الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(1)
فيحفكم: من الإحفاء وهو الإلحاح والإبرام.
تعليق على الآية إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
…
إلخ والآيتين التاليتين لها
في الآيات خطاب للمسلمين يتضمن:
(1)
تقرير كون الحياة لعبا ولهوا ومتاعها وأمدها قصيران زائلان.
(2)
وتقرير كون أجر المسلمين عند الله مضمونا إذا ما أخلصوا في الإيمان وتقوى الله.
(3)
وتقرير كون الله لا يطلب منهم الخروج عن جميع أموالهم ولا يلحّ عليهم في ذلك لأنه يعلم طبيعة البشر إزاء مثل هذا الطلب من شحّ وضنّ وتجهّم وإعراض ولا يريد لهم أن تظهر عليهم أعراض تلك الطبيعة. وكل ما في الأمر أنه يسألهم إنفاق بعضها. وهذا أمر هين كان يجب عليهم أن يفعلوه بدون تردد. ومع ذلك فإن منهم من يبخل به. ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه لأن خطر البخل في هذا المقام عائد عليه. والله تعالى غني عن الناس. والناس فقراء إليه على كل حال. والإنفاق الذي يدعوهم إليه إنما هو لمصلحتهم فإذا أعرضوا عن الاستجابة إلى ما يدعون والإخلاص لله فإن الله لا يعزّ عليه أن يستبدل بهم قوما آخرين لا يكونون مثلهم في البخل والإعراض وضعف الإخلاص والتقوى. وروح الآيات ومضمونها جعل من المتبادر لنا أن المقصود من جملة وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ أنه لا يسألكم أموالكم جميعها. ونرجو أن يكون هو الصواب.
وأسلوب الآيات قوي رصين موجّه إلى العقول والقلوب معا. ومتسق مع
أسلوب القرآن في معالجة مثل الأغراض التي استهدفتها معالجة حكيمة متمشية مع طبائع الأشياء.
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية ما في مناسبة نزول الآيات.
والمتبادر أنها استمرار للسياق السابق واستطراد إلى ذكر مسألة الإنفاق لأن مجاهدة العدو تتطلب ذلك. ولعل ما احتوته الآية السابقة من الأمر بعدم التراخي عن العدو متصل بهذه المسألة حيث كان بعض المسلمين يقصّر فيها فيكون ذلك مظهرا من مظاهر التهاون والتراخي فاقتضت الحكمة الاستطراد إليها.
ويبدو من روحها أن المقصرين في هذه المسألة هم فئة أخرى غير المنافقين. وإذا صح هذا فيكون في الآيات صورة لما كانت تقابل به الدعوة إلى التضحية بالمال في سبيل الله من فتور وتردد من قبل بعض المسلمين الذين هم غير مدموغين بالنفاق والذين هم في الغالب من المستجدين الذين أسلموا رغبة أو رهبة أو مسايرة للظروف، ثم لم يخامروا ولم ينافقوا. وفي آيات أخرى في سور البقرة وآل عمران والنساء إشارات إلى مقابلة هذه الفئة الدعوة إلى الجهاد بالنفس بالفتور والتردد أيضا. وفي سورة الصف آيات صريحة في ذلك وهي يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) ويلفت النظر إلى أنها خاطبت المخاطبين بخطاب الذين آمنوا.
وهذه الفئة هي غير الذين وصفهم الله في آية التوبة [100] بالسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان وقال عنهم فيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ثم عناهم بوصف الصادقين في آية التوبة هذه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) .
وما جاء في الآيات في صدد البخل والإنفاق في سبيل الله جدير بالتنويه من حيث انطواؤه على التنبيه على تعظيم أمر الإنفاق في سبيل الله وشدة ضرورته وخطر
التقصير فيه. ودلالة ذلك على ضعف إيمان وعقول المقصرين مما أكدته آيات كثيرة مرّت أمثلة عديدة منها.
