المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[قصة إبراهيم عليه السلام وأحواله] - مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لمحمد بن عبد الوهاب

[محمد بن عبد الوهاب]

فهرس الكتاب

- ‌[المقدمة]

- ‌مقدمة هذه الطبعة

- ‌مقدمة طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

- ‌[قصص الأولين والآخرين]

- ‌[قصة آدم وإبليس]

- ‌[قصة إبراهيم عليه السلام وأحواله]

- ‌[ولاية البيت ومكة لإسماعيل ثم لذريته من بعده]

- ‌[قصة عمرو بن لحي وتغييره دين إبراهيم]

- ‌[أقدم أصنام الجاهلية مناة واللات والعزى]

- ‌[انتقال ولاية البيت إلى جرهم]

- ‌[انتقال ولاية البيت إلى غبشان من خزاعة]

- ‌[ولاية قصي وجمعه لقومه]

- ‌[حلف الفضول]

- ‌[قصة الحمس]

- ‌[حدوث الرجوم وإنذار الكهان بخروج النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[قصة بدء الوحي]

- ‌[قصة عمه أبي طالب]

- ‌[قصته صلى الله عليه وسلم مع قريش لما قرأ سورة النجم]

- ‌[إسلام الأنصار]

- ‌[بعض فوائد الهجرة]

- ‌[مشروعية الجهاد في المدينة]

- ‌[قتال أهل الردة]

- ‌[أهم ما على المسلم معرفة التوحيد من الشرك]

- ‌[من قال لا إله إلا الله وفعل ما يناقضها]

- ‌[نسب النبي صلى الله عليه وسلم]

- ‌[قصة الفيل]

- ‌[وفاة عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عبد المطلب جد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[أبو طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[خروجه إلى الشام وزواجه خديجة]

- ‌[تحنثه في غار حراء]

- ‌[بناء الكعبة]

- ‌[بعض ما كان عليه أهل الجاهلية]

- ‌[عمرو بن لحي أول من غير دين إبراهيم]

- ‌[صنم مناة]

- ‌[صنم اللات]

- ‌[صنم العزى]

- ‌[صنم هبل]

- ‌[ذو الخلصة]

- ‌[صنم عم أنس]

- ‌[بدء الوحي]

- ‌[أنواع الوحي]

- ‌[أول من آمن]

- ‌[شأن زيد بن حارثة]

- ‌[سمية أول شهيدة]

- ‌[ابتداء الدعوة]

- ‌[أول دم أهريق]

- ‌[استهزاء المشركين]

- ‌[الهجرة الأولى إلى الحبشة]

- ‌[الهجرة الثانية إلى الحبشة]

- ‌[كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي يزوجه أم حبيبة]

- ‌[بعث قريش إلى النجاشي تطلب إرجاع المسلمين]

- ‌[موت النجاشي]

- ‌[إسلام حمزة بن عبد المطلب]

- ‌[إسلام عمر رضي الله عنه]

- ‌[حماية أبي طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[حصار بني هاشم في الشعب]

- ‌[نقض الصحيفة]

- ‌[موت خديجة وأبي طالب]

- ‌[سؤالهم عن الروح وأهل الكهف]

- ‌[قول الوليد بن المغيرة في القرآن سحر]

- ‌[انشقاق القمر]

- ‌[سؤالهم الآيات]

- ‌[خروجه صلى الله عليه وسلم إلى الطائف]

- ‌[الإسراء والمعراج]

- ‌[فصل في الهجرة]

- ‌[بيعة العقبة الأولى]

- ‌[إسلام سعد بن معاذ وأسيد بن حضير]

- ‌[بيعة العقبة الثانية]

- ‌[الهجرة إلى المدينة]

- ‌[تآمر قريش بدار الندوة على قتل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[قصة سراقة بن مالك]

- ‌[قصة أم معبد]

- ‌[دخول رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينة]

- ‌[بناء المسجد]

- ‌[بناؤه بعائشة]

- ‌[المؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين]

- ‌[حوادث السنة الأولى]

- ‌[إسلام عبد اللَّه بن سلام]

- ‌[حوادث السنة الثانية]

- ‌[تحويل القبلة]

- ‌[استقرار الرسول بالمدينة]

- ‌[بعض خصائص رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[أول لواء عقده رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم]

- ‌[سرية عبيدة بن الحارث]

- ‌[سرية سعد بن أبي وقاص]

- ‌[غزوة الأبواء]

