المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحثلفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي - مجلة مجمع الفقه الإسلامي - جـ ٣

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌العدد الثالث

- ‌تقديم بقلم معالي الأستاذ سيد شريف الدين بيرزاده

- ‌كلمة معالي د/ بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمة العددلمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌كلمة افتتاح الدورةألقاهامعالي الدكتور ناصر الدين الأسد

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌كلمةمعالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة

- ‌توظيف الزكاة في مشاريع ذات ريع بلا تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ آدم شيخ عبد الله علي

- ‌توظيف الزكاةفي مشاريع ذات ريع دون تمليك فردي للمستحقلفضيلة الشيخ حسن عبد الله الأمين

- ‌طرق الإنجابفي الطب الحديث وحكمها الشرعيلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌القضايا الأخلاقيةالناجمة عن التحكم في تقنيات الإنجابالتلقيح الاصطناعيلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌أجهزة الإنعاش وحقيقة الوفاةبين الفقهاء والأطباءلفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌موت الدماغلسعادة الدكتور محمد علي البار

- ‌نهاية الحياة البشريةللدكتور أحمد شوقي إبراهيم

- ‌متى تنتهي الحياة؟للدكتور حسان حتحوت

- ‌القلب وعلاقته بالحياةمدخل في مناقشة "متى تنتهي الحياة"للدكتور أحمد القاضي

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور مصطفى صبري أردوغدو

- ‌نهاية الحياة الإنسانيةللدكتور عبد الله محمد عبد الله

- ‌نهاية الحياة الإنسانية في ضوء اجتهاداتالعلماء المسلمين والمعطيات الطبيةللدكتور محمد نعيم ياسين

- ‌نظرة في حديث ابن مسعودللدكتور محمد سليمان الأشقر

- ‌حقيقة الموت والحياةفي القرآن والأحكام الشرعية

- ‌توصياتمؤتمر الطب الإسلامي بالكويت

- ‌دراسةوزارة الصحة بالمملكة العربية السعودية

- ‌ورقة العمل الأردنيةقدمت للمؤتمر العربي الأول للتخدير والإنعاش

- ‌حكم إثبات أول الشهر القمري وتوحيد الرؤيةفضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد

- ‌بحثلفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

- ‌بحثفريق علماء جامعة الملك عبد العزيزقسم علوم الفلك

- ‌توحيد بدايات الشهور القمرية(الشمس والقمر بحسبان)لسعادة الدكتور فخر الدين الكراي

- ‌الوثائق المقدمةتوحيد بداية الشهور القمريةلفضيلة الشيخ محمد علي السايس

- ‌المناقشةتوحيد بدايات الشهور القمرية

- ‌من أين يحرم القادمبالطائر جوًا للحج أو العمرة؟لفضيلة الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء

- ‌الإحرام للقادم للحج والعمرة بالطائرة والباخرةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌الإحرام للقادم إلى الحج بالطائرة أو الباخرةلفضيلة الشيخ تجاني صابون محمد

- ‌الإحرام من جدة لركاب الطائرات في الفقه الإسلاميلفضيلة الشيخ محيي الدين قادي

- ‌كتاب حدود المشاعر المقدسةلفضيلة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن البسام

- ‌جواز الإحرام من جدة لركاب الطائرات والسفن البحريةلفضيلة الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود

- ‌حكم الإحرام من جدة للواردين إليها من غيرهاالقرار الثاني لمجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة

- ‌تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلاميلفضيلة الدكتور نزيه كمال حماد

- ‌أحكام أوراق النقود والعملاتلفضيلة القاضي محمد تقي العثماني

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةلفضيلة الشيخ محمد علي عبد الله

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف الفرفور

- ‌أحكام النقود الورقيةلفضيلة الدكتور أبو بكر دوكوري

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفي نظر الشريعة الإسلاميةلفضيلة الشيخ محمد عبده عمر

- ‌النقود الورقيةلفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌الربافضيلة الأستاذ أحمد بازيع الياسين

- ‌أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملةفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه

- ‌أحكام النقود واستبدال العملات في الفقه الإسلاميفضيلة الدكتور علي أحمد السالوس

- ‌المناقشةأحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة

- ‌كلمة معالي الدكتور بكر عبد الله أبو زيدرئيس مجلس المجمعكلمة معالي الدكتور بكر أبو زيد

- ‌كلمة معاليالدكتور محمد الحبيب ابن الخوجةالأمين العام للمجمع

الفصل: ‌بحثلفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

‌بحث

لفضيلة الشيخ مصطفى كمال التارزي

بسم الله الرحمن الرحيم

نظرات إسلامية

في

توحيد بداية الشهور القمرية

إن مسألة توحيد المواسم الإسلامية هي أمنية قديمة خامرت عقول المسلمين وقلوبهم منذ زمن بعيد، ونادوا بها كلما أحسوا بالحاجة للوحدة والتضامن وجمع الكلمة، لذلك كان من المتحتم على العلماء والعاملين في الميادين الإسلامية أن يبذلوا قصارى جهدهم لإيجاد طرق وحلول من شأنها أن توحد المسلمين في أعيادهم ومواسمهم الدينية على ضوء أحكام الشريعة الإسلامية ونصوصها والعلوم الصحيحة.

لقد سبق عقد عدة مؤتمرات إسلامية تناولت توحيد المواسم والأعياد بالدرس والتحليل وأصدرت في ذلك مقررات، ولكن يبدو أنها ما استطاعت أن تحقق الوحدة المنشودة بين الدول الإسلامية، سواء منها التي تعمل بالحساب أو التي تعتمد الرؤية.

وفي كل سنة يكثر الجدال بين المسلمين في مسألة ثبوت شهر رمضان وثبوت عيدي الفطر والأضحى، وتعلن وسائل الإعلام الإسلامية وغيرها عن موسم واحد في تواريخ متباينة.

وقد حاول كثير ممن يهتمون بالقضايا الإسلامية أن يدرجوا هذا الموضوع في المجامع العلمية والمؤتمرات العالمية علهم يظفرون بحل يزيل مظاهر اختلاف المسلمين في أعيادهم ومواسمهم الدينية.

1-

المؤتمرات الإسلامية ومحاولاتها التوحيد:

حسبما أعلم فإن الجامعة العربية أوصت في 28 ديسمبر 1955/ (1375) بالدعوة لعقد اجتماع بين المختصين من علماء المسلمين لبحث اقتراح توحيد أيام الصيام والأعياد في البلاد الإسلامية بطلب من الدولة الأردنية الهاشمية.

وأنه لمن الصدف الغريبة أن تنعقد دورة "المجمع" هذه في عاصمة الدولة نفسها "عمان" وبعد واحد وثلاثين سنة ليتخذ المجمع قرارًا في الموضوع نفسه، مستجيبًا بذلك لرغبة إسلامية ملحة تقدمت بها " المملكة الأردنية الهاشمية ".

وفي تاريخ 16 مارس 1961/ (1381) أرسلت نفس الجامعة مذكرة أرفقت بها قرارات اللجنة الشرعية الفلكية التي كونها الأزهر الشريف للنظر في أمر توحيد مبدأ الشهور القمرية ومواقيت الصلاة.

