الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرها بالذنوب الثانوية استلهاما من روح الجملة ونصها. وعلى هذا فيكون في جملة نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ بعد جملة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ بشرى للمؤمنين وتخفيف عنهم ينطوي فيهما معالجة وحكمة ربانية جليلة. فالله سبحانه وتعالى يعلم ضعف الإنسان وعدم استطاعته التفلت من نزعات النفس وأهوائها بالمرة ويعلم أن هناك ما قد يدق عن فهم مداه بصورة عامة من هفوات قد تبدر منه عن حسن نية أو غفلة أو بغير تعمد للأذى والإثم والمخالفة أو ما يكون ضرره وأذاه محدودا فآذن المسلمين في هذه الجملة أن المهم هو اقتراف الموبقات والكبائر والفواحش فإذا ما اجتنبوها ودللوا بذلك على التزامهم حدود الله وقاموا بما عليهم من واجبات نحوه ونحو خلقه أسبغ عفوه وغفرانه على ما يلمون به من الأخطاء والهفوات الثانوية. وقد تضمنت هذا المعنى آيات سورة النجم هذه وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ [32] على ما شرحناه في سياق تفسيرها.
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
. (1) موالي: جمع مولى في معنى الوارث على قول الجمهور.
تعليق على الآية وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ
…
إلخ
لم نطلع على رواية في مناسبة نزول هذه الآية. وقد يتبادر أنها استمرار للآيات السابقة وأن الضمير المخاطب فيها راجع إلى المؤمنين الذين وجه إليهم الخطاب في تلك الآيات.
ولقد تعددت أقوال المفسرين في مفهوم الفقرة الأولى من الآية. فهناك من قال
إن الفقرة تقرر أن الله قد جعل لكل ميت ورثة يرثون ما تركه وهم الآباء والأقربون والمتعاقدون. وهناك من قال إن الله قد جعل لكل ما يتركه الآباء والأقربون والمتعاقدون ورّاثا. وكلمة لِكُلٍّ تجعل فيما يتبادر لنا المعنى الأول أوجه. وعلى هذا يكون تقدير الجملة ولكل ميت جعلنا ورثة مما ترك من آباء وأقربين ومتعاقدين.
كذلك تعددت أقوالهم «1» في مدلول جملة وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهناك من قرأها عاقدت بدلا من عقدت. وقال بعضهم إنها تعني الحليف حيث كان من العادات الجارية عند العرب قبل الإسلام أن يلتحق شخص بآخر باسم الولاء أو الحلف فيتعاقدا على تحمل كل منهما تبعة الآخر العصبية. فإذا مات أحدهما ورث الآخر سدس تركته. وقال بعضهم «2» إنها تعني الأبناء بالتبني حيث كان التبني يتمّ بعقد وصيغة مماثلة لعقد الولاء والحلف. وقال بعضهم إنها تعني ما تمّ في أول عهد الهجرة من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار التي اعتبرت بمثابة عقد ولاء وحلف. وقال بعضهم إنها تعني حق الأزواج في الإرث على اعتبار أن الزوجية تمت بين الزوجين بالتعاقد فصار لكل منهما حق في إرث الآخر وتركته «3» وننبه على أن المفسرين الذين أوردوا هذه الأقوال عزوها إلى بعض أصحاب رسول الله وتابعيهم.
(1) انظر الكتب السابقة الذكر.
(2)
مما رواه الخازن أنه كان يستعمل في التعاقد على الولاء والحلف والتبني هذه الصيغة، يقولها كل من المتعاقدين للآخر ماسكا كل منهما بيد صاحبه (دمي دمك وهدمي هدمك وثأري ثأرك وحربي حربك وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب لي وأطلب لك وتعقل عني وأعقل عنك) والجملة الأخيرة تعني أن يدفع الواحد منهما نصيبا من الديات التي تطلب من الآخر لأن الديات تدفع من ذوي العصبية حينما تطلب من واحد منهم لأناس آخرين. وقد روى ابن كثير حديثا عن النبي جاء فيه:(لا حلف في الإسلام وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) حيث يفيد أن النبي ألغى هذا التقليد مع إقرار ما كان من قبل.
(3)
هذا القول معزو إلى أبي مسلم الأصفهاني على ما جاء في تفسير القاسمي. ومما قاله المفسر لتدعيم القول إن النكاح يسمى عقدا اقتباسا من جملة وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ في آية سورة البقرة [235] .
ويلحظ أن تقليد التبني قد ألغي في آيات سورة الأحزاب وألغيت نتائجه ومنها التوارث على ما شرحناه في سياق تفسير هذه السورة. وتعيين حرمة حلائل الأبناء من الأصلاب فقط في الآية [23] من سورة النساء قد يدل على أن هذا الإلغاء قد تمّ قبل نزول الآية التي نحن في صددها.
ورواية التوارث بين المتآخين من المهاجرين والأنصار ليست وثيقة على ما شرحناه في سياق تفسير آية الأنفال [72] ومع ذلك فآية الأنفال [75] ثم آية الأحزاب [6] وكلتاهما نزلتا على ما نرجحه قبل الآية التي نحن في صددها قد أكدتا أولوية التوارث بين ذوي الأرحام. وهذا يجعل القول إن الجملة في صدد ذلك في غير محله أيضا فضلا عن أنها لا يصح أن توصف بالوصف الذي جاء في الآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ويبقى من الأقوال عقد الولاء أو الحلف وعقد الزوجية. وكل منهما وارد في دلالة الجملة. وقد أوردنا حديثا في ذيل سابق يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ألغى الحلف في الإسلام ولكنه أقرّ ما كان منه قبل ذلك «1» .
ونحن نرجح أن الجملة قد قصدت عقد الزوجية. فقد جعل الله الإرث في آيات المواريث للوالدين والأقربين وهم الأولاد والأخوة وللزوجين. فحيث ذكر الوالدان والأقربون فيتعين أن تعني الجملة عقد الزوجية فيتسق ذلك مع آيات المواريث.
وبناء على هذا فإن الآية فيما يتبادر لنا ونرجو أن يكون صوابا تقرر أن الله تعالى قد جعل لكل ميت ورثة يرثونه وهم والداه وأقاربه وزوجه. وأن لكل من هؤلاء حقا لا يصح لأحد منعه منه وأن من الواجب إعطاءه إياه. فيكون في هذا توطيد لتشريع الإرث من جهة وتدعيم للآية السابقة لهذه الآية التي نهت المسلمين عن أن يتمنوا ما فضل الله به بعضهم على بعض والتي قررت في الوقت نفسه أن
(1) إن الطبري أورد في سياق الآيات أحاديث عن أحلاف كانت قبل الإسلام تفيد أن الحلف المقصود هو حلف حربي تعقده عشائر أو قبائل عديدة للتناصر ضد عشائر وقبائل أخرى فيكون في هذا أيضا نفي لمدى الحلف والولاء في الآية والله تعالى أعلم.