الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلمين من أمور موافقة لكتاب الله وسنّة رسوله.
في الآيتين بيان على سبيل التحذير والعظة بأنه لا خير في كثير مما يدور في الاجتماعات السرية التي يجتمع فيها الناس بعيدين عن أعين الرقباء إلا إذا كان الهدف صدقة تعطى. أو معونة تبذل. أو معروفا يؤمر به. أو إصلاحا بين الناس.
وبأن الذين يستهدفون مثل هذه الأهداف في اجتماعاتهم ابتغاء وجه الله ورضائه لهم الأجر العظيم عند الله. أما الذين يستهدفون مكايدة النبي ومشاققته بعد ما ظهر لهم ما ظهر من الحق والهدى ويسيرون في غير الطريق القويم الذي يسير فيه المؤمنون الصالحون والذي هو التزام ما أمر الله ورسوله به واجتناب ما نهيا عنه فإن الله يجعل أعمالهم السيئة ونياتهم الخبيثة تحيق بهم كما يجعل مصيرهم في الآخرة جهنّم وساءت هي من مصير.
تعليق على الآية لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ
…
إلخ والآية التالية لها واستطراد إلى مسألة إجماع المسلمين وسبيلهم
قال بعض المفسرين «1» إن الآيتين تتمة للسياق السابق ولقد جاء في حديث الترمذي الذي أشرنا إليه قبل هذه العبارة «فلما نزلت الآيات لحق بشير بن أبيرق بالمشركين فنزل على سلافة بنت سعد بن سمية فنزلت وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى الآية فرمى حسان بن ثابت سلافة بأبيات من الشعر فلما بلغتها أخذت رحل بشير ورمت به وقالت أهديت لي شعر حسان. ما كنت تأتيني بخير» .
وعلى هذا فتكون الآيتان متصلتين بالآيات السابقة ومنطويتين على تعقيب على الحادث.
غير أننا نلمح من الآية الثانية أن الآيتين في صدد أمر أعمّ من الحادث. وقد
(1) انظر تفسير الخازن والطبرسي والطبري.
يكونان فصلا جديدا متصلا بالآيات التالية لهما. وفيهما على كل حال صورة من صور العهد النبوي في المدينة من حيث إنه كان هناك مرضى نفوس ومخامرون يعقدون المجالس السرية للمكايدة والمشاقّة. ومن هنا يكون بين الآيتين والآيات السابقة تناسب قد يكون سبب وضعهما في مكانهما إذا لم يصح ما ذكره المفسرون من صلتهما بحادث ابن أبيرق وصحّ ما ذكرناه من صلتهما بالآيات التالية.
وفي الآيتين تلقينات جليلة مستمرة المدى حيث انطوى فيهما قصد تهذيب أخلاق المسلمين وتنقية قلوبهم وتوجيههم في وجهة الحق والبرّ والمعروف والإصلاح في سرّهم وعلنهم وفي اجتماعاتهم الخاصة والعامة. وتجنيبهم مواقف المكايدة والانشقاق والانحراف التي لا يجوز للمسلم أن يتورط فيها. وتنبيههم إلى ما في الاجتماعات السرية من شبهة التآمر والكيد ووجوب مراقبة الله فيها. وتقبيح الشذوذ عن السبيل القويم والرأي الحقّ الذي يكون عليه المسلمون والذي يكون في نطاق أوامر الله ورسوله ونواهيهما وتلقيناتهما.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية الأولى بعض أحاديث نبوية. منها حديث رواه ابن مردويه والترمذي وابن ماجه عن محمد بن يزيد قال: دخلنا على سفيان الثوري نعوده فدخل علينا سعيد بن حسان فقال له الثوري الحديث الذي كنت حدثتنيه عن أم صالح ردّده عليّ فقال حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة قالت «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام ابن آدم كلّه عليه إلّا ذكر الله عز وجل أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فقال سفيان أو ما سمعت الله في كتابه يقول لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ فهذا هو» «1» ومنها حديث أخرجه الحافظ البزار عن أنس قال «قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي أيوب ألا أدلّك على تجارة قال بلى يا رسول الله قال تسعى في إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا» وفي الأحاديث تساوق تلقيني مع الآية كما هو واضح.