ص: 351

كما عقدت بتونس ندوة حضرها ثلة من رجال الاختصاص في الدين والفلك من أقطار العالم الإسلامي وذلك بتاريخ 16 أكتوبر 1963 (1383) بإشراف الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور مفتي الديار التونسية في ذلك الوقت.

وأبرز القرارات الصادرة في هذا الموضوع هي قرارات مؤتمر معهد البحوث الإسلامية بالأزهر المنعقد بجمادى الآخرة سنة (1385) وأكتوبر 1966.

وقرارات المؤتمر الإسلامي العالمي المنعقد بكوالالمبور بدولة ماليزيا في أبريل 1969/ (1389) .

وقرارات وزراء الشئون الدينية الإسلامية والأوقاف المنعقدة بالكويت في محرم (1393) /مارس 1973.

وقرارات مؤتمر اسطنبول المنعقدة في سنة (1398/ 1978) .

وكان آخر هذه القرارات:

قرارات المجلس الفقهي الإسلامي المنعقد بمكة المكرمة في شهر ربيع الآخر سنة (1401) / 1981.

على أن مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر قرر أن الرؤية هي الأساس لكن لا يعتمد عليها إذا تمكنت فيها التهم تمكنًا قويًا ومن أسباب ذلك:

مخالفة الحساب الفلكي الموثوق به، فكانت الفقرة الثانية من التوصيات تنص على اعتماد الحساب الفلكي في إثبات دخول الشهر إذا لم تتحقق الرؤية ولم يتيسر الوصول إلى إتمام الشهر ثلاثين يومًا.

ومؤتمر ماليزيا ورد في توصياته أنه إذا تعذرت الرؤية لسبب من الأسباب وكان الحساب الفلكي يثبت إمكان رؤية الهلال يجوز الاعتماد على الحساب الفلكي بها.

ومؤتمر وزراء الشؤون الدينية والأوقاف المنعقد بالكويت ينص قراره الرابع على وجوب عمل تقويم قمري بمعرفة لجنة معتمدة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الفلك تلتزم به الحكومات الإسلامية في صومها وفطرها وفي تحديد مواسمها الدينية وفي تاريخها، ولكن هذه اللجنة لم تؤسس.

أما مؤتمر اسطنبول فقد احتضن تقريبًا مقررات مؤتمر الكويت، وخطا خطوة إيجابية جديدة وهي بعث لجنة من دول إسلامية عشرة مؤلفة من فقهاء الشريعة الإسلامية وعلماء الدين لضبط التقويم الهجري الموحد سنة فسنة، وقد اجتمعت بالفعل هذه اللجنة وكنت أحد أعضائها في عدد من العواصم الإسلامية (اسطنبول – تونس – الجزائر – أنقرة) وآخر اجتماع لها كان بمكة المكرمة في المحرم سنة (1405) –آخر سنة 1955- وقد أصدرت تقاويم موحدة بداية من مؤتمر اسطنبول سنة فسنة إلى هذه السنة، واحتضنت أعمال اللجنة منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة، وأذاعت كل تقاويمها وقراراتها على جميع الدول الإسلامية.

أما قرار مجلس المجمع الفقهي الإسلامي بالرابطة فإنه يصرح باعتماد الرؤية البصرية خاصة دون الحساب بأي شكل من الأشكال.

ص: 352

وفي اعتقادي أن اعتماد الحساب في دخول الشهور القمرية، إذا كان ناتجًا عن دراسة علمية صحيحة فهو لا يمكن أن يخالف الرؤية الصحيحة بحال من الأحوال لأن العلم الصحيح لا يناقض المبادئ العامة التي قام عليها الإسلام، ونصوصه التي تخص الرؤية بالذكر.

كما أعتقد أن هذا المجمع الفقهي المبارك الذي يضم خيرة من علماء العالم الإسلامي جدير بأن يعمق البحث في هذا الموضوع من جديد وأن ينظر إليه من جميع جوانبه حتى يجد الحلول المناسبة التي تتفق مع المبادئ الإسلامية وتتماشى مع روحه السمحة وتوحد الأمة الإسلامية في أعيادها وبداية شهورها، وهي أُمْنِيةٌ قلنا: إنه نادى بها كثيرون منذ زمن بعيد.

2 -

إنكار المتقدمين العمل بالحساب

وحججهم

فالمتمسكون بظاهر الرؤية في إثبات أوائل الشهور – ويعنون بها الرؤية البصرية - لا يعتمدون الحساب، لأنهم يعتقدون أن الحساب الفلكي ليس وسيلة قطعية، بل هو لم يصل عندهم حتى إلى مرتبة الظن، لأنه حدس وتخمين، وقد نهت الشريعة عن الخوض في "علم النجوم إذ حذر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأخذ بأحكام المنجم فقال فيما رواه أبو داود وابن ماجة:((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر)) .

وفي حديث آخر يقول: ((من أتى كاهنًا أو منجمًا فصدقه فيما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد))

أخرجه أبو داود في كتاب الطب.

ولأجل هذا نجد كثيرًا من المتقدمين في علم الفقه ينصون صراحة على عدم اعتماد حساب المنجمين.

أولًا: لأن التفرقة عندهم لم تكن واضحة بين "التنجيم" الذي هو ليس بعلم وإنما هو تطلع إلى الغيب، وبين "علم الفلك" الذي هو من العلوم الصحيحة التي لا يختلف الناس في قواعدها العامة ولكون عالم الفلك في القديم كان المتطلع إلى معرفة الغيب، ومن هذا الخلط شك الفقهاء في الحساب الفلكي الذي كان في الغالب من المنجمين.

ثانيًا: لأن علم الفلك لم يصل في القرون الإسلامية الأولى إلى درجة من النضج ولم تضح معالمه عند الناس حتى يتمكنوا من الاعتماد عليه في هذه القضايا الدينية.

ص: 353

ففي الفتاوى الهندية يقول: "وهل يرجع إلى قول أهل الخبرة العدول عمن يعرف علم النجوم؟ "الصحيح أنه لا يقبل"، ويقول في كتاب معراج الدراية: "ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه"..

وقال ابن عرفة: "لا أعلم أن مالكًا اعتبر قول المنجم".. وقال القاضي عبد الوهاب في كتابه الأشراف: "ولا عبرة بقول المنجمين في دخول وقت الصوم".

وفي الجزء الثاني من الدر المختار شرح تنوير الأبصار في باب الصوم (ص 93) : قال محمد علاء الدين الحصكفي "لا عبرة بقول الموقتين ولو كانوا عدولًا على المذهب".

وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار في بيان قوله: ولا عبرة بقول الموقتين، أي في وجوب الصوم على الناس، بل في المعراج: لا يعتبر قولهم بالإجماع، ولا يجوز للمنجم أن يعمل بحساب نفسه، وفي النهر: فلا يلزم بقول الموقتين أنه أي الهلال يكون في السماء ليلة كذا، وإن كانوا عدولًا في الصحيح كما في الإيضاح، ثم قال: ووجه ما قلناه أن الشارع لم يعتمد الحساب بل ألغاه بالكلية بقوله: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا)) (الجزء الثاني صفحة 93) .

