الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
صور من الاحتجاج النحوي:
قوله تبارك وتعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ} [البقرة: 177] .
قرأ حمزة وحفص بنصب "البر" الأولى، قرأ الباقون بالرفع.
فعلى النصب يكون البر خبرًا لليس مقدمًا، ويكون {أَنْ تُوَلُّوا} مصدرًا مؤولًَا اسمًا ليس، والمعنى: ليست توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله.
وعلى الرفع يكون {الْبِر} اسمًا لليس، والمصدر المؤول خبرًا لها والمعنى: ليس البر كله توليتكم.
فكلتا القراءتين له وجه قوي في النحو؛ لأن الاسم والخبر كليهما معرفة، وفي هذه الحالة يجوز في كل منهما أن يكون اسمًا أو خبرًا.
لكن يرجع الأولى: أن الاسم فيها هو المصدر المؤول وهو معرفة لا تتنكر، والبر يتنكر فهو أقوى تعريفًا من المحلى بأل، كما أن "أن وصلتها" تشبه المضمر؛ لأنها لا توصف كما لا يوصف المضمر، ومن الأصول أنه إذا اجتمع مع ليس وأخواتها مظهر ومضمر، فالمضمر هو الاسم والمظهر هو الخبر؛ لأنه أعرف.
وكذلك أن وصلتها في تقدير الإضافة إلى المضمر؛ لأن معناها "توليتكم" والمضاف إلى المضمر أعرف مما فيه أل، والأعرف أولى أن يكون هو الاسم. وأمر آخر هو أن تعريف البر ضعيف؛ لأنه يدل على الجنس لا على شخص بعينه، وتعريف الجنس ضعيف؛ لأنه يشبه النكرة.
كما يرجع قراءة الرفع: "لَيْسَ الْبِّرُ" أن اسم ليس كالفاعل، ورتبة الفاعل أن يلي الفعل، فإذا نصبته كان لا بد من نية تأخيره على الخبر، ومجيء الكلام على رتبته التي أتت بها التلاوة أولى من التقديم والتأخير.
كما يقوي الرفع مجيء "البّر" مرفوعًا في الآية 189 من السورة: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} ؛ إذ لا يجوز هنا إلا الرفع فحمل الأول على الثاني أولى من المخالفة1.
كما يقويها ما جاء في مصحف ابن مسعود وأُبَيّ: "لَيْسَ الْبِرُّ بِأَن
1 راجع في هذه الترجيحات الكشف ج1 ص280- 281.
تُوَلُّوا" بزيادة الباء.
المراجع: حجة القراءات لابن أبي زرعة ص123.
الكشف لمكي ج1 ص280- وص281- الحجة في القراءات السبع لابن خالويه ص92 النشر في القراءات العشر ج2.
قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 71] .
قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي: "وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونُ" بالرفع، وأضاف ابن الجزري: خلفًا ويعقوب.
وقرأ الباقون: {أَلَّا تَكُونَ} بالنصب.
وحجة القراءة الأولى قوله تعالى: {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} 1.
فجعل "حسب" بمعنى العلم واليقين الذي في آية الحديد، فإن هنا مخففة من الثقيلة تؤكد ما بعدها، وما قبلها من اليقين يجعلها أقرب من الناصبة، فيسير الكلام على نمط اليقين، وعلى هذا يكون التقدير:"أنه لا تكون فتنة" فاسمها ضمير محذوف، ويرفع الفعل؛ لأنه لا ناصب له حينئذ، وتصير "لا" عوض من المحذوف مع أن، وجملة كان واسمها في محل رفع خبر "أن" المخففة، ولا تحتاج كان إلى خبر؛ لأنها تامة.
وحجة من نصب أنه أجرى "حسب" على بابها للشك فأتت معه أن الناصبة للفعل؛ لأنها لأمر غير ثابت مثل ما قبلها فهي ملائمة له.
1 الحديد: 29.
