الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نعيد إيرادهما. واحد رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «آية المنافق ثلاث إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وواحد رواه عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أربع من كنّ فيه كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خلة منهن كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها. إذا حدث كذب. وإذ عاهد غدر. وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر» حيث يفيدان أن الأخلاق التي نددت بها الآيتان وقررت استحقاق صاحبها لمقت الله الشديد هي صفات المنافقين دون المؤمنين الصادقين المخلصين.
[سورة الصف (61) : الآيات 5 الى 9]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
.
تعليق على الآية وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ والآيات الأربع التي بعدها وما فيها من تلقين وما في بشارة عيسى بنبوة النبي ومن وعد الله بإظهار دين الإسلام على الدين كله
لم نطلع على مناسبة خاصة لنزول الآيات. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب واستطراد. ففي الآيات السابقة تنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون. وإيذان لما في ذلك من موجبات غضب الله ومقته الشديدين.
فجاءت هذه الآيات:
(1)
لتذكر على سبيل العظة والزجر والتمثيل بما كان من قوم موسى إزاء موسى عليه السلام من مواقف مؤذية محكية عن لسانه مع تأكدهم بأنه رسول الله إليهم. وبما كان من انتقام الله منهم حينما انحرفوا عن جادة الحق حيث أزاغ الله قلوبهم. لأن الله لا يمكن أن يوفق ويسعد الفاسقين المتمردين عليه.
(2)
ولتستطرد بهدف توكيد رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقوة ما فيها من الحق والنور الإلهي وحمل المؤمنين بها على الثبات عليها وتأييدها والاستجابة إلى ما يدعوهم النبي إليه من جهاد وغير جهاد إلى ما كان من بشارة عيسى بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم حيث حكت قوله لبني إسرائيل إنه رسول الله إليهم مصدقا بالتوراة التي أنزلت قبله ومبشرا برسول يأتي من بعده اسمه أحمد بسبيل تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم ورسالته ودعوته.
(3)
ولتندد بما كان من موقف الكفار من النبي محمد المبشر به حينما جاءهم وقولهم عن رسالته إنها سحر.
(4)
ولتؤكّد انتصار دينه وانتشار نور الله وتمامه نتيجة لذلك حتى يغلبا ما عداهما برغم كل المحاولات المعطلة من الكفار والمشركين وبعبارة قوية داوية حيث تقرر أولا: إنه ليس من أحد أشد ظلما ممن يفتري على الله الكذب فيقول عن آياته إنها سحر بينما هي تدعو إلى الإيمان بالله والإسلام إليه. وثانيا: إن المعطلين يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ومواقفهم وأقوالهم ولكن الله تعالى سوف يتمّ نوره وينشره حتى يملأ الكون على الرغم من الكافرين. وثالثا: إن الله قد أرسل رسوله بالهدى والدين الحق الواضح وإنه لجاعل له السيادة والغلبة والظهور على جميع الأديان حتى يصبح دين العالم كله على الرغم من المشركين.
ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الفاعل المستتر في جملة جاءَهُمْ إلى عيسى وصرفها بعضهم إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهذا قول الطبري. وقد رجحناه وأخذنا به في شرحنا الآنف استلهاما من الآيات الثلاث الأخيرة. والله أعلم.
هذا، ويصح أن يكون المقصودون في جملة فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا الجزء الثامن من التفسير الحديث 36
سِحْرٌ مُبِينٌ (6) كفار العرب، كما يصح أن يكونوا الذين كفروا برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل. ونحن نرجح الاحتمال الثاني لأن الكلام في صدد بني إسرائيل وفي القرآن آيات عديدة ذكرت كفر بني إسرائيل بهذه الرسالة مرّ إيرادها وتفسيرها في سور البقرة وآل عمران والنساء. وعلى هذا فتكون الآيات الثلاث التي جاءت بعدها قد قصدت كفار بني إسرائيل أيضا. وقد جاءت مع ذلك بأسلوب عام لتكون شاملة لجميع الكفار والمشركين من جهة وليكون ما فيها أعم مدى من موقف جحود الإسرائيليين من الرسالة المحمدية من جهة أخرى. وهذا أسلوب من أساليب القرآن. والله تعالى أعلم.