ولهذا حصر الشيخ شمس الدين بن فرج المقدسي في شرحه الكبير على المقنع ثبوت رمضان بواحد من ثلاثة أشياء فقط، وكلها ترجع إلى الرؤية البصرية (ص 4 من المجلد الثالث من كتاب المغني والشرح) فقال:

"وجملة ذلك أي صوم شهر رمضان يجب بأحد ثلاثة أشياء".

أحدها: رؤية هلال رمضان يجب بها الصوم إجماعًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (متفق عليه) .

الثاني: كمال شعبان ثلاثين يومًا يجب به الصوم، لأنه يتقين به دخول شهر رمضان ولا نعلم فيه اختلافًا، ويستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان ليحتاطوا لصيامهم، وليسلموا من الاختلاف، وقد روى الترمذي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أحصوا هلال شعبان لرمضان)) .

الثالث: أن يحول دون منظر ليلة الثلاثين من شعبان غيم أو قتر، يجب صيامه، في ظاهر المذهب.

ويقول ابن قدامة في كتابه المغني: "من بنى على قول المنجمين والحساب لم يصح صومه وإن كثرت إصابتهم، لأنه ليس بدليل شرعي، إنما الدليل قوله عليه الصلاة والسلام:((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) .

وفي رواية ((لا تصوموا حتى تروه ولا تفطروا حتى تروه)) فأناط وجوب الصوم برؤية الهلال. وقد نقل الباجي في المنتقى، والقرطبي في الأحكام رواية عن ابن نافع عن مالك عن الإمام لا يصوم لرؤية الهلال ولا يفطر لرؤيته وإنما يصوم ويفطر على الحساب أنه لا يقتدى به ولا يتبع (1) .

وجاء في شرح مسلم للنووي نقلًا عن الماروزي: حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم ((فاقدروا له)) على أن المراد إكمال العدة ثلاثين كما فسر في حديث آخر، ولا يجوز أن يكون المراد حساب المنجمين، لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم، لأنه لا يعرفه إلا أفراد، والشهر إنما يعرف بما يعرفه جماهيرهم (2) .

وحجة المتمسكين بإثبات الشهور القمرية بخصوص الرؤية البصرية هي أنهم اعتمدوا جملة نصوص من السنة، واعتبروا الرؤية أمرًا تعبديًا لا يمكن العدول عنها إلى الحساب بحال من الأحوال، لأن الشريعة الإسلامية ربطت اعتماد الأهلة في كل هذه النصوص بالرؤية البصرية وهذا يؤدي إلى حتمية الرؤية وعدم جواز العمل بالحساب، واستشهدوا بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم:((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، وفي رواية:((فاقدروا له ثلاثين)) ، وفي رواية ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) وفي رواية ((إذا غم عليكم فصوموا ثلاثين يومًا)) .. وفي لفظ البخاري: ((الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى تروه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) فلم يذكر صلى الله عليه وسلم علم الحساب ولا أقوال المنجمين والنصوص صريحة في اعتماد الرؤية.

(1) المنتقى ج2- ص 38، والجامع ج 2 – ص 293

(2)

شرح مسلم ج 7 – ص 179

ص: 354

والقدر أو التقدير عندما تتعذر الرؤية البصرية لعارض من العوارض كالضباب وغيره إنما هو إكمال الشهر ثلاثين يومًا.

كما اعتبروا أن قضية الصوم والإفطار قضية دينية بحتة يجب الرجوع فيها إلى النصوص لا إلى مقتضيات العقول لأنها ليست مجالًا للاجتهاد الذي يُفضى إلى استعماله في حالة فقدان النصوص، والمعروف أن حكمها مقرر في السنة النبوية واتفاق المسلمين في الطبقة الأولى منهم، وأغلبهم فيما بعد ذلك وإلى اليوم لم يؤولوها لأن عباراتها صريحة لا تحتمل التأويل، خصوصًا وأنه لا يوجد دليل من النصوص يعارضها.

وعلى هذا الاتجاه سار العلامة ابن حجر في شرحه لحديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) فقال: لا نكتب ولا نحسب، تفسير لكونهم كذلك، وقيل للعرب: أميون، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة.

قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} .

ولا يرد على ذلك أنه كان فيهم من يكتب ويحسب لأن الكتابة كانت فيهم قليلة نادرة، والمراد بالحساب هنا حساب النجوم وتسييرها ولم يكونوا يعرفون من ذلك أيضًا إلا النزر اليسير (كتاب فتح الباري شرح صحيح البخاري – الجزء الرابع ص 127) .

وقال في المكان نفسه: فإن تعليق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية دون الحساب يستمر ولو حدث فيما بعدهم من يعرف الحساب، بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم أصلًا، ويوضحه قوله في الحديث الماضي:((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)) ولم يقل: فسلوا أهل الحساب.

والحكمة في ذلك أن يستوي الناس فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم.

كما ذكر العلامة ابن حجر في نفس المكان تعليق ابن بطال الذي قال في حديث: ((إنا أمة أمية)) رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول رؤية الأهلة وقد نهينا عن التكلف ولا شك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالته الطويلة حول الهلال في استدلاله على عدم جواز الاعتماد على الحساب: "أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل لمطلع الهلال حسابًا مستقيمًا بل لا يمكن أن يكون إلى رؤيته طريق مطرد إلا الرؤية، وقد سلكوا طرقًا كما سلك الألوف منهم لم يضبطوا سيره إلى التعديل الذي يتفق لحساب على أنه غير مطرد وإنما هو تقريبي"(الفتاوى – ج 25- ص 183) .

وقال في فقرة أخرى من نفس الرسالة:

"فالذي جاءت به شريعتنا أكمل الأمور، لأن ضبط وقت الشهر بأمر طبيعي ظاهر عام تدركه الأبصار، فلا يضل أحد عن دينه، ولا تشغله مراعاته عن شيء مخصص له، ولا يدخل بسببه فيما لا يعنيه، ولا يكون طريقًا إلى التلبيس في دين الله، كما يفعل بعض علماء أهل الملل بمللهم (ص 139) .

وقال في نفس الرسالة: "ما ذكرناه من أن الأحكام مثل صيام رمضان متعلقة بالأهلة لا ريب فيه، لكن الطريقة إلى معرفة طلوع الهلال هو الرؤية لا غيرها"(ص 146) .

وقال (في ص 207) : "والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة، مبتدع في الدين، فإنه مخطئ في العقل وعلم الحساب فإن العلماء بالهيئة يعرفون أن الرؤية لا تنضبط بأمر حسابي"

والذي يظهر لي أن كل هذه الحجج والتعاليل التي اعتمدها المانعون للعمل بالحساب ليست مقنعة ولا أنها في المنع.

ص: 355

ذلك أن أمر المسلمين باعتماد رؤية الهلال ليس هو أمرًا تعبديًا كما يحاول أن يقول به بعضهم، بل لأسباب أخرى منها:

أولًا: أن الرؤية هي الوسيلة الممكنة في زمن البعثة لمعرفة بداية الشهور ونهايتها، لأن الكتابة كانت قليلة نادرن وأن الرصد الفلكي لم يصل إلى درجة من الوضوح والدقة حتى يصبح وسيلة لإثبات الحكم، وكثيرًا ما وصفوا حساب المنجمين بأنه حدث وتخمين.

