الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولما أنكر الله على أناس من هذه الأمة - في زمن النبي صلى الله عليه وسلم أشياء فعلوها (1) قال {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} [التوبة: 70](2) .
وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص من قبلهم، ليعتبروا بذلك.
وكذلك أهل العلم في نقلهم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى له مع قومه، وما قال لهم، وما قيل له.
وكذلك نقلهم سيرة الصحابة، وما جرى لهم مع الكفار والمنافقين، وذكرهم أحوال العلماء بعدهم. كل ذلك لأجل معرفة الخير والشر.
إذا فهمت ذلك:
فاعلم أن كثيرا من الرسل وأممهم لا نعرفهم؛ لأن الله لم يخبرنا عنهم لكن أخبرنا عن عاد، التي لم يخلق مثلها في البلاد. فبعث الله إليهم هودا عليه السلام. فكان من أمرهم ما قص الله في كتابه وبقي التوحيد في أصحاب هود إلى أن عُدم بعد مدة لا ندري كم هي؟ وبقي في أصحاب صالح. إلى أن عدم مدة لا ندري كم هي؟
[قصة إبراهيم عليه السلام وأحواله]
ثم بعث الله إبراهيم عليه السلام، وليس على وجه الأرض يومئذ مسلم. فجرى عليه من قومه ما جرى، وآمنت به امرأته سارة. ثم آمن له لوط عليه السلام، ومع هذا نصره الله، ورفع قدره، وجعله إماما للناس.
(1) هم المنافقون وما فعلوا في غزوة تبوك.
(2)
الآية من الآية 70 من سورة التوبة.
ومنذ ظهر إبراهيم عليه السلام لم يعدم التوحيد في ذريته. كما قال تعالى {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28](1) .
فإذا كان هو الإمام فنذكر شيئا من أحواله. لا يستغني مسلم عن معرفتها. فنقول:
(1) الآية رقم 28 من سورة الزخرف.
قال أبو هريرة: فتلك أمكم يا بني ماء السماء (1)(2) .
وكان عليه السلام في أرض العراق. وبعد ما جرى عليه من قومه ما
(1) الحديث عند البخاري في باب واتخذ الله إبراهيم خليلا من كتاب أحاديث الأنبياء. ولكن فيه بعض اختلاف في اللفظ. ويقصد أبو هريرة رضي الله عنه العرب، لكثرة ملازمتهم للفلوات التي بها مواقع القطر لأجل رعي دوابهم. قال الحافظ ابن حجر في الفتح (ج6 ص276) الطبعة الأميرية، ففيه متمسك لمن زعم أن العرب كلهم من ولد إسماعيل. وقيل: أراد بماء السماء: زمزم. لأن الله أنبعها لهاجر. فعاش ولدها بها. وقيل: أراد الأوس والخزرج لأن جدهم عمرو بن مزيقيا كان يسمى بذلك. لأنه كان إذا أقحط الناس أقام لهم مقام المطر.
(2)
ورواه مسلم أيضا فهو من المتفق عليه عن أبي هريرة.
جرى هاجر إلى الشام. واستوطنها، إلى أن مات فيها. وأعطته سارة الجارية التي أعطاها الجبار. فواقعها. فولدت له إسماعيل عليه السلام، فغارت سارة. فأمره الله بإبعادها عنها. فذهب بها وبابنها فأسكنها في مكة. ثم بعد ذلك وهب الله له ولسارة إسحاق عليه السلام، كما ذكر الله بشارة الملائكة له ولها بإسحاق. ومن وراء إسحاق يعقوب.
وفي الصحيح عن ابن عباس قال: «لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان: خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعه شَنّة فيها ماء. فجعلت أم إسماعيل تشرب من الشنة فَيَدِرُّ لبنها على صبيها، حتى قدم مكة. فوضعها تحت دَوْحة فوق زمزم في أعلى المسجد - وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء - ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء. ثم قَفّى إبراهيم منطلقا، فتبعته أم إسماعيل. فلما بلغوا كداء (1) نادته من ورائه: يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت: إذن لا يضيعنا - وفي لفظ: إلى من تَكِلنا؟ قال: إلى الله. قالت: رضيتُ - ثم رجعت. فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية، حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ثم دعا بهؤلاء الدعوات ورفع يديه فقال:{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37](2) . وجعلت أم إسماعيل ترضعه
(1) قال الحافظ في الفتح (ج6 ص284) بفتح الكاف ممدودا: هو الموضع الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم مكة في حجة الوداع.
