الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد جاءت الآية بأسلوب مطلق ليكون تلقينها التهذيبي والأخلاقي شاملا مستمر المدى كذلك.
وهذه الآية هي آخر سلسلة الآيات التي اقتضت حكمة التنزيل إنزالها في مناسبة حديث الإفك. ولما كانت الصلة وثيقة بين آيات هذه السلسلة فإننا نرجح أن هذه الآية والآيات الثلاث التي سبقتها قد نزلت هي الأخرى مع السلسلة مثل الآية [22] بعد انتهاء قضية هذا الحديث إما دفعة واحدة وإما متتابعة.
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29)
. (1) حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها: أوّل بعضهم الجملة بمعنى حتى تعرفوا أن أهلها موجودون وتسلموا عليهم قبل الدخول ليأذنوا لكم بالدخول إذا شاؤوا. وروى الطبري مع ذلك أن ابن عباس وسعيد بن جبير والأعمش كانوا يقرأون كلمة تَسْتَأْنِسُوا بلفظ (تستأذنوا) ويقولون إنها غلط من الكاتب.
(2)
فيها متاع لكم: لكم في دخولها فائدة ومصلحة وحاجة.
تعليق على الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) والآيتين التاليتين لها ومدى ما فيها من آداب سلوكية للرجال والنساء وما ورد في صدد ذلك
عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تشريعا في آداب الدخول على بيوت الغير في النطاق التالي:
أولا: لا يصح للمؤمنين الذين وجّه إليهم الخطاب في الآيات أن يدخلوا بيوتا غير بيوتهم إلّا بعد الاستئذان والاستئناس بأن أهلها فيها، وبعد أن يأذنوا بدخولهم عليهم. وعليهم أن يحيوهم بالسلام قبل كل شيء. وإذا قيل لهم ارجعوا فليرجعوا، فهذا هو الأطهر لهم المبعد عنهم قالة السوء.
وثانيا: لا يصح لهم أن يدخلوا كذلك بيوتا غير بيوتهم إذا لم يجدوا فيها أحدا من أصحابها إلا بإذن منهم باستثناء البيوت غير المسكونة إذا كان لهم في ذلك مصلحة وحاجة.
وقد نبهت مقاطع الآيات الثلاث الأخيرة إلى أن ما في ذلك من تذكير وتعليم. وإلى كون الله تعالى يعلم كل ما يفعلونه وكل ما يبدونه أو يكتمونه على سبيل التدعيم لما احتوته الآيات من تشريع، والتشديد على وجوب اتباعه وعدم مخالفته.
وقد روى الطبري عن عدي بن ثابت أن امرأة من الأنصار قالت:
يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحبّ أن يراني أحد لا والد ولا ولد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي وأنا على تلك الحال، فنزلت الآية الأولى. وروى الزمخشري أن أبا بكر قال: يا رسول الله إنه قد أنزل عليك آية بالاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلّا بإذن؟
فنزلت الآية الثانية. وقال الخازن: لما نزلت آية الاستئذان قالوا: كيف بالبيوت التي بين مكة والمدينة والشام على ظهر الطريق ليس فيها ساكن يريدون المنازل المبنية للسابلة ليأووا إليها ويؤووا أمتعتهم، فأنزل الله الآية الثالثة.
والرواية الأولى محتملة جدّا دون الروايتين الثانيتين فيما يتبادران لنا. لأن منازل السابلة في طريق مكة والمدينة والشام قد أنشئت في الدولة الإسلامية وكان العرب يحملون خيامهم من الشعر أو الجلد فيأوون إليها حينما ينزلون منزلا في رحلاتهم الطويلة. وهذا لا يمنع أن يكون بعضهم استفتى النبي صلى الله عليه وسلم حينما نزلت الآية الأولى عن أمر البيوت غير المسكونة فرفع الله في الآية الثالثة الحرج عن
الناس. وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات الثلاث فصل تشريعي يتمم بعضه بعضا.
ونلمح صلة ما بين هذه الآيات وبين موضوع السلسلة السابقة عند إنعام النظر. فالدخول إلى بيوت الناس بدون إذن مما يفسح المجال للقيل والقال وإشاعة أخبار السوء، وهذا مما حذرت منه الآيات السابقة. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد تلك السلسلة فوضعت في ترتيبها للتناسب الموضوعي والظرفي، أما إذا لم تكن نزلت بعدها مباشرة فيكون ترتيبها للتناسب الموضوعي الملموح.