ثانيًا: أن الأمية التي وصف بها الرسول المسلمين هي وصف عارض لهم زمن البعثة، لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة ونادرة، كما قال ابن حجر: وقد جاء الإسلام ليخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام والمعرفة، وبذلك يزول وصف "الأمية" عنهم وقد فعل.

ومعنى هذا أن الحساب إذا وصل إلى درجة من الوضوح والدقة وأصبح علمًا من العلوم الصحيحة، وأصبحت الكتابة المنتشرة في غالب أنحاء العالم الإسلامي، فإنه يمكن الاعتماد على الحساب كالاعتماد على الرؤية.

وإذ جاز أن يكون ضعف علم الحساب والهيئة في الماضي حجة لهم على عدم الاعتداء به، فلا يجوز أن يكون حجة في العهد الحاضر على عدم اعتباره.

أما شيخ الإسلام ابن تيمية فإنه يعتبر الأمية صفة للأمة الإسلامية كالوسطية لا تنفك عنها بحال فقال (في ص 162 من الجزء 25 من الفتاوى) : "فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها: أن قوله: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) هو خبر تضمن نهيًا، فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته، وهي الأمة الوسط أمية، لا تكتب ولا تحسب، ومن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم، بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة"..

ومع تقديري الكامل لعلم شيخ الإسلام ابن تيمية وسمو مداركه فإني أعتقد أن تفسيره للأمية هذا لا يقره عليه عدد كبير من علماء المسلمين وخاصة في العصر الحاضر.

ص: 356

3-

الحساب الفلكي هو غير التنجيم

اعتقد علماء الفلك والهيئة من جانبهم أنهم مخاطبون شرعًا للعمل يلف هذا الميدان لا سيما والقرآن نفسه رغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} .

وقد ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فإذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له)) .

ويتعين أن يكون المراد من ((اقدروا)) انظروا فيه وتدبروه حتى تعرفوا الأوقات، وذاك يختلف باختلاف الناس، ولا يلزم أن يكون كل الناس عارفين بالعلامات التي تدل على الأوقات، بل يكفي أن يعرف ذاك البعض، وسبيل من لم يعرف أن يسأل من يعرف، والله تعالى يقول:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

كما حفزهم على بذل الجهد في هذا الميدان بالحديث المروي عن ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((إنا أمة أمية لا تكتب ولا تحسب الشهر هكذا وهكذا)) ، وانكبوا انكبابًا كليًا لمعرفة كل العلوم للخروج من الأمية إلى نور العلم والمعرفة محبة في الرفعة، والله يقول:{هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} .

وهكذا انطلق علماء الفلك المسلمون على رصد سير الشمس والقمر منزلة منزلة حتى تمكنوا من التقدم في هذه العلوم تقدمًا واسعًا، كما تمكنوا من معرفة الأحوال التي يمكن أن يرى فيها الهلال إذا تعذرت رؤيته بالبصر حتى كانت نتائجهم لا تخالف الرؤية البصرية، بل كانت الرؤية تؤكد حسابهم وإرصادهم، مما جعل علم الهيئة يتبوأ الصدارة من بين العلوم لديهم، وهذا ما تفطن إليه كثير من الفقهاء في مختلف المذاهب الإسلامية، وجعلهم يميلون شيئًا فشيئًا إلى هذه الاكتشافات العلمية الصحيحة، ويعطون للحساب ما يستحقه من اعتبار في التشريع، إذ أصبح وسيلة من وسائل إثبات الصوم لا تقل قيمة عن الرؤية البصرية.

ص: 357

ولا أظن أن أمر الشك الذي كان يحوم حول قدرة "المنجمين" على حسب الأهلية ينصب اليوم على أكاديميات البحث العلمي والتكنولوجي، مثل معهد الأرصاد بحلوان بمصر، ومعهد قانديلي باسطنبول، والمعهد الفلكي ببوزريعة بالجزائر، والمرصد الفلكي بجاغرتا بأندونيسيا وغيرها من المراصد التي تمحضت لدراسة علم الفلك، وأصبحت عنوان التقدم العلمي في العصر الحاضر.

إن هذه المعاهد اليوم تستطيع أن تحدد لحظة ميلاد القمر، وفترة مكثه بعد غروب الشمس في البلاد الإسلامية المختلفة بدقة متناهية، واحتمال الخطأ مع انضباط الحسابات في المراصد الفلكية الحديثة المختلفة أصبح من الأمور المستبعدة.

وأصبحت الدراسات التي تقدم من الفلكيين في هذا الموضوع تصور بوضوح كل الأشكال التي تمر بها عملية ظهور الهلال، وقد تقدم المرصد الفلكي بقاندلي باسطنبول بخرائط جغرافية واضحة تدل بكل دقة على بداية رؤية الهلال لكل شهر من شهور السنة، كما تبين البلدان التي يمكن فيها ظهور الهلال فوق الأرض بالساعة والدقيقة والثانية، ثم كيف تستمر عملية الرؤية طبقًا لحركة القمر حول الأرض.

وقد صرح كثير من الفلكيين بأنه يمكن الاستعانة بالأقمار الاصطناعية لتصبح عملية الرؤية تشاهد على شاشة التليفزيون من طرف كل الناس.

هذا وإن البحث الذي تقدم به علماء الفلك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة إلى مجمعكم هذا، ليعد نموذجًا صادقًا ودراسة علمية عميقة لمحاولة التوفيق بين النصوص الشرعية وعلم الحساب الذي أصبح من العلوم الصحيحة في هذا العصر.

ص: 358

4-

المجيزون لعمل بالحساب

وحجبهم

إن القول بجواز الاعتماد على الحساب ابتدأ من عهد التابعين، أمثال: مطرف بن عبد الله، وابن قتيبة من المحدثين، والقاضي عبد الجبار، وابن مقاتل الرازي من أصحاب محمد بن الحسن، وأبي العباس ابن سريج والقفال، والقاضي أبي الطيب من الشافعية كما نص على ذلك القرطبي في تفسيره (ج 2 ص 293) وقال: "وقد ذهب مطرف بن عبد الله بن الشخير وهو من كبار التابعين، وابن قتيبة من اللغويين، فقالا: يعول على الحساب عند الغيم، بتقدير المنازل واعتبار حسابها، في صوم رمضان حتى إنه لو كان صحوًا لرئي، لقوله عليه السلام:((فإن غم عليكم فاقدروا له)) ، أي استدلوا عليه بمنازله، وقدروا إتمام الشهر بحسابه.

وصرح صاحب الهداية الحنفي في كتابه مختارات النوازل (1) : أن علم النجوم قسمان: أحدهما الحسابي معلنًا أنه حق، وقد نطق به الكتاب قال تعالى {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أي سيرهما بحساب، بل إن كثيرًا من الآيات القرآنية ترغب الناس في علم الهيئة لمعرفة حساب الشهور والسنين من منازل القمر، كقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} .

