الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة
في نظر الشريعة الإسلامية
لفضيلة الشيخ محمد عبده عمر
بسم الله الرحمن الرحيم
أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية
المقدمة
قال تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} [الكهف: 19] .
1-
لقد عبرت آيات كثيرة في القرآن الكريم عن البشرية جمعاء بأنها أمة واحدة في نشأتها الأولى وفي حقيقتها الذاتية، انبثقت إلى الوجود من أصل واحد، وأنها في حقيقة مصيرها تنتهي إلى نهاية واحدة وهي لقاء الله جل جلاله الذي خلقها من العدم المحض بفيض فضل رحمته. وإن اختلفت موازين الجزاء خيرًا أو شرًا، ومهما تنوعت أشكالها أو تعددت أجناسها أو اختلفت ألسنتها أو توزعت شعوبها وتباعدت أقطارها؛ فإنهم جميعًا ينتهون إلى نهاية واحدة. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .
وقال تعالى {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] .
وقد صرح نبي الإسلام بهذه الوحدة الإنسانية الشاملة في سنته البيانية لما أنزل عليه بقوله: ((كلكم لآدم وآدم خلق من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى)) . وقد ألقى كافة المقاسات والموازين البشرية التي قد يستغلها بعضها ضد بعضها الآخر فردًا كان أو جماعة، شعبًا أو سلطة، من فقر أو غنى، أوجاه أو سلطان، أو حسب أو نسب، أو بياض البشرة أو سوادها، أو عربية اللسان أو عجمتها، الكل سواء في ميزان الحق الإلهي الذي خلق الكل من تراب مجسدًا في أصلها آدم، الذي خلقه الله بيده، واصطفاه نبيًا إلى ذريته، وخاطبه بكلامه، وأسجد له ملائكته، وجعله خليفته في أرضه، وأتمنه بالأمانة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال، وجعل خلق السموات والأرض واختلاف الألسن والألوان وتعاقب الليالي والأيام، آيات بالغات للتفكر والاعتبار. وأوضح القرآن الكريم بأن اختلاف الألوان والأجناس والألسن من آيات عظمة الحكمة الإلهية وبديع صنعها، ولا يصح أن تكون معارضًا لأصل الوحدة الإنسانية، كما لا يصح بأي حال من الأحوال أن تكون سببًا للنزاع أو الخصام، أو للتعالي بالحسب والنسب، أو التباهي بالجاه والمال وعزة السلطان، أو للقهر والتسلط والاستغلال، بل يجب أن نكون سببًا لإرساء دعائم التعارف والتواد وغاية لترسيخ موازين العدل والمساواة قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] .
هذا صريح القرآن بأن حكمة الاختلاف للتعارف لا للتناكر ولا للاستغلال والتظالم. والتعارف المقصود من الآية الكريمة وغيرها من الآيات القرآنية ونصوص السنة النبوية البيانية، ليس فقط المعرفة المجردة التي لا تحقق الحكمة الإلهية من التعارف، بل المقصود بالتعارف الذي يحقق الحكمة الإلهية هي المعرفة المثمرة التي تتعاون وتتلاقى فيها كل القوى الإنسانية الخيرية لخير الإنسان، ويتحقق خير الأرض لابن الأرض، وبذلك تتبادل المنافع، وينتفع ابن الأرض بخير الأرض كلها. وذلك هو التعارف الذي أشارت إليه النصوص القرآنية والنبوية، ويدخل في هذه النصوص أسس العلاقات الدولية التي مازالت تحكمها قوانين التمييز العنصري، وطغيان جبروت القوة الظالمة وتحكم الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة، والتي تتعارض صراحة مع مبادئ العلاقات الاجتماعية الدولية في نصوص الإسلام الصريحة وسنة بيانه الواضحة.
لقد وضع نبي الإسلام الإطار الإلهي الصحيح لحرية الإنسان وحقوقه في إطار الأسرة الإنسانية الشاملة وليس بمعزل عنها، فقال عليه الصلاة والسلام:((أحب لأخيك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك)) وتخرج مبادئ الحرية الإنسانية وكرامة الإنسان من فؤاده وفمه تشع نورًا من سناها الغامر، فيقول لبعض من وقف أمام عظمة شخصه النبوية، التي تهبط عليها ملائكة السماء صباحًا ومساء، خاشعًا واجفًا لجلال المهابة:((هون على نفسك إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة)) .
هكذا كان محمد صلوات الله وسلامه يقدر الحرية الحقيقية في غيره، كما يقدرها في نفسه، فالحرية الحقيقية في تعاليم الإسلام وفي منهج محمد صلوات الله وسلامه عليه؛ هي أن تقدر الحرية في غيرك كما تقدرها في نفسك، وأول مظاهرها سيادة الإنسان على نفسه، والتي تقتضي كبح النفس عن أهوائها وشهواتها؛ لأن الحرية معنى اجتماعي ليست بمعزل عن بني البشر تظهر علاقة الإنسان بغيره، ومراعاة حقوق غيره كما يراعي حقوق نفسه. ومن هنا شددت نصوص الإسلام من الكتاب والسنة على محاربة الهوى والأنانية والأثرة، والحرية الحقيقية في نظر الإسلام لا تجتمع مع الأنانية والأثرة والهوىن وأوضحت بأن الحرية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا بين متماثلين في الحقوق والواجبات ولا يمكن أن تكون بين أدنى وأعلى، ولا بين سيد وعبد، ولا بين مسيطر ومقهور. وأن التعارف الذي دعا إليه الإسلام بين أبناء الأسرة الإنسانية جمعًا لا يمكن أن يتحقق إلا يتحقق الحرية التي دعا إليها الإسلام، والتي بها يحل التعارف والتعاون بدل التناكر، والانسجام والتآلف بدل النزاع والتناحر، والعدل والمساواة بدل الاستغلال والتظالم. وبالتالي عدم قيام الحروب والمنازعات على ما رزق الله الناس وإخراج لهم من معادن الأرض.
لقد أثبت الإسلام الوحدة الإنسانية في عالم القرن العشرين، والبشرية كلها في أشد الحاجة إلحاحًا إلى هذه الوحدة التي نادى بها الإسلام منذ أربعة عشر قرنًا خلت ونيفا، وكأنه يعبر عن مشاعر الإنسانية وأحاسيسها التي دمرتها الحروب وطحنتها مبادئ الأثرة والإنانية والتظالم، ومزقتها العنصرية وتمايز الأجناس والألوان والألسن، بالإضافة إلى سلاح إبادة البشرية الذي يهدد حياتها في كل لحظة. وهكذا يثبت الإسلام معجزته الخالدة وخلودها الأبدي:{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] .
إنها الوحدة الإنسانية الشاملة التي تنطلق من وحدة الأصل، ووحدة التكوين، ووحدة الغرائز، ووحدة الاستعداد للخير والشر، فالغرائز كلها واحدة، فغرائز الإنسان في أقصى الشرق هي غرائزه في أقصى الغرب. وكل نفس من نفوس بني آدم فيها نزوع إلى الخير وإلى الشر، كما قال تعالى:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] أي نجد الخير والشر، قال تعالى:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] .
ومن هنا كان التعارف في الإسلام غاية مقدسة في ذاته لتحقيق الحكمة الآلهية في اختلاف الأمم والشعوب في الألوان والألسن وتوزيعهم في الأرض. وكان هذا التعارف كافيًا لحل كل نزاع، أو محو كل أثرة من استغلال أو ظلم في جماعاتهم وأفرادهم في ظل هداية الإسلام وتشريعه العادل وتنظيمه الشامل للعلاقات الفردية والاجتماعية والدولة؛ ذلك أن مبادئ الإسلام العامة وقواعده الكلية تنطبق على الدول والشعوب، كما تنطبق على الأفراد والجماعات سواء بسواء، فلا فرق ولا استثناء ولا تمايز في قانون العدل والميزان الإلهي، فما يطالب به الفرد يطالب به المجتمع، وإن اختلفت وسائل تحقيق المطلوب فالغاية واحدة، وهي جعل الإنسانية أمة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات، لا فضل لفرد على آخر إلا بالتقوى، والتي لا تتحقق إلا بتقوى الله في حقوق النفس الواحدة، والتي لا ينالها أي فرد إلا بالقدر الذي يضحي فيه في سبيل إسعاد الآخرين.
ويترجم مضامين الإسلام في سبيل إسعاد أمته ومجتمعه. فميزان التفاضل في الإسلام لا يقبل في كفته العادلة لونًا ولا جنسًا، ولا لغة ولا سلطانًا، ولا ثروة مالية، ولا سلالة حسبية أو نسبية، ولا جبروت قوة عاتية، وإنما يقبل في ميزانية كرامة التقوى المكتسبة من صلاح العمل وزكي النفس وصفاء لفائف إشراق حناياها الذي يفيض بكل الخير على كل موجود في عالم الوجود، كرامة التقوى المكتسبة من إيثار النفس غيرها عليها من الأفراد والجماعات وحبها الخير والهداية إليه لكل نفس خلقت أو تخلق من أفراد النفس الواحدة التي هي في حقيقتها الذاتية جزء من فصيلتها.
