الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والتحريف لأبي أحمد العسكري" فهل يتصور أن يحدث هذا في القرآن ويسكت عنه هؤلاء الغُير من العلماء؟.
وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار هي أن المصاحف التي نسخت في عهد عثمان على يد هذه المجموعة الطيبة من الصحابة القراء عندما وزعت على الأمصار الإسلامية كان يرسل مع كل مصحف عالمًا من علماء القراءة يعلم المسلمين القرآن وفق هذا المصحف، وعلى مقتضاه، فأمر زيد بن ثابت أن يقرئ بالمدينة، وبعث عبد الله بن السائب إلى مكة، والمغيرة بن شهاب إلى الشام، وعامر بن عبد قيس إلى البصرة، وأبا عبد الرحمن السلمي إلى الكوفة، ولا شك أن الحكمة من إرسال القارئ مع المصحف تقييد ما يحتمله الرسم من القراءات بالمنقول منها تواترًا، فلو كانت القراءات مأخوذة من رسم المصحف، وأن أي قراءة توافق الرسم مقبولة ما كان هناك ما يدعو لإرسال عالم مع المصحف، فهذا دليل على أن القراءة تعتمد على التلقي والنقل والرواية، لا على الخط والرسم والكتابة1.
1 القراءات في نظر المستشرقين والملحدين، الشيخ عبد الفتاح القاضي ص48، 49 وراجع تفسير القرطبي، الجامع لأحكم القرآن ج1 ص60.
كتابة المصحف بين الرسم العثماني والرسم الإملائي
…
كتاب المصحف بين الرسم العثماني، والرسم الإملائي:
ارتفعت بعض الأصوات في الآونة الأخيرة، وفي النصف الثاني من القرن الهجري1 الماضي تطالب بتيسير رسم المصحف، وكتابته حسب قواعد الإملاء التي تعارف عليها أبناء اللسان العربي، وانتهوا إليها في صورتها المعاصرة وذلك بهدف تيسير القراءة على الناشئة والعامة من
1 ورد سؤال بهذا الشأن لمجلة الفتوى بالأزهر، مجلة الرسالة عدد 216 سنة 1937، ومجلة المقتطف يوليو سنة 1933.
المسلمين الذين لا يعرفون أصول الرسم العثماني، وتصدى لهؤلاء من يعارضونهم ويقولون بضرورة الحفاظ على الرسم العثماني.
والذي أريد أن أقرره بين يدي هذه القضية أن المطالبة بتيسير رسم المصحف قضية عرفت من عدة قرون، وليست وليدة القرن الماضي.
ففي هذه المسألة رأيان، ولكل صاحب رأي وجهة هو موليها وله أدلته التي يستند إليها.
وسنعرض بإيجاز لكلا الرأيين، والحجج التي تساند كلا منهما، ونحاول أن ننتهي إلى التصور الذي نرجو أن يكون سديدًا فيحقق الغاية دون تضييع أو تفريط.
القائلون بضرورة كتابة المصحف بالرسم العثماني.
يرى هؤلاء أن هذا الرسم توقيفي، كتب به كتبة الوحي، وكتب المصحف الأول في عهد أبي بكر، وسار الصحابة على هذا النمط من الهجاء دون محاولة تغييره، وسار الأمر على ذلك في عهد عثمان رضي الله عنه.
وهذه حجة أولى ولهم حجة ثانية.
هي رأي الإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما أما رأي الإمام مالك فقد روى السخاوي أن مالك بن أنس سئل: أرأيت من استكتب مصحفًا، أرأيت أن يكتب ما استحدثه الناس من الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى1.
ثم يعلق السخاوي على هذا بقوله: والذي ذهب إليه مالك هو
1 البرهان للزركشي "1/ 379"، والإتقان للسيوطي "2/ 283"، والحكم للداني ص15.
