الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقتال قومهم ويعلنون لهم أنهم لا يريدون أن يقاتلوهم مع قومهم ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم معهم. فهؤلاء وأولئك إذا وقفوا فعلا موقف الكافّ عن قتال المسلمين وأظهروا لهم المسالمة الصادقة فليس للمسلمين عليهم سبيل لعداء وقتال. وجملة وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ جاءت معترضة لبيان فضل الله على المسلمين بإلهام هؤلاء المسالمة وتعليل أو تدعيم عدم جعل الله للمسلمين عليهم سبيلا.
تعليق على الآية إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ
…
إلخ وحكم علاقة المسالمين بالمسلمين
وقد روى المفسرون «1» أن المعني بالفريق الأول إما هو هلال بن عويمر السلمي الذي واثق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قومه على أن لا يحيف على من أتاه منهم ولا يحيفون على من أتاهم منه، وإما سراقة بن مالك المدلجي الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ منه ميثاقا بأن لا يغزو قومه فإن أسلمت قريش أسلموا لأنهم كانوا في عقد مع قريش. ورووا أن المعنّى بالفريق الثاني هم قبيلة أشجع التي قدم منها إلى المدينة نحو سبعمائة فحلوا في ضواحيها فأرسل النبي إليهم أحمالا من التمر ضيافة ثم سألهم ما الذي جاء بكم قالوا قرب دارنا منك وكراهيتنا حربك وحرب قومنا يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد فجئنا لنوادعك فقبل النبي ووادعهم.
وإلى هذه الروايات رووا أيضا أن الآية في صدد بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش وبني خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي- وهما قبيلتان في ناحية مكة متعاديتان- حينما عقد النبي مع قريش الصلح المعروف بصلح الحديبية حيث خيروا القبيلتين فاختار بنو بكر أن يكونوا مع قريش واختار بنو خزاعة أن يكونوا مع النبي. فصار بين بني خزاعة وبين النبي والمسلمين ميثاق وصار بنو بكر يصلون إلى قريش الذين صار بينهم وبين النبي والمسلمين ميثاق. وليس شيء من هذه
(1) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.
الروايات واردا في الصحاح. والآية متصلة بالآيات السابقة وقد رجحنا نزول هذه الآيات في وقت مبكر. ولهذا فإننا نستبعد احتمال كون الآية في صدد بني بكر وبني خزاعة لأن صلح الحديبية كان متأخرا نوعا أي في السنة الهجرية السادسة. وروح الآية تلهم أن الاستثناء عائد إلى أناس معاهدين وإلى أناس يريدون الموادعة والوقوف موقف الحياد. وهذا وذاك ينطبقان على الروايات الأولى والثانية أكثر.
غير أن الذي يشكل علينا في الآية هو ما إذا كان المستثنون فيها ممن يدعي الإسلام أو ممن يصح عليه نعت المنافقين أو من الكفار. فصيغة الاستثناء تفيد أن المستثنين من نوع الفريق الذي هو موضوع الحديث في الآيات السابقة وهم المنافقون أو الذين اعتبروا كذلك لأنهم لم يقيموا الدليل على إيمانهم بالتضامن والقتال مع المسلمين والإخلاص في الطاعة لله ولرسوله. غير أن فحوى الآية يحتمل كثيرا معنى كون المستثنين غير مسلمين. فالمعاهدون والذين تنقبض صدورهم عن قتال المسلمين والذين لو شاء الله لسلطهم على المسلمين فقاتلوهم لا يكونون مسلمين بطبيعة الحال. وتعبير أَوْ جاؤُكُمْ مما يزيد الإشكال أيضا.
فإنه قد يفيد أن يكونوا جاءوا مسلمين وأرادوا أن يقفوا في قتال المسلمين مع قومهم موقف الحياد. كما يفيد أنهم جاءوا معتذرين معلنين حيادهم. وفحوى الآية يفيد أن حكمة التنزيل تعذرهم على هذا الموقف. ولم يشف صدرنا ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين في هذا الصدد.
على أننا مع كل هذا نرى النفس تطمئن إلى ترجيح كون الفريقين موضوع الحديث غير مسلمين. وهو ما تفيده الروايات أيضا. ولعل الاستثناء عائد إلى الفقرة الأخيرة من الآية السابقة التي تنهى عن الأمر بالقتل. وإذا صحّ هذا كما نرجو، تكون الآية استطرادية ويزول الإشكال.
ومهما يكن من أمر فالآية تنهى المسلمين عن قتال وقتل من ينتسب إلى معاهديهم، أو من يدخل في عهد معاهديهم، أو من يقف منهم موقف الحياد والسلم ولو كان منتسبا إلى قوم محاربين للمسلمين. وهكذا تكون قد احتوت
تنظيما للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ووصفا لثلاث فئات من غير المسلمين وهي:
(1)
المعاهدون. (2) ومن يدخل في جوارهم وميثاقهم. (3) والحياديون الذين يعلنون موقفا مسالما نحو المسلمين ويعتزلون قتالهم مع قومهم المحاربين للمسلمين. وقد قررت أنه ليس للمسلمين أن يقاتلوا أية فئة من هذه الفئات. وفي هذا من الحكمة ما يظل في أعلى مرتبة من أصول تنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين على مدى الدهر. ويقوم على أسمى أسس الحق والعدل والإنصاف.
ولقد روى المفسرون «1» أن هذه الآية قد نسخت بآية في سورة التوبة تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا عن الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهي الآية [5] ونصّها فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ والآيات التي جاءت قبل آية سورة التوبة هذه وبعدها تستثني الذين بينهم وبين المسلمين عهد وتأمر بإتمام عهدهم إلى مدته بالنسبة لمن بينهم وبين المسلمين مدة محددة وبالاستقامة معهم على العهد ما استقاموا لمن لم يكن بينهم مدة محددة. وبالتالي تجعل القول بنسخها وبخاصة بالنسبة للمعاهدين غريبا بل في غير محله. وقد لا حظ ذلك بعضهم «2» وتساءل تساؤل المستنكر عما إذا كان يصح أن تكون منسوخة بشأن المعاهدين لأن ذلك يعني نقضا للعهد. وهي ملاحظة حق.
ولقد علقنا على هذه المسألة بما فيه الكفاية في مناسبات سابقة «3» . وإن كان
(1) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي. ويعزو المفسرون الأقوال إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.
(2)
انظر تفسير الخازن.
(3)
انظر تفسيرنا لسورة (الكافرون) ولآيات البقرة [190- 194] .