هذه هي ترجمة الإسلام العملية لميزان التفاضل، فليس هناك فضل لبعض الأفراد أو الجماعات أو الدول والشعوب على بعض الآخر في ميزان التقوى، وفي ترجمة مفاهيم الإسلام غير العمل الصالح التي تكسبه تلك النفس الفاضلة، وليس هناك نموذجًا يقتدى به في ميزان تفاضل التقوى وترجمة الإسلام الصحيحة غير النموذج الأوحد في عالم الكمالات الإنسانية وسمو معارج التقوى الإلهية محمد صلوات الله وسلامه عليه، الذي دخلت أعواد الحصير وتركت انطباعاتها الضاغطة في جسده، وكنوز الذهب والفضة يوزعها أكوامًا بين الناس ويحثيها حثى الحصاة بين يديه، ويصعد المنبر وراياته تملأ الأفق عزيزة ظافرة، فيقول:((أيها الناس من كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت أخذت منه مالاً فهذا مالي فليأخذ منه)) . ويسأله عمه العباس أن يوليه عملاً من الأعمال التي كان يعين عليها بعض المسلمين فيصرفه برفق ويقول له: ((والله يا عم إنا لا نولي هذا الأمر أحدًا طلبه أو يحرص عليه)) ، ويضع لنفسه ولأهل بيته مبدأ من مبادئ التفضيل في الإسلام لا يحيدون عنه، هو أن يكونوا أول من يجوع إذا جاع الناس وآخر من يشبع إذا شبع الناس. ودانت الدنيا ووقف أكثر ملوك الأرض أمام رسالته واجفين، فما استطاعت ذرة من لهو أو كبر أن تمر بخاطره. وألقى كل أعداء رسالته السلاح ومدوا إليه أعناقهم ليحكم فيها بما يشاء ومعه عشرة آلاف سيف تتوهج بأيدي المسلمين يوم فتح مكة.
فلم يزد على أن قال: ((اذهبوا فأنتم الطلقاء)) . ووقف وحيدًا يدعو إلى توحيد الله وإلى تحرير العبيد والمستضعفين. وجعل الدين المعاملة والنصيحة. وأعلن تحريم الربا والمفاضلة التي تؤدي إلى الظلم والاستغلال. وجاء برسالته الإنسانية العالمية الخالدة التي تتصدع من عظمتها القدسية الجبال الراسية قال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] .
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بمبادئها وتوجيهاتها وأحكامها تحمل الصبغة الإنسانية العالمية؛ هداية للناس ورحمة وداعية إلى صراط الحق المستقيم. ولم تكن تشريعًا لجنس دون جنس ولا لاقليم معين من الأرض، بل جاءت تشريعًا عامًا للإنسان من حيث هو إنسان أبيض أسود، عربي أو عجمي، في الشرق أو في الغرب، فلا عنصرية ولا عصبية في شريعة من خلق الإنسانية جمعاء من نفس واحدة. ولو كان واضعها فردا أو فئة من الناس لتعصبت بوعي أو بلا وعي لجنسها أو وطنها أو طبقتها أو مصالحها، ولكن الشارع هو رب الناس ملك الناس آله الناس وهم جميعًا عباده فليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، ولا فضل لفرد منهم على آخر، ولا لقوة على أخرى بحكم الخلق والنشأة الأولى، والمصير إلى حساب الخالق جل جلاله.
ولقد ثبت في ماضي الإنسانية وحاضرها بأنها لم تثبت أقدامها على مبادئ العدل الإلهي المطلق بين أبناء النفس الواحدة، بل سادها الظلم والاستعباد والقهر وحب الامتلاك والغلبة، وحل التناكر محل التعارف والاستعباد محل الحرية، والظلم والتعسف والاستغلال محل العدل والمساواة، والأثرة والأنانية محل الإيثار والجشع، والظلم والعدوان محل البر والتقوى، وتخلى المسلمون عن مضامين الإسلام وتحلوا بأضدادها واحتفظوا بأسمائهم وانتسابهم إليه وأوهموا من لا يفهم الإسلام بأن ما هم عليه هو الإسلام، فكانت الكارثة الكبرى، وكان الخروج من دين الله أفواجًا، وساد العلاقات الدولية الظلم والاستبعاد إذ اشتغلت هي بتنظيم العلاقات. فلا بد إذن من هداية السماء لتنظيم التعارف الحقيقي والعلاقات العادلة بين البشر، وتهدي للتي هي أقوم، وخاتمة رسالات السماء، وآخر لبنة في صرح الرسالات الإلهية بأصولها الخالدة التي تنظم قواعد العلاقات الإنسانية بين الآحاد والجماعات والدول، بأصولها العامة النظرية التي تستطيع - والإعجاز يتوجها - علاج الوقائع والمشكلات المتطورة طوال مراحل عصور البشرية، وعلى اختلاف بيئاتها الاجتماعية والحضارية وخصائصها الذاتية، وتقيم العدل المطلق بين الناس جميعًا، وتحقق الإلخاء بينهم وتصون وتحمي دماءهم وأعراضهم وأموالهم وعقولهم. ومن هنا يتعاظم الواجب على علماء الإسلام، الذين يجب أن يكون لهم حظ وافر وإدراك واسع وفكر حر في علوم الشريعة الإسلامية. وخاصة ما تشير إليه نصوص آيات وأحاديث العلاقات الإنسانية والدولية، حتى تتحقق حكمة الوجود ويسود العدل، ويظهر إعجاز الشريعة الخالدة بيقين، ويدخل الناس في دين الله أفواجًا.
لمحة تاريخية
1-
لقد كانت العملة النقدية في التاريخ قوامها النقود الذهبية والفضية، وكان الأغنياء يحرصون على صيانة ذهبهم وفضتهم من السرقة والضياع، فكانوا يعهدون بحفظه إلى محترفي صياغة الذهب والفضة ليودعوه في خزائنهم ويسترد المودعون منه بقدر ما يحتاجون إليه في معاملاتهم، وكانوا يدفعون إلى الصيرفي أجرًا على حفظ هذه الودائع، وإذا أراد أحدهم الانتقال من بلد إلى آخر أو إلى دولة غير دولته كان لا ينوء بحمل الذهب والفضة وتعريضها للضياع أو السرقة، بل كان يأخذ من الصيرفي أمرًا إلى زميل له في البلد الآخر بتسليمه المبلغ المطلوب. وكانت الفئة الغالبة من محترفي صياغة الذهب والفضة وصيارفة الذهب وتجار النقود من اليهود الذين جبلت نفوسهم على حب المادة إلى الحد الذي قصه الله عنهم في كتابه
من انحدار بشريتهم إلى عبادة العجل الذي صنعوه بأيديهم من الذهب، وعبدوه من دون الله، كما جبلت نفوسهم على الزنا وأكل أموال الناس بالباطل والسحت إلى الحد الذي قالوا فيه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ} [آل عمران: 76] .
فكانوا يعطون كل من أودع عندهم ذهبًا أو فضة سندات لها قيمة وديعته من الذهب أو الفضة، ثم أخذ المودعون يتعاملون فيما بينهم بهذه السندات؛ لأن تداولها أخف من تداول الذهب والفضة، فإذا كنت قد أودعت مائة دينار ذهبًا عند الصيرفي وأردت أن أدفع لدائني هذا المبلغ فإنني أسلمه السند الممثل لهذه القيمة ليسترد هو المبلغ من الصيرفي، وهو بدوره قد يعطيه لدائنه سداد الدين عليه وهلم جرا. كل هذه العمليات أراحت المودعين في معاملاتهم من نقل الذهب أو الفضة من يد إلى أخرى.
ثم وجدت هذه الفئة من الصيارفة والتي أغلبها من إليهود، بأن هذه السندات الممثلة لقيمة ذهبية أو فضية، قلما يأتي حامل السند ليطلب قيمته النقدية، وبالتالي يبقى الذهب أو الفضة المودع في خزائنهم جاثمًا فيها مددًا طويلة، واتضح بالتجربة والممارسة بأن حامل السند لا يأتي ليستلم قيمته النقدية التي تسحب، إلا إذا كان محتاجًا إليه بصفة استثنائية، ومع ذلك فإن قيمة السندات النقدية التي تسحب لا يتجاوز عشر الذهب والفضة المودعين في خزائنهم، ومن هنا واتتهم الفكرة لماذا لا يستغلون هذه الكميات الهائلة من الذهب والفضة بالإقراض وبالفائدة التي يحددونها، بناء على ما يلمسون من حاجة المجتمع إليهم بغير حدود أو قيود تقدر الفائدة الربوية التي يفرضونها وبعد أخذ الضمانات الوثيقة منهم كفالة لسداد القروض عند حلول الأجل، وعند سداد هذه القروض وفائدتها المرتفعة يستغلونها مرة أخرى في الإقراض الربوي، وهكذا دواليك.
وعلى هذا النحو تضخمت ثرواتهم التي لم تكن في أصلها إلا مال المودعين. وكلما تضخمت ثرواتهم الخاصة من هذه المصادر استخدموها بالمثل في الإقراض بالربا بالإضافة إلى أموال الودائع، وكانت هذه الفئة طوال تاريخها موضع إزدراء الكافة، وكان تواجدها في الأحياء اليهودية المنعزلة عن المجتمع. ثم تطورت الصناعات بتطور المجتمع البشري واحتاج الناس إلى توسيع صناعاتهم وإنشاء صناعات جديدة، واتسع نطاق التبادل التجاري بين الدول والشعوب. وتطور بالمقابل نشاط هؤلاء الصيارفة وتجار النقود، فبعد أن كان النشاط المصرفي يقتصر على القروض الاستهلاكية تطور إلى القروض الإنتاجية، وبعد أن كان الربا محاربًا من الديانات السماوية أحلته الشرائع الوضعية. وتطور مركز الصيرفي فأصبح صاحب بنك له احترامه عند الكافة، ونشأت البنوك الحديثة في صورة شركات مساهمة رأس مالها يقدمه المؤسسون والمساهمون، ولكنه يكون رأس مال ضئيل، فليكن مثلاً عشرة ملايين.