ولعل ما احتوته الفقرة الأولى من وصف للحياة الدنيا وتقرير لكون الإيمان والتقوى هما اللذان يجب أن يتصف بهما المسلم الصادق، وهما اللذان يمكن أن يعودا عليه من هذه الحياة بالنفع والأجر متصل بذلك. وفي كل هذا تلقينات مستمرة المدى كما هو المتبادر. ويلفت النظر بخاصة إلى الإنذار الرهيب المستمر المدى كذلك للمسلمين الذين يسمعون القرآن وقت نزوله وجلّهم من العرب إذا هم قصروا وبخلوا في الإنفاق في سبيل الله تعالى ينطوي فيه إنذار بزوالهم أو زوال عزهم واستعلاء غيرهم عليهم.
وواضح من هذا الشرح الذي نرجو أن يكون فيه الصواب أن ما جاء في الآية الأولى من وصف للحياة إنما هو بسبيل حفز المسلمين على التزام الأفضل والأكرم والأبقى والمؤدي إلى رضاء الله فيها وهو الإيمان والتقوى.
ولقد روى الطبري بطرقه على هامش الآية الأخيرة حديثا عن أبي هريرة قال «نزلت هذه الآية وسلمان الفارسي إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم تحكّ ركبته ركبته فقالوا يا رسول الله ومن الذين إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا فضرب فخذ سلمان ثم قال هذا وقومه» وقد روى هذا الحديث البغوي أيضا ورواه الترمذي وهذا نصّ الترمذي عن أبي هريرة قال «قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يا رسول الله من هؤلاء الذين ذكر الله إن تولّينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا قال وكان سلمان بجنب النبي فضرب على فخذه وقال هذا وأصحابه. والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس» «1» ومع ذلك فإن الطبري يروي عن شريح بن عبيد وعبد الرحمن بن جبير من التابعين أن المقصود بهم أهل اليمن.
كما أن البغوي يروي عن الكلبي أنهم كنده والنخع «2» . ولقد أورد ابن كثير نصّ
(1) التاج ج 4 ص 210- 211.
(2)
قبيلتان يمانيتان.
الترمذي وعقب عليه قائلا تفرد به مسلم بن خالد الزنجي ورواه عنه غير واحد.
وقد تكلم فيه بعض الأئمة رحمة الله عليهم. ولقد أورده كذلك الطبرسي ثم روى عن أبي عبد الله أحد الأئمة أنه قال في معنى الآية «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم يعني الموالي وقد والله أبدل بهم خيرا منهم الموالي» .
ونحن نتوقف في الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأهل فارس ليسوا الوحيدين الذين دخلوا الإسلام من الأمم الأعجمية وليسوا الوحيدين الذين صار لهم سلطان في ظل الإسلام على أنقاض السلطان العربي. وهناك من كان أكثر وأقوى وأدوم وأوسع سلطانا وهم الترك. والقول المروي عن الإمام أبي عبد الله يرويه مفسر شيعي. ونحن نخشى أن يكون ذلك متأثرا بما كان من التعاون بين الهاشميين ثم العلويين وأهل فارس في سياق المنافسة على السلطان في القرون الثلاثة الأولى للهجرة. ويلحظ أن بعض علماء التابعين قالوا إن المقصودين هم أهل اليمن الذين لم يكونوا أسلموا بعد حين نزول الآيات والذين كانوا من أقوى الأركان التي قامت عليها الدول العربية الإسلامية الأولى حيث قد يفيد هذا أن الحديث المنسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت عند هؤلاء العلماء.
ومن الجدير بالذكر أن الموضوع الجوهري المتصل بأهل فارس الذي جاء في هذا الحديث قد ورد في حديث آخر رواه البخاري ومسلم في سياق تفسير جملة وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ من سورة الجمعة على ما أوردناه وعلقنا عليه في سياق تفسير هذه السورة في الجزء السابق. وبصرف النظر عما علقنا به على هذا الحديث في سياق تفسير سورة الجمعة فإن الفرق مهم في مناسبة الروايتين فضلا عن أن الحديث الوارد في مناسبة آية سورة الجمعة أقوى اعتبارا في مراتب الحديث. حيث نرى في هذا دعما وتصويبا لموقفنا في الحديث المروي في مناسبة آية سورة محمد التي نحن في صددها. والله تعالى أعلم.