الحق؛ إذ فيه بقاء الحالة الأولى إلى أن تعلمها الطبقة الأخرى، ولا شك أن هذا هو الأحرى؛ إذ في خلال ذلك تجهيل الناس بأولية ما في الطبقة الأولى".
وقال الإمام أبو عمرو الداني: سئل مالك عن الحروف في القرآن مثل الواو والياء والألف: أترى أن يغير من المصحف إذا وجد فيه شيء من ذلك؟ قال: لا.
ثم يعلق الداني على هذا فيقول: يعني الواو والياء والألف الزائدات في الرسم، المعلومات في اللفظ نحو:"لا أذبحنه" و "بأييد" و "أولوا" ونحوها ثم يقول. لا مخالف لمالك من علماء هذه الأمة"1.
أما الإمام أحمد بن حنبل فقد قال: تحرم مخالفة خط مصحف عثمان في واو أو ألف، أو ياء، أو غير ذلك"2.
والحجة الثالثة تنحو منحى صوفيًّا؛ إذا يرى أصحابها أن هذا الرسم توقيف عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي أمر بالكتابة على هذه الهيئة المعروفة؛ وذلك لأسرار لا يعلمها إلا الله، ولا تهتدي إليها عقول البشر، كما أنها في تصورهم تمثل جانبًا من جوانب الإعجاز القرآني، ثم يتساءلون: لماذا زيدت الألف في "مائة" دون "فئة" والياء في "بأييد" و "بأييكم"؟ وما السر في زيادة الألف في "سعوا" في سورة الحج دون "سعو" في سبأ وزيادتها في "عتوا" في جميع مواضعها دون "سعوا" في سبأ وزيادتها في {عَتَوْا} في جميع مواضعها دون "عتو" في الفرقان، وزيادتها في {يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} البقرة، ونقصانها من {يَعْفُوَ عَنْهُم} في النساء؟ ولماذا ثبتت
1 مناهل العرفان للزرقاني "1/ 382".
2 الإتقان "2/ 283"؛ والمحكم ص15.
في {سِرَاجًا} في كل مواضعها، وحذفت من موضعها في الفرقان ثم يقولون: "فكل ذلك لأسرار إلهية، وأغراض نبوية، وإنما خفيت على الناس؟ لأنها أسرار باطنية لا تدرك إلا بالفتح الرباني بمنزلة الألفاظ والحروف المقطعة التي في أوائل السور فإنها لها أسرار عظيمة، ومعاني كثيرة1.
4-
خط الإملاء السائد متطور، لا يستقر على صورة واحدة، وإمكانات تطوره وتغييره قائمة، ويخشى لو كتب المصحف به أن يكون وسيلة لتحريف أو تغيير، وضمان الحفاظ على النص القرآني رهن بالاستمساك بقواعد الخط العثماني.
والحجة الخامسة: يرتبط بالرسم العثماني مزايا عظيمة.
أ- منها الإشارة إلى ما في الكلمة من قراءات قرآنية لا تتأتى في حالة الرسم الإملائي من ذلك كلمة "سراجا".
وردت في سورة الفرقان: {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} 2، وفي سورة الأحزاب:{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا} 3، وفي سورة النبأ:{وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} 4.
كتبت بدون ألف في "الفرقان" وبالألف في "الأحزاب" و "النبأ"؛ وذلك لأنها في الفرقان فيها قراءتان أولاهما بكسر السين وفتح الراء بعدها ألف أعني بصيغة الإفراد، والأخرى بضم السين والراء أي
1 مناهل العرفان ج1 ص382- 383 وهذا نقل ابن المبارك عن شيخه عبد العزيز الدباغ.
2 الفرقان: 61.
3 الأحزاب: 46.
4 النبأ: 13.
بصيغة الجمع، فإذا كتبت بالرسم الإملائي لن يفهم منه: إلا قراءة واحدة.
ب- الإشارة إلى بعض لغات العرب.