إلا أن الودائع تنهال على البنك فيصبح رأس ماله مئات الملايين، وبالتالي تصبح مكانة كل بنك في العالم مقياسها هذه الودائع، وصارت البنوك تقدم لأصحاب هذه الودائع فوائد ضئيلة لإغرائهم بالإيداع، مصورين لهم أن الربح الضئيل الثابت خير لهم من المجازفة بتوظيف أموالهم في مشروعات قد تفشل وتهلك فيها أموالهم ويبؤون بالخسران، ثم يقرضون هذه الودائع بفوائد مرتفعة ويستغلون الفرق بين الفائدتين. هذا كان المصدر الأكبر للقوة المالية التي أحرزتها البنوك الحديثة، هذه القوة المالية التي انتزعت السيطرة الكاملة على اقتصاديات عالمنا المعاصر.
هذا الأخطبوط الذي يتألف أغلبه من إليهود، أنشب مخالبه في لحوم البشر ودمائهم ومصائرهم، وأشعل العديد من الحروب المدمرة، وأخذ بيد الاستعمار في انتهابه لخيرات الأرض، وأخذ يوجه تمويله إلى مشاريع تهدف أكثر ما تهدف إلى هدم أخلاق الشعوب ونشر الفساد في كل مجتمع، مادامت أرباحها أكبر من مشروعات تلبي للناس مطالبهم من ضروريات الحياة. ولم يقف هذا الأخطبوط عند هذه المآسي، بل امتدت سيطرته إلى تشويه أسلوب التفكير لدى الشعوب وحجب الحقائق عنها، بما أتيح له من سيطرة على أجهزة النشر ووسائل الإعلام.
ومن هنا كانت هذه الفئة محاربة لله ورسوله في شريعة الإسلام لامتصاصها الشريان الحيوي لدماء المجتمع ونشر الفساد والرذيلة فيه، ولم تأتي آية في كتاب الله تعلن الحرب على أي فرد أو فئة من فئات المجتمع البشري - مهما كانت ذنوبها ومعاصيها، ومهما كان عنادها لله ورسول - غير فئة المرائيين، وجرثومة المجتمع القاتلة قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 278 -280] .
لقد نشط إليهود في هذا المجال نشاطًا يعجز عنه الوصف، وتضخمت ثرواتهم في العالم من هذا المصدر الخبيث الذي استغلوا فيه التحكم في العملة النقدية من الذهب والفضة، وعملوا على اكتنازهما للتحكم العالمي في العملات الورقية التي تصدرها دول العالم.
ومن هنا نفهم المدلول الفقهي العام الأوسع لقول الحق تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34-35] .
هكذا يخاطب الله جل جلاله الماليين المتحكمين بمصير الأمم والشعوب ويقودونها إلى الهاوية. وهكذا يظهر الإعجاز القرآني في عالم القرن العشرين بتهديده لفئة قليلة تكدست في يدها الثروات الذهبية بأساليب فاجرة وتستغلها في سيطرة اقتصادية لا ضابط لها من دين ولا وازع من خلق، سيطرة فئة قليلة تصول وتجول في ابتلاع سبائك الذهب وخزنه؛ ليجعلوا منه ميزانًا لحماية استغلالهم والتحكم في العملات الورقية للدول والشعوب التي لا تمتلك تلك الخزائن المكنوزة من الذهب والفضة والتي هي في حقيقتها ليست أموالهم، ولكنها أموال المودعين والفوائد الربوية التي يفرضونها عليها ويديرونها ويتصرفون بها كما لو كانوا هم ملاكها بالفعل.
إنها لقوة هائلة تلك القوة التي يصل بها هؤلاء في سيطرتهم المطلقة على المال وعلى القروض التي يوزعونها بمحض مشيئتهم المطلقة، فكأنهم بذلك يوزعون الدم اللازم لحيوية الجهاز الاقتصادي بكل أوضاعه، فإذا شاءوا حرموه دم الحياة فلا يستطيع أن يتنفس، وإذا شاءوا قدروا مدى انسيابه في جسم هذا الجهاز التقدير الذي يتفق مع مصالحهم الذاتية.
وبالتالي فإن تجمع هذه الثروات المالية الهائلة في أيديهم يؤدي في الأخير إلى الاستيلاء على السلطة السياسية في النهاية، ويتحقق لهم ذلك على خطوات ثلاث متدرجة متساندة: الأولى: الكفاح في سبيل إحراز السيادة الاقتصادية، ثم الكفاح في جمع مقاليد السيادة السياسية في أيديهم، ومتى تحققت لهم بادروا إلى استغلال طاقاتها وسلطانها في تدعيم سيادتهم الاقتصادية، وفي النهاية ينقلون المعركة إلى المجال الدولي العالمي. وبالتالي فإن ولي الأمر الذي كان المفروض فيه أن يمثل مصالح المجتمع، وأن يحكم من مكانه الرفيع في نزاهة وحياد وعدل وإيثار لصالح المجتمع، قد سقط إلى درك الرقيق لهذه القوى الرأسمالية وأصبح أداة طيعة لتنفيذ أهوائها وشهواتها. وأن الواجب المقدس على المسلمين إعادة سلطان الدولة الذي انتزعته القوى المرابية والرأسمالية. وعندما يعود ولي الأمر إلى كامل اختصاصه الذي ناطه به الإسلام، عندئذ تتحول ثروة نقود الذهب الهائلة من مارد شرير إلى خادم طيب يبني المجتمع ويصون الحرمان ويسعد الإنسان، كما كان في عهد سلفنا الصالح وطليعة الإسلام الأولى.
وقبل الدخول في لب الموضوع. فإنه يجدر بنا – في هذا الموضوع الهام الذي يمثل جانبًا هامًا من الدراسات الفقهية العملية التي تعني بمعالجة أحكام الوقائع والنوازل والحوادث المستجدة في ضوء مقررات الفقه وقواعده، وما اشتملت عليه أصوله النظرية من السعة والمرونة والخصوبة – أن نتعرض بالإشارة إلى بعض أبعاد الموضوع المطروح للبحث والدراسة، وبالتالي بناء الحكم الشرعي عليه من قبل مجمعنا الموقر وسادته العلماء الأفاضل لربما تلك الأبعاد أو بعضها قد تخفى على البعض. والقاعدة المشهورة عند فقهائنا تقول: الحكم على الشيء فرع عن تصوره. وفي كثير من المسائل الفقهية أومن أحكام القضايا المستجدة يظهر الخلاف في استنباط الحكم الشرعي بين الفقهاء، ويكون مرجع خلافهم في الغالب إلى عدم الوضوح عند بعضهم، وليس إلى حقيقة الحكم الشرعي. ومن هنا كان التصور الصحيح والإلمام الشامل لكل جوانب القضية المطروحة هو الأصل في النظر الصحيح إلى النص الشرعي من الكتاب أو السنة وإلى علة الحكم التي تكون صريحة أو إيماء، وإلى النظر إلى مسالك العلة ومناط الحكم كما هو معروف لدى السادة العلماء في مظانه، ثم يأتي الحكم الشرعي بعد ذلك كفرع لذلك التصور.
1-
أن أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة في نظر الشريعة الإسلامية، وهو نص الموضوع المطروح للدراسة والبحث والإفتاء أمام مجمعنا الموقر، ليس هو غاية في ذاته؛ لأن النقود وتغير العملة ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي أداة لتأدية وظائف معينة، وهذه الوظائف هي الأخرى تختلف من حيث المصدر وأولوية الهدف ونطاق التطبيق، فهناك الوظائف التقليدية ذات الطابع النقدي البحت والمرتبطة أصلاً بالنشاط التاريخي للنقود، وهناك الوظائف الأكثر عمومية والمرتبطة بالنشاط الاقتصادي وتطور الاقتصاد المعاصرة.
إن النقود كمقياس للقيمة، وهنا تثار مشكلة تقييم الكميات الاقتصادية بصفة عامة، والسلع والخدمات بصفة خاصة، فهل ينظر إلى النقود كمقياس طبيعي مجرد؟ أو عن طريق محاولة تقييم السلع والخدمات بأوزنانها المادية؟ كأن تستخدم ساعات العمل لقياس الخدمات، والمتر أو الطن لتقدير كميات المواد الأولية، وهو في الغالب قياس مطلق لأنه عند تقويمه للسلعة ينظر إلى خصائصها المادية دون مراعاة لعلاقاتها التبادلية مع السلع الأخرى. ومن الصعب وجود وحدات قياس طبيعية مشتركة لجميع السلع نظرًا لاختلاف الأخيرة في أوصافها الطبيعية قياس سلعي تبادلي، أي محاولة قياس قيمة كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى وبطريقة مباشرة، كأن يقال للعامل أو الموظف: إن عشر ساعات عمل تساوي قيمة رطلين لحم من لحم الضأن البلدي أو قميص قطن، وهذه الطريقة من الناحية العملية صعبة جدًا وخاصة في العصر الحديث؛ نظرًا لتعدد السلع واختلاف قيمتها تبعًا لظروف الزمان والمكان.
أما عند النظر إلى النقود كمقياس حقيقي للقيمة مجردًا عن تقييم السلع أو الخدمات أي استخدام النقود كمقياس للقيمة النقدية ووحدة المحاسبة، فإن عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على السلعة أو التي تستبدل بها السلعة تعتبر ثمنًا أو قيمة لهذه السلعة، وحيث إن النقود تعتبر وحدات قياس مشتركة لقياس قيم جميع السلع، نستطيع إذن بالمقارنة بين القيم النسبية المختلفة للسلع عن طريق تقدير عدد الوحدات النقدية اللازمة للحصول على كل سلعة.
ومن هنا فإن النقود تسمح بترجمة التغيرات في قيمة السلع، كما أنها تخضع لتقلبات ذاتية، أي تصبح لها قوة شرائية مرتفعة أو منخفضة، تبعًا لتغير الظروف الاقتصادية بالسلع. ويتمثل أيضًا في أن القياس النقدي يجنبنا المشاكل التي تعترض التحليل الاقتصادي الكلي نتيجة لعناصر الإنتاج: العمل، المواد الأولية، الآلات
…
إلخ غير متماثلة الخصائص، ومن هنا اقتضت الضرورة تحقيق نوع التماثل الذي يستدعى إيجاد عنصر مشترك يتمثل في الأثمان النقدية لهذه العناصر، وبذلك تتحول العملية الإنتاجية في صورتها الحقيقية من صورتها الفنية إلى صورتها الاقتصادية، وبالتالي تكون العلاقة تكاملية بين نوعي القياس.