وهناك أحاديث يصحّ أن تساق أيضا في صدد ما انطوى في الآية الثانية من
(1) الشطر الأول من الحديث ورد في التاج برواية الترمذي، انظر ج 5 ص 167.
لزوم سبيل المسلمين وعدم الشذوذ عنها. من ذلك حديث رواه أبو داود عن أبي ذرّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» «1» ومن ذلك ثلاثة أحاديث رواها الطبراني أحدها عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لن تجتمع أمتي على ضلالة فعليكم بالجماعة فإنّ يد الله على الجماعة» «2» وثانيها عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «يد الله على الجماعة فإذا شذّ الشاذّ منهم اختطفه الشيطان كما تختطف الذئب الشاة من الغنم» وثالثها عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «عليك بتقوى الله والجماعة وإياك والفرقة فإنها هي الضلالة وإنّ الله لم يكن ليجمع أمة محمد على ضلالة» «3» .
والآية الثانية جديرة بالتأمل من وجهة أخرى أي من وجهة كون الإنذار فيها موجها إلى الذين يشاقون الرسول ويشذون عن سبيل المسلمين عن عمد وبينة.
بحيث يرد على البال أنه لا يشمل من يفعل عن جهالة وعماء. على أن من الحق أن يقال إن على الذين لا يعرفون وجه الحق والهدى في أمر ما يجب عليهم للنجاة من الإنذار أن يسألوا أهل العلم فيه. ولهم أن يطلبوا البرهان على ما يقولونه لهم وإن الذين لا يفعلون ذلك ويفضلون البقاء على ما هم عليه من جهالة وعماء وعدم تبين وجه الحق والهدى يدخلون في شمول الإنذار أيضا.
ولقد أوّل بعضهم تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ في الآية الثانية بأنه الإيمان بالله ورسوله والتزام أوامرهما ونواهيهما. وأوله بعضهم بأنه ما اتفق عليه جمهور المسلمين من حق ومصلحة. والتعبير يتحمل التأويلين بل ليس بينهما تعارض.
والآية التي جاء فيها التعبير وإن كانت متصلة بعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته فإنها مستمرة التلقين للمسلمين بعده، شأن أمثالها الكثيرة بحيث تكون قد انطوت على الإنذار الرهيب لمن يشذ ويسير في طريق غير طريق كتاب الله وسنة رسوله وصالح المسلمين.
(1) التاج ج 5 ص 280.
(2)
مجمع الزوائد ج 5 ص 218 و 219.
(3)
المصدر نفسه.
ولقد قال بعض المفسرين إن في الآية حجة لوجوب اتباع (الإجماع) وعدم جواز مخالفته. وعزا بعضهم ذلك إلى الإمام الشافعي. وليس المقصود بهذا الإجماع معناه اللغوي. بل ذلك الاصطلاح الفقهي الذي يجعله الأصل الثالث من أصول التشريع الإسلامي. فالأصل الأول هو القرآن والثاني هو سنّة رسول الله والثالث هو إجماع علماء المسلمين أو مجتهديهم أو من وصفوا (بالقادرين على استنباط الأحكام من مآخذها) على ما ليس فيه نصوص محكمة ومحددة في القرآن والسنّة من مختلف الشؤون حيث تكون مخالفة ما يجمعون عليه حراما ويدخل في نطاق الإنذار الذي احتوته الآية.
وهذا وجيه من دون ريب لأنه يصحّ أن يدخل في متناول تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ حسب التأويل الثاني لهذا التعبير مع التنبيه إلى أن هذا التعبير بالتأويل المذكور واسع الشمول ويتناول فيما يتناوله ما يتفق عليه علماء المسلمين ومجتهدوهم من شؤون سياسية وعسكرية وتنظيمية فيها مصلحتهم.