فنرى في المصحف العثماني كتابة تاء التأنيث المربوطة مفتوحة في بعض المواضع إيذانًا بجواز الوقف عليها بالتاء على لغة طيئ نحو قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} 1، وقوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} 2، وقوله سبحانه:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ} 3، وقوله:{وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ} 4، وقوله:{إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّوم} 5.
ومما نلاحظه بأن هذا الاتجاه المحافظ بالغ في التحفظ حتى إنهم كرهوا ما حدث من نقط المصاحف ورووا عن الإمام مالك قوله: "جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء" وقوله: "ولا تخلطوا به ما ليس منه إني أخاف أن يزيدوا في الحروف أو ينقصوا"6.
كما كرهوا ذكر أسماء السور، ورسم فواتح السور وعدد الآيات.
قال أبو بكر السراج قلت لأبي رزين: "أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟ قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه، فيظنوا أنه من القرآن"7.
1 الأعراف: 56.
2 إبراهيم: 34.
3 التحريم: 10.
4 الأنفال: 38.
5 الدخان: 43.
6 المحكم ص 10- 11.
7 المرجع السابق ص17.
فكل زيادات في الرسم، حتى ولو كان الهدف منها التنسيق والتنظيم، والبيان كرهوها.
واستمر هذا التيار المحافظ حتى عصرنا الحاضر.
وأسهمت فيه لجنة الفتوى بالأزهر، وعندما سئلوا عن كتابة المصحف بخط الإملاء المعتاد أفتوا بعدم جواز ذلك التزامًا بما كان عليه الصحابة والتابعون1.
ورأى حفني ناصف وجوب المحافظة على الرسم العثماني لمعرفة القراءة المقبولة والمردودة، وفي المحافظة احتياط شديد لبقاء القرآن على أصله لفظًا وكتابة، فلا يفتح فيه باب الاستحسان2.
رأي المطالبين بالرسم الإملائي.
في مقدمة هذا الرأي يؤكدون أن الهدف تيسير القرآن للناشئة حتى يقرؤه صحيحًا دون أن تعترضهم صعوبات الرسم، وقد بنوا حجتهم على عدة أسس.
منها أن الرسم العثماني ليس توقيفيًّا، وإنما كتب المصحف بالخط المتعارف عليه حينذاك، وعندما كان كتبة الوحي يكتبون ما ينزل من آيات ما أوصاهم الرسول عليه الصلاة والسلام بكتابة معينة، أو رسم معين أو زيادة أو نقص، ولو فعل لآمنا به ولحرصنا عليه، ولكان هذا الرسم توقيفيًّا كما قالوا.
بل إنهم ذهبوا إلى أبعد من هذا وقالوا: إن ما حدث إنما هو خطأ من الكتاب.
قال ابن خلدون: "لقد كان الخط العربي الأول الإسلام غير بالغ
1 مجلة الرسالة -العدد 216 سنة 1937.
2 مجلة المقتطف يوليو "تموز"1933.
الغاية من الإحكام والإتقان والإجادة ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش، وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها1.
وحقائق التاريخ تشير إلى أن الرسم العثماني لم يقف على الصورة التي كان عليها، بل لحقت به بعض تطورات وتغييرات تهدف إلى الحفاظ على القرآن من تيارات اللحن، وتيسير قراءته بعدما فشت العجمة، ولا ريب أنها قوبلت في أول الأمر بشيء من التحرج، لكن التطور المفيد قد تم إيمانًا من القائمين بها بأن فيها بيانًا وتوضيحًا2.
من ذلك أن المصاحف في أول الأمر كانت خالية من الشكل.
ثم ظهرت الحاجة ماسة لذلك، فوجدنا العلماء يترخصون ويقولون: العجم نور الكتاب، وأنه لا بأس به ما لم تبغوا3.
على أن هذا العمل جاء في وقت مبكر؛ إذ رأينا أبا الأسود الدؤلي "ت 69هـ" قام بشكل المصحف لدفع التحريف، وكان الشكل عبارة عن نقط تبين الحركات والتنوين، وتم ذلك في خلافة معاوية4.