أما العلاقة بين القياس السلعي والقياس النقدي أو القيمي، فهي التفرقة بين الأسعار النسبية والأسعار المطلقة، فالقياس السلعي نسبي، أي أنه يرتبط بالمقارنة الحقيقة بين كميات السلع المتبادلة، وهو يعكس بذلك الثمن الحقيقي أو معدل المبادلة لسلعة معينة بالنسبة لسلعة أو السلع أخرى.
ولما كان من الصعب تحديد وتقدير قيمة كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى بعلاقات كمية، مثلاً كمية القمح بكمية القطن. فنحن نلجأ إلى استخدام وحدات مشتركة لها نفس القيمة في ذات اللحظة بالنسبة للسلعتين المتبادلين يقيم من دور هذه المحلات في التأثير في نسب المبادلة، وتعرف هذه النسب بالأسعار النسبية أو الحقيقية للمبادلة بين السلع. وعلى العكس من ذلك الأسعار المطلقة فهي أسعار نقدية بحتة تعكس مدى تطور قيمة النقود ويمثلها المستوى العام للأسعار أو النظرة الشاملة لمجموع الأسعار معبرًا عنها بالنقود، وتصبح المشكلة الحقيقية أو الأساسية هي كيفية تحقيق التوازن بين الأسعار الحقيقية والنسبية والأسعار المطلقة أو النقدية.
ولقد كانت العملة النقدية هي السائدة حتى القرن التاسع عشرة، حيث كانت أغلب النقود المستخدمة في التعامل تتكون من نقود معدنية وبصفة خاصة من النقود الذهبية، ولم تكن تعرف العملة الورقية أو الأثمانية. وكانت قيمة وحدة النقود المعدنية تستمد قيمتها من قيمة المعدن المتكونة منه أو الذي تصنع منه، أو بمعنى آخر فإن قيمة النقود المعدنية تعتمد على الأسعار النسبية أي قيمة مبادلة المعدن بالسلع الأخرى. وفي فترات أخرى من القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ساعد هذا المعيار على تمتع النقود بثبات في القيمة، ولكن هذا الثبات في القيمة لم يستمر طويلاً بفعل قانون الندرة فقد زادت كميات الذهب والفضة المكتشفة في أستراليا وأجزاء أخرى من العالم، وأدت وفرة هذه المعادن إلى انخفاض قيمتها بالنسبة للسلع الأخرى، وبالتالي إلى انخفاض قيم النقود المصنوعة من تلك المعادن في فترة تاريخية معينة، اعتبر هذا المعيار صالحًا لتحديد قيمة النقود.
أما في عصرنا الحاضر فلم يعد الأمر كذلك، فقد هجرت قاعدة المعدن: الذهب والفضة، وفقدت النقود محتوياتها من المعادن، وحلت محلها قاعدة النقد الورقية، وأصبح دور الذهب قاصرًا على اعتباره من ضمن مكونات غطاء الإصدار وعملة احتياطية دولية، كما أصبحت كافة النقود المستخدمة في التداول أما ورقية أو ائتمانية وتمتعت النقود الورقية التي يصدرها البنك المركزي بخاصتي القبول الإجباري في المعاملات والنهاية في التحويل. ثانيًا القيمة الخارجية للنقود، أي نسبة مبادلة وحدات النقد الوطنية بوحدات النقد الأجنبية عند تسوية المعاملات الخارجية: سعر الصرف.
وهذه القيمة الخارجية تحدد مقدرة النقود الوطنية على شراء السلع الأجنبية وأسعار الصرف، سواء كانت ثابتة أو متغيرة، تعتبر مؤشرات للقوة الشرائية للنقود الوطنية في الاقتصاد العالمي، كما يؤثر التغيير في القيمة الخارجية للنقود الوطنية على القوة الشرائية الداخلية لها. فعندما ترفع دولة ما من قيمة عملتها بالنسبة للعملات الأجنبية، فإنها تعمل في نفس الوقت على زيادة القوة الشرائية للعملة الوطنية بالنسبة للسلع الأجنبية المعروضة في السوق الداخلية، أو القيمة الخارجية للعملة الوطنية تتوقف على القرار السياسي الذي تتخذه السلطات العامة تحت تأثير الكثير من العوامل الاقتصادية، وخاصة ما يتعلق منها بالعجز أو الفائض في ميزان المدفوعات أو بهدف مكافحة التضخم المستورد، أو لتشجيع الصادرات أو الواردات. وعلى أي حال فإن علاقة وثيقة بين قيمة العملة الداخلية وقيمتها الخارجية فعالية الاقتصاديات الوطنية، والتي أصبح اليوم كثير منها مذبذبًا في أسواق الاقتصاد العالمي من خلال التجارة الخارجية - حركة رؤوس الأموال - لأن المقايضة بين السلع والخدمات لا تناسب عصرنا الحديث، وإنما تناسب مجتمعًا بدائيًا محددًا، ومن هنا كان ابتكار وحدة عملة النقود التي حلت محلها الآن العملة الورقية، ولكن على الرغم من ابتكار هذه العملة الورقية، وما تحققه من إراحة للمجتمع البشري من سرعة تبادل العملة النقدية أو المقايضة بين السلع الذي لا يساير تطور المجتمع البشري، فقد اعترض العملة الورقية صعوبات يرجع بعضها إلى وزن العملة الورقية المادي أو احتمال الضياع أو السرقة، فكان النظام الائتماني المصرفي هو الكفيل بتيسير الصعوبات المشار إليها عن طريق مجرد وعد بدفع ثمن السلعة أو الخدمة.
هذه الوعود بالدفع مكنت الناس من التأمل بينهم بدون حاجة إلى تداول النقود من يد إلى أخرى، بالإضافة إلى بعض المعاملات التي تعارف عليها الناس، فصارت أشبه بعملة غير رسمية يجري سداد قيمتها في البنوك عن طريق المقايضة. فمثلاً إذا أعطيتك وعدًا بدفع مبلغ من النقود ثمنًا لسلعة أو أجرًا عن خدمة، وأنت أعطيت ثالثًا وعدًا بدفع مبلغ من النقود ثمنًا لسلعة أو أجرًا عن خدمة، وهذا الثالث أعطاني وعدًا بالدفع عن سلعة أو خدمة أديتها إليه. هذه الوعود الثلاثة كلها تلتقي في البنك، ويجري سدادها جميعها بالقيد في دفاتر البنك لحساب كل من الثلاثة بغير انتقال مادي للنقود من يد إلى أخرى. والوعد بهذا الدفع قد يتخذ صورًا عدة: منها الشيك الذي يصدره العميل إلى مصرفه، يأمره فيه بدفع مبلغ معين إلى شخص أو لحامل الشيك، والبنك من جانبه يدفع قيمة الشيك إلى الشخص المسمى فيه أو لحامله من حساب ما أودعه العميل في خزائنه من قبل. وقد يتخذ الوعد بدفع صورة فتح اعتماد من البنك إلى أحد عملائه، فيتعهد البنك يجعل مبلغ معين تحت تصرف عميل لمدة معينة يسحب منه تباعًا، فإنه يذهب إلى مصرفه وعلى أساس حساب ودائعه فيه يأخذ منه خطاب اعتماد، يوجهه مصرفه إلى فرعه في الدولة الأخرى أو إلى مصرف آخر يأمره بدفع المبلغ المطلوب إلى العميل، والمصرف في هذه الحالة لا يأخذ من عميله فائدة ربوية على هذه الخدمة، بل يكتفي بعملة بسيطة لا تتجاوز في كثير من الأحوال 4/1 أو واحد في المائة.
ومن صور هذا الوعد أيضًا أو التعهد بالدفع صورة السند الإذني وهو التزام مكتوب يتعهد فيه شخص معين يسمى المحرر بدفع مبلغ معين في تاريخ معين لشخص معين آخر، أو لإذنه يسمى المستفيد، ويصبح السند الإذني أداة وفاء يستطيع المستفيد أن يصرف قيمة السند من البنك فورًا قبل حلول تاريخ السداد، مقابل فائدة ربوية يخصمها البنك من المستفيد مقابل الأجل.
وهناك أيضًا صور الكمبيالات وهي أمر مكتوب يتوجه به شخص يسمى الساحب إلى شخص آخر يسمى المسحوب عليه، طالبًا منه دفع مبلغ معين لإذن شخص ثالث يسمى المستفيد، فإذا قدم المستفيد الكمبيالة إلى مصرفه بعد أن أظهرها المسحوب عليه، دفع البنك قيمة الكمبيالة بعد خصم الفائدة الربوية على المدة التي سوف تمضي قبل حلول أجل الوفاء المقدر في الكمبيالة. هذه طائفة من صورة العملة المصرفية التي تخضع اليوم للأحكام القانونية الدولية في عالمنا المعاصر، والتي تهدف إلى تحقيق تيسير التبادل بين الناس. أما الشيك فصورته معروفة، وهو أمر من العميل إلى البنك ليدفع إلى شخص ثالث المبلغ المدون في الشيك من حسابه الجاري في البنك. وتصويره الشرعي أيضًا واضح، فالعميل مودع لمال مثلي في البنك المودع لديه.