- ‌[غزوة بواط]

- ‌[خروجه لطلب كرز بن جابر]

- ‌[غزوة العشيرة]

- ‌[بعث عبد اللَّه بن جحش]

- ‌[قتل عمرو بن الحضرمي]

- ‌[معنى الفتنة]

- ‌[وقعة بدر الكبرى يوم الفرقان]

- ‌[قسم غنائم بدر]

- ‌[أسارى بدر]

- ‌[غزوة بني قينقاع]

- ‌[غزوة أحد]

- ‌[وقعة بئر معونة]

- ‌[غزوة المريسيع]

- ‌[قصة الإفك]

- ‌[غزوة الأحزاب]

- ‌[صلح الحديبية]

- ‌[غزوة خيبر]

- ‌[قدوم جعفر بن أبي طالب وصحبه من الحبشة]

- ‌[محاصرة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعض اليهود بوادي القرى]

- ‌[بعث سرية إلى الحرقات]

- ‌[عمرة القضية]

- ‌[غزوة مؤتة]

- ‌[غزوة الفتح الأعظم]

- ‌[هدم عمرو بن العاص صنم سواع]

- ‌[بعث سعد بن زيد لهدم مناة]

- ‌[غزوة حنين]

- ‌[المن على سبي هوازن]

- ‌[فتح مكة]

- ‌[غزوة الطائف]

- ‌[وفد ثقيف]

- ‌[ما في غزوة الطائف من الفقه]

- ‌[حوادث سنة تسع]

- ‌[قصة كعب بن زهير]

- ‌[غزوة تبوك]

- ‌[وفود العرب إلى رسول الله]

- ‌[وفد بني تميم]

- ‌[وفد طيئ]

- ‌[وفد عبد القيس]

- ‌[وفد بني حنيفة فيهم مسيلمة]

- ‌[حجة أبي بكر بالناس]

- ‌[حجة الوداع]

- ‌[بعث أسامة بن زيد إلى البلقاء]

- ‌[مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[موت رسول الله صلى الله عليه وسلم]

- ‌[حديث السقيفة]

- ‌[بيعة العامة لأبي بكر]

- ‌[فضيلة أبي بكر الصديق وخلافته الراشدة]

- ‌[قصة الردة]

- ‌[نفع الله طيئا بعدي بن حاتم]

- ‌[قتال أهل الردة]

- ‌[كتاب أبي بكر لأمرائه]

- ‌[ذكر مسير خالد إلى بزاخة وغيرها]

- ‌[ذكر رجوع بني عامر وغيرهم إلى الإسلام]

- ‌[مسير خالد إلى اليمامة]

- ‌[ذكر ردة أهل اليمامة مفتونين بمسيلمة الكذاب]

- ‌[ذكر تقديم خالد الطلائع من البطاح]

- ‌[ذكر ردة بني سليم]

- ‌[قتل الفجاءة وتحريقه]

- ‌[ذكر ردة أهل البحرين]

- ‌[ذكر ردة أهل دبار وأزد عمان]

- ‌[السنة الثانية عشرة]

- ‌[مسير خالد إلى العراق]

- ‌[حوادث السنة الثالثة عشرة]

- ‌[موت الصديق رضي الله عنه]

- ‌[حوادث السنة الرابعة عشرة]

- ‌[حوادث السنة الخامسة عشرة]

- ‌[فتح القادسية]

- ‌[حوادث السنة السادسة عشرة]

- ‌[حوادث السنة السابعة عشرة]

- ‌[حوادث السنة الثامنة عشرة]

- ‌[حوادث السنة التاسعة عشرة]

- ‌[حوادث السنة العشرين]

- ‌[حوادث السنة الحادية والعشرين]

- ‌[حوادث السنة الثانية والعشرين]

- ‌[حوادث السنة الثالثة والعشرين]

- ‌[حوادث سنة أربع وعشرين]

- ‌[حوادث سنة خمس وعشرين]

- ‌[حوادث سنة ست وعشرين]

- ‌[حوادث سنة سبع وعشرين]

- ‌[حوادث سنة ثمان وعشرين]

- ‌[حوادث سنة تسع وعشرين]

- ‌[حوادث سنة ثلاثين]

- ‌[حوادث سنة إحدى وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة اثنتين وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة ثلاث وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة أربع وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة خمس وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة ست وثلاثين]

- ‌[موقعة الجمل]

- ‌[حوادث سنة سبع وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة ثمان وثلاثين]