كما قام نصر بن عاصم "89 هـ" ويحيى بن يعمر "129 هـ" بإعجام المصحف بالنقط دفعًا للتصحيف بأمر الحجاج في خلافة
1 مقدمة ابن خلدون ص419 ط مصطفى محمد، وراجع مجلة البحوث الإسلامية العدد السادس -الرياض 1403هـ وفيها رأي للسيد رشيد رضا يؤيد ما ذهب إليه ابن خلدون.
2 رسم المصحف، د. عبد الفتاح شلبي ص123.
3 المحكم ص12.
4 وفيات الأعيان ترجمة أبي الأسود الدؤلي.
2-
من غير المقبول عقلًا ونصًّا القول بالرمز، أو بأن هناك أسرارًا إلهية في هذه الحروف الزائدة، وأن هذه الأسرار لا تدرك إلا بالفتح الرباني فهذا نوع من التكلف والتعسف والإيغال في الوهم.
ولو كان هذا الرسم توقيفًا لكنا ملزمين به واتباعه، وألا نغير فيه، مع أن الذي حدث أنه تمت تغييرات في الرسم على يد أعلام لا مطعن فيهم أكسب النص القرآني وضوحًا، ولم تحدث لبسًا، ونحن الآن نهتدي بما زاده القوم على الرسم العثماني.
3-
إذا حاول بعض المتمسكين بحرفية الرسم العثماني أن يوجدوا تفسيرات كما أوضحنا لزيادة الألف في: "لا أذبحنه""ولا أوضعوا" وللياء في "أييد" فبم يفسرون زيادة الألف في: "ملاقوا ربهم""بنوا إسرائيل""أولوا الألباب" وزيادة الياء في "نبإي المرسلين""آناءى الليل".
4-
أنا مع المحافظين فيا ذكروه من مزايا للرسم العثماني في الإشارة للقراءات ولهجات القبائل.
5-
من أجل هذا أحدد وجهة نظري في الآتي:
المحافظة التامة على كتابة المصحف بالرسم العثماني على الصورة التي هو عليها الآن، وفيها التطورات التي تمت على أيدي أبي الأسود الدؤلي ونصر بن عاصم، ويحيى بن يعمر، ونحوها من المصطلحات التي زادها علماء القراءات في عصرنا الحاضر، وتم على أساسها طباعة المصحف في عصرنا الحديث.
ولا مانع مع هذا إذا نقلنا نصوصًا قرآنية للاستشهاد بها في كتبنا وبحوثنا، أو لنعلمها للناشئة في المدارس، أو لتكتب على لوحات للتوجيه والإرشاد أن تكون بخط الإملاء العادي تيسيرًا على الناس الذين
لا علم لهم بدقائق رسم المصحف العثماني، ولا يتاح لهم الآن الرجوع إلى المتخصصين في ذلك للمراجعة والضبط.
وقد اتجهت إلى ذلك وزارة التربية والتعليم في مصر، فكتبت النصوص القرآنية في الكتب المدرسية بالرسم الإملائي المعروف.
على أنه ينبغي لنا أن نضع في اعتبار أن رائد الجميع هو العمل على الحفاظ على الكتاب العزيز، وتيسيره للناس ولقد يسره الله علينا من حيث المفهوم والمحتوى فقال:{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ، فبقي علينا ألا نرى مضاضة في تيسيره -إلى حد ما- في الرسم والكتابة.
وقد تكفل الله بحفظ كتابه فقال عز من قائل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} .
يقول العز بن عبد السلام -سلطان العلماء: لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة، لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه، لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته العلماء، لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجته1.
وهذا قول فيه حصافة، وفطنة، رحم الله صاحبه.
1 البرهان في علوم القرآن للزركشي ص379، ومعنى دروس العلم: ذهاب آثاره.