أما العلامة ابن دقيق العيد فقد قال في شرح عمدة الأحكام: "والذي أقول به أن الحساب لا يجوز أن يعتمد عليه بمفارقة القمر للشمس على ما يراه المنجمون من تقدم الشهر بالحاسب على الشهر بالرؤية بيوم أو بيومين، فإن ذلك إحداث لسبب لم يشرعه الله تعالى، وأما إذا دل الحساب على أن الهلال قد طلع من الأفق على وجه يرى لولا وجود المانع، كالغيم مثلًا فهذا يقتضي الوجوب لوجود الحساب الشرعي، وليس حقيقة الرؤية بمشروطة في اللزوم، لأن الاتفاق على أن المحبوس في المطمورة إذا علم بالحساب بإكمال العدد بالاجتهاد بالأمارات وجب عليه الصوم، وإن لم ير الهلال ولا أخبره من رآه (كتاب أحكام الأحكام الجزء الثاني ص 17) .

أما الإمام ابن السبكي فقد ذهب إلى اعتماد الحساب في إثبات الأهلة ومواقيت الصلاة، بناء على أن الحساب قطعي الثبوت، نظرًا إلى ما وصل إليه علم الحساب والفلك من الدقة، والوثوق في نتائجهما، وقرر الإمام ابن السبكي: أنه لو شهدت بينة برؤية الهلال ليلة الثلاثين من الشهر، وقال الحساب بعدم إمكان الرؤية تلك الليلة عمد بقول أهل الحساب لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية.

(1) الشيخ علي بن بكر المرغيناني

ص: 359

وابن السبكي يرى جواز الاعتماد على الحساب الفلكي، لا وجوبه، وربط الحكم الشرعي به، إذا كان القمر بعيدًا عن مغرب الشمس، بحيث يمكن رؤيته بصريًا لولا الغيم، وهو في هذا تابع لإمام سابق من أئمة الشافعية، وهو ابن سريج.

وقال في تعليقه على حديث ((فإن غم عليكم فاقدروا له)) في كتابه العلم المنثور: "والبحث في الحديث في موضوعين: أحدهما قوله ((فاقدروا له)) قال بعض من يقول باعتماد الحساب: معناه احسبوا له، ويكون معناه: قدروه بالحساب والمنازل كما قال تعالى {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} قاله مطرف بن عبد الله من التابعين وابن قتيبة من المحدثين وابن سريج من الشافعية وابن مقاتل من أصحاب محمد بن الحسن وطائفة من المتأخرين قالوا: ولا يلزمنا مقال المارزي من أن الناس لو كلفوا بالحساب ضاق عليهم إذ لا يعرفه إلا القليل.. لأنه إنما يلزم ذلك لو كلف عامة الناس بالحساب ولم يقل بذلك أحد، بل الذي قلناه: إن الحديث في المعنى الذي اخترناه خطاب لمن خصه الله بهذا العلم، وقوله في الرواية الأخرى ((فأكملوا العدة ثلاثين)) خطاب للعامة.. فلا تنافي بين الروايتين، بل هما في حالتين مختلفتين يعمل بكل منهما في حال".

وقال الغزالي: "علم النجوم إذا أريد به: موت فلان وحياة فلان، وبطلوع نجم كذا يظهر موت فلان أو هلاك أمة أو ذهاب دولة، فليس يقينيًا ولا ظنيًا، فهذا القسم لا يقول به الشرع، فأما علم النجوم الذي يعرف به سير الكواكب والشمس والقمر وكذلك علم الهيئة فلن يكذبه الشرع، بل يهتدي به إلى معرفة السنين والشهور وأوقات الصيام والحج ومواقيت الصلاة، فإنكار هذا قصور وجهل.

ومن هذا ما ذكره الأستاذ العلامة الشيخ محمد رشيد رضا (في الجزء الأول المجلد 28 من المنار، صفحة 63 المؤرخ 29 شعبان 1345 هجرية) ونص المقصود:

"ما زلنا منذ بلغنا سن الرشد إلى أن أدركنا سن الشيخوخة نسمع المسلمين يتألمون من الاضطراب والاختلاف الذي يحدث في إثبات أول شهر رمضان لأجل الصيام الواجب، وإثبات أول شوال لأجل الفطر الوجب في يوم العيد، وكذا هلال ذي الحجة لأجل وقوف عرفة، وقد عرض لنا في هذا اليوم الجمعة 30 قبيل ظهور الشمس أي قبل طلوعها أن سمعنا دوي المدافع تنفجر في قلعة القاهرة إعلانًا لإثبات شهر رمضان، وكان الحاسبون الفلكيون قد نشروا في جميع الجرائد تذكيرًا بما دون في جميع النتائج لهذه السنة الهجرية، من أن أول رمضان فيها ليلة السبت، لأن هلاله يولد في ليلة الجمعة بعد ثلاث ساعات ونصف دقيقة واحدة من غروب الشمس، فرؤيته مستحيلة قطعًا في ليلة الجمعة، وممكنة لكل معتدل البصر في ليلة السبت".

ص: 360

ويقول الشيخ رشيد رضا في مجلة المنار:

"إن الشهر قد ثبت برؤية الهلال حقيقة أو حكمًا، فلا يكون إثبات وجوب الصيام بقول الفلكيين الحاسبين بل بوجود الهلال، وإنما يبينون للناس متى يرى

..إن إثبات أول شهر رمضان، وأول شهر شوال، هو كإثبات أوقات الصلوات الخمس، قد ناطها الشارع كلها بما يسهل لعلم به على البدو والحضر كما تقدم، وغرض الشارع من ذلك العلم بهذه الأوقات لا التعبد برؤية الهلال، ولا بتبيين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، أي انفصال كل من الآخر برؤية ضوء الفجر المسيطر من جهة المشرق، ولا التعبد برؤية ظل الزوال وقت الظهر، وصيرورة ظل الشيء مثله وقت العصر، ولا برؤية غروب الشمس، وغيبة الشقف لوقتي العشائين

".

وينهي العلامة المرحوم رشيد رضا بحثه بقوله: "وجملة القول أننا بين أمرين:

إما أن نعمل بالرؤية في جميع مواقيت العبادة أخذًا بظواهر النصوص، وحسبانها تعبدية، وحينئذ يجب على كل مؤذن أن لا يؤذن حتى يرى نور الفجر الصادق مسيطرًا منتشرًا في الأفق، وحتى يرى الزوال والغروب.. الخ.

وإما أن نعمل بالحساب المقطوع به لأنه أقرب إلى مقصد الشارع، وهو العلم القطعي بالمواقيت وعدم الاختلاف فيها، وحينئذ يمكن وضع تقويم عام تبين فيه الأوقات التي يرى فيها هلال كل شهر في كل قطر، عند عدم المانع من الرؤية، وتوزع في العالم".

وقد بحث الشيخ بخيت المطيع مفتي الديار المصرية سابقا في كتابه إرشاد أهل الملة إلى إثبات الأهلة واستعرض أقوال الفقهاء في المذاهب المختلفة وساق الأدلة والمناقشة من الجانبين، وذكر ما قاله صاحب الهداية الحنفي في مختارات النوازل.