ولقد حكت آيات كثيرة جدا مواقف الجحود التي وقفها أكثرية الإسرائيليين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته في سور البقرة وآل عمران والنساء والجمعة التي مرّ تفسيرها، وفي سور أخرى سيأتي تفسيرها أيضا. وفيها تنديد شديد بهم لأنهم وقفوا هذه المواقف وهم يعرفون صدق رسالة النبي ويعترفون بها ويبشرون بذلك ويستفتحون أي يزهون به على مشركي العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من أعلن تصديقه وإيمانه على ما شرحناه في سياق تلك السور شرحا يغني عن التكرار.
ولقد قال المفسرون إن الأذى الذي كان يقع على موسى من قومه هو تعجيزهم له بالمطالب كقولهم لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ وهذا حكته آية البقرة [61] وقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وهذا حكته آية البقرة [55] .
وكقولهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا «1» أو رميهم إياه بالبرص أو تآمر قارون عليه أو رميه بالزنا إلخ. ولقد ورد في الآية [69] من سورة الأحزاب إشارة إلى ما كان يقع على موسى من أذى من قومه. والراجح أن الأذى المحكي هنا عن لسان موسى هو من نوع ما عنته آية الأحزاب، وقد أوردنا ما ورد في ذلك من أقوال وروايات وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
(1) حكي هذا عنهم في آية المائدة [24] . [.....]
وآية الأحزاب نهت المسلمين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى. وقد جاءت بعد آيات فيها إنذار رهيب للذين يؤذون الله ورسوله خاصة والمؤمنين والمؤمنات عامة حيث ربطت بين الموقفين على سبيل المقارنة والإنذار على ما شرحناه في سياقها. والمتبادر من موقف الذين يقولون ما لا يفعلون الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة والذي هو على ما رجحنا بصدد عدم تصديق أقوالهم ووعودهم بالقتال بالفعل قد كان مما آذى رسول الله واستوجب شدة مقت الله فاقتضت حكمة التنزيل أن يعاد التذكير والمقارنة والتنديد في هذا المقام وإن اختلف الأسلوب حيث نهت آية الأحزاب المؤمنين عن أن يكونوا كالذين آذوا موسى وحيث جاء ذلك حكاية عن لسان موسى.
ولقد كانت الدعوة إلى الجهاد ضد الأعداء المعتدين على الإسلام والمسلمين والحركة التي انبثقت من ذلك قد شغلتا جزءا عظيما من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وجهده في العهد المدني وفي القرآن المدني. ولقد حكت آيات في سورتي آل عمران والنساء التي سبق تفسيرها مواقف بعض المسلمين وبخاصة مرضى القلوب والمنافقين من الدعوة إلى القتال في سبيل الله لدفع عدوان المعتدين ولنصرة المستضعفين الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد المشركين مما كان يثير في نفس النبي مرارة شديدة وحملت عليهم حملات قارعة. فالمتبادر أن الموقف الذي حكته الآية الثانية من السورة ونددت به الآية الثالثة موقف جديد أثار المرارة من جديد في نفس النبي فاقتضت حكمة التنزيل مقابلته بما جاء في الآيات الأولى ثم بالتذكر بما كان من مواقف قوم موسى المؤذية وما كان من نكال الله لهم وبالتأكيد بأن الله ناصر دينه وناشر نوره رغم كل المواقف. والأسلوب الذي جاء به هذا التأكيد في الآيتين الأخيرتين من الآيات التي نحن في صددها قوي بعث أشد اليقين في النفس وهو ما قصدته حكمة التنزيل على ما هو المتبادر.