- ‌[حوادث سنة أربعين]

- ‌[حوادث سنة سنة اثنتين وأربعين]

- ‌[حوادث سنة ثلاث وأربعين]

- ‌[حوادث سنة أربع وأربعين]

- ‌[حوادث سنة خمس وأربعين]

- ‌[حوادث سنة ست وأربعين]

- ‌[حوادث سنة سبع وأربعين]

- ‌[حوادث سنة تسع وأربعين]

- ‌[حوادث سنة إحدى وخمسين]

- ‌[حوادث سنة اثنتين وخمسين]

- ‌[حوادث سنة ثلاث وخمسين]

- ‌[حوادث سنة أربع وخمسين]

- ‌[حوادث سنة خمس وخمسين]

- ‌[حوادث سنة ست وخمسين]

- ‌[حوادث سنة سبعة وخمسين]

- ‌[حوادث سنة ثمان وخمسين]

- ‌[حوادث سنة ستين]

- ‌[دولة بني العباس]

- ‌[بدء تأليف الكتب]

الفصل: ‌[قصة إبراهيم عليه السلام وأحواله]

ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة - في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها (1) قال {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} [التوبة: 70](2) .

وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك.

وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له.

وكذلك نقلهم سيرة الصحابة، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم. كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر.

إذا فهمت ذلك:

فاعلم أن كثيرا من الرسل وأممهم لا نعرفهم؛ لأن الله لم يخبرنا عنهم لكن أخبرنا عن عاد، التي لم يخلق مثلها في البلاد. فبعث الله إليهم هودا عليه السلام. فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عُدم بعد مدة لا ندري كم هي؟ وبقي في أصحاب صالح. إلى أن عدم مدة لا ندري كم هي؟

[قصة إبراهيم عليه السلام وأحواله]

ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم. فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة. ثم آمن له لوط عليه السلام، ومع هذا نصره الله، ورفع قدره، وجعله إماما للناس.

(1) هم المنافقون وما فعلوا في غزوة تبوك.

(2)

الآية من الآية 70 من سورة التوبة.

ص: 15

ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام لم يعدم التوحيد في ذريته. كما قال تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28](1) .

فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئا من أحواله. لا يستغني مسلم عن معرفتها. فنقول:

في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لم يكذب إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم قط إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} [الأنبياء: 63] وواحدة في شأن سارة. فإنه قدم أرض جبَّار ومعه سارة. وكانت أحسن الناس. فقال لها: إن هذا الجبار إن يعلم أنك امرأتي: يغلبني عليك، فإن سألك. فأخبريه: أنكِ أختي. فإنكِ أختي في الإسلام. فإني لا أعلم في الأرض مسلما غيري وغيرك. فلما دخل أرضه رآها بعض أهل الجبار فأتاه. فقال: لقد قدم أرضك امرأة لا ينبغي أن تكون إلا لك. فأرسل إليها، فأُتيَ بها. فقام إبراهيم إلى الصلاة. فلما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده إليها. فَقُبِضَتْ يده قبضة شديدة. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، فلك الله: أن لا أضرك. ففعلت، فعاد: فَقُبِضَتْ يده أشد من القبضة الأولى. فقال لها مثل ذلك، فعاد فَقُبِضَتْ يده أشد من القبضتين الأولتين. فقال لها: ادعي الله أن يطلق يدي، ولك الله أن لا أضرك، ففعلت. فأطلقت يده. ودعا الذي جاء بها، فقال له: إنك إنما جئتني بشيطان ولم تأتني بإنسان، فأخرجها من أرضي، وأعطاها هاجر. فأقبلت. فلما رآها إبراهيم. انصرف، فقال لها: مَهْيَم؟ قالت: خيرًا. كف الله يد الفاجر، وأخدم خادمًا» .

(1) الآية رقم 28 من سورة الزخرف.

ص: 16

قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء (1)(2) .

وللبخاري: «أن إبراهيم لما سئل عنها قال: هي أختي، ثم رجع إليها. فقال: لا تكذبي حديثي. فإني أخبرتهم أنك أختي. والله ما على الأرض مؤمن غيري وغيرك. فأرسل بها إليه فقام إليها. فقامت تتوضأ وتصلي. فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ يد الكافر، فغطَّ حتى ركض برجله الأرض. فقالت: اللهم إن يمت، يقال: هي قتلته. فأُرسِل. ثم قام إليها فقامت تتوضأ وتصلي، وتقول: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا على زوجي، فلا تسلط عليَّ هذا الكافر فغط حتى ركض برجله. فقالت: اللهم إن يمت يقال: هي قتلته. فأُرسِل في الثانية أو الثالثة. فقال: والله ما أرسلتم إليَّ إلا شيطانًا، أرجعوها إلى إبراهيم وأعطوها هاجر. فرجعت إلى إبراهيم، فقالت: أشَعُرْتَ؟ إن الله كبت الكافر، وأخدم وليدة» .