والشيك: أمر بدفع جزء من المال إلى شخص ثالث، هو في الحقيقة تنفيذ لعقد الوديعة بين البنك والعميل، وهو في نظري تصرف شرعي لا إثم فيه ولا ربا، بل إنه يؤدي خدمات جليلة وإنسانية للمجتمع الإنساني بتيسير التعامل بين الناس. فهذا الجانب من النشاط المصرفي والعملة الورقية أو الشيك في نظري لا شبهة فيه على الإطلاق؛ لأنه ليس فيه فائدة يؤديها البنك إلى المودعين في الحسابات الجارية، ولكن النظر الشرعي في هذا الجانب قد يدقق في المعاملات الأخرى، والذي قد يكون اطراد التعامل بالشيكات بين الناس وعلى أساس ودائعهم الجارية قد أدى بقوة مالية جديدة على خلق النقود. أما أوامر الدفع الموجهة إلى البنك من عملائه، إنما هو في حقيقته تصرف من الودائع الجارية أي الودائع التي هي تحت الطلب، وهو ما يسمى في الاصطلاح المصرفي بالحساب الجاري، وهو يختلف عن الودائع الثابتة في أنه جائز السحب في أي وقت.
وهناك صور أخرى كثيرة تدخل تحت عنوان البحث: "أحكام النقود الورقية وتغير قيمة العملة "، وإن بحث هذه المسألة العالمية والمتشعبة الجوانب يفترض في نظرنا وضعها على بساط البحث في صورتها الواضحة والمتكاملة، والإلمام الدقيق بكل فروعها المختلفة وجزئياتها المتنوعة، وبالتالي التأصيل في التحليل والتعمق في البحث.
وإذا كانت العملة النقدية أو الورقية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي أداة لتأدية وظائف معينة للمجتمع البشري، فإن العدالة بالمقابل هي الغاية المنشودة لذاتها في الشريعة الإسلامية. وفي هذا المجال تعصر عقول المجتهدين من علماء الأمة الإسلامية، وينصب إنتاجها على بيان أحكام الشريعة الإسلامية من نصوصها الشرعية، أو من قواعد أصولها الاجتهادية. ومن المعلوم أن الشريعة الإسلامية قد كفلت في مصادرها العامة وقواعدها الكلية النصوص الصريحة على منع مجموعة من النشاطات الاقتصادية المعيقة في نظر الإسلام عن تحقيق العدل الاجتماعي للبشرية الذي ينشده الإسلام.
كما كفلت الشريعة الإسلامية حق مبدأ الإشراف العام الممثل بالدولة، الأمر بالصلاحيات العامة على كافة المجالات الاقتصادية ذات النشاط الاجتماعي العام. وبالتالي ضمنت حق تدخل الدولة؛ لحماية مصالح المجتمع العامة ورعايتها، وحراستها بالحد الشرعي من حريات المصالح الفردية، ومن حريات الأفراد فيما يمارسونه من أعمال تتنافى ومصالح الأفراد العامة في ذاتها وفي مجموعها. ومن هنا كان وضع هذا المبدأ العام في الشريعة الإسلامية ضروريًا لكي تضمن الشريعة الإسلامية ذاتها تحقيق مثلها العليا ومفاهيمها السامية في العدالة الاجتماعية على مر الزمن، وتعاقب الأجيال، ومستجدات التطور، انطلاقًا من مبدأ خلود الشريعة المشتملة في مضامينها على متطلبات العدالة الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام في مبادئه العامة وكلياته الشمولية ومنطلقاته الأصولية الكفيلة باستيعاب مضامين العدالة في كل زمان ومكان لكافة أبناء البشرية جمعاء.
وإن قضية الآثار والأحكام المترتبة على النقود الورقية وتغير قيمة العملة تدخل في صميم العدالة العالمية التي تسود فيها هذه المعاملات، والتي تشتمل على صور شتى يعرفها رجال الاقتصاد، واكتفيت بذكر بعضها لكوني لا أستطيع حصر الصور ولا الجواب عليها، ولكن نوضح حكم الشرع في نظرنا عن بعض صورها، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن باطلاً فمني، والله ورسوله بريئان منه.
1-
الشطر الأول من الموضوع: أحكام النقود الورقية، أي إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية في التعامل وتقييم السلع والخدمات بها
…
إلخ.
لقد مرت البشرية خلال تاريخها الطويل بمراحل في ميدان ابتكار تبادل المنافع والخدمات، ولقد أشرت في مقدمة الموضوع إلى أن القرآن العظيم قد أشار إلى ذلك بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فكانت المرحلة الأولى من مراحل التعارف تبادل السلع والمنافع والخدمات بين أبناء البشرية على نطاق جماعاتها ومجتمعاتها المحدودة. ولم يكن التعامل بالنقد من الذهب والفضة أو أي معدن آخر معروفًا، وإنما كانت المعاملة تتم بواسطة المقايضة بين السلع وتقييم أجرة المنافع والخدمات بقيمة السلعة، وكان هذا الوضع هو الوضع المناسب للمجتمع البدائي.
ثم تطور المجتمع البشري واتسع نطاق التعاون، وزاد من حجم الخيرات والمنتجات وحاجة الناس إلى الحصول على تلك الخيرات المتنوعة، فكان ابتكار العملة النقد، وعلى وجه الخصوص الذهب والفضة، فسهلت على مجتمعات تلك المراحل التاريخية التعامل فيما بينها بواسطة قطع العملة النقدية من الذهب والفضة، وبدلاً من تقييم قيمة سلعة بسلعة أخرى، والتي كانت تحتاج إلى وقت، أو تقييم خدمة أو أجرة عمل بثمن تلك السلعة؛ أصبح المجتمع البشري يقيم كافة قيمة السلع والخدمات وأجرة العمل بقيمة تلك العملة النقدية المتفق على قيمتها.
إلا أن تلك العملة كانت تكتنفها المخاطر وخاصة عند نقلها من بلد إلى بلد، والتي تتمثل بالسرقة أو الضياع، بالإضافة إلى صعوبة نقلها بسبب وزنها المادي، إضافة أيضًا إلى بطء التعامل الذي لا يناسب مجتمع تطور الإنسانية، وبناء الحضارة التي ينشدونها في شتى مجالات الحياة. وبالتالي فإن التعامل بالعملة النقدية لم يعد يناسب عصر السرعة ولا يلبي حاجة الإنسان، فكان ابتكار العملة الورقية وإحلالها محل العملة النقدية في القيمة المالية مساهمة كبرى في تطور الحضارة الإنسانية وتقدم الإنسان ومازالت كذلك، ولا نعلم ماذا يكون عليه الحال، ولكن الذي يهمنا أن نعلمه هو حكم الله في هذا التعامل.
ولا شك في أن من أصول التشريع في الشريعة الخالدة التي أصلها القرآن الكريم والسنة المطهرة، كالتيسير ودفع الحرج عن الناس، وهذا الأصل مقصود به دوام الشريعة واستمرار إقامة أحكامها؛ لأن الشريعة الحاكمة على أفعال المكلفين، والمشتملة على السعادة الحقة في العاجلة والآجلة، وضعت أصولها على أساس العدل الوسط:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] . وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] . وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28] . وقد وصف الله رسوله صلى الله عليه وسلم. بما أتى به من أحكام لأمته {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وبذلك سمى محمد صلى الله عليه وسلم الشريعةَ التي أُرسل بها بالشريعة السمحة. ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى ما أورده الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في كتاب أعلام الموقعين: 3/3 وما بعدها، إذ يقول تحت عنوان "بناء الشريعة على مصالح العباد في المعاش والمعاد" " هذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلطٌ عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي هي أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل. فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم
…
إلخ.
بهذا الاستعراض أردنا أن نبين بأن قصد الشريعة الإسلامية اليسر والسهولة ورفع الحرج والمشقة عن الناس، فرفع الحرج والمشقة من شريعة الله يعتبر أصلاً من أصولها ويكشف سر الإعجاز في خلودها.
ولما كان القصد من إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية هو اليسر والسهولة، ورفع الحرج والمشقة عن الناس، وتلبية لقضاء حاجاتهم، وتحقيقًا لضمان مصالحهم بأيسر السبل وأخفها مشقة، وعملاً بأصل رفع الحرج والمشقة في شريعة الله؛ فإنني - وحسب علمي - لا أجد مانعًا شرعيًا من إحلال العملة الورقية محل العملة النقدية، طالما كانت تلك العملة الورقية تخضع في أحكامها لأحكام الشريعة النافذة على العملة النقدية، والتي أوضحَتْها سنةُ البيان النبوي على قواعد ضمان ميزان العدل بين الناس، وتحديد قيمتها المالية على أصول التعامل الشرعي، بقوله عليه الصلاة والسلام:((الذهب بالذهب رباء إلا هاء وهاء، والفضة بالفضة رباء إلا هاء وهاء)) إلى آخر الحديث. رواه مسلم.
ومن خلال نص الحديث المشار إليه وغيره من الأحاديث الخاصة بالنقدين الذهب والفضة؛ فإننا نرى جواز التعامل بالعملة الورقية، وإحلالها في الأحكام الشرعية محل أحكام النقدين، وأن حكمها حكم النقدين، يجري عليها ما يجري على النقدين، ولأن البدل له حكم المبدل في عرف الفقهاء. وبالله التوفيق والله أعلم.
