الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ والآية التالية لها وما فيها من صور وتلقين
عبارة الآيتين واضحة، وأسلوبها أسلوب تبشيري وتنويهي كما هو ظاهر للذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة الحديبية تحت الشجرة مما فصلت صورته الروايات التي أوردنا خلاصتها قبل. وهما منطويتان كذلك على القصد التطميني والتبشيري الذي استهدفته آيات السورة على ما نبهنا عليه قبل. والمتبادر أنهما استمرار للسياق وجزء منها ونزلتا معه.
والفقرات الأولى من الآية الأولى تنطوي في حدّ ذاتها على الإشارة إلى مشهد من مشاهد سفرة الحديبية وتلهم روعة المشهد وخطورة الموقف الذي كان يكتنف النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين على ما شرحناه في سياق الآية (10) شرحا يغني عن التكرار.
وتسمى هذه البيعة ببيعة الرضوان أيضا «1» . والمتبادر أنها تسمية منبثقة من جملة لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ في الآية الأولى.
وقد روى ابن كثير وغيره بعض الأحاديث في فضل الذين بايعوا تحت الشجرة منها حديث عن جابر قال: «قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما بايعه الناس تحت الشجرة: أنتم خير أهل الأرض اليوم» وحديث آخر عن أم مبشر قالت: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عند حفصة: لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة التي بايعوا تحتها أحد» ومنها حديث عن إياس بن سلمة عن أبيه قال:
ومن المفسرين من قال إن الفتح القريب المذكور في الآية الثانية يعني صلح الحديبية، وإن المغانم التي تبشر بها الآية المسلمين هي ما سوف ييسره الله
(1) انظر تفسير الزمخشري وابن كثير.
للمسلمين من ذلك بصورة عامة. ومنهم من قال: إن الفتح هو فتح خيبر والمغانم مغانمها. وكل من القولين معزوّ إلى بعض علماء التابعين «1» .
والآيتان كما قلنا قبل جزء من السياق السابق. وقد نزل السياق أثناء عودة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من الحديبية إلى المدينة. ووقعة خيبر كانت بعد ذلك بوقت ما. حيث يتبادر من ذلك أن القول الأول هو الأوجه وأن القول الثاني قد كان من وحي ما جاء مصداقا عاجلا للبشرى القرآنية بفتح خيبر ومغانمها. ويصحّ أن يعدّ ذلك والحالة هذه من المعجزات القرآنية التي سبق الإخبار عنها وتحققت بعد قليل من الإخبار.
استطراد إلى ذكر وقعة خيبر واستيلاء المسلمين عليها وعلى قرى اليهود الأخرى في طريق الشام «2» ورد على مزاعم المستشرقين بأنها كانت مكافأة للذين شهدوا الحديبية ولم يكن لها مبرر
ووقعة خيبر ليست منحصرة في خيبر بل تجاوزتها إلى قرى أخرى كانت لليهود بعد خيبر على طريق الشام. وكل ما في الأمر أنها كانت عاصمة اليهود وأهم مراكزهم بعد إجلائهم عن المدينة. وليس في القرآن إشارات أخرى إلى هذه الوقعة. فرأينا أن نستطرد إلى إيراد خبرها في هذه المناسبة.
ولقد كان لهذه الوقعة أسباب مبررة كما هو شأن وقائع التنكيل السابقة باليهود بل وكل الوقائع الجهادية في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الأسباب هي المواقف العدائية والعدوانية التي وقفها اليهود دون أن يعتبروا بما كان من حوادث سابقة عادت عليهم بالوبال والنكال. فقد استقر بعض زعماء بني النضير وأتباعهم في خيبر بعد أن أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المدينة وتزعموا يهود المنطقة. وساقوهم إلى
(1) انظر البغوي والخازن وابن كثير والطبرسي.
(2)
هذه النبذة ملخصة عن تفسير الطبري والطبرسي والبغوي والخازن وتاريخ الطبري ج 2 ص 303- 306 وابن سعد ج 3 ص 152- 164 وابن هشام ج 3 ص 388- 400.
العداء للمسلمين. وهم الذين ذهبوا وحرضوا قريشا وقبائل العرب من أسد وغطفان وغيرها على التحزّب والزحف على المدينة لاستئصال شأفة الإسلام وحرضوا زعماء بني قريظة على الغدر والنكث مما نتج عنه وقعة الأحزاب ثم وقعة بني قريظة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأحزاب. وقد استمروا على عدائهم بعد ذلك وظلوا يحرضون قبائل العرب ويغزونهم بغزو المدينة. ومما لا شك فيه أن هذه المواقف جعلت النبي صلى الله عليه وسلم يفكر في إتمام عمليات التنكيل باليهود في هذه المنطقة غير أنه على ما يظهر لم يجد الخطر عاجلا فاكتفى بإرسال سرايا من المسلمين اغتالت زعيمهم أبا رافع بن أبي الحقيق ثم أسير بن زارم الذي تزعم اليهود بعده. وأجّل إتمام العمل إلى ما بعد عودته من زيارة الكعبة التي اعتزم القيام بها والتي نتج عنها صلح الحديبية. والراجح الذي تلهمه روح الآيات وتؤيده الوقائع أن النبي صلى الله عليه وسلم عاد من الحديبية وقد بيّت النية على إتمام تلك العمليات وقد أمن من مباغتة قريش. فما إن وصل من الحديبية إلى المدينة حتى أخذ يستعد للزحف على خيبر ثم زحف في المحرم من السنة الهجرية السابقة في رواية وفي جمادى الأولى في رواية. ولقد روي أن قبائل أسد وغطفان «1» كانت تتجمع لتهاجم المدينة في غياب النبي صلى الله عليه وسلم عنها أو لتهاجم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في طريقهم إلى الحديبية أو عودتهم منها. ولكن انحسام الأمر بين النبي وقريش جعلهم ينكصون. فلعل هذا كان أثرا من كيد يهود خيبر ومما جعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجل بالزحف عليهم.
