الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله: «ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» (1) .
فهذه المسألة أجل المسائل. فمن فهمها فهو الفقيه. ومن عمل بها فهو المسلم. فنسأل الله الكريم المنان أن يتفضل علينا وعليكم بفهمها والعمل بها.
[انتقال ولاية البيت إلى جرهم]
أما البيت المحرم: فإن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لما بنياه، صارت ولايته في إسماعيل وذريته. ثم غلبهم عليه أخوالهم من جُرْهُم. ولم ينازعهم بنو إسماعيل، لقرابتهم وإعظامهم للحرمة، أن لا يكون بها قتال. ثم إن جرهم بغوا في مكة. وظلموا من دخلها، فَرَق أمرهم. فلما رأى ذلك بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وغبشان من خزاعة، أجمعوا على جرهم فاقتتلوا، فغلبهم بنو بكر وغبشان ونفوهم من مكة.
وكانت مكة في الجاهلية لا يقر فيها ظلم، ولا يبغي فيها أحد إلا أُخرج، ولا يريدها ملك يستحل حرمتها إلا هلك.
[انتقال ولاية البيت إلى غبشان من خزاعة]
ثم إن غبشان - من خزاعة - وليت البيت دون بني بكر. وقريش إذ ذاك حلول وصرم، وبيوتات متفرقون في قومهم من بني كنانة. فوليت خزاعة البيت يتوارثون ذلك. حتى كان آخرهم حليل بن حبيشة. فتزوج قُصَي بن كلاب ابنته.
فلما عظم شرف قصي، وكثر بنوه وماله: هلك حليل، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة وأَمْرِ مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشًا رءوس آل إسماعيل وصريحهم، فكلم رجالا من قريش وكنانة في إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه.
وكان الغوث بن مرة بن أُدّ بن طابخة بن إلياس بن مضر يلي الإجازة للناس بالحج من عرفة، وولده من بعده. لأن أمه كانت جرهمية لا تلد. فنذرت لله إن ولدت رجلا: أن تتصدق به على الكعبة يخدمها. فولدت الغوث فكان يقوم على الكعبة مع أخواله من جرهم. فولي الإجازة بالناس؛ لمكانه من الكعبة، فكان إذا رفع يقول:
اللهم إني تابع تباعة
…
إن كان إثمًا فعلى قضاعة
وكانت " صوفة " تدفع بالناس من عرفة، وتجيزهم إذا نفروا من منًى. فإذا كان يومُ النّفْر أتوا رمي الجمار ورجل من صوفة يرمي لهم، لا يرمون حتى يرمي لهم. فكان المتعجلون يأتونه يقولون: ارم حتى نرمي. فيقول: لا والله حتى تميل الشمس. فإذا مالت الشمس رمى ورمى الناس معه. فإذا فرغوا من الرمي وأرادوا النفر من مِنًى أخذت صوفة بالجانبين. فلم يجز أحد حتى يمروا، ثم يخلون سبيل الناس.
فلما انقرضوا ورثهم بنو سعد بن زيد مناة من بني تميم.
وكانت الإفاضة من مزدلفة في " عدوان " يتوارثونها. حتى كان آخرهم كَرْبُ بن صفوان بن جناب: الذي قام عليه الإسلام. فلما كان ذلك العام، فعلت صوفة ما كانت تفعل، قد عرفت العرب ذلك لهم. هو دين لهم من عهد جرهم وولاية خزاعة.
[ولاية قصي وجمعه لقومه]
فأتاهم قصي بمن معه من قريش وقضاعة وكنانة عند العقبة، فقال: نحن
(1) الحديث رواه الأربعة، ورمز له في الجامع الصغير بالصحة.
أولى بهذا منكم. فقاتلوه فاقتتل الناس قتالا شديدًا. ثم انهزمت صوفة. وغلبهم قصيّ على ما كان بأيديهم. وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم، كما منع صوفة. ويحول بينهم وبين الكعبة وأمر مكة.
فلما انحازوا بادَأهم وأجمع لحربهم. فالتقوا واقتتلوا قتالًا شديدًا. تم تداعوا إلى الصلح، فحكّموا يَعْمُر بن عوف، أحد بني بكر. فقضى بينهم بأن قصيًا أولى بالكعبة وأمر مكة من خزاعة. وكل دم أصابه قصي منهم موضوع شَدْخُه تحت قدميه، وما أصابت خزاعة وبنو بكر ففيه الدية، وأن يخلى بين قصيّ وبين الكعبة ومكة. فسمي يومئذ يعمر الشداخ.
فوليها قصي. وجمع قومه من منازلهم إلى مكة. وتملك عليهم وملكوه. لأنه أقر للعرب ما كانوا عليه. لأنه يراه دينا لا يغير فأقر النّسَأَة وآل صفوان وعدوان، ومرة بن عوف على ما كانوا عليه. حتى جاء الإسلام، فهدم ذلك كله. وفيه يقول الشاعر:
قُصَي لعمري كان يُدْعَى مجمعًا
…
به جمع الله القبائل من فِهْرِ
فكان قصي بن لؤي أصاب ملكًا أطاع له به قومه، فكانت إليه الحجابة، والسقاية والرفادة، والندوة، واللواء. وقَطّع مكة رباعًا بين قومه. فأنزل كل قوم منهم منازلهم.
وقيل: إنهم هابوا قطع الشجر عن منازلهم. فقطعها بيده وأعوانه، فسمته قريش " مجمعًا" لما جمع من أمرهم، وتيمنت بأمره. فلا تُنكح امرأة
منهم ولا يتزوج رجل ولا يتشاورون فيما نزل بهم، ولا يعقدون لواء حرب إلا في داره يعقده لهم بعض ولده.
فكان أمره في حياته - وبعد موته - عندهم كالدين المتبع، واتخذ لنفسه دار الندوة، فلما كبر قصي ورقّ عظمه - وكان عبد الدار بِكْره. وكان عبد مناف قد شرف في زمان أبيه، وعبد العزى وعبد الدار. فقال قصي لعبد الدار: لألْحقَنّك بالقوم وإن شرفوا عليك. لا يدخل أحد منهم الكعبة حتى تكون أنت تفتحها له. ولا يعقد لقريش لواء لحربها إلا أنت. ولا يشرب رجل بمكة إلا من سقايتك. ولا يأكل أحد من أهل الموسم طعامًا إلا من طعامك. ولا تقطع قريش أمرًا من أمورها إلا في دارك.
فأعطاه دار الندوة، والحجابة، واللواء، والسقاية والرفادة، وهي خَرْج تخرجه قريش في الموسم من أموالها إلى قصي، فيصنع به طعامًا للحاج، يأكله من لم يكن له سعة ولا زاد. لأن قصيا فرضه على قريش. فقال لهم: إنكم جيران الله وأهل بيته. وإن الحاج ضيف الله، وهم أحق الضيف بالكرامة. فاجعلوا لهم طعامًا وشرابًا أيام الحج حتى يصدروا عنكم. ففعلوا.
وكان قصي لا يخالف، ولا يرد عليه شيء صنعه.
فلما هلك أقام بنوه أمره لا نزاع بينهم. ثم إن بني عبد مناف أرادوا أخذ ما بيد عبد الدار، ورأوا أنهم أولى بذلك فتفرقت قريش: بعضهم معهم. وبعضهم مع عبد الدار. فكان صاحب أمر عبد مناف عبد شمس؛ لأنه أسنهم، وصاحب أمر بني