وكان عليه السلام في أرض العراق. وبعد ما جرى عليه من قومه ما

(1) الحديث عند البخاري في باب واتخذ الله إبراهيم خليلا من كتاب أحاديث الأنبياء. ولكن فيه بعض اختلاف في اللفظ. ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه العرب، لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر لأجل رعي دوابهم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج6 ص276) الطبعة الأميرية، ففيه متمسك لمن زعم أن العرب كلهم من ولد إسماعيل. وقيل: أراد بماء السماء: زمزم. لأن الله أنبعها لهاجر. فعاش ولدها بها. وقيل: أراد الأوس والخزرج لأن جدهم عمرو بن مزيقيا كان يسمى بذلك. لأنه كان إذا أقحط الناس أقام لهم مقام المطر.

(2)

ورواه مسلم أيضا فهو من المتفق عليه عن أبي هريرة.

ص: 17

جرى هاجر إلى الشام. واستوطنها، إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار. فواقعها. فولدت له إسماعيل عليه السلام، فغارت سارة. فأمره الله بإبعادها عنها. فذهب بها وبابنها فأسكنها في مكة. ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق. ومن وراء إسحاق يعقوب.

وفي الصحيح عن ابن عباس قال: «لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان: خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه شَنّة فيها ماء. فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فَيَدِرُّ لبنها على صبيها، حتى قدم مكة. فوضعها تحت دَوْحة فوق زمزم في أعلى المسجد - وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء - ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم قَفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل. فلما بلغوا كداء (1) نادته من ورائه: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا - وفي لفظ: إلى من تَكِلنا؟ قال: إلى الله. قالت: رضيتُ - ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37](2) . وجعلت أم إسماعيل ترضعه

(1) قال الحافظ في الفتح (ج6 ص284) بفتح الكاف ممدودا: هو الموضع الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع.

(2)

الآية رقم 37 من سورة إبراهيم.

ص: 18

وتشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى إذا نَفَدَ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها. وجعلت تنظر إليه يَتَلَوَّى - أو قال يَتَلَبَّطَ - فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه. فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت واستقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها. ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها. فنظرت: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات - قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ - تعني الصبي - فذهبت فنظرت. فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت (1) فلم تقر نفسها. فقالت: لو ذهبت لَعَلِّي أحس أحدًا؟ فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت. فلم تحس أحدًا. حتى أتمت سبعًا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوت. فقالت: أغِثْ إن كان عندك خير. فإذا بجبريل. قال: فقال بعقبه على الأرض. فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل فجعلت تحفر، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا معينًا - وفي حديثه: فجعلت تغرف الماء في سقائها - قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة. فإن ههنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، إن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية. تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقة من جُرهم مقبلين من طريق كَداء،

(1) النشغ: الشهيق بشدة حتى يبلغ إلى الغشي من شدة البكاء.

ص: 19

فرأوا طائرا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء. لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَريّا، أو جريين (1) . فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وقالوا لأم إسماعيل: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم - قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفَى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا. وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشَبَّ الغلام. وتعلم العربية منهم. وأنْفَسَهم (2) وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل. وجاء إبراهيم - بعد ما تزوج إسماعيل - يطالع تَرِكَته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة. فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يُغَيِّر عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ - كذا وكذا - فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته: أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غَيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك. الحقي بأهلك، فطلقها. وتزوج منهم امرأة أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، فقال لأهله: إني مُطّلع تركتي. فجاء، فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت:

(1) قال الحافظ في الفتح (ج6 ص 286) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد الياء: الرسول. وقد يطلق على الوكيل وعلى الأجير. وقيل: سمي بذلك لأنه يجري مجرى مرسله أو موكله، أو لأنه يجري مسرعًا.

(2)

بفتح الفاء بوزن أفعل التفضيل من النفاسة. أي كثرت رغبتهم فيه.

ص: 20