ثم قال: "مما يؤيد القول بالعمل بالحساب الصحيح أن أهل الشرع من الفقهاء وغيرهم يتوجهون في كل حادث إلى أهل الخبرة وذوي البصيرة فيهم، فإنهم يأخذون بقول أهل اللغة في معاني ألفاظ القرآن والحديث، وبقول الطبيب في إفطار شهر رمضان، وغير ذلك كثير

فما الذي يمنع من بناء إكمال شعبان ورمضان وغيرهم من الأشهر على الحساب، والرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة العارفين به إذا أشكل علينا الأمر في ذلك، مع كون مقدماته قطعية وموافقة لما نطقت به آيات القرآن لكريم؟ ألا ترى أن الحاسب إذ قال بناء على حسابه: إن الخسوف أول الكسوف يقع ساعة كذا من يوم كذا، وقع كما قال قطعًا ولا يتخلف، خصوصًا وأن مبنى الحساب على الأمور المحسوسة والمشاهدة بواسطة الأرصاد وغيرها.."

ص: 361

وقال في موضع آخر: "الواجب على القاضي النظر في حال الشهود تحقق عدالتهم وتيقظهم وبراءتهم من الريبة والتهمة، وسلامة حواسهم، وحدة نظرهم، وسلامة الأفق ومحل الهلال مما يشوش الرؤية، ومعرفة منزلة الهلال التي يطلع فيها، وما يقتضيه الحساب من إمكان رؤيته وعدمها، فإن المشهود به شرطه الإمكان، فإذا دل الحساب على عدم إمكان الرؤية وأخبر مخبر برؤيتها، فالخبر يحتمل الصدق والكذب، والكذب يحتمل التعمد الغلط، ولكل منهما أسباب لا تنحصر.

فليس من الرشد قبول الخبر المحتمل لذلك، أو الشهادة به مع عدم الإمكان، لأن الشرع لا يأتي بالمستحيلات، وهذه المسألة لم نجدها مسطورة فتفقهنا فيها ورأينا فيها عدم قبول الشهادة.

ومن العلماء من لا يقتصر على الرؤية البصرية، لإثبات الشهر، مثل العلامة المرحوم الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في بحث له، بعنوان: يسألونك عن الأهلة: نشر في مجلة الهداية التونسية بتاريخ جويلية 1974، ونشر كذلك في مجلة الأصالة الجزائرية قال: "ولمعرفتنا وجود الهلال عقب المحاق في علم الله طرق:

أولها: رؤيته بالبصر، رؤية لا ريبة تتطرقها، وهذا الطريق حسي ضروري ولا خلاف في العمل به.

ثانيها: مرور ثلاثين ليلة من وقت استهلالك الهلال الذي سبقه، وهذا الطريق قطعي تجريبي، وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة.

ثالثها: دلالة الحساب الذي يضبطه المنجمون، أعني العالمين بسير النجوم علمًا لا يتطرق قواعده شك، وحسابًا تحققت سلامته من الغلط، وذلك هو ما يسمى بالتقويم.

ص: 362

فإذا ضبط الحساب وقت وجود الهلال باليوم والساعة، حصل لا محالة العلم بهذا الشهر القمري، إذ جرب التقويم في حساب السنة الشمسية عند الأمم قديمًا وحديثًا، فلم يعثر له على غلط، واتبعه المسلمون في أوقات الصلوات وفي أوقات الإمساك والإفطار في رمضان، وجرب عند العرب في حساب السنة القمرية كذلك.

وإن علم الناس بوجود الهلال لم يكن له طريق في العصور الماضية سوى الرؤية فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له)) .

وليس في لفظ الحديث صفة قصر الصوم على حالة رؤية الهلال وقياس حساب المنجمين على رؤية الهلال قياس جلي

".

وذهب العلامة الشيخ علال الفاسي إلى مثل ما ذهب إليه محمد رشيد رضا ومحمد الطاهر بن عاشور وقال في حديث: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب)) أنه خرج مخرج الكلام المعلل وهو أن العرب بل الذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم مِنْ أُمَمِ العالم، لم يكونوا على درجة من العلم يجعل نتائج حساباتهم قطعية بل كانت مقدمات الحساب الفلكي لإثبات الشهر قبل الإسلام وإلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم غير متيقنة الإنتاج.. أما اليوم فقد تطورت حال معرفة المسلمين للفلك، ومنذ العصر العباسي وعلماؤنا يتعاطون هذا الفن، وانضمت إليه الدراسات المصرية فلم يعد من المكن القول بأن النتائج الحسابية ظنية بل هي قطعية بقدر ما تكون الرياضيات قطيعة، وعليه فما دام الحكم قد خرج معللًا وما دامت العلة قد انتفت أي أننا لم نعد أمة أمية بل أصبحنا نقرأ ونحسب فقد أرشدنا الحديث إلى العمل بالحساب طبقًا للقاعدة الأصولية التي تقول:

"الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا"(وهذا النص نقل عن كتاب للأستاذ علال الفاسي عنوانه: الجواب الصحيح والنصح الخالص في نازلة فاس وما يتعلق بمبدأ الشهور الإسلامية العربية) .

وذهب هذا المذهب عدد كبير من العلماء المعاصرين، نادوا بالعمل بالحساب في إثبات الشهور القمرية.

ص: 363

وهكذا فإن بعض المصلحين يقولون:

لا يمكن توحيد المسلمين في هذه القضية إلا بواسطة تقويم فلكي يتفق عليه علماء الشريعة وعلماء الفلك المسلمون مع إلغاء اعتبار المطالع كما هو مذهب جل الأئمة المجتهدين وإلزام أهل الشرق والغرب، واعتبار "مكان ما" مركزًا لإمكان الرؤية، ولتكن " مكة المكرمة " وهي أم القرى وقلب العالم الإسلامي، وهذا ما صادق عليه مؤتمر الكويت.

أما الذي اعتمده مؤتمر اسطنبول فهو أن أية بقعة من الأرض يرى فيها الهلال يكون بداية لدخول الشهر، وقد التزمت اللجنة الشرعية الفلكية بهذا الإجراء بداية من تكليفها بإعداد التقاويم الموحدة.

إذا اعتبر أن إثبات دخول الشهر القمري بالحساب هي رؤية حسابية للهلال وأنها كالرؤية البصرية.

وبهذا ندرك أن النصوص التي استشهد بها على حصر الرؤية بالبصر لا يمكن أن تكون دليلًا على منع إثبات الشهر بغير الرؤية البصرية لأن هذه النصوص وإن أفردت الرؤية بالذكر فإنها لم تقصر إثبات الشهر على البصر، بل اقتصرت على ذكر وسيلة من وسائل إثبات الرؤية.

وكل من أجاز العمل بالحساب لا ينكر جواز الاعتماد على الرؤية البصرية إذا تحققت شروطها وسلمت من الطعن.

ص: 364

5-

نتائج واقتراحات

يبدو أننا لم نظفر إلى الآن بنتائج إيجابية للتقريب بين الذين يجيزون العمل بالحساب وبين الذين يقصرون ثبوت الشهر على الرؤية البصرية وحدها.

