كانت ترعى غنمًا، فأصيبت شاة لها، فذكتها بحجر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوها)) .

قال الإمام أحمد بن حنبل: إذا مصعت بذنبها، وطرفت بعينها، وسال الدم، فأرجو إن شاء الله أن لا يكون بأكلها بأس.

قال الشيخ الموفق: إن أدركها وفيها حياة مستقرة حلت، لعموم الآية والخبر، سواء كانت قد انتهت إلى حال يعلم أنها لا تعيش معه، أو تعيش (المغني 8/ 538) .

ومع أنه يتوقف على تحديد لحظة الموت أمور شرعية ضخمة إلا أننا لم نجد في ما رجعنا إليه من كتب الفقه تحديدًا بشيء غير ما تقدم.

فمما يتوقف على ذلك:

تحديد مبدأ عدة زوجته ونهايتها. وقد يتوقف على معرفة النهاية الحكم بصحة زواجها من غيره أو البطلان.

والتوارث: فقد يموت الأخوان أو القريبان في وقت متقارب، ويتوقف على التحديد أن تنتقل ملايين هذا أو ألوفه إلى ورثة الآخر، أو عكس ذلك.

والوصايا: فقد يوصي ثم يموت الموصى له في الفترة المتحيرة، فلا يدري أيستحق شيئًا أم لا؟

وغسله والصلاة عليه: فإن غسل وصلي عليه، وعليه أجهزة الإنعاش وقلبه يدق ونفسه يربو وصلي عليه، فهل تلك الصلاة صحيحة لأنه ميت، أم لا لأنه حي؟

وإيقاف أجهزة الإنعاش: هل هو سلب سبب تعلقت به حياة نفس إنسانية يفضي إلى موتها، أم هو كإيقاف صنبور ماء يصب على شجرة قد يكون من الخير والاقتصاد فصله عنها.

وأخذ قلبه أو كليته أو عينه: هل هو جناية أو قتل عمد، فيؤخذ قلب الجراح أو كليته أو عينه قصاصًا، أم هو عمل في ميت قد انتهى وسبقت روحه إلى السماء، يستطيع أهله بإذنهم فيه أن يهزوا ضمائر البشر لو كان يهتز لبيض الجنوب الإفريقي ضمير.

ص: 235

هذا وفرق بين موت الجنين وحياته عند ولادته وبين موت الحي، فإن الأصل في الجنين عدم الحياة حتى يتحقق أنه حي، والأصل في من ثبتت حياته أنه حي حتى يتحقق أنه ميت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، لا يزول ذلك اليقين بأمر مشكوك فيه.

والقلب الإنساني – دينامو الجسم البشري - يتبع فساده وتلفه الموت لا محالة "فإذا فسد فسد الجسد كله"

إن نضال الطب ضد الموت حقق إنجازاته الرائعة، وقامت أجهزة الإنعاش بدور يقدر الكل قدره، في حفظ الحياة بإذن الله على مئات الألوف من البشر، وحفظ الستر على مئات الألوف من الأسر.

وإن محاولة الطب الاستفادة من قلب من تحقق موته لإحياء نفس أخرى، محاولة يقدر الكل قدرها أيضًا.

وكانت حياة القلب ونبضه والتنفس دليل الحياة ووجود الروح، فأمكن أن تحل أجهزة الإنعاش محل القلب، ومحل التنفس التلقائي لساعات محدودة، أو أيام معدودة، وإذا كان الدماغ في تلك الأثناء قد مات، فهل الإنسان في تلك الساعات المحدودة، أو الأيام حي أم هو ميت؟

إنها الفترة المتحيرة.

وتأتي المشكلات التي تقدم بيانها عبئًا يلقيه التقدم الطبي على عاتق فقهاء العصر.

وحرص إخواننا الأطباء على أن يكونوا ممن (أحيا الناس جميعًا) يحدوهم إلى أن يمهدوا الطريق، ليكون عملهم ضمن الإطار الشرعي، حيث لا إثم ولا ضمان.

