الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعليق على الآية وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ والآيات الثلاث التالية لها
ولم نطلع على رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. ويلحظ شيء من التناسب الموضوعي بين هذه الآيات وما بعدها من الآيات المتصلة بمعاملة النساء والأنكحة المحرمة والمحللة وبين الآيات السابقة، بحيث يرد في البال أنها استمرار في التشريعات المتصلة بهذا الموضوع. وأنها نزلت بعدها.
ولقد احتوى القرآن المكي تقبيحا وزجرا عن الزنا ووعيدا للزناة وعدّ ذلك من الفواحش الكبرى على ما جاء في آيات سورة الفرقان [68- 69] والإسراء [32] .
وهو الأسلوب المتسق مع ظروف العهد المكي. فجاءت هذه الآيات بأسلوب تشريعي لأن ذلك صار ممكنا في العهد المدني. ومع ذلك فإن التشريع في الآيات هو خطوة أولى. وقد جاءت الخطوة الثانية في الآيات الأولى من سورة النور وفي بعض الأحاديث النبوية على ما سوف يأتي شرحه في سياق تفسير هذه السورة.
ويلحظ أن عقوبة الزنا في الخطوة التشريعية الأولى اقتصرت بالنسبة للرجال الذين عبر عنهم بكلمة وَالَّذانِ على ما رجحناه على جملة فَآذُوهُما وبالنسبة للنساء على جملة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا وقد قال المفسرون عزوا إلى ابن عباس وغيره إن فَآذُوهُما بمعنى التعيير والضرب والتوبيخ. وإن حكمة استبقاء النساء في البيوت هي عدم تعريضهن للفاحشة ثانية بالبروز للرجال «1» . وهذا مما يتسق مع روح الآيات. مع التنبيه على أن أقوال المفسرين لا تفيد أن إمساك النساء في البيوت هو عقوبة. في حين أنه في الحقيقة عقوبة شديدة لأنه سجن أبدي حتى الموت أو يجعل الله لهن سبيلا. وكل من العقوبتين متناسبة على ما هو المتبادر مع طبيعة كل من الرجل
(1) انظر الخازن وابن كثير والطبري.
الجزء الثامن من التفسير الحديث 4
والمرأة أو ظروفهما في ذلك الوقت من حيث إن الرجل مضطر إلى السعي والارتزاق فاكتفي في عقوبته بالضرب والتعزير ولم تكن المرأة في مثل هذا الاضطرار فعوقبت بالحبس حتى الموت أو يجعل الله لها سبيلا. ولقد روى المفسرون في سياق الآية حديثا عن عبادة بن الصامت قال «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي أثر عليه وكرب وتغير لذلك وجهه. فأنزل الله عز وجل عليه ذات يوم فلما سرى عنه قال خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا: الثيب بالثيب والبكر بالبكر، الثيب جلد مائة. ورجم بالحجارة والبكر جلد ثم نفي سنة» «1» ومن المحتمل أن يكون الحديث النبوي صدر على أثر نزول آيات سورة النور التي فيها تشريع جلد مائة للزاني والزانية.
وجمهور المفسرين والعلماء «2» على أن الخطوة الثانية في سورة النور والأحاديث النبوية نسخت الآيات التي نحن في صددها. ويلحظ أولا أن في الخطوة الثانية تحديدا وتشديدا للعقوبة وهذا أحرى أن يسمى تعديلا لا نسخا.
ويلحظ ثانيا أن استشهاد أربعة شهود ظل محكما في الخطوة الثانية. ولقد استند بعضهم إلى الآية الثانية فقال إن مرتكب الفاحشة إذا تاب تسقط عنه العقوبة.
والعقوبة المعينة في الآية هي كما قلنا الخطوة الأولى ثم جاءت آيات سورة النور والأحاديث فنسختها وصارت هذه المحكمة لأنها تنصّ على وجوب اتباع الحدّ على الزاني والزانية بدون رأفة وبدون استدراك بحيث يكون ذلك القول غير سليم.
وعدم سلامة القول يلمح أيضا من نصّ الآية الثانية حتى بقطع النظر عن أمر نسخها بآيات النور. فهي تأمر بأذية مرتكبي الفاحشة ثم الإعراض عنهما إذا تابا وأصلحا وهذا من نوع توبة من يرمي المحصنات ولم يأت بأربعة شهداء التي ذكرت في آيات سورة النور [4 و 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ
(1) ابن كثير وقال المفسر قال الترمذي حديث حسن صحيح. وقد روي هذا الحديث بطرق عديدة وبشيء يسير من الخلاف على ما جاء في تفسير ابن كثير
…
انظر أيضا تفسير الطبري والخازن والبغوي والطبرسي. [.....]
(2)
انظر الكتاب المذكورة أيضا.