أما الشطر الآخر من الموضوع: تغير قيمة العملة، فإن أساس بحث هذه المسألة العالمية ومناط الأشكال فيها يفترض في نظرنا وضعها في صورتها المتكاملة والواضحة، والإلمام الدقيق بكل أبعادها، وأسباب مسبباتها كقضية عالمية عميقة الجذور متشعبة الجوانب، لا يقتصر تأثيرها على شعب أو مجتمع بمعزل عما يدور بين الأمم والشعوب في عالمنا المعاصر، نظرًا لترابط المجتمعات والشعوب في عالم اليوم الذي لم يَسُدْ فيه ميزان العدالة الدولية، حيث عمل الاستعمار مباشرة - وما زال يعمل - على نهب خيرات الشعوب، وعلى زرع الفتن بينها، حتى لا تتفرغ لاستثمار ما أودعه الله في خزائن الأرض وأعماق البحار، كما جند في جانب آخر شركاته العالمية الاحتكارية، التي تتحكم بمصير اقتصادية أكثر الشعوب في ميادين الاقتصاد العالمي اليوم، حيث منعت هذه الشركات نقل التقنية الصناعية إلى الشعوب النامية والفقيرة وغيرها، مما يعتبر في عالم اليوم من الأسس الضرورية لرفع مستوى حياة هذه الشعوب، كما عملت من جانب آخر على رفع ثمن السلع الاستهلاكية وطلب قيمتها بالعملات الصعبة التي من خلالها يتم تحكمها على القيمة المالية للاقتصاد العالمي من خلال بنوكها ومصارفها العالمية، والذي يديرها اليوم كثير من يهود العالم بعد أن تمكنوا منذ قرون من جمع العملة النقدية من الذهب والفضة، وبالتالي جعلها مقياسًا لقوة الشعوب الاقتصادية، والتي تملك منها الشعوب الفقيرة والنامية نسبة ضئيلة لا تفي بجعل عملتها الورقية، ولا حتى بقوة اقتصادها، بأن تقف على قدم المساواة - فضلاً عن ميزان العدالة - في تقييم السلع المصدرة والمستوردة في القيمة المالية الحقيقية لما تصدره هذه الشعوب، حتى لا تملك مستودعات الذهب، ولما تستورد أيضًا تبعًا لميزان العدالة الدولية المختل.
أضف إلى ذا وذاك امتصاص العملة الصعبة إذا ما قدر لها الدخول بكميات ضئيلة إلى الشعوب النامية والفقيرة بأساليب رهيبة، منها بخس أثمان منتوجات هذه الشعوب، والتحيل عليها من عدم الحصول على العملة الصعبة بخلق الفتن بين شعوبها وزعزعة الأمن في شئونها الداخلية، وبالتالي تصدير الأسلحة إلى هذه الشعوب التي لم تكن بحاجتها، وبالتالي تتم المقايضة غير المتكافئة.
وهناك أساليب تكبل اليوم الكثير من شعوب العالم الثالث لا يجيدها إلا أقطاب الاقتصاد العالمي ومصاصو دماء الشعوب
…
إلخ. ولقد أطلت نفس القلم في صلب هذا البحث، ونوهت في مقدمته إلى تحكيم العلاقات الإنسانية بين الأمم والشعوب إن لم تحكم شريعة السماء الخالدة.
هذه المسألة بحاجة ماسة إلى التأصيل والتحليل والتعمق في البحث، لقناعتنا في أن موضوع تغير العملة وبيان حكم الشريعة الإسلامية لا يمكن أن يكون بمعزل عما يؤثر في انخفاض سعر العملات، وأن آثار الأحكام المترتبة على تغيير العملة بالكامل وإحلال عملة أخرى محلها، أو تغير سعرها زيادة أو نقصانًا، وإن لم تغير عين العملة ذاتها إلى عملة أخرى.
إنما يعبر في حقيقة الأمر على عظمة قدرة الشريعة الإسلامية على مواجهة كل جديد، واتساعها لمقتضيات كل عصر، وتلبيتها لحاجاته على الوجه الأرشد والأكمل، والذي يكمن في تبصر توجيهاتها، وتدبر حكمها وأسرارها، وفهم دقيق لمقاصدها وأهدافها. ولا عجب في ذلك إذ أن الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع الإلهية التي أنعم الله بها على الإنسان. ولا يتصور مؤمن بكمال علم الله وحكمته ورحمته وبره بخلقه، أن الله تعالى يغلق باب النبوة دونهم ويقطع وحيه عنهم، ثم يتعبدهم بشريعة قاصرة تصلح لقوم ولا تصلح لآخرين، وتصلح لزمان ولا تصلح لآخر، بل كانت أحكامها الكلية وقواعدها الأصولية تستطيع بكل يسر وسهولة وقوة أن تشيد للإنسانية بنيانًا يقوم على أساس ثابت من العدل الشامل، ومن الحق المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد.
وإن تدبر توجيهاتها، وسبر أغوارها، وفهم أسرارها ومقاصدها، والغوص في أعماق لججها لاستخراج لآلئها وأصدافها النورانية البهية من شأنه أن يصقل مواهب وعقول المجتهدين من جهابذة العلماء العاملين، وينور بصائرهم بأشعة جلال أنوارها، ويلاقي بين ينابيع خواطرهم ومعين أفكارهم، ويعبر عنهم بعقل مجمعهم، ويبلور بين المفاهيم والأسرار التي تجيش بها نفحات خواطرهم ذات المعين الإلهي الفياض، والرحمة الإلهية الخاتمة التي لا تنضب. وإن الفهم الدقيق والصحيح لمبادئ الإسلام العامة وقواعده الكلية، هو الأساس الفكري والدعامة الأساسية لفكرة الاجتهاد والتجديد والعودة بأمتنا الإسلامية إلى حقائق الشريعة الإسلامية المقدمة.
كما أنه الطريق الصحيح الذي يرسم لنا بيقين كيف نعالج الأوضاع الاقتصادية في ضوء الشريعة الخالدة، والتي أنزلها الله بعلمه على محمد صلى الله عليه وسلم ليقيم بها عدله في الأرض، ويحقق بها مصالح العباد في المعاش والمعاد. كما دلت على ذلك استقراء نصوص الأحكام الشرعية وقواعدها الكلية، وأسس مبادئها الأصولية العامة، وتعليلات جزئياتها من الكتاب والسنة وأنه سبحانه خص هذه الشريعة بالعموم والاستمرار والخلود دون سائر الشرائع الأخرى، وأن أصولها النظرية قد استوعبت علاج الوقائع والمشكلات بشهادة التاريخ لها، وما زالت قادرة - وبطريقة يتوجها الإعجاز - على علاج الوقائع والمشكلات المتجددة والمتطورة. ولا شك بأن من أهداف مقاصد الشريعة إقامة العدل المطلق بين الناس جميعًا، وتحقيق الإخاء بينهم، وحماية وصيانة دمائهم وأموالهم وعقولهم وأخلاقهم، وأنها لا تحقق مصلحة طبقة دون أخرى، ولا مصلحة فرد خاصة دون آخر، ولا شعب دون شعب، ولا مصلحة دنيوية دون النظر إلى المصالح الأخروية، كما هو الحال في التشريعات الوضعية. وأن السبيل الأقوى والأقوم لاستيضاح حكم وأسرار الشريعة ميسر بإذن الله لترجمة الحكم الشرعي من دليله المعتبر، وبالتالي إظهار الحق وإثباته من مصدره الشرعي الذي يعطي المجتهد الوضوح والجلاء الذي يعتبر الأساس الصحيح للنهوض العلمي برسالة المجمع. وبالتالي أيضًا يستوعب اجتهاد المجتهد منطلقات الأدلة الشرعية ومفاهيم النصوص المتعارضة أو المتداخلة بالعموم والخصوص، أو بتهذيب العلة وتحقيق المناط
…
إلخ.
وإن الهدف من هذا البحث المتواضع هو إيضاح حكم الشريعة الإسلامية في العملة الورقية والنقدية في هذا العصر الذي سيطرت فيه على جميع مجالات نشاطها، وبالتالي تغلغل الربا بكل أنواعه وبكل شروره وآثامه في كل مجال منها، وكيف تظهر هذه العملية، وتطورها تطورًا ينأى بها عن كل الانحرافات، وبالمقابل فإن النهوض برسالة المجمع لا يتم إلا بالتعبير عن المشاكل التي تحس بها أمتنا الإسلامية، والتي تراها أيضًا بالنسبة لأي قضية إسلامية، وخاصة في مجال العدالة العالمية والاجتماعية التي لا تحمل جنسية غير جنسية الإنسانية، ولا حدود على الأرض التي يعيش فيها الإنسان، والتي هي الغاية من اجتهاد العلماء في بيان حكم الله الذي هو عين العدل؛ لأننا نعلم بأن العملة ليست غاية في حد ذاتها لبيان حكم الشرع، بل هي وسيلة لقضاء حاجات الإنسان، أما الغاية من بيان حكم الله فيها من حرمة وحلال وصحة وبطلان، إنما هو تحقيق العدل بين الناس في هذه العملة والتعامل بها بين الناس، والعدل الحقيقي إنما يعرف من أحكام الله العادلة بين العباد. وهذه القاعدة من أجل القواعد التي تعطي الصورة العالمية للمجمع والشمولية لشريعة الإسلام والخلود لمبادئه العادلة التي يحلم بها عالم البشرية اليوم، والتي تجنى منها ثمار العقول اليانعة والأفهام المستنيرة بنور الكتاب والسنة.
وأن أساس القضية ومناط الإشكال في الشق الآخر من الموضوع المطروح: تغير قيمة العملة، والذي تدخل تحته من الصور والمستجدات مالا يمكن حصره. ولكن تصويرنا وحكمنا على بعضها حكم منا على بعضها الآخر، إلحاقًا لها في تحقيق المناط، فنقول وبالله نستعين:
1-
من المعلوم بأن الثمن في البيع ركن، ومعرفة قدره وصفته شرط لصحة البيع، أما إذا ذكر في عقد البيع قدر الثمن دون صفته، فإنه ينصرف في عرف الفقهاء إلى الغالب من نقد البلد الذي تم فيها العقد؛ لأنه المتعارف عليه عند الإطلاق، ويكون في عرف الفقهاء من أفراد ترك الحقيقة بدلالة العرف القولي، فإن كان في البلد الذي تم فيه العقد نقود غيرها من جنسها واستوت في المالية، لكن بعضها يتداوله الناس في معاملاتهم بصورة أكثر من البعض الآخر، فينصرف إلى النقد الذي يكون أكثر انتشارًا في معاملات الناس. أما إن استوت في تداول الناس وفي معاملاتهم واتفقت في المالية، فإن المشتري يخير؛ لأن الجنس والقيمة متحدان، وإن استوت في التداول واختلفت في المالية، كما إذا باع شيئًا بثلاثة دنانير دون أن يوضح نوعها يمني أو كويتي، فإن البيع يفسد للاختلاف في المالية، ولكن إذا كان التعاقد بالدينار في الكويت مثلاً، فإن العرف ينطلق على الدينار الكويتي، وإن كان التعاقد بالدينار باليمن فإن العرف ينطلق على الدينار اليمني.