وقد ورد السؤال إلى لجنة الفتوى بوزارة الأوقاف الكويتية في جلستها المنعقدة في 18 صفر 1402هـ الموافق 14/12/1981م. من كل من الدكتور/ رعد عبد الوهاب شاكر –مدرس في كلية الطب بجامعة الكويت، والدكتور/ عبد الرحمن حمود السميط- أخصائي الباطنية بمستشفى الصباح. وكان نصه:

"في حالة التأكد من حصول الموت الدماغي، والذي تتوقف فيه كل وظائف الدماغ، ويتبعه فورًا موت بقية أعضاء الجسم لولا وجود أجهزة إنعاش التنفس والقلب وغيرهما، والتي تؤخر موت بقية أعضاء الجسم لبضعة أيام فقط:

هل يجوز للطبيب المسلم العمل، وبأسرع ما يمكن، لإنهاء هذه الحالة المصطنعة، التي تؤخر توقف بقية أعضاء الجسم عن العمل لأيام، وتؤخر دفنه؟ "

ص: 236

وقد أفتت اللجنة بما يلي:

"إنه إذا قطع الأطباء بأن هذا المصاب لا يمكن شفاؤه، وأنه لا يعيش أكثر من عدة أيام مع وضع هذه الأجهزة عليه، ووجد من هو أحوج لهذه الأجهزة من هذا المصاب، فيجب رفع هذه الأجهزة عنه ووضعها للأحوج.

أما إذا لم يكن هناك حاجة لرفعها عنه فتبقى –وجوبًا- إذا كان هناك أدنى أمل في شفائه.

أما إذا لم يكن هناك حاجة لرفعها عنه فتبقى –وجوبًا- إذا كان هناك أدنى أمل في شفائه.

أما إذا لم يكن هناك أدنى أمل في شفائه فيكون الأمر متروكًا للطبيب: إن شاء أبقاه تحت هذه الأجهزة، أو صرفها عنه. ولا يمكن اعتبار هذا الشخص ميتًا بموت دماغه متى كان جهاز تنفسه وجهازه الدموي فيه حياة ولو آليًا.

وعلى هذا فلا يجوز أخذ عضو من أعضائه –ولا سيما إذا كان رئيسيًا- كالقلب والرئتين لإعطائها لغيره، أو للاحتفاظ بها للطوارئ كما أنه لا تُجرى عليه أحكام الموت: من التوريث، واعتداد زوجته، وتنفيذ وصاياه، إلا بعد موته الحقيقي، وتعطيل كل أجهزته.

هذا وبالله التوفيق وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم".

وهذا الحكم الذي أصدرته اللجنة على سبيل الجزم، عادت في 29/9/1984م فشككت فيه، فقد أصدرت الفتوى التالية وبناء على استفتاء مشابه:

"لا يحكم بالموت إلا بانقضاء جميع علامات الحياة، حتى الحركة والتنفس والنبض، فلا يحكم بالموت بمجرد توقف التنفس أو النبض أو موت المخ، مع بقاء أي علامة من العلامات الظاهرة أو الباطنة التي يستدل بها على بقاء شيء من الحياة. وذلك لأن الأصل بقاء الحياة، فلا يعدل عن هذا الأصل بالشك، لأن اليقين لا يزول بالشك. هذا ما انتهت إليه اللجنة مبدئيًا وهي ترى أن الأمر يستحق مزيدًا من البحث المشترك بين الأطباء والفقهاء. والله أعلم"

لقد تراجع أهل الفتيا السابقة عن الجزم بأنه لا يحكم بالموت إلا بتعطيل جميع أجهزة البدن، وقالوا: إن ذلك ما انتهوا إليه مبدئيًا.

ص: 237

والآن تتبدى حقائق لم تكن متوفرة.

ولكن يبقى تساؤلات لمزيد من الاستيضاح:

أولًا: هل يظن أنه قد يأتي يوم يتمكن العلم أيضًا من إعادة النشاط الكهربائي للدماغ، أو نقل جذع الدماغ من بدن إلى بدن آخر؟ أم إن عجزنا الحالي هو الذي دعانا إلى أن ندعي أن الموت في حقيقته هو موت الدماغ دون موت القلب؟

ثانيًا: ونتساءل أيضًا عن الحكايات التي يتناقلها الناس من أن فلانًا مات، ثم دفن ثم سمع صوته صدفة، فحفر القبر وإذا به حي، أو قد غير وضعه ثم مات مرة أخرى، هل يصح علميًا من هذه الحكايات شيء؟ وهل كان القلب متوقفًا طيلة هذه المدة. ويستغرق ذلك أحيانًا ساعات طويلة والمريض غائب عن الوعي؟

وفي حالة الموت بالسكتة والصعقة والخوف والسقوط ونحوها مما قد ينتج عنه الموت المفاجئ، يطلب الفقهاء أن ينتظر بالميت احتياطيًا حتى تظهر به العلامات المعتبرة في غير هذه الأحوال من استرخاء الرجلين، وانخساف الصدغين، إلى آخره، ليتحقق الموت (المغني 2/452)

ويقول ابن عابدين (1/ 572)"إن أكثر الذين يموتون بالسكتة يدفنون وهم أحياء، لأنه يعسر إدراك الموت الحقيقي إلا على أفاضل الأطباء."