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) ومرتكب الفاحشة يكون قد أثم من ناحيتين من ناحية مخالفته لله وارتكابه ما حرّمه ومن ناحية عدوانه على عرض آخر. فعليه الحدّ لهذا وإذا تاب فيحظى بعفو الله عن ذلك. وهناك بعض الأحاديث في هذا الصدد سنوردها ونعلق عليها في سياق شرح آيات النور «1» .
وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ
…
لا تفيد فيما يتبادر لنا معنى الشهادة العيانية لجريمة الزنا فقط بل تفيد معنى الشهادة العلمية الخبرية أيضا بل قد تفيد هذه الشهادة في الدرجة الأولى إذا أمعن فيها. فكأنما تقول والله أعلم (إذا علمتم أن امرأة ترتكب الفاحشة فاسألوا عن سيرتها فإن شهد أربعة من المسلمين بذلك فامسكوها في البيت
…
) ومع أن الجمهور «2» على أن الشهادة التي يثبت بها الزنا هي الشهادة العيانية أي رؤية العملية الجنسية الجريمة ومشاهدتها بدون استنتاج ولا تخمين ولا بناء على الروايات والشائعات والمعرفة الصادقة فإنّ نصّ العبارة القرآنية يجعلنا نشك في صواب ذلك ونصرّ على القول إن المقصود هو الشهادة العلمية. فالنص يأمر باستشهاد أربعة من المسلمين إطلاقا إذا ما عرف أن امرأة أتت فاحشة. وهذا إنما يكون بعد أن يعزى إليها ذلك ويعني بالتالي أنه شهادة علم وليس شهادة عيان. ولم نطلع على حديث نبوي صريح في ذلك. والحوادث التي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد فيها على الزناة كانت بناء على اعتراف أصحابها «3» . وقد عبّر الحديث الذي
(1) هناك حديث سنورده ونمحّصه في سياق تفسير آيات سورة النور الأولى رواه الخمسة عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنه قال ما مفاده (إن حدّ الزنا يوقع على الزاني إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) حيث يفيد هذا أنه أضيف إلى إثبات الزنا بالشهادة التي عبر عنها بكلمة (البينة) وسيلتان أخريان هما الحبل بالنسبة للمرأة والاعتراف بالنسبة للرجل والمرأة.
(2)
انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن.
(3)
انظر التاج ج 3 ص 22 و 23 وسنورد أحاديث هذه الحوادث في تفسير سورة النور.
يرويه ابن عباس والذي أشرنا إليه آنفا عن هذه الشهادة بجملة «إذا قامت البينة» .
وهذا لا يفيد صراحة بأنها بينة عيانية. وقد يقال إن من الممكن أن يكون المقصود أنه حينما يعزى إلى امرأة عمل الفاحشة يطلب من المسلمين رصدها فإذا رآها أربعة منهم ترتكب الفاحشة عيانا شهدوا وإذا صحّ هذا الفرض برغم ما يبدو عليه من تكلف فإثبات الزنا يزداد صعوبة ويكون ذلك من حكمة إناطته بشهادة عيانية من أربعة من المسلمين حتى لا تهتك أعراض النساء بشهادات علمية وخبرية وقليلة والله تعالى أعلم. ولقد أورد المفسر القاسمي في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة النور حديثا عزاه إلى البخاري جاء فيه «إنّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلد أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعا بقذف المغيرة والي الكوفة بالزنا لما شهدوا بأنهم رأوه مستبطنا المرأة لأن الشاهد الرابع وهو زياد لم يشهد بشهادتهم» ويتبادر لنا أن الذين جعلوا الشهادة التي يثبت بها الزنا عيانية قد استندوا إلى هذا الحديث.
والذي يتبادر لنا أن هذا الحديث إذا صح هو في صدد حادثة معينة وليس في صدد مبدأ تحديد كيفية الشهادة بإثبات الزنا. هذا مع قولنا إن من المستبعد أن يكون الشهود الأربعة المذكورون في الحديث قد رأوا العملية صدفة وأنهم لا بدّ من أن يكونوا قد علموا بها مسبقا فترصدوها حتى شاهدوها.
وننبه على أن جلد عمر للثلاثة المروي في الحديث مستند إلى آية في سورة النور وهي وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً
…
[4]
وسنزيد الآية شرحا في مناسبتها.
ومهما يكن من أمر هذه النقطة فإن الحكمة في جعل عدد الشهود لإثبات جريمة الزنا بالشهادة أربعة ظاهرة بليغة. وبخاصة على ضوء ما يذهب إليه الجمهور من أنها يجب أن تكون عيانية. فهذه الجريمة من شأنها دائما أن تهزّ كيان الأسر وتثير الارتباك والهياج في المجتمع وتؤدي إلى عواقب وخيمة في ظروف كثيرة.
والتشدد في إثبات وقوعها يحول دون كل ذلك. أما إذا شهد أربعة شهود عيان فمعنى ذلك أن المجرمين استهتروا استهتارا بشعا بمصلحة المجتمع وسلامة الأعراض بجريمتهم ويصبح إعلان الجريمة والتنكيل بمرتكبيها من مصلحة الجمهور.