و"لا" لا تفصل بين العامل والمعمول كقولك: أحب أن تذهب أحب ألا تذهب، وقوله تعالى:{مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُد} 1، وقوله:{مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} 2، فالنصب باق مع "لا" كما هو موجود بدون "لا" كما جاء قوله تعالى:{وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّه} 3، وقوله سبحانه:{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 4.
وحكى بعض النحويين أنه قال: من رفع هذا الفعل كتب: "أن لا" منفصلة؛ لأن الهاء المضمرة المقدرة تحول في المعنى بين "أن" و "لا" من نصب الفعل كتبه غير منفصل؛ إذ لا شيء يقدر يحول بين "أن" و "لا"5.
المراجع، حجة القراءات لابن أبي زرعة ص233.
الحجة لابن خالويه ص135.
الكشف لمكي ج1 ص416.
النشر ج2 ص44.
وراجع كتاب سيبويه ج1 ص515، وتفسير مشكل إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ص 30 مخطوط المدرسة الأحمدية، حلب. طـ ثانية بيروت.
قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة الأعراف: 185] .
1 سورة ص: 75.
2 سورة الأعراف: 12.
3 البقرة: 246.
4 سورة الحديد: 10.
5 الكشف ج1 ص416.
قرأ الحرميان: نافع وابن كثير، وابن عامر:"وَنذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ"، بالنون ورفع الفعل "نذر".
وقرأ أبو عمرو بن العلاء1، وعاصم:{وَيَذَرُهُم} بالياء والرفع.
وقرأ حمزة والكسائي: "ويذرهم"، بالياء وجزم الفعل، وأضاف إليهما صاحب النشر خلفًا.
توجيه القراءة الأولى:
رفع الفعل على الاستئناف أي "ونحن نذرهم" على أساس أن الله عز وجل يخبر عن نفسه، فهو التفات من الغيبة إلى التكلم "مَنْ يُضْلِلِ،
…
وَنَذَرُهُم" مثل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ} ثم قوله: {أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} 2، ولو حمله على لفظ الغيبة لقال:{مِنْ رَحْمَتِه} .
توجيه القراءة الثانية:
رفع الفعل على الاستئناف، وبالياء على الغيبة، والإخبار عن الله، وهذا حسن للمشاكلة، وسير الكلام على وتيرة واحدة في الضمائر "يُضْلِل، وَيَذَرُهُم" ويكون تقدير الكلام: من يضلل الله فلا هادي له، ثم استأنف فقال: والله يذرهم.
وأما القراءة الثالثة فليس فيها قطع ولا استئناف.
ويكون الفعل {وَيَذَرُهُم} معطوفًا على محل جملة جواب الشرط المقترنة بالفاء.
ولا يكون في الكلام التفات.
1 ذكر ابن الجزري أبو عمرو في قراءة النون -راجع النشر ج2 ص84.
2 سورة العنكبوت: 23.
يقول مكي: إن الاختيار ما عليه قراءة أهل الحرفين من الرفع والنون1.
المراجع: حجة القراءات ص303.
الحجة لابن خالويه ص167.
الكشف ج1 ص485.
النشر ج3 ص84.
قرأ ابن كثير قوله تعالى: "إِنَّهُ مَنْ يَتَّقي وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ"[يوسف: 90] . بإثبات الياء2.
وقرأ الباقون: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ} بغير ياء مجزومًا بالشرط.
أما حجة ابن كثير3: هناك من العرب من يجري المعتل مجرى الصحيح فيقول: "زيد لم يقضي" ويقدر في الياء الحركة فيحذفها منها فتبقى الياء ساكنة للجزم، قال الشاعر:
ألم يأتيك والأبناء تمني
…
بما لاقت لبون بني زياد
ولم يقل: ألم يأتك4، وقال آخر5:
هزي إليك الجذع يجنيك الجني.
وكان ينبغي6 أن يقول: "يجنك الجنى"؛ لأنه جواب الجزاء.
1 الكشف ج1، ص485.
2 تفرد بهذا قنبل عن ابن كثير.
3 ابن زنجلة حجة القراءات ص364.