ويظهر من فحوى الآيات وروحها أن الناس كانوا يدخلون بيوت بعضهم بدون استعلام واستئذان. وهذا مستفاد أيضا من آية سورة الأحزاب [53] التي جاء فيها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ
…
ومن الأحاديث والروايات العديدة التي أوردها المفسرون. منها ما أورده الطبري وأوردناه قبل عن عدي بن ثابت كسبب لنزول الآية الأولى، ومنها حديث أورده الخازن جاء فيه «قال كند بن حنبل دخلت على النبيّ ولم أسلّم ولم أستأذن، فقال لي: ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل؟» . فاحتوت الآيات كما هو ظاهر تأديبا رفيعا في هذا الشأن توخى فيه تنظيم السلوك الشخصي بين المسلمين تنظيما يجنبهم دواعي الريبة وأخبار السوء وما يكون فيه للغير من أذى وتثقيل.
والخطاب في الآية عام للمسلمين. وليس فيه قرينة تخصص أنه خطاب للرجال دون النساء. وحكمه يتناولهم في كل ظرف ومكان بطبيعة الحال. والروعة فيما احتوته أنه آداب من طبيعتها الخلود والاتساق مع الخلق الفاضل والذوق السليم في كل وقت ومكان.
والمتبادر أن الاستئناس والاستئذان والسلام هو بسبيل تنبيه أهل البيت حتى يتهيأوا لقبول الزائر إذا لم يكن عندهم مانع ويأذنوا له. وأن فحوى الآيات وروحها
يلهمان أن هذا التنبيه والتأديب عام للنساء والرجال على السواء وأنه ليس من جناح من دخول النساء على الرجال والرجال على النساء بعد صدور الإذن.
والحديث الذي رواه الطبري مما يؤيد ذلك وقد روى مجاهد أن ابن عمر جاء من حاجة وقد آذاه الرمضاء فأتى فسطاط امرأة من قريش فقال: السلام عليكم أأدخل؟
قالت ادخل بسلام، فأعاد فأعادت، وهو يراوح بين قدميه، قال قولي: ادخل.
قالت: ادخل فدخل» «1» ، مما فيه تأييد لذلك. والآيات التالية لهذه الآيات ثم آيات أخرى في آخر هذه السورة مما يؤيده أيضا. وكل ما يجب استلهاما من الآيات التزام العفة وطهارة النية وستر المرأة زينتها ومفاتن جسدها أمام غير محارمها.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة فيها تتمة للأدب القرآني منها حديث رواه الخمسة عن جابر قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي فدققت الباب فقال:
من ذا فقلت: أنا، فقال أنا أنا- كأنه كرهها-» «2» . وروى أبو داود عن عبد الله بن بشر قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر» «3» . وروى الأربعة عن سهل بن سعد «أن رجلا اطلع من جحر في باب النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يرجل به رأسه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك. إنما جعل الله الإذن من أجل البصر» «4» .
وروى مسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حلّ لهم أن يفقأوا عينه» «5» وروى مسلم وأحمد عن أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت
(1) تفسير الطبري.
(2)
التاج ج 5 ص 218- 219. وكراهية الجواب أنا أنا تعني وجوب ذكر الاسم حتى يعرفه صاحب البيت.
(3)
المصدر نفسه.
(4)
المصدر نفسه، والمدرى بمثابة المشط. [.....]
(5)
التاج ج 5 ص 218- 219.
عينه ما كان عليك من جناح» «1» . وروى الترمذي عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من كشف سترا فأدخل بصره في البيت قبل أن يؤذن له فرأى عورة أهله فقد أتى حدّا لا يحلّ له أن يأتيه، لو أنه حين أدخل بصره استقبله رجل ففقأ عينه ما غيّرت عليه وإن مرّ الرجل على باب لا ستر له غير مغلق فنظر فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت» «2» . وقد روى مالك في موطئه حديثا عن عطاء بن يسار «أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمّي؟ قال: نعم. فقال الرجل إني معها في البيت، فقال له أتحبّ أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال فاستأذن عليها» «3» .
والالتزام ما احتوته الأحاديث من أدب رفيع واجب بدون ريب. وقد يتحمل الحديث الآخر استدراكا وتوضيحا. فهو أولا حديث مرفوع. وثانيا إن الاستئذان واجب على المرء بالنسبة لغير بيته. إلا أن تكون الأم في بيت خاص أو تكون في مخدعها فيكون من المحتمل أن تكون متبذلة أو عريانة فيكون إيجاب الاستئذان عليها من ابنها في محلّه.
ولقد رويت أحاديث نبوية عديدة في صدد عدم دخول الرجال على النساء وعدم الخلوة بهن نوردها ونعلق عليها بما يلي:
1-
روى الشيخان عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إيّاكم والدخول على النساء فقال رجل يا رسول الله أرأيت الحمو. قال الحمو الموت» «4» . ويتبادر لنا على ضوء الآية التي نحن في صددها أن النهي هو في صدد الدخول بدون استئذان وإذن. ولو كان الرجل قريبا للزوج أو الزوجة حيث يمكن أن يرى هذا بخاصة لنفسه في الدخول بدون استئذان وإذن. وأنه إذا وقع الاستئذان والإذن فلا يبقى
(1) التاج ج 5 ص 218- 219.