ومن الصورة فيما لو أخذت من شخص مائة دينار يمني قرضًا حسنا إلى أجل معلوم لدفع ذلك المبلغ، وكان سعر الدينار ثلاثة دولارات أمريكي وقت استلام القرض، وبعد أن حان أجل إعادة ذلك القرض نزل سعر الدولار، فكان الدينار ثلاثة دولار ونصف، أو العكس، طلع سعر الدولار وانخفضت قيمة الدينار، بأن كانت قيمة الدينار ثلاثة دولارات إلا ربع، وقس على ذلك بقية الحالات والصور التي تساويها في تحقيق المناط، سواء أكانت تلك الصور والحالات من عقود المعاملات بعوض، أم كانت من العقود التي ليس فيها معاوضة كالقروض والمداينة، وسواء كان انخفاضًا أو زيادة ما تضمنته تلك العقود من ناحية انخفاض أو زيادة قيمة العملة المتفق عليها في صيغة العقد، أو من ناحية تغير قيمتها بالكامل بأن حلت محلها عملة أخرى مثلاً بدل الدينار اليمني جنيه يمني أو أي اسم آخر للعملة الجديدة، فإن الحكم الاجتهادي الشرعي في نظري - حيث لا نص ولا إجماع - الذي ينطبق على الحالات المشار إليها أو ما يشابها، أن للبائع أو لصاحب الدين أو القرض المسمى في العقد من أنواع العملة؛ لأنه الأصل الذي تم التعاقد عليه لا على غيره، ولأنه هو الذي شغلت به ذمة المشتري أو المدين لا غيره، ومن هنا قال الفقهاء: إذا جهل الثمن محل العقد فسد البيع أو العقد.
وكذا إذا كسدت العملة المتفق عليها نهائيًا بدون بديل لها فسد البيع، أما إذا تغيرت العملة المتفق عليها إلى عملة أخرى، فإن الحكم ينصب على ما يعدل قيمة تلك العملة من العملة التي حلت بديلها بسعرها وقت القبض وليس وقت العقد أو البيع، دون تفرقة بين ما إذا كانت تلك العملة متساوية في السعر أو متفاوتة في قيمتها المالية؛ ذلك بأن الواجب شرعًا في ذمة المشتري أو المدين، والذي ينصب عليه الحكم الشرعي إنما هو المسمى والمتفق عليه في صيغة العقد لا غيره، وليس للمشتري أو المدين بحساب الصرف من أي نوع كان بالسعر السائد، إذا كان عين العملة المذكورة في العقد قائمة وسائدة إلا برضى البائع أو الدائن، وأنه لو أراد المشتري دفعها بالدولار بدلاً من الدينار، وبالسعر القائم والسائد وقت الأداء ورفض البائع أو الدائن أو من له الحق في تلك العملة المنصوص عليها في العقد، فإنه لا يجبر على قبضها لاختلاف المالية وإن تساوت القيمة؛ لأن الأحكام الفقهية إنما تنظر إلى ما اشتملت عليه صيغة العقد لا إلى شيء آخر لم يذكر في العقد، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يجبر من له الحق على أخذ حقه بالسعر القديم؟ علمًا بأن سعر العملات في عصرنا الحاضر ليست مستقرة في قيمتها المالية على حالة ثابتة، فإذا لم نلزم من عليه الحق بما يثبت في ذمته وقت التعاقد وبالسعر الذي تصل إليه تلك العملة وقت الأداء سواء طلعت تلك العملة أو انخفضت، لاضطربت معاملات الناس، وبالتالي عُدم الثبات القانوني، وعدم ثابت الحكم الشرعي، وبالتالي أيضًا عدمت الضوابط القانونية والشرعية لتكييف هذه المعاملة بين الناس، وبنفس الوقت تجاهل صيغة العقد وعدم احترام صيغ العقد الشرعية، وهذا باطل لا يجوز باتفاق الفقهاء. وهذا في نظري يشمل كل صور التعامل التي تشابه هذه المسائل في تحقيق المناط وتشتمل عليها نظرية العقد في هذا الباب.
ومن ناحية أخرى فإننا بحاجة إلى بحوث مستفيضة حول نظرية العقود، وتصنيف الصور والمسائل التي تدخل تحت كل عقد على حدة، مثلاً نظرية عقد البيع وما يلحق به من العقود، نظرية عقد العملة وما يلحق بها من العقود، حتى إننا في باب نظرية الوكالة نستطيع تكييف خطاب الضمان الذي نظر فيه المجمع في دورته الثانية تحت نظرية عقد ثابتة. وبالتالي نستطيع أن نضمن الصور والمسائل التي قد تتفرع عنه، ونضمن في الأخير الثبات القانوني لأحكامه الشرعية الاجتهادية، وهكذا عقد الرهن والحوالة
…
إلخ.
إن المجتهد أول ما ينظر في معاملات الناس وفي تصرفاتهم إلى صيغة تلك العقود من ناحية الصحة أو البطلان، انطلاقًا من أن العقد ملزم للطرفين المتعاقدين عند توفر شروط العقد الصحيحة وانتفاء موانعه. وعندما ينظر المجتهد إلى النزاع بين طرفي العقد لا ينظر إلى زيادة سعر العملة في السوق أو نقصانها، إنما ينظر أولاً إلى صيغة العقد وإلى ما اشتمل عليه ذلك العقد، فإذا وجد صيغة العقد سليمة من العيوب المبطلة أو المفسدة للعقد فإنه يحكم على الطرفين الوفاء بما التزم به، حيث كان التزامهما صحيحًا شرعيًا، فإذا كان العقد ينص على مبلغ مائة دينار يمني على فلان من الناس لآخر، وكان الدينار قائم الاعتبار القانوني في التعامل به بين الناس، فإن من عليه المبلغ المذكور عليه رد ذلك المبلغ المعين في العقد وقت حلول أجل الأداء، سواء طلع ذلك المبلغ بعملة أخرى أو نزل؛ ذلك لأن تحديده وتعينه في صيغة العقد قطع كل ما يؤدي إلى التنازع بين الطرفين المتعاقدين.
والقول هنا بدفع ما يعدل ذلك بالسعر الذي كان يوم البيع أو العقد - أي وقت الثبوت في الذمة - قول مخالف لما تم عليه التعاقد صراحة، وكل ما أدى إلى إبطال العقد الشرعي الصحيح فهو باطل، ولا يقف الحد عند بطلان ذلك العقد من حيث عدم احترام صيغة العقد ذاته، بل لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن؛ لأن ذلك الثمن الذي قد يحسب بحسب صرف قيمة العملة التي اشتمل عليها العقد وقت الأداء لم يكن مذكورًا في العقد. وبالتالي يؤدي ذلك إلى النزاع المستمر، والشريعة الإسلامية يلاحظ في أحكامها قطع النزاع وسد أي ذريعة تؤدي إلى إثارة النزاع في معاملاتهم، وترك من عليه التعاقد وجهل الثمن وعدم ثبات العملة في عالم اليوم كفيلٌ بما يؤدي إلى النزاع والخلاف، ومن هنا شدد الفقهاء عند وضعهم شروط معرفة قدره وصفته كل ذلك؛ مخافة النزاع، فكيف يتجاهل المجتهد كل تلك الأركان والشروط التي يجب توافرها لصحة العقد، ويجتهد في معرفة حكم سعر تلك العملة في السوق، والتي هي خارجة عن نطاق العقد وأركانه وشروطه.
نعم نقول: إن رضي عن الحق فيما اشتمل عليه العقد صراحة فلا مانع، كما لو انقطع التعامل بالدينار بأن حلت محله عملة أخرى، مثلاً بدل الدينار جنيه يمني، فإن الحكم في هذه الحالة يختلف، إذ ليس لصاحب الحق إلا بما يعدل القيمة المالية للدينار بحسب الصرف من أي من العملة بين الناس، وبالسعر السائد بالسوق وقت الأداء، إذ ليس لصاحب الحق إلا أخذ المسمى في العقد أو مثله برضاه، ولكن إذا لم يوجد المسمى في العقد بسبب فساد العملة وانقطاعها، فليس لصاحب الحق إلا المثيل.