ولقد كانت خيبر كثيفة السكان كثيرة الحصون قوية الاستعداد فلقي المسلمون جهدا ومشقة واستمرت مجاهدتهم مع اليهود نحو شهر حتى تمكنوا من الانتصار عليهم والاستيلاء على حصونهم وقد قتلوا كثيرا من مقاتليهم واستولوا على مقادير عظيمة من أموالهم وأسلحتهم وحقولهم وبساتينهم ونسائهم وأطفالهم فكانت غنيمة عظيمة قسمها النبي صلى الله عليه وسلم على المجاهدين بعد أن فرز خمسها. وقد
(1) انظر تفسير البغوي.
أبقى النبي صلى الله عليه وسلم من لم ير في بقائه خطرا من الذين استسلموا منهم وولّاهم رعاية البساتين والحقول مقابل نصف الغلة مع الاحتفاظ بحق إخراجهم حين يشاء. ولقد أوصى حين موته بإخراجهم فأخرجهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه تنفيذا للوصية حين سنحت فرصة كان فيها منهم بغي وعدوان «1» . وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم منهم من رأى في بقائه خطرا. ثم انصرف بعد خيبر إلى وادي القرى وكان فيه حصون عديدة لليهود فلقي فيها بعض المقاومة ثم كتب الله النصر لنبيه فقتل من قتل وأجلى من أجلى واستولى على أموالهم وسلاحهم واتفق مع من لم يكن منه خطر على البقاء على رعاية البساتين والحقول على النصف كما فعل في خيبر. ودبّ الرعب في قلوب اليهود في فدك فأرسلوا رسلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فصالحهم على نصف بساتينهم وحقولهم فغدت فيئا لأن المسلمين لم يزحفوا عليها ويحاربوها. وفعل مثلهم أهل الجرباء وتيماء أيضا «2» .
وفي أثناء غزوة خيبر عاد المهاجرون الأولون من الحبشة وعلى رأسهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم وانضموا إلى النبي والمسلمين في خيبر فقسم النبي صلى الله عليه وسلم لهم من الغنائم. وقد روى ابن هشام «3» أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل عمرو بن أمية الضمري إلى الحبشة بعد صلح الحديبية فحملهم على سفينتين. ولا ريب أن هذا كان من بركات هذا الصلح. حيث شعر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالقوة والعزة فلم يعد ما يسوّغ بقاء المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بعيدين في أرض الغربة. وهذا يقال بطبيعة الحال بالنسبة لما تمّ للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين من نصر وأحرزوه من غنائم في خيبر ووادي القرى وفدك، وما كان من خضد شوكة اليهود نهائيا في أرض الحجاز بعد تطهير مدينة الرسول منهم.
(1) انظر كتاب الأموال للإمام أبي عبيد ص 99 وفتوح البلدان للبلاذري ص 29- 41 و 73 وتاريخ الطبري ج 2 ص 534 وسيرة ابن هشام ج 4 ص 342 وما بعدها.
(2)
ابن هشام وابن سعد ذكرا خبر فدك وابن سعد ذكر خبر الجرباء. أما خبر تيماء فقد ذكره البلاذري ص 41 و 42. انظر ابن سعد ج 3 ص 166 وج 2 ص 56.
(3)
ابن هشام ج 3 ص 414.
ومما روي في سياق وقعة خيبر أن المسلمين أخذوا يقعون على ما وزعه رسول بالله صلى الله عليه وسلم من سبي نساء اليهود فأمر مناديا ينادي من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعنّ على سبية حتى يستبرئها. وأنه كانت بين السبي صفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود وزوجة كنانة بن أبي الحقيق فاصطفاها رسول الله لنفسه وأعتقها وتزوج بها «1» . وإن امرأة سلام بن مشكم الذي قتل زوجها أهدت النبي شاة مصلية مسمومة. فلما قضم من ذراعها لم يسغها وكان معه بشر بن البراء فأكل منها فمات فاستدعى المرأة فاعترفت وقالت لقد بلغت من قومي ما بلغت فقلت إن كان ملكا استرحنا منه وإن كان نبيا فسيخبره الله. وإنه تجاوز عنها. وإن نسوة من غفار جئن إلى رسول الله فقلن له أردنا أن نخرج معك فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا فأذن لهن ورضخ لهن من الغنائم، وأن وفدا من دوس وأشعر من اليمن وفيهم أبو موسى الأشعري الصحابي المشهور وفد على النبي للإسلام وهو في خيبر فأسلموا ورضخ لهم من الغنائم. ومما رواه الشيخان عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحبّ الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قال فبات الناس يدركون ليلتهم أيّهم يعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجون أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب فقالوا هو يا رسول الله يشتكي عينيه. قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأنه لم يكن به وجع فأعطاه الراية.
فقال علي يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. فقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقّ الله. فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم» «2» . وفي كل ما تقدم صور فيها تعليم وتلقين وتشريع كما هو المتبادر.
(1) خبر صفية رواه البخاري عن أنس التاج ج 4 ص 379 و 380 ومما جاء في الحديث «أن صفية وقعت في سهم دحية الكلبي فطلب النبي منه أن يتنازل له عنها وتزوجها وجعل عتقها صداقها» .
(2)
التاج ج 4 ص 378.