فهل يصح هذا كله؟ وإذا صح فكيف التنسيق بينه وبين ما يقوله الأطباء من أن القلب إذا توقف تبعه موت الدماغ يقينًا بعد ما لا يزيد عن خمس دقائق؟

ثالثًا: يذكر إخواننا الأطباء أن الموت يتبين يقينًا بانعدام كهرباء المخ، وأن من السهولة بمكان قياس ذلك. فبماذا يفسرون أن الجهات العلمية البريطانية وغيرها تشترط أنواعًا من الاختبارات غير هذا، وتقيس به وتطلب أن تعمل الاختبارات كلها. فهل يستطاع القول: إنه يبقى الشك في الوفاة قائمًا حتى مع انعدام كهرباء الدماغ؟

رابعًا: لتحديد حجم المشكلة: هي يعتقد أنه يمكن أن يأتي اليوم الذي نستغني فيه نهائيًا عن زراعة الأعضاء الإنسانية بأعضاء صناعية، أو بأعضاء الحيوانات. وقد سمعنا أخيرًا بأن طبيبًا غرس لطفلةٍ قلب قرد، فهل النجاح في هذا الميدان يبطل الحاجة إلى انتهاك حرمة المرضى الذين قد يدعى أنهم أحياء وتؤخذ قلوبهم؟

خامسًا: إذا أخذنا بالرأي القائل بأن الإنسان لا يعتبر ميتًا حقيقة إلا بتوقف عمل القلب، بالإضافة إلى توقف عمل الدماغ، فهل يعني ذلك القضاء على عمليات زراعة القلب بصورة شرعية قضاء نهائيًا؟ ومثل القلب سائر الأعضاء المفردة التي تتوقف عليها الحياة.

ص: 238

ولو كان المفتي يفتي بجواز زراعة القلب، ويفتي أيضًا بأن الإنسان حي ما دام قلبه يعمل إن كان دماغه قد مات، فهل تعتبر فتاواه متناقضة من وجهة النظر الطبية؟

سادسًا: ما الذي وصلت إليه القوانين بهذا الخصوص في الدول المعاصرة؟

عودة إلى الفقه الإسلامي:

نعود إلى فقهنا الإسلامي العظيم لنبحث عن نور يعيننا على استجلاء ما نحن فيه من الحيرة.

ونجد فقهاءنا قد تعرضوا لشيء شبيه بما نحن فيه.

فقد ذكر فقهاء الحنفية لمن (قتل) إنسانًا قد وجد فيه سابقًا سبب الموت ثلاث حالات:

الحالة الأولى: لو جرح إنسان آخر بأن شق بطنه أو نحو ذلك، وأشرف المجروح على الموت، ولكن فيه حياة مستقرة، فقطع عنقه آخر، فالثاني هو القاتل وليس الأول.

ومعنى "فيه حياة مستقرة" أن يتوهم فيه أن يعيش يومًا أو بعض يوم.

الحالة الثانية: قطع إنسان عنق آخر، وبقي من الحلقوم قليل وفيه الروح، فجاء آخر فقطع عنقه، فلا قصاص على الثاني، والقصاص على الأول، لأنه لا يتوهم بقاؤه، ولم يبق إلا اضطراب الموت، وحركته حركة مذبوح، فكأن الثاني ضرب من هو في حكم الميت، ولا قصاص في ذلك على الثاني.

الحالة الثالثة: مريض في النزع، من غير جناية، لم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، فقتله قاتل، فاختلف كلام الحنفية، وقيل: إن الصواب أن عليه القصاص وإن كان القاتل يعلم أنه لا يعيش به، وهذا هو الذي صوبه ابن عابدين.

وقيل: إذا كان يعلم أنه لا يعيش فلا قصاص على القاتل، لأن المقتول كان في حكم الميت.

وذكر ابن قدامة من الحنابلة الحالتين الأوليين وقال: لا نعلم فيهما خلافًا (المغني 7/ 684) ومثله في (كشاف القناع 5/ 516) والشافعية أيضًا ذكروا الحالات الثلاث، ولم يختلف كلامهم في الحالة الثالثة أن على القاتل القصاص.

أما الفرق بين الحالة الأولى والثانية فواضح.