4 روى ابن جني في سر الصناعة: ألم يأتك لا ياء فيها ولا ضرورة، وروى أيضًا: ألم يبلغك، والبيت أول مقطوعة: لقيس بن زهير العبسي.
5 أنشده الفراء ولم ينسبه راجع لسان العرب مادة "جنى".
6 ابن زنجلة غير دقيق هنا لأن الجزم في جواب الطلب جائز لا واجب بشرط صحة تقدير الشرط.
ويقوي هذا قراءة حمزة في قوله تعالى: "فلا تخف دركًا ولا تخشى"[طه: 77] ولم يقل: "تخش" في موضع جزم؛ لأن من العرب من يفعل ذلك، قال: وإن شئت استأنفت: "وَلَا تَخْشَى".
وقال نحويو البصرة: يجوز أن يجعل "من يتقي" بمنزلة: الذي يتقي، والموصول كالشرط في العموم والإبهام؛ ولأن كل واحد منهما يصلح دخول الفاء في جوابه فتقول:"الذي يأتني فله درهم" كما تقول: "من يأتني فله درهم".
وأما تسكين "يصبر" فيقولون: إما لتوالي الحركات، حركات الباء والراء والفاء والهمزة، أو على أنه وصل بنية الوقف، وإما على العطف على المعنى على الأساس الذي ذكر سابقًا وهو أن مَنْ الموصلة بمعنى الشرطية لعمومها وإبهامها.
وأما قراءة الباقين فهي سائرة على المشهور من قواعد النحو؛ لأن "يتق" فعل الشرط مجزوم بـ "من" وعلامة جزمه حذف حرف العلة وهو الياء.
السبعة لابن مجاهد.
حجة القراءات لابن زنجلة.
الكشف لمكي بن أبي طالب.
أوضح المسالك لابن هشام ج1 ص80 ت محيي الدين.
قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} [طه: 63] .
قرأ أبو عمرو "إن هذين" بالياء وتشديد النون في "إنّ"، وقرأ الباقون بالألف.
وقرأ ابن كثير وحفص: {قَالُوا إِنْ} بتخفيف"إن" وشدد الباقون الكشف ج2 ص63.
ويختلف ابن كثير عن حفص في تشديد النون من "هذانِّ" حجة أبي زرعة ص456.
وحجة أبي عمرو أن تثنية المنصوب والمجرور لغة فصحاء العرب، وأبو عمرو مستغن عن إقامة دليل على صحتها.
وحجة من خفف "ابن كثير وحفص" أنه لما رأى القراءة وخط المصحف في "هذان" بالألف أراد أن يحتاط بالإعراب، فخفف إن ليحسن الرفع بعدها على الابتداء؛ لأن إن إذا خففت حسن رفع ما بعدها على الابتداء؛ لأن إن إذا خففت حسن رفع ما بعدها على الابتداء لنقصها عن شبه الفعل؛ ولأنها لم تقوَ قوة الفعل، فتعمل ناقصة كما يعمل الفعل ناقصًا في نحو: لم يك زيد أخانا، ومنهم من يعملها وهي مخففة عملها وهي مشددة، فالذي خفف "إن" اجتمع له في قراءته موافقة الخط، وصحة الإعراب في "هذان". فتكون "إن" مهملة مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة أو تقول: إن نافية بمعنى "ما" واللام بمعنى إلا والتقدير: ما هذان إلا ساحران.
ويكون تشديد النون عند ابن كثير عوضًا عن الألف الثانية في {هَذَانِ} فتكون "إن" مهملة مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة أو تقول: إن نافية بمعنى "ما" واللام بمعنى إلا والتقدير: ما هذان إلا ساحران.
ويكون تشديد النون عند ابن كثير عوضًا عن الألف الثانية في {هَذَانِ} ؛ إذ أصلها: "هذا ان" فحذفت ألف هذان، وعوض عنها بتشديد النون1.