وكلمة (منكم) تفيد كما هو المتبادر وجوب كون الشهود الأربعة التي تثبت بشهادتهم جريمة الزنا من المسلمين. ولهذا فيما يتبادر مغزى بعيد المدى في الظرف الذي نزلت فيه الآية وفي كل ظرف معا. فالمفروض أن المؤمن المسلم يعرف خطورة إثم شهادة الزور وضرر إشاعة الفاحشة بين المسلمين ويعرف أن مصلحة المجتمع الإسلامي هي مصلحته. فلا يقدم على شهادة من هذا النوع في حق أخيه المسلم إلّا إذا كان على يقين منها بحيث يعتقد أنه مؤاخذ عند الله إذا كتمها في حين أن هذا لا يكون مؤكدا من غير المسلم في حق المسلم.
وكلمة (منكم) تحتمل أن تشتمل الرجال والنساء معا. غير أن الجمهور على حصر حق الشهادة في الحدود بخاصة في الرجال. ولم نطلع في صدد ذلك على حديث نبوي صحيح. وإنما رأينا الإمام رشيد رضا يذكر في سياق تفسير الآية أن الزهري- وهو من علماء الحديث من التابعين- قال: (مضت السنّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود) ونحن في حيرة من هذا. فقد تذهب الجريمة بدون عقاب إذا توقف إثباتها على شهادة امرأة مسلمة. هذا إلى أن فرصة النساء لمشاهدة مثل هذه الجريمة أكثر سنوحا من الرجال كما هو المتبادر، ولقد قلنا إننا لم نطلع على حديث نبوي صحيح. وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي يصح أن يورد لأن فيه تأييدا لتحفظنا. حيث رويا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه «أن النبي صلى الله عليه وسلم ردّ شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه وردّ شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم وفي رواية لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا زان ولا زانية» «1» فهذا الحديث مطلق. ويفيد أن كل من يكون متصفا بالصفات المذكورة سائغ الشهادة مطلقا في الحدود وغير الحدود معا وسواء أكان رجلا أو امرأة. والله تعالى أعلم.
والجملة التي نحن في صددها قد جاءت في الآية التي فيها النساء. غير أنها
(1) التاج ج 3 ص 38 ومعنى ذي الغمر ذي العداوة والحقد. ومعنى القانع الخادم أو التابع.
شاملة للرجال الذين يأتون الفاحشة أيضا المذكورين في الآية التالية لها على ما هو المتبادر من حيث إن العقوبة المترتبة عليهم لا توقع إلّا بعد ثبوت جريمتهم بالطرق التي تثبت جريمة النساء. باستثناء الحبل بطبيعة الحال. أي بالشهادة التي عبر عنها في حديث ابن عباس بالبينة أيضا أو الاعتراف.
وجملة فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما تفيد كما هو المتبادر أمرا بالكف عن أذاهما إذا أظهرا الندم والتوبة والصلاح. وهذا شرط قبول توبة التائب على ما جاء في آيات عديدة وشرحناه شرحا وافيا في سياق تفسير سورة الفرقان.
ولعل كلمة وَأَصْلَحا بخاصة تنطوي في مقامها على إيجاب تلافي نتائج الفاحشة مما قد يدخل فيه التعويض والزواج. والله أعلم.
وفي الآيتين [17- 18] اللتين جاءتا استطراديتين في صدد التوبة زيادة مهمة جديرة بالتنويه حيث توجب على المذنبين الإسراع في التوبة والصدق فيها وتنبه على أن تأخير التوبة إلى ساعة الموت يجعلها غير مقبولة عند الله. وفي هذا ما فيه من التلقين البليغ. فالتوبة إنما فتح بابها للناس حتى يندموا ويرعووا ويصلحوا ما أفسدوا وهم في متسع من حياتهم ومتعة من صحتهم وعمرهم.
هذا، وجملة فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً وجملة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ وجملة فَآذُوهُما وجملة فَأَعْرِضُوا عَنْهُما وإن تكن موجهة للمسلمين فالمتبادر أن محل توجيهها في الدرجة الأولى هو أولو الأمر والشأن والحكم والسلطان منهم. وقد ذكر ذلك المفسر الخازن فيما ذكره في صدد ذلك.
وهو حق لأنهم هم الذين يؤهلهم مركزهم واحترام الناس لأوامرهم ونواهيهم لاستشهاد الشهود والحكم بحبس النساء في البيوت وضرب الرجال وتعزيرهم.
وهذا يعني بالتبعية أن هذه الأمور منوطة في الدرجة الأولى بهم وأن من واجب المسلمين رفعها إليهم. وعدم التصرف فيها مباشرة لما يؤدي إليه ذلك من فوضى وأخطاء وأهواء.
هذا ولقد رأى المعتزلة في جملة إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ تأييدا لمذهبهم بأنه