فالفريق الأول يقيد العمل بالحساب بشرط أن يكون الحاسبون جماعة من المسلمين موثوقًا في دينهم وعلمهم وأن يكون حسابهم متماشيًا مع القواعد الشرعية وأن يكون مؤيدًا بحسابات المراصد الفلكية العالمية وعندما تتوفر هذه الشروط يعتبر الحساب وسيلة ثانية من وسائل الإثبات فتكون عند المسلمين وسيلتان لا وسيلة واحدة الرؤية والحساب، لاسيما وأن علم الهيئة أصبح من العلوم الصحيحة أقرته الأمة الإسلامية وقررت تدريسه في جامعاتها وأيقن عموم الناس أنه على أساس هذا العلم وغيره من العلوم الصحيحة تسير الطائرات وتطلق الأقمار الاصطناعية ومراكب الفضاء.

وتمكن الإنسان من الصعود إلى القمر والنزول على سطحه والقرآن الكريم يبين أن حكمة الله اقتضت أن نظام الكواكب والأفلاك إنما يسير بحساب معين لا يختلف.

وإذا تمكنت المؤتمرات والندوات الإسلامية التي انعقدت حتى الآن أن تقيد عمل الحاسبين، وأن تضبط الرؤية المرادة شرعًا، وأن تقيدها بقيود اتفق عليها علماء الشريعة والفلك، وبرزت بصيغة قرارات كانت جميعها متكاملة روعي فيها جانب النص كما روعي فيها جانب المصلحة، وكانت غايتها جمع المسلمين وتوحيد أعيادهم ومواسمهم.

فإن هذه المؤتمرات لم تتمكن من جانب آخر من إقناع القائلين بانفراد الرؤية البصرية دون الحساب في إثبات الشهور لأن الرؤية عندهم أمر تعبدي لا يمكن أن يطرأ عليها أي تغيير، فالأحكام أبدية والأسباب والشروط والموانع هي كذلك أبدية من وضع إلهي، فما أثبت واجبًا يبقى كذلك وما أثبت ممنوعًا يبقى كذلك أيضًا.

وقد ثبت أن الرؤية سبب شرعي للصوم والإفطار لتبق كذلك منظورًا إليها نظر الأصول الثابتة لا أن يتحيل على إلغائها باعتماد الحساب الفلكي مناطًا مستقلًا، وبالتالي الاعتماد على التقاويم في جميع الشهور.

إن الذي يقول بذلك هو حاكم على الرؤية البصرية بالنسخ، وهو في الآن نفسه منتقص للدين الذي يجب أن يعتقد أنه كامل بالرؤية بالعين وغاية ما أنيط به الحكم، وسبب لوجوده، فلا يتحقق دخول الشهر إلا بها، وكل النصوص الواردة تنص على وجوب الصوم بالرؤية البصرية فلا موجب لتأويلها.

ص: 365

وقد غفل القائلون هكذا عن أمر، وهو أن بعض النصوص التي اعتمدوها وردت معللة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، والقاعدة عند الأصوليين والفقهاء أن النص إذا ورد معللًا بعلة فإن للعلة تأثيرها في فهم النص، وأن الحكم يرتبط بها وجودًا وعدمًا، لا فرق في ذلك بين العبادات وغيرها.

كما تغافلوا عن أن الضرورة قد يكون لها دخل في تغير الحكم، فمثلًا: جاءت النصوص بصوم الثلاثين يومًا عند الغيم ضرورة أننا لا نستطيع معرفة أول دخول الشهر إلا عن طريق الرؤية البصرية وقد تعذرت، فإذا أمكننا التعرف على دخول أول رمضان أو أول شوال بواسطة أهل الذكر وهم أهل الحساب الفلكي فلا يجوز لنا أن نعتمد على الضرورة والله تعالى يقول {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} .

وبذلك يتبين أن أصحاب هذا الاتجاه لم يقنعوا بأي دليل أو برهان من الأدلة والبراهين التي قدمها المجيزون لإثبات الشهر بالحساب، واعتباره وسيلة ثانية مع الرؤية على الأقل كما أن كل المعطيات الجديدة التي حفت بموضوع إثبات أوائل الشهور والتطور العلمي المدهش الذي ظهر في العالم، والرغبة الملحة من الأمة الإسلامية في التوحيد لم تغير من مواقفهم شيئًا.

وإذا كان من المفروض عند علماء الحساب ومن يجيزون العمل به أنه لا يمكن أن تختلف نتيجة الحساب عن نتيجة الرؤية الصادقة بحال من الأحوال، فإن اختلاف المسلمين في بداية الشهور القمرية يدل على وجود خلل، إما في الحساب وإما في الرؤية.

وقد بلغ الخلل أقصاه في السنوات الأخيرة، إذ ليس من المعقول لولاه أن تختلف بداية الشهر القمري بين بلد وآخر بمدة وصلت في السنة الماضية (1406) إلى ثلاثة أيام.

وبإعادة النظر في تقييم هاتين الوسيلتين –الرؤية والحساب- بعد كل هذه الجهود التي بذلت، ولاسيما في السنوات الأخيرة، فإننا نجد ضبطًا مدققًا في التقاويم القمرية التي صدرت عن اللجنة الدولية المنبثقة عن مؤتمر اسطنبول، إذ هي التزمت بكل الضوابط التي فرضت عليها، فكان الاتفاق كاملًا بين المراصد الفلكية في كامل العالم الإسلامي، كما كان التطابق تامًا في النتائج المقدمة كل سنة من طرف المراصد، الأمر الذي دفعنا إلى الاطمئنان إلى نتائج الحساب.

أما الرؤية البصرية فإنها لم تضبط في نظرنا الضبط المدقق الذي يضمن لها الصحة، ويحقق لها النتيجة الصحيحة التي لا ينبغي أن تختلف عن الحساب المصحح عادة.

ص: 366

ويرجع هذا في نظري إلى تمسك الفقهاء بأحد قولي الإمام أحمد بن حنبل الذي يجيز في إثبات هلال رمضان قبول شاهد واحد وهو مشهور المذهب الحنبلي المستند إلى حديث ابن عباس الذي قال: ((جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: رأيت الهلال، فقال: أتشهد أن لا إله إلا لله؟ فقال: نعم، فقال: يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غدًا)) .

بينما المشهور في المذهب الحنفي أنه لا يقبل في هلال رمضان عند الصحو إلا الاستفاضة، وقدرت بخمسين رجلًا على الأقل عند أبي يوسف، كالقسامة، وقد علل المغني اشتراط أبي حنيفة الاستفاضة بأنه لا يجوز أن ينظر الجماعة إلى مطلع الهلال، وأبصارهم واحدة، والموانع منتفية، فيراه واحد فقط، وقال ابن عابدين في تعليقه على قول الحصكفي:"جمع عظيم يقع به العلم الشرعي وهو غلبة الظن": "لأنه العلم الموجب للعمل، لا العلم بمعنى اليقين ولذلك فلا يقبل خبر واحد لأن التفرد من بين الجم الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الأبصار وإن تفاوتت في الحدة ظاهرة في غلطه"(بحر – الجزء الثاني- ص 93) .

فإذا امتنع أبو حنيفة من قبول خبر الواحد في عصر التابعين، وعد شهادته بانفراده برؤية الهلال غلطًا، مع علمه بالنص الذي اعتمده من أجاز قبول خبر الواحد فكيف يكون الحال في هذا الزمان الذي اشتهر بكثيرة الكاذبين المدعين لرؤية الهلال، وكتب الفقه مليئة بالحوادث التي صام فيها المسلمون أو أفطروا تبعًا لشهادات كاذبة أو غالطة.