(2)
الآية رقم 37 من سورة إبراهيم.
وتشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها، حتى إذا نَفَدَ ما في السقاء عطشت وعطش ابنها. وجعلت تنظر إليه يَتَلَوَّى - أو قال يَتَلَبَّطَ - فانطلقت كراهيةَ أن تنظر إليه. فوجدت الصفا أقرب جبل إليها، فقامت واستقبلت الوادي تنظر: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدًا. فهبطت من الصفا، حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها. ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي. ثم أتت المروة، فقامت عليها. فنظرت: هل ترى أحدا؟ فلم تر أحدا، ففعلت ذلك سبع مرات - قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك سعي الناس بينهما - ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ - تعني الصبي - فذهبت فنظرت. فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت (1) فلم تقر نفسها. فقالت: لو ذهبت لَعَلِّي أحس أحدًا؟ فذهبت فصعدت الصفا. فنظرت. فلم تحس أحدًا. حتى أتمت سبعًا. ثم قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل؟ فإذا هي بصوت. فقالت: أغِثْ إن كان عندك خير. فإذا بجبريل. قال: فقال بعقبه على الأرض. فانبثق الماء فذهبت أم إسماعيل فجعلت تحفر، فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: يرحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم - أو قال: لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عينًا معينًا - وفي حديثه: فجعلت تغرف الماء في سقائها - قال: فشربت وأرضعت ولدها. فقال لها الملك: لا تخافي الضيعة. فإن ههنا بيتًا لله، يبنيه هذا الغلام وأبوه، إن الله لا يضيع أهله. وكان البيت مرتفعًا من الأرض كالرابية. تأتيه السيول، فتأخذ عن يمينه وشماله. فكانت كذلك حتى مرَّت بهم رفقة من جُرهم مقبلين من طريق كَداء،
(1) النشغ: الشهيق بشدة حتى يبلغ إلى الغشي من شدة البكاء.
فرأوا طائرا عائفًا، فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء. لَعَهْدُنا بهذا الوادي وما فيه ماء، فأرسلوا جَريّا، أو جريين (1) . فإذا هم بالماء، فرجعوا فأخبروهم فأقبلوا، وقالوا لأم إسماعيل: أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت: نعم، ولكن لا حق لكم في الماء. قالوا: نعم - قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: فألفَى ذلك أمَّ إسماعيل وهي تحب الأنس - فنزلوا. وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم. حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشَبَّ الغلام. وتعلم العربية منهم. وأنْفَسَهم (2) وأعجبهم حين شب، فلما أدرك زوجوه امرأة منهم. وماتت أم إسماعيل. وجاء إبراهيم - بعد ما تزوج إسماعيل - يطالع تَرِكَته، فلم يجد إسماعيل، فسأل امرأته عنه، فقالت: خرج يبتغي لنا. ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم، فقالت: نحن بشر، نحن في ضيق وشدة. فشكت إليه. قال: فإذا جاء زوجك اقرئي عليه السلام، وقولي له يُغَيِّر عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا، فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم جاءنا شيخ - كذا وكذا - فسألنا عنك، فأخبرته، وسألني: كيف عيشنا؟ فأخبرته: أنا في جهد وشدة. قال: فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم. أمرني أن أقرأ عليك السلام، ويقول: غَيّر عتبة بابك. قال: ذاك أبي. وقد أمرني أن أفارقك. الحقي بأهلك، فطلقها. وتزوج منهم امرأة أخرى، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله، فقال لأهله: إني مُطّلع تركتي. فجاء، فقال لامرأته: أين إسماعيل؟ قالت:
(1) قال الحافظ في الفتح (ج6 ص 286) بفتح الجيم وكسر الراء وتشديد الياء: الرسول. وقد يطلق على الوكيل وعلى الأجير. وقيل: سمي بذلك لأنه يجري مجرى مرسله أو موكله، أو لأنه يجري مسرعًا.
(2)
بفتح الفاء بوزن أفعل التفضيل من النفاسة. أي كثرت رغبتهم فيه.