وأما الفرق بين الحالتين الثانية والثالثة فقد قال ابن عابدين "لعل الفرق بين هذا وبين من هو في حالة النزاع، أن الموت في حالة النزاع غير متحقق فأن المريض قد يصل إلى حالة تشبه النزاع، بل قد يظن أنه قد مات، ويفعل به كالموتى، ثم يعيش بعده طويلًا، بخلاف من شق بطنه، وقطعت حشوته، أو قطع عنقه، ولم يبق منه إلا حركة المذبوح، فإنه يتحقق موته، لكن إذا كان فيه من الحياة ما يعيش معها يومًا فإنها حياة معتبرة شرعًا، فلذا يكون القاتل هو الثاني، أما لو كان يضطرب اضطراب الموت من الشنق فالحياة فيه غير معتبرة أصلًا، فهو ميت حكمًا، فلذا كان القاتل هو الأول، وقال: هذا ما ظهر لي فتأمل".

وكذلك فرق الشافعية: قال النووي والمحلي: "لو أوصله رجل إلى حركة مذبوح بأن لم يبق إبصار ونطق وحركة اختيار، ثم جنى عليه آخر، فالأول هو القاتل، ويعزر الثاني لهتكه حرمة ميت"، ثم قال:"ولو قتل مريضًا في النزع، وعيشه عيش مذبوح، وجب بقتله القصاص، لأنه قد يعيش، بخلاف من وصل بالجناية إلى حركة مذبوح"(شرح المنهاج 4 /103) .

قالوا "ولا ينتقل ماله –أي مال الذي في النزع- للوارث، بخلاف الجريح".

ص: 239

وهذا الذي قالوه من التفريق بين من فيه حياة مستقرة، وبين من لم يبق فيه إلا مثل حركة المذبوح واضح، فإن الأول حي يجري عليه حكم الأحياء، أما الثاني فهو (في حكم الميت) كما عبر الحنفية والحنابلة، أو هو (ميت) كما عبر الشافعية، ولذا نأخذ في حقه بأنه لا يرث لو مات له قريب في تلك الحال، ولو ضربه آخر ضربة أقعصته في الحال، فالقاتل الأول، ويكون على الثاني التعزير للإساءة، وقد لا يكون ثمة تعزير إن لم يكن الغرض الانتهاك.

إنني أرجو تدقيق النظر من هذه الوجهة، والتأمل الحق الذي دعا إليه ابن عابدين رحمه الله:

أولًا: الجريح الذي لم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، والذي اتفقت كلمة من ذكرناهم على اعتباره ميتًا أو في حكم الميت، فإن قلبه يعمل، وأعضاءه تتحرك، ومع ذلك فلا يعامل معاملة الحي، ولا يحكم له بحكم الحي، وما ذلك إلا لليقين الحاصل بأنه إلى الموت سائر، وأنه قد تجاوز نقطة اللاعودة، ولم يبق من حياته ما يعتد به.

وثانيًا: الذي في النزع من غير جناية ولم يبق منه إلا مثل حركة المذبوح، اعتبروه في حكم الحي، لكنهم عللوا ذلك بأمر واضح، هو عدم العلم قالوا:"لأنه لا يتحقق موته" كما عبر الحنفية، أو "لأنه قد يعيش" كما عبر الشافعية.

إذن يبدو أن الأمر في حق من لم يبق منه إلا مثل حياة المذبوح راجع إلى التحقق وعدمه، ووسيلة التحقق قد تكون ظاهرة لكل أحد، كالذي قطعت عنقه أو أبينت حشوته، وقد تكون خفية لا يعلمها إلا حذاق الأطباء، لكنهم منها متيقنون، كالذي مات منه الدماغ.

هذا ما نقوله في هذا المؤتمر على سبيل البحث والنظر، لا على سبيل الإفتاء به، والإذن في الأخذ به لأحد من الناس.

فإذا تأيد هذا في مؤتمركم الموقر، ووافق على الأخذ به علماء الشرع، يبقى القول في أمرين:

الأول: أنه هل ينبغي أن يقال: إن المريض في تلك الحال (ميت حقيقة) أم أن يقال: (هو في حكم الميت) كما قال الحنفية؟

والذي أراه أنه ينبغي أن يقال: هو حي في حكم الميت، أي يعامل معاملة من قد مات في نزع أجهزة الإنعاش عنه، وفي أخذ أعضائه، لا في الميراث ونحوه (1)

الثاني: ما هي الاحتياطات التي ينبغي اتخاذها من حيث الخبرة، ومن حيث الثقة والأمانة، لنضمن عدم حصول التجاوزات غير المنضبطة؟

والله أعلى وأعلم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه.

(1) أي فلا يورث حتى يتوقف قلبه ليكون ميتًا حقيقة، وكذلك عدة زوجته ونحو ذلك

ص: 240