(2)
المصدر نفسه ص 220.
(3)
تفسير الخازن.
(4)
التاج ج 2 ص 300 والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.
مانع وبذلك يمكن التوفيق بين الحديث وبين الآية. وفي الحديث الذي رواه مجاهد عن ابن عمر وأوردناه قبل تأييد ما لذلك. وابن عمر من كبار أصحاب رسول الله وعلمائهم فلا يمكن أن يدخل على امرأة ما لم يكن يعرف أنه جائز إذا ما استأذن وأذنت له.
2-
روى الترمذي عن جابر «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخلون رجل بامرأة إلّا كان ثالثهم الشيطان» «1» والحديث يحذر من خلوة رجل بامرأة على انفراد. وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به ويمنع الغواية والإغراء عن الاثنين كما يمنع منهما سوء القالة.
والمتبادر أن التحذير ليس واردا إذا كان الاجتماع علنا أمام الناس وليس في خلوة أو كان المجتمعون مع بعضهم نساء ورجالا عديدين إذا ما تقيدوا بأدب العفة والطهارة وكان النساء ساترات لزينتهن ومفاتنهن. ويقال هذا أيضا بالنسبة لدخول عديد الرجال والنساء على بعضهم بعد الاستئذان والإذن.
3-
روى البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يخلونّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» «2» . والحديث في مدى سابقه مع زيادة وهي إجازة خلوة رجل بامرأة إذا كان معها محرم. وما قلناه في سياق الحديث السابق يورد هنا بتمامه.
4-
روى الترمذي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا تلجوا على المغيبات فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم» «3» . والمغيبات هنّ اللاتي يكون أزواجهن في غيبة طويلة على ما هو المتبادر، وهدف الحديث درء الفتنة والوقوع في الإثم.
وهذا أدب رفيع يجب الالتزام به. ومع ذلك فالمتبادر أنه ليس في الحديث ما يمنع الدخول إطلاقا وفق القيود والتلقينات المشروحة سابقا.
(1) التاج ج 2 ص 301.
(2)
المصدر نفسه ص 300.
(3)
المصدر نفسه ص 287.
ولقد روى الطبري حديثا ذا مغزى مهم جاء فيه «إن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي صلى الله عليه وسلم حينما نهى عن خلوة الرجال بالنساء إلا مع محرم وعن دخول الرجال في غيبة أزواجهن يا رسول الله إنا نغيب ويكون أضياف فقال له ليس أولئك عنيت ليس أولئك عنيت» حيث يستفاد من هذا أن النهي يستهدف المتهمين ودرء الفتنة والريب كما قلنا قبل.
5-
روى الشيخان وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلّا بإذنه ولا تأذن في بيته إلا بإذنه» «1» والشاهد في الحديث الفقرة الأخيرة. وهذا حق فالبيت مشترك والحياة الزوجية شركة. والوفاق والتفاهم واجبان فيها. ومخالفة هذا الأدب يثير الريب والشقاق.
ومع ذلك فليس في الحديث ما يمنع استقبال الزوجة للرجال وفق التقريرات المشروحة إذا ما حصلت على إذن زوجها. وقد علل الشراح الشطر الأول من الحديث بأن الصوم المنهي عنه صوم تطوعي والرجل قد يحتاج إلى زوجته في النهار فيجب أن يكون صومها هذا بإذنه. وليس هذا واردا بالنسبة لصوم رمضان.
6-
روى الترمذي حديثا عن الأحوص جاء فيه «إن من حقّكم على نسائكم ألا يوطئن فراشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون» «2» . والحظر هو إذن الزوجة لمن يكرهه زوجها وإجلاسه على فرشه. وليس مطلقا كما هو واضح.
وهذا مثل سابقه أدب رفيع يجب الالتزام به وهو مرتب على الشراكة الزوجية المتوافقة. وما قلناه في صدد السابق يقال هنا أيضا.
ونعلق تعليقا إجماليا فنقول إنه ليس في الآيات والأحاديث ما يمنع دخول النساء والرجال على بعضهم واجتماعهم ببعضهم في نطاق التلقينات والرسوم والآداب المشروحة. وهناك أحاديث كثيرة وردت في الكتب الخمسة وغيرها تفيد أن الرجال والنساء كانوا يدخلون على بعضهم ويجتمعون ببعضهم في مجالس النبي
(1) التاج ج 2 ص 287.
(2)
المصدر نفسه ص 286.