ولقد تكرر وعد الله بتمكين دينه ونصر رسوله والمؤمنين في آيات عديدة مكية ومدنية في سور سبق تفسيرها غير أن التوكيد بإظهار هذا الدين على الدين
كله، أتى هنا لأول مرة. وقد تكرر بعد هذا مرتين. واحدة في سورة الفتح التي يقع ترتيبها بعد هذه السورة وأخرى في سورة التوبة بنص قريب لنص آيات الصف.
وبالإضافة إلى ما في الآيات من قصد تدعيم موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الدعوة إلى الجهاد والتنديد بالذين يقولون ما لا يفعلون وهو القصد القريب المباشر والله أعلم، وبالإضافة إلى ما فيها من تحدّ مطلق للكافرين والمشركين، وإيذان بوعد الله تعالى بإظهار الدين الذي أرسل به محمدا صلى الله عليه وسلم على الدين كله فإن جملة بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ تنطوي على تقرير ما في الرسالة المحمدية من هدى وحقّ يتمثلان في ما احتواه القرآن الكريم والسنن النبوية الشريفة من مبادئ وقواعد وتشريعات ووصايا وتنبهات وتلقينات وتوجيهات ومعالجات وأوامر ونواه إيمانية واجتماعية وسياسية واقتصادية وأسرية (الأسرة) وسلوكية وشخصية وتبشيرية وروحية من شأنها ضمان السعادة العظمى للبشرية في الدنيا والآخرة على أهم وجه وأوسعه وأفضله. ولقد دعا هذا الدين إلى الله وحده المتصف بجميع صفات الكمال المنزه عن كل نقص ومماثلة. وقرر ربوبيته للعالمين جميعا دون اختصاص، واستغناءه وتنزّهه عن الشريك والمساعد والولد بأي معنى كان وسواء أكان ذلك تأويلا أم وسيلة أم شفاعة. وحارب بكل قوته ودونما هوادة كل أنواع ومظاهر الشرك التي تمثل انحطاط الإنسانية وتسخيرها لقوى وأفكار وعقائد سخيفة مغايرة للعقل والمنطق والحق وممثلة لنظام جاهلي فيه تقاليد وعادات منكرة وعصبيات ممقوتة. وهدف إلى القضاء على ما طرأ على الديانات السماوية وبخاصة على الديانتين المعروفة يقينا مصدريتهما من الله الممارستين أي اليهودية والنصرانية من سوء تأويل وانحراف وانقسام واختلاف وتهاتر. وإلى تحرير الإنسانية من الخضوع لأية قوة خفية وظاهرة غير الله. وفتح آفاق الحياة للمؤمنين بهذا الدين على مصراعيها في نطاق أسمى المبادئ وأكرم الأخلاق وأفضل المناهج والخطط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفردية والإنسانية وأشدها مرونة للنهوض إلى ذرى الكمال في كل مجال من مجالات الحياة وتوجيهها نحو أحسن السبل وأشرفها وأنزهها وأعدلها وأتمّها صفاء وسناء شاملة للناس جميعهم
على اختلاف أجناسهم وألوانهم وفئاتهم ليكونوا تحت راية أخوة متساوين في الحقوق والواجبات على اختلاف مفاهيمها. وليقوم في ظله عالم واحد ونظام واحد ودين واحد ولغة واحدة وبكلمة واحدة مجتمع إنساني واحد. يتولى الأمر فيه الصالحون خلقا ودينا والأكفاء الحريصون على المصلحة العامة. لا طاعة فيه لسلطان بمعصية وضرر ولا سند لحاكم فيه إلا كتاب الله وسنة رسوله ومصلحة العباد والبلاد المتسقة معهما. ولا مكان فيه لظالم جبار وطاغية مسيطر. والشورى فيه صفة أساسية لأهله وواجب ملزم