وحجة من شدد النون مع بقاء الألف في "هذان" أنها مكتوبة هكذا في الإمام، مصحف عثمان، وهذا مشكل على أهل اللغة، وقد ذكر أبو زرعة ابن زنجلة اختلاف النحاة واللغويين في تفسيره على النحو التالي:
1 حجة القراءات ص456.
حكى أبو عبيدة عن أبي الخطاب1، وهو رأس رؤساء الرواة: أنها لغة كنانة يجعلون ألف الاثنين في الرفع والنصب والخفض على لفظ واحد، ومنه قوله الشاعر2:
تزود منا بين أذناه ضربة
…
دعته إلى هابي التراب عقيم
وقال الزجاح: وقال النحويون القدماء: ها هنا هاء مضمرة، والمعنى:"إنه هذان لساحران" كما نقول: "إنه زيد منطلق" ثم نقول: "إن زيدٌ منطلق".
وقال المبرد: أحسن ما قيل في هذا أن يجعل: "إن" بمعنى "نعم"، المعنى:"نعم هذان لساحران" فيكون ابتداء وخبرًا قال الشاعر3:
ويقلن شيب قد علا
…
ك وقد كبرت فقلت: إنَّه
أي: نعم. فإن قيل: اللام لا تدخل بين المبتدأ وخبره، لا يقال: زيد لقائم، فما وجه هذان لساحران؟
الجواب في ذلك: أن من العرب من يدخل لام التوكيد في خبر المبتدأ، فيقول: زيد لأخوك، قال الشاعر:
خالي لأنت ومن جرير خاله
…
ينل العلاء ويكرم الأخوالا
وقال الزجاج: المعنى: "نعم هذان لساحران".
1 هو عبد الحميد بن عبد المجيد الأخفش الكبير، وأستاذ سيبويه.
2 البيت لهوبر الحارني "لسان العرب مادة هبا" والهابي: التراب المختلط بالرماد.
3 البيت لعبد الله بن قيس الرقيات "ديوانه ص66" وانظر الكتاب لسيوبه 1/ 475، 2/ 279 وخزانة الأدب 4/ 487.
وقال قطرب: يجوز أن يكون المعنى: "أجل" فيكون المعنى والله أعلم: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قالوا: "أجل" تصديقًا من بعضهم لبعض، ثم قالوا:"هذان لساحران" ويجوز أن يكون اللام داخلة في الخبر على التوكيد.
وقال الفراء في "هذان" إنهم زادوا فيها النون في التثنية وتركوها على حالها في الرفع والنصب والجر كما فعلوا في "الذي" فقالوا: {الَّذِين} في الرفع والنصب والجر1.
وللإمام ابن تيمية رأي في تخريج هذه القراءة: وهو أن الإعراب لا يظهر في الواحد وهو هذا فجعل كذلك في التثنية؛ ليكون المثنى كالمفرد؛ لأنه فرع عليه، وبناء المثنى إذا كان مفرده مبينًا أفصح من إعرابه، ثم اعترض على نفسه بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا على الياء في قوله تعالى: {إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْن} 2، مع أن هاتين تثنية "هاتا" وهو مبني والآخر: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنية "الذين" وهي لغة القرآن كقوله تعالى: {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا} 3.
وأجاب عن الأول بأن "هاتين" جاءت بالياء على لغة الإعراب لمناسبة "ابنتي"، فالإعراب هنا أفصح من البناء لأجل المناسبة كما أن البناء في {هَذَان} أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في "ساحران".
وأجاب عن الآخر بأن هناك فرقًا بين "هذان" و"اللذان"؛ إذ الأخير تثنية اسم ثلاثي، فهو شبه بالزيدان، والأول تثنية اسم على
1 هذه الوجوه مفصلة في حجة القراءات لأبي زرعة في ص454 إلى 456.
2 سورة القصص: 27.
3 سورة فصلت: 29.
حرفين فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف.
كما رد ردًّا قويًّا على الخبر المنسوب إلى عثمان رضي الله عنه بما يبطله، وهو قولهم: إن في المصحف لحنًا وستقيمه العرب بألسنتها1.
المراجع: حجة القراءات لأبي زرعة، تفسير ابن كثير ج3 ص157.