ومن الصور في ذلك: قيمة الدينار اليمني إلى عشرين قطعة نقدية تسمى كل قطعة درهمًا، فلو صدر قرار من الجهة المختصة بعدم التعامل بالدينار وإحلال عملة أخرى بدل الدينار تحمل نفس القيمة المالية للدينار، وإنما زادت وحدات القطع النقدية لهذه العملة الجديدة بأن كانت خمسة وعشرين درهمًا بدلاً من عشرين درهمًا بالعملة الملغاة، أو كان العكس، بأن نقصت وحدات العملة الجديدة، فكانت قطع الوحدات النقدية خمسة عشر قطعة نقدية، أي خمسة عشر درهمًا مع تساوي قيمة العملة المالية الجديدة بقيمة العملة المالية الملغاة، والتي تم التعاقد بها،
فإن الأداء يجب أن يكون بتلك العملة التي حلت محل الدينار في قيمته المالية، سواء زادت قطعها النقدية بأن كانت خمسة وعشرين درهمًا، أو نقصت بأن كانت خمسة عشر ردهمًا، طالما كانت القيمة المالية للعملة الجديدة تحمل نفس القيمة المالية للعملة الملغاة. قس على ذلك كل عملة ألغيت وحلت محلها عملة أخرى تحمل نفس قيمتها المالية، فإن لم توجد عملة أخرى تحمل قيمتها المالية وتحل محل العملة الملغاة، فليس لصاحب الحق إلا ما يعادل قيمة العملة الملغاة قبل إلغائها من أنواع العملات السائدة في معاملات الناس وقت ثبوت هذا الحق في الذمة، وبسعره وقت الأداء من الغلاء يرخص، وليس من حق من وجب الحق بذمته أن يدفع وقت الأداء السعر الذي كان يوم العقد أو يوم ثبوته في ذمته، ولا نعتقد قائلاً به من الفقهاء؛ لأن الدينار اليمني الذي ضربنا به المثل إذا كانت وحداته النقدية عشرين درهمًا، ثم زادت تلك القطع النقدية إلى خمسة وعشرين درهمًا، أو نقصت إلى خمسة عشر درهمًا، وصار ذلك هو حقيقة قيمة الدينار المالية في البلد يتعامل به الناس كذلك، فكيف يحسب بصرف يوم التعاقد؟ أي بعشرين درهمًا، ولو كان الدينار موجودًا والتعامل به قائمًا بين الناس.
فلو قائل قال بأن سعر الدينار كان يوم العقد أي يوم ثبوته في ذمة المشتري أو المدين عشرين درهمًا، نقول: لقد قوي عليه الالتباس، وزاد حدا في القياس، إنما المعتبر شرعًا قيمة المسمى في العقد وليس غيره. ولم يقل أحد من الفقهاء - حسب علمي - باعتبار غير المسمى، ولو قلنا بذلك للزمت الجهالة في الثمن وحصل النزاع الذي كان العلماء دائمًا يراعونه في أحكامهم وفتاويهم، بل وفي استنباطاتهم الفقهية، جاعلين نصب أعينهم قاعدة الفقهاء المشهورة:" درء المفاسد مقدم على جلب المصالح "، وليس من حق المشتري أو المدين أن يكون مخيرًا في أداء ما وجب عليه من أي نوع شاء من العملة، بل الواجب عليه التقيد بنوع العملة الواردة في العقد إن كانت قائمة، أو ما يعادل قيمتها وقت العقد أو وقت ثبوتها في الذمة، وبسعرها وقت الأداء طلوعًا كان سعرها أو نزولاً، إلا إذا رضي من له الحق، وكانت العملة البديلة مستوية في قيمتها المالية مع قيمة العملة المبدل منها وفي انتشارها في التعامل بين الناس، إلا برضى من له الحق.
فإن أراد المشتري أو المدين دفع الدينار الكويتي بدلاً من الدينار اليمني بالسعر السائد بين وقت الأداء وأبى من له الحق، لا يجبر على القبض لاختلاف العملة والجنس، فكيف يجبر على قبضه بالسعر القديم؟ كما أنه ليس للمشتري جبر البائع على أخذ الذهب بدلاً من الفضة أو الدينار بدلاً من الدولار، فلو باع بالدينار وكتب المشتري الثمن بالريالات بدون إذن البائع، فإن من حق البائع أن يطالب المشتري بدفع الثمن بالعملة التي تم عليها التعاقد، فإن لم يستجب المشتري فمن حق البائع أيضًا أن يرفع القضية إلى القضاء، فإذا لم يستطع البائع إقناع القضاء بالأدلة المتوفرة لديه، فليس للقاضي إلا تحليف البائع على صحة دعواه، ويحكم له بدفع الثمن بالدينار الذي عليه التعاقد.
ومن هنا يتضح بأن البائع إذا كان لا يجبر على قبض الريال بالدينار، ولا الذهب بالفضة، ولا قبض غير المسمى في العقد مما اختلفت ماليته وإن انتفت قيمته، فكيف ينبغي القول بوجوب إعطاء البائع النقود المتفق عليها بالسعر القديم؟ وهل عند القائل بهذا نقل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس صحيح؟
فإذا احتج بمسألة رخص العملة المتقدمة التي تم عليها التعاقد، فجوابه بأن مسألة الغلاء والرخص في المسمى في العقد لا في غيره من النقود،، وإذا باع في حالة غلاء الذهب أو غلاء الريال، فهل يتناوله لفظ الدينار ويكون من باب فرد من أفراده مع اختلاف حقيقته؟ كمن باع بالدينار ثم رخص الذهب أو الريال، ومن هنا نرى الواجب شرعًا والأسلم لذمة المشتري أو المدين أو من ثبت في ذمته الحق في نظر الشرع الذي شدد في نصوص لا تحصى كثرة على تحقيق العدالة بين الناس في معاملاتهم، وبوجه أخص فيما تعود قيمته المالية من العملات إلى ميزان النقد - الذهب والفضة - الذي حرم الشارع التفاضل والنسيئة فيه، إلا أن الواجب الشرعي الذي تطمئن إليه نفس المجتهد إنما هو عين المسمى في العقد أو مثله أو قيمته كما تقدم ولا رابع لها، وبالتالي فلا أجد أي تخريج لحكم شرعي اجتهادي لدفع غير المسمى في العقد من النقود بأي وجه من وجوه تخريج الأحكام الاجتهادية من ضوابط قواعد الفقه وأصوله حسب علمي.
ومثل عقد الإجارة، كما إذا أجد شيئًا بمائة دينار، فإن الناس قد تعارفوا على تأجيل دفع الأجرة المستحقة المنصوص عليها في عقد الإيجار إلى نهاية مدة التأجير، فإن المؤجر يقبضها بالسعر السائد وقت الأداء لا وقت العقد، سواء طلعت قيمة العملة المنصوص عليها في عقد الإجارة أو هبطت عن سعرها وقت العقد، فليس للمؤجر إلا العملة المنصوص عليها في العقد بسعرها وقت حلول الأجل، سواء أكان السعر لصالحه أم لصالح المستأجر؛ لأن زيادة سعر العملة أو نقصانها منصب على العملة المسماة المتفق عليها في العقد لا في غيرها. ولو قلنا: يأخذها المستأجر بسعرها يوم الإجارة، فقد يكون سعرها طلع ثم انخفض عند الأداء، وبالإضافة إلى المحاذير التي سبقت الإشارة إليها، فإننا لو سمحنا لأحد طرفي العقد بأن يعطيها حسب تقلبات سعر تلك العملة في الأسواق، فإنه يلزمنًا التناقض في الأحكام الشرعية وعدم ثباتها في القضية الواحدة؛ فتارة نحكم للمستأجر إذا انخفض سعر العملة وقت العقد، وتارة نحكم عليه إذا كان سعر العملة وقت العقد مرتفعًا ثم انخفض سعرها وقت الأداء. وهذا باب واسع للحيل وفتح الفتن والنزاع، فإن الناس عامة يحرصون على مصالحهم، والتي قد لا تكون هذه المصالح مشروعة في كثير الأحيان من الأوقات. فقد يرفض المؤجر عن استلام أجرته إذا لم يكن لسدادها وقت محدد؛ طمعًا في طلوع سعر تلك العملة، وقد يؤخرها المستأجر إذا لم يكن دفعها مجددًا بوقت معين طمعا في انخفاض سعر العملة التي اشتمل عليها عقد الإيجار، وقس على ذلك البيوع والديون
…
إلخ.
والذي جرى عليه عرف المسلمين بأن المائة الدينار المنصوص عليها في عقد الإيجار يدفع المستأجر وقت الأداء بسعرها السائد في السوق، وبقيمتها المالية مائة دينار المنصوص عليها في العقد، فيدفعها بسعرها وقت الأداء، سواء زاد سعرها عن يوم العقد أو نقص؛ لأن زيادة السعر أو نقصانه واردة على المسمى في العقد لا على غيره، والمحذور شرعًا هو أن يزاد عن القيمة المالية الحقيقية لتلك العملة التي اشتمل عليها العقد، وبأن يزيد مثلاً المؤجر على المائة الدينار خمسة دنانير، فتصبح مائة وخمسة، وهي التي نهى عنها الشرع، أما زيادة أو نقصان العملة ذاتها المتفق عليها فإنها لا تدخل تحت أي باب من أبواب الربا على الإطلاق.
وهذا ما عليه التعامل في البلاد الإسلامية، فكان ذلك إجماعًا منهم على صحته، وإن كان إجماعًا سكوتيا إلا أنه في ميدان المعاملة من الضروريات التي لا يخفى على المسلمين حكمها، فكان إجماعهم السكوتي في قوة الإجماع الصريح، ونحن خلف لخير السلف لا نقول بغير هذا. وبالله التوفيق والله أعلم.
مراجع البحث
1-
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي
2-
الجامع لأحكام القرآن محمد بن محمد الأنصاري
3-
الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم
4-
تفسير ابن كثير إسماعيل ابن كثير
5-
ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض
6-
الإمام الصادق والمذاهب الأربعة
7-
فتح العلام لشرح بلوغ المرام أنور الحسين
8-
مختصر نيل الأوطار د. نقوي مبارك
9-
الفكر الإسلامي الحديث محمد البهي
10-
الإسلام والرأسمالية مكسيم رودنسون
11-
كتاب المعاملات السيد فكري
12-
فلسفة الفكر الديني لويس غريب
13-
المدونة الكبرى الإمام مالك بن أنس.
14-
الفتاوى الكبرى لابن تيمية
15-
أعلام الموقعين لابن قيم الجوزية
16-
فقه القرآن والسنة على قراعة
17-
الاقتصاد النقدي والمصرفي د. مصطفى رشيدي.
18-
اقتصاديات النقود د. عبد الرحمن يسري أحمد
19-
النظرية والسياسات النقدية د. مصطفى رشيد.