لحكامه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- أي الأمر بكل ما فيه خير وصلاح ونفع والنهي عن كل ما فيه شرّ وفساد وضرر وبغي وظلم- والدعوة إلى الخير والسلام والتوادّ والتراحم والتواصي بالصبر والحق والمرحمة من واجبات كل فئة منه حاكمة أو محكومة. وصفة أساسية وخصائص ذاتية لأهله، نتيجة لإسلامهم، لا يسمح فيه باستقطاب الثروة في جانب والفقر في جانب، وللدولة حقّ التوجيه. ويؤخذ فيه من الغني للفقير بالإضافة إلى ما أوجب على الدولة من مساعدة الفقير العاجز. ويمنع فيه القوي من ظلم الضعيف. ويساعد فيه القادر العاجز. ويتواصون جميعا بالصبر والمرحمة والتعاطف والتعاون. ويستمتعون جميعا بكل طيب حلال من طيبات الحلال وزينتها بدون تفريط وإفراط ولا إسراف ولا تقتير، وتمنع فيه الفوضى والعدوان والمنكرات والموبقات والخلاعة والمسكرات والإثم والبغي والظلم. في ظل سلام شامل يعرف الناس عبره أنهم إنما وجدوا ليتعارفوا ويتفاهموا ويتعايشوا ويتعاونوا على البرّ والتقوى دون الإثم والعدوان أكرمهم عند الله أتقاهم، ويتسابقوا في الخيرات. وفي ظل شرائع وتعاليم وخطوط ومبادئ قابلة للانطباق في كل زمان ومكان. ومستجيبة لمختلف مطالب البشر المادية والروحية. ومخاطبة للعقل والقلب معا. وموفقة في ذلك كله بين سعادة الدنيا والآخرة بأسلوب لا تعقيد فيه ولا التواء ولا أصار ولا أغلال ولا تكاليف شاقة محرجة ونافذة إلى أعماق
النفس.
مع الأمر بالدعوة إلى سبل الله أي إلى هذا الدين بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن وعدم الإكراه والإجبار في الدين. وسعة الصدر لمن أراد
الاحتفاظ بدينه وعقيدته إذا وادّ المسلمين وسالمهم ولم يتآمر عليهم وعلى دينهم.
ومع الأمر بمعاملة هؤلاء بالقسط والبرّ وحسن التعامل والتعايش وبعدم القتال إلا للدفاع ودفع العدوان والمقابلة بالمثل وتأمين حرية الدعوة وإرغام الظالمين.
وقد وصف معتنقو هذا الدين في القرآن بصفة الوسط التي تعني الخيرية والاعتدال في كل شيء وعدم الإفراط والتفريط وعدم الغلوّ والتقصير وعدم التزمت والاستهتار وعدم الاقتصار على ناحية والتقصير في ناحية مما فيه خير دين ودنيا.
والتمسك بكل ما هو الأفضل والأصلح والأنفع والأحسن من كلّ أمر وصفة وخلق وعمل وموقف. وقد اختصّ هذا الدين الأنثى بعناية خاصة فجعلها صنوا للذكر وقسيما له في الإنسانية والحقوق والواجبات والتكاليف والحياة العامة وبنيان الدولة والمجتمع سواء بسواء. كما أسبغ على الحياة الزوجية رعاية عظيمة كفل فيها حقّ المرأة من مختلف النواحي مما لم يكن له مثيل في سابق الإسلام وما لم يلحق به إلى الآن.
وكل ما تقدم من مقتضيات كتاب الله الكريم وسنن رسوله الشريفة. وليس من شأن حالة المسلمين الحاضرة أن يطمس سناء (الهدى والحق) اللذين أرسل الله رسوله بهما والمتمثلين في كتاب الله وسنن رسوله. ويظل كل ذلك أقوى أسباب الجذب والاستقطاب لمختلف أنواع وفئات البشر في كل زمان ومكان. ويصدق وعد الله تعالى بإظهار الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم على الدين كله.