وكم من مرة في هذه السنوات الأخيرة أعلن عن الصيام أو الإفطار بشهادة رؤية الهلال ثم لم ير الناس الهلال في الليلة الثانية وهذا يؤكد بطلان الشهادة، فلماذا نتمسك بآراء معينة أصبحت لا تحقق المصلحة المرجوة منها، مع أننا سمعنا بحوادث كثيرة توقف فيها الفقهاء وأعادوا فيها النظر دفعًا لمفسدة وأصدروا أحكامهم الجديدة معللين ذلك بفساد الزمان؟ والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه أشار إلى ضياع الأمانة وفقدان الخير وتدهور الأخلاق، بقدر ابتعاد الناس عن القرون الأولى، ففي الحديث الذي رواه الصحيحان، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم يشهدون ولا يستشهدون، ويخونون ولا يؤتمنون، وينذرون ولا يوفون، ويظهر فيهم السمن)) .

ص: 367

فأي مانع يمنعنا في هذا الزمان الذي كثر فيه الغش، وفقدت الأمانة، وظهرت شهادة الزور في كل مكان، من أن نشترط شروطًا من شأنها أن تحفظ سلامة الشهادة التي يصوم بها مليار من المسلمين في جميع بقاع الأرض، ويحتفلون بموجبها بأعيادهم ومواسمهم.

إذا اكتفى الرسول صلى الله عليه وسلم في زمن البعثة بتزكية الشاهد بالنطق بالشهادتين على يديه ثم اشترطت العدالة وقال مالك: لا بد من شاهدين عدلين، فإن مثل هذه التزكية لا تكفي في هذا الزمان الذي كثر فيه من ينطق بالشهادتين ثم يخون ويغدر ويسرق.

إن التمسك بمذهب أبي حنيفة وحده في هذه المسألة ربما لا يكفي في هذا الزمان، بل لا مانع من تنظيم كيفية إثبات الرؤية بطريقة تضمن بها صحة هذه الشهادة، ولماذا لا تتعدد هيئات الرؤية في جهات متعددة من العالم الإسلامي، وحتى في القطر الواحد؟

ولماذا لا ننتخب أفراد الهيئات التي يعهد إليها أمر الرؤية ما دام احتمال الكذب، واحتمال خداع النظر، واحتمال قلة المعرفة بأمكنة طلوع الهلال قائمًا.

اعتقادي أننا لا نخرج بهذه القيود الجديدة عن أصول الأحكام التي تمثل الوسائل، والتي تتبدل بتبدل الأزمان والأحوال، والأمثلة في ذلك كثيرة في الفقه الإسلامي.

1-

فقد أمر الخليفة عثمان بن عفان ببيع الإبل الملتقطة بعد أن كان حكمها أن تترك لحالها حتى يلقاها ربها، كما جاء في السنة، وعلل ذلك بأن المجتمع على وشك الفساد، فخاف منه على سرقة هذه الإبل.

ص: 368

2-

وأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز بتدوين السنة مع نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كتابة غير القرآن، وعلل ذلك بأن أسباب منع كتابة الحديث زالت بانتشار المصاحف واستقرار القرآن في الأذهان.

3-

وقد نقل ابن عابدين (ج 4 ص 178) اعتبار العرف مطلقًا وإن خالف النص عند أبي يوسف ورجحه، وعلل ذلك بقوله: لأن لنص ما كان في ذلك الوقت إلا لأن العادة كانت كذلك وقد تبدلت فتبدل الحكم.

ومع ما ذكر فكثير من العلماء ممن يعتمدون الرؤية البصرية يعتبرون أن مخالفة الرؤية البصرية لما تعارف الناس عليه من قواعد علم الهيئة التي لا تتخلف، توجب تكذيب الشهود، وتعتبر من قوادح الشهادة، ومن ذلك:

1-

إذا ثبت علميًا أن الهلال لم يولد فلا يمكن أن يقال إنه شوهد، لأنه لا بد من ميلاد الهلال قبل غروب الشمس، ومكثه بعد الغروب حصة تكفي لمشاهدته، واعتبروا هذا النوع من الشهادة باطلًا لأنه خداع بصر أو سراب كاذب.

2-

إذا راقب الناس الهلال في آخر الشهر من جهة الشروق بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، فرأوه رؤية محققة، ثم شهد شهود برؤيتهم الهلال مساء ذلك اليوم، فيكذبون، لأن رؤيته صباحًا دليل على أنه ما زال لم يقترن مع الشمس، وما زال لم يدخل تحت شعاعها، إذ من المعلوم أن القمر لا بد أن يختفي في آخر الشهر تحت شعاع الشمس يومين على الأقل.

3-

إذا راقب الناس الهلال في كل مكان فلم يروه مع الصحو التام، ثم ادعى رؤيته واحد أو أفراد قلائل من الناس، فيكذبون أيضا، لأنه لو كان موجودًا لرآه جمهور الناس.

4-

إذا ادعى رؤية الهلال وانخسفت الشمس بعد ذلك بيوم أو يومين، فإن هذا دليل على كذب الرؤية، لأن الشمس لا يخسف بها في سنة الله إلا في اليوم الثامن والعشرين والتاسع والعشرين، كما دقق علماء الفلك، وحققه شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في الصوم (في الجزء 35 ص 184، 185، من الفتاوى) .

ص: 369

وهكذا تكذب كل شهادة في رؤية الهلال إذا كانت في وقت تستحيل رؤيته فيه، والغريب أنه لم يقع اعتبار كل هذه الضوابط التي يقرها العقل السليم، ولم تعتبر من القوادح في الشهادة، بل اكتفى بشهادة الشهود، وقبلت ولو من واحد عند الإعلان عن الشهر القمري في بلدان من العالم الإسلامي في هذه السنوات الأخيرة، وفي نظري أن هذه الأجزاء من الأسباب التي زادت في تباين المسلمين في بداية الشهور والأعياد.

فالرؤية البصرية في نظري لا يمكن أن تكون أكثر من وسيلة من وسائل العلم، والله عندما قال:{فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} (فإنما أراد العلم بوجوده: فكل من علم منكم بوجود الشهر وجب عليه صومه، فوجود الشهر شرعًا يكون بوجود هلاله بعد غروب الشمس بأي طريق من طرق العلم، وإنما نص الشارع على الرؤية باعتبارها إحدى وسائل العلم بوجود الهلال، وهي المتعارفة عند نزول الآية.

ولعل ما قدمه علماء الدين والفلك في هذا المجمع المبارك يمكن أن يمثل البداية للخروج من الخلاف وقد أصبحت مسألة توحيد بداية الشهور القمرية بعد كل هذه الجهود واضحة تتطلب أخذ قرار حازم من مجمعكم يأخذ كله هذه الملاحظات بعين الاعتبار لكي يبعد الأمة الإسلامية عن البلبلة التي وقعت فيها منذ سنوات، ويوضح لها معالم الطريق حتى تسير في السبيل السنوي، والله الهادي إلى سواء السبيل.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

مصطفى كمال التارزي

ص: 370