الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تحديد المقدار في الكتاب والسنة مع حضهما على التساهل فيه بالنسبة للناس الذين لا يقدرون على الكثير وهم الأكثرية الساحقة تلمح في كون طبيعة الحياة التي فيها التفاوت في المقدرة والمراتب الاجتماعية لا تتعارض مع الزيادة بالنسبة للقادرين بل تجعل ذلك مما لا يمكن تفاديه. وهكذا تتسق الشريعة الإسلامية مع مصلحة الأكثرية الساحقة من الناس ومع طبيعة الحياة في مختلف الظروف وهذا من مرشحاتها للشمول والخلود. ولقد روى أبو داود والنسائي وأحمد حديثا عن أمّ حبيبة أم المؤمنين قالت «إنها كانت تحت عبد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة فزوّجها النجاشي النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمهرها منه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى رسول الله مع شرحبيل بن حسنة» «1» حيث يمكن الاستئناس بهذا على ما قلناه والله سبحانه أعلم.
[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
.
تعليق على الآية وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إلخ
عبارة الآية واضحة. وهي في نهي المسلمين عن عادة بشعة جاهلية وتشنيعها وإبطالها.
وقد روى المفسرون «2» أنه كان من عادة العرب قبل الإسلام- ومنهم من روى ذلك عن أهل المدينة خاصة- إذا مات رجل منهم عن زوجة وله ابن بالغ من غيرها وألقى عليها ثوبا فإن ذلك يكون بمثابة إعلان رغبته فيها فيصبح أحق بها من نفسها إن شاء تزوجها وإن شاء زوجها لغيره وإن شاء أمسكها في بيته وإن شاء سرحها مقابل فدية تفدي بها نفسها من مال تدفعه أو حق تتنازل عنه له. وقد رووا
(1) التاج ج 2 ص 270.
(2)
انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والزمخشري والطبرسي.
هذا في سياق الآيات السابقة كما ذكرنا قبل. ورووا إلى هذا أن الآية نزلت في مناسبة مراجعة امرأة كانت زوجة لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري، فلما مات خطبها ابنه فأتت رسول الله وأخبرته وقالت إني أعدّ ابنه ابنا لي فما لبثت الآية أن نزلت بالنهي. كذلك مما رووه أن الآية نزلت في مناسبة حالات متعددة من هذا الباب ذكروا أسماء أصحابها من قريش حيث خلف صفوان بن أمية والأسود بن خلف على زوجتي أبويهما.
ويلحظ أولا أن الآية منصبة على النهي عن نكاح زوجات الآباء وتشنيعه فقط، وثانيا أنه جاء بعدها فصل فيه بيان المحرم على المسلمين من الأنكحة والحلال لهم حيث يسوغ القول إنها غير منقطعة عن السياق السابق واللاحق موضوعا وظرفا. وهذا لا يمنع أن يكون بعض الروايات أو جميعها وقعت أو مما كان يقع وإن امرأة شكت أمرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الآية وما بعدها من ما فيه محرمات الأنكحة.
وأسلوب الآية قوي في التشنيع حاسم في النهي. والمتبادر أن استثناء ما قد سلف قد استهدف تسوية نتائجه الطبيعية كالذرية التي نتجت من هذا النكاح تسوية شرعية وحقوقية. وفي هذا من الحكمة والحق ما هو ظاهر.
ويستفاد من أقوال المفسرين «1» ورواياتهم عن أهل التأويل أن الاستثناء أي جملة إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ هو من أجل الأولاد الذين ولدوا من هذه الحالة قبل تحريمها ليعتبروا أولادا شرعيين لأنهم من نكاح كان سائغا وليس للسماح باستمرار الزوجية بين زوجة الأب وابن الزوج. وهو حق سديد، ولقد روى الترمذي حديثا عن فيروز الديلمي قال «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له إني أسلمت وتحتي أختان فقال اختر أيّتهما شئت وفي رواية طلّق أيّتهما شئت» «2» وقد حرمت آية تأتي بعد هذا جمع الأختين إلّا ما قد سلف حيث يدعم هذا ذلك القول.
(1) انظر بخاصة تفسير ابن كثير والطبرسي والخازن لهذه الآيات.
(2)
التاج ج 2 ص 324.
ولقد قال المفسر ابن كثير في سياق تفسير الآية إن من يتزوج زوجة أبيه بعد تحريم ذلك يكون مرتدا عن دينه فيقتل ويصير ماله فيئا لبيت المال. وأورد للتدليل على ذلك حديثا رواه أصحاب السنن والإمام أحمد عن البراء بن عازب قال «لقيت عمي ومعه راية فقلت أين تريد قال بعثني رسول الله إلى رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله» «1» حيث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع هذه العقوبة لمثل هذا الجرم الفظيع حينما اقترف في الإسلام رغم التحريم والتسفيه الشديدين اللذين احتوتهما الآية.
وهناك أقوال يوردها المفسرون ومنهم من يعزوها أو يعزو بعضها إلى أهل التأويل من أصحاب رسول الله وتابعيهم في مدى الآية «2» من ذلك أن لفظ الآباء يشمل الجد بحيث يكون التحريم شاملا لنكاح ما نكحه الجد من قبل حفيده ومنها أن زوجة الأب تحرم على الابن ولو لم يدخل بها أن كان طلقها أو مات عنها قبل الدخول. ومنها أن التحريم يشمل ما استفرشه الآباء من إمائهم وما باشروه مباشرة بدون جماع من إمائهم وزوجاتهم بل ومن يكونون خلوا بهن منهن أو رأوهن مجردات أي عاريات. ثمّ تخلوا عنهن بدون جماع، وهذه أقوال وجيهة. وهناك اختلاف في ما جامعه الآباء سفاحا وما باشروه مباشرة وقبلوه بشهوة بدون جماع من نساء حرائر وإماء ولم يكنّ زوجاتهم وملك يمينهم. فبعض المؤولين والفقهاء أخذوا جملة وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ على معنى الجماع بالزواج أو بالسفاح وألحق به المباشرة والتقبيل بشهوة. وقال إن ذلك يحرم المرأة المزني بها أو المباشرة أو المقبلة بشهوة على الأبناء. وعزا الخازن هذا القول إلى عمران بن الحصين وجابر بن زيد والحسن وفقهاء العراق. ورتب أصحاب هذا الرأي حرمة المصاهرة عليه بحيث تكون بنت الزنا محرمة على أخيها الشرعي وعلى والد أبيها.
وبعضهم أخذوا الجملة على معنى عقد الزواج وقالوا بعدم حرمة من ليس زوجة
(1) التاج ج 3 ص 26.
(2)
انظر كتب تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن مثلا.