الكشف ج3 لمكي، شذور الذهب لابن هشام.
النشر ج3 لابن الجزري.
قال الله تعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} [الأنبياء: 88] .
قرأ أبو بكر "شعبة بن عياش" وابن عامر "نُجِّي" بنون واحدة، وجيم مشددة، ونسب ابن خالويه، وابن الجزري هذه القراءة لعاصم. وشعبة من رواة عاصم.
وقرأ الباقون بنونين والتخفيف "ننجي".
بالنسبة لقراءة شعبة وابن عامر.
توجه إليها النقد التالي من الوجهة النحوية:
قال الفراء: لا وجه له عندي؛ لأن ما لم يسم فاعله إذا خلا باسم رفع.
وقالوا أيضًا في نقدها: نُجِّي لم يسم فاعله، وكان الواجب أن تكون الياء مفتوحة، كما تقول: عزِّي وقُضِيَ.
1 شذور الذهب لابن هشام ص49- 50.
وقيل في توجيهها: إن هذه القراءة على طريق إخفاء النون الثانية في الجيم، وهذا بعيد؛ لأن الرواية بتشديد الجيم، والإخفاء لا يكون معه تشديد.
وقيل أدغم النون في الجيم، وهذا أيضًا لا نظير له؛ لأن النون لا تدغم في الجيم في شيء من كلام العرب لبعدما بينهما.
يقول مكي1: وإنما تعلق من قرأ هذه القراءة أن هذه اللفظة في أكثر المصاحف بنون واحدة، فهذه القراءة إذا قرئت بتشديد الجيم، وضم النون، وإسكان الياء غير متمكنة في العربية".
وكان أبو عبيد2- يختار هذه القراءة اتباعًا للمصحف على إضمار المصدر بقيمة مقام الفاعل، وينصب المؤمنين، ويسكن الياء في موضع الفتح، ويرى مكي أن هذا كله قبيح بعيد، كما اختار أن يكون أصله "ننجي" ثم أدغم النون في الجيم، وعلق مكي على ذلك بأنه غلط قبيح؛ لأنه لا يجوز الإدغام في حرف مشدد كما لا يجوز إدغام النون في الجيم عند أحد3، وعلى الاختيار الثاني لأبي عبيد يكون "نجي" فعل مضارع، وعلامة الاستقبال سكون الياء4.
واحتج بعضهم لهذه القراءة بأن "نجي" فعل ماض، مبني للمجهول، ثم سكنوا الياء، وتأويله:"نجى النجاء المؤمنين" فيكون "النجاء" مرفوعًا على أنه نائب عن الفاعل، والمؤمنين مفعول به، كما تقول:"ضرب الضرب زيدًا" ثم يكنى عن الضرب، فتقول:
1 الكشف ج2 ص113.
2 هو أبو عبيد القاسم بن سلام وهو من أوائل الأعلام الذين بحثوا في القراءات رواية وتوجيهًا.
3 الكشف ج2 ص113.
4 حجة القراءات ص468.
"ضرب زيدًا"، وحجتهم قراءة جعفر:{ليجزى قوما بما كانوا} 1، أي ليجزى الجزاء قومًا2.
وأما قراءة الباقين: ننجي بنونين، فهو فعل مضارع من: أنجى ينجي، والمؤمنين مفعول به، وكتبوا في المصاحف بنون واحدة على الاختصار، على اجتماع المثلين في الخط، ولأن النون الثانية تخفى عند الجيم بلا اختلاف، واختار ابن قتيبة هذه القراءة3.
المراجع: الكشف ج2 حجة القراءت لابن زنجلة، الحجة لابن خالوية، النشر ج3.
قال الله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] .
قرأ أبو عمرو "فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ" بإثبات الواو في "أكون"، ونصبها.
وقرأ الباقون: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} بحذف الواو والجزم "أكن".
توجيه القراءة الأولى:
"أكون" منصوبة بالعطف على {فَأَصَّدَّقَ} ؛ لأن "فأصدق" منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء، لوقوعها في جواب التمني، فهو محمول على مصدر "أخرتني"4.