ومن الجدير بالذكر في هذه المناسبة أن المستفاد من بحوث العلماء أنه ليس هناك اتفاق على شروط الإجماع وعلى أوصاف الجماعة التي يحصل الإجماع باتفاقها. وأن الإجماع الاصطلاحي المذكور ظلّ وسيظل نظريا وأنه لم يتحقق عمليا وليس من سبيل إلى ذلك وأنه لم يكد يوجد مسألة فقهية إلّا وفيها خلاف وأنه نتيجة لذلك انقسم المسلمون في عباداتهم وفي معاملاتهم إلى مذاهب عديدة منها ما يجمعه جامعة السنيّة ومنها ما يجمعه جامعة الشيعية بل ومنها ما يجمعه جامعة الخوارج الذين لا يزال منهم فرقة إلى اليوم تعمل به، وبعضها يوجب ما لا يوجبه بعضها وبعضها يجيز ما لا يجيزه بعضها، وبعضها يستكره ما يستحبه بعضها، وبعضها يحرّم ما يحلّه بعضها، وبعضها يحلّ ما يحرّمه بعضها، وبعضها يفسق بعضها بل يكفره «1» .
(1) انظر رسالة الإجماع في الشريعة الإسلامية لعلي عبد الرزاق وننبه على أننا لا نقول ما قلناه على سبيل التجريح والتثريب إطلاقا. فنحن نعرف ونعترف أن اختلافات أئمة الفقه ومجتهديه مستندة إلى النصوص القرآنية والنبوية والراشدية والصحابية التي ليست صريحة قطعية وقياسا على الأمثال والأعراف واستنباطا منها. وهذا مما يؤجر عليه المصيب والمخطئ منهم إذا كان مقصده الحق وخدمة الشريعة الإسلامية دون الهوى ونصرته، وقد تكون نتيجة ذلك علم الفقه الإسلامي الذي يصح أن يكون مثلا جليلا عالميا بما نبغ فيه من علماء وبما احتواه من بحوث واستنباطات دقيقة وفروض وحلول لمختلف المشاكل. وإنما نقوله تقريرا للواقع. [.....]
ومن جهة أخرى فإن الباحثين لا يدخلون أهل الحلّ والعقد والعلم الدنيوي في عداد الجماعة التي ينيطون بها ملكة القدرة على استنباط الأحكام من مأخذها ويجعلون إجماعها أصلا من أصول التشريع حيث يحصرون ذلك في المشتغلين بالعلوم الدينية مع أن تعبير سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ يتناول كما قلنا قبل الشؤون السياسية والعسكرية والتنظيمية التي يكون لرأي أهل الحل والعقد والعلم الدنيوي أثر مهم فيها.
وبناء على ذلك كلّه تظل ضرورة تعيين السبيل التي يجب على المسلمين اتباعها والتي تنذر الآية الشاذين عنها ملحة في كل وقت وقطر بالنسبة لما لم يرد فيه شيء صريح أو قطعي أو محدد في القرآن والسنن النبوية من مختلف الشؤون التعاملية والسياسية والعسكرية والتنظيمية. ولما كان الإجماع على ذلك غير ممكن، وبقاء المسلمين مختلفين مذاهب وشيعا في ذلك على النحو الذي ذكرناه ضارا كل الضرر ومخالفا لتقريرات القرآن والسنّة النبوية ومعطلا لتعيين سبيل المسلمين الواجب على المسلمين اتباعها فلا بدّ من الأخذ بما يتفق عليه الأكثرية.
وسبيل ذلك الشورى التي وصف الله المسلمين بأنها من خصائصهم في آية سورة الشورى [38] حيث جاء فيها وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ. وهذا المقام هو أوسع المقامات لتحقيق هذا الوصف حيث يجتمع ممثلو المذاهب الفقهية في مجالس خاصة فيبحثون المسائل الخلافية في العبادات والمعاملات فما اتفق عليه أكثرهم مما ليس فيه مناقضة لصريح القرآن والسنّة صار سبيل المسلمين في هذه المسائل