1 سورة الجاثية: 14.
2 هذه القراءة لآية السجدة والآية التي معنا حجة للكوفيين في وقلهم بجواز نيابة غير المفعول به عن الفاعل، مع وجود المفعول به وخالفهم البصريون.
3 الكشف ج2 ص114.
4 يقول ابن خالويه "لولا" هنا للاستفهام والتخصيص، وتعبير مكي في الكشف بالتمني أنسب لسباق الآية.
وحجة من جزم أنه عطف على موضع "فَأَصَّدَّقَ"؛ لأن موضعه قبل دخول الفاء فيه جزم؛ لأنه جواب التمني، وجواب التمني إذا كان بغير فاء ولا واو مجزوم؛ لأنه غير واجب، ففيه مضارعة للشرط وجوابه، فلذلك كان مجزومًا، كما يجزم جواب الشرط، ويعطف عليه بالجزم كقراءة من قرأ:"مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرْهُم" لما كان "فلا هادي له" في موضع فعل مجزوم، حمل:"يذرهم" عليه، وكأن الأصل في الآية:"لولا أخرتني أتصدقْ وأكن" كما قال الشاعر1:
فأبلوني بليتكم لعلي
…
أصالحكم وأستدرج نويا
ففي هذا البيت جزم "استدرجْ" عطفًا على موضع "أصالحكم" قبل دخول لعل عليه ومعناه: فأبلوني بليتكم أصالحكم.
المراجع: حجة القراءات لابن زنجلة ص710.
الحجة لابن خالويه ص346.
الكشف ج2 ص322- ص323.
النشر ج3 ص335.
قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] .
قرأ أبو عمرو "مما خطاياهم" مثل قضاياهم.
وقرأ الباقون: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} .
1 نسبة ابن جني في الخصائص إلى أبي داود، ونسبة ابن هشام في المغني ج2 ص97 إلى الهذلي.. وأبلوني: أعطوني. والبلية: الناقة تعقل على قبر صاحبها الميت بلا طعام، ولا شراب حتى تموت، ونوي: بفتح الواو كهوي، وأصله: نواي كعصاي قلبت الألف ياء على لغة هذيل. انظر الخصائص ج1 ص176، ومعاني القرآن ج1 ص88.
وحجة أبي عمرو أن الخطايا أكثر من الخطيئات؛ لأن جمع المؤنث بالتاء في الأغلب من كلام العرب أن يكون للقليل مثل نخلة ونخلات، وبقرة وبقرات. قال الأصمعي: كان أبو عمرو يقرأ "خطاياهم" ويقول: إن قومًا كفروا ألف سنة كانت لهم خطيئات؟ لا، بل خطايا.
كأن أبا عمرو يذهب إلى أن الألف والتاء للجمع القليل، و "خطايا" جمع تكسير يفيد الكثرة.
كما احتج بإجماع القراء في سورة البقرة على: {نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} 1.
والأصل في: "خطايا" خطاءا على وزن "خطاعي"2 ثم لينت الهمزة فقيل خطايا.
وقال الفراء: هو جمع خطية على تخفيف الهمزة.
وحجة الباقين رسم المصحف الذي جاء على صيغة جمع السلامة للمؤنث.
وقالوا: إن الألف والتاء تكون للقليل والكثير، وإليه ذهب الكسائي؛ لأن الله قال:{مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه} 3، وقال:{وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ} 4.
ولابن كيسان رأي في توجيه الآية يقول فيه: "ما" نكرة في موضع
1 سورة البقرة: 58.
2 راجع حجة القراءات لابن زنجلة ص 299- 726.
3 لقمان: 27.
4 سبأ: 37.
خفض بمن، و"خطيئاتهم" بدل من "ما" كأنه قال: من عمل خطيئاتهم1.
المراجع: حجة القراءات لابن زنجلة.
الحجة لابن خالويه.
الكشف ج2.
النشرج3.
1 الكشف ج2 ص337.