ولقد أورد المفسرون في سياق آيات سورة التوبة المماثلة لنص آيات الصف التي نحن في صددها وفي سياق آية سورة النور [55] التي وعد الله فيها الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالاستخلاف في الأرض وتمكين دينهم وتبديل خوفهم أمنا بعض الأحاديث النبوية التي تذكر توقعات أو تنبؤات النبي صلى الله عليه وسلم بما سوف يكون لدين الله من انتشار وانتصار. منها حديث رواه الإمام أحمد أورده ابن كثير عن تميم الداري قال «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار. ولا يترك الله من مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين. يعزّ عزيزا ويذلّ ذليلا. عزّا يعز الله به الإسلام. وذلا يذلّ به الكفر. وكان تميم يقول قد عرفت ذلك
من أهل بيتي لقد أصاب من أسلم الخير والشرف والعز. وأصاب من كان كافرا منهم الذلّ والصغار والجزية» . ومنها حديث وصفه ابن كثير بأنه صحيح ثابت جاء فيه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» . ومنها حديث عن عدي بن حاتم روى صيغة من صيغه البخاري جاء فيها «قال له رسول الله حين وفد عليه. أتعرف الحيرة قال لم أعرفها ولكن سمعت بها، قال فوالذي نفسي بيده ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة وتطوف بالبيت في غير جوار أحد. ولتفتحنّ كنوز كسرى بن هرمز. قال قلت كنوز كسرى بن هرمز. قال نعم كنوز كسرى بن هرمز. وليبذلنّ الله المال حتى لا يقبله أحد. قال عدي بن حاتم فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد. وقد كنت في من افتتح كنوز كسرى بن هرمز.
والذي نفسي بيده لتكوننّ الثالثة» . ومنها حديث رواه مسلم عن عقبة قال «سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تغزون جزيرة العرب فيفتحها الله، وتغزون فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله» .
والإيمان بتحقيق وعد الله وإظهار الإسلام على الدين كله وتمكينه واجب على كلّ مسلم. لأن الله لن يخلف ما وعده للمؤمنين الصالحين. وفيما أمر الله ورسوله ورسماه في الكتاب الكريم والسنة الشريفة عظيم بواعث الثقة والاعتزاز وحوافز العزيمة والإقدام والاندفاع في المسلمين الصادقين للعمل على تحقيق وعد الله ونشر دينه. وهذا واجب لازم عليهم ويأثم المقصرون فيه.
ومن الجدير بالذكر أن الإسلام ظل ينشر ويتسع بعد زوال السلطان العربي الذي استمر في القرون الثلاثة الأولى. لما فيه من قوة عناصر الجذب والاستجابة والاستقطاب حتى كان عدد المنضوين إليه بعد زوال ذلك السلطان أكثر من المنضوين إليه في عهده. ويكاد يكون الدين الوحيد الذي لا يتركه معتنقوه، والذي يزداد معتنقوه من الخارج مجددا وليس فقط بالنمو الذاتي ومن كل نحلة وفئة وجنس وفي كل مكان ولو تيسّر له دعوة قوية التنظيم والتمويل ودعاة مرشدون صالحون كثير والعدد لازداد اتساع انتشاره وانجذاب الناس له.
وفي سياق الآية [55] من سورة النور التي سبق تفسيرها شرح لمدى جملة الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الموعودين بالاستخلاف والتمكين وما كان من مراحل ذلك منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره بعده فنكتفي هنا بما تقدم.
والآية الثانية من الآيات التي نحن في صددها أي الآية [6] قد حكت أقوال عيسى عليه السلام لبني إسرائيل التي منها أنه مبشّر برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد. وهذا الاسم مرادف في المعنى والاشتقاق لاسم محمد الوارد في القرآن والذي كان يتسمى به النبي صلى الله عليه وسلم منذ طفولته على ما هو متواتر يقيني. وأحمد صيغة تفضيل من الحمد.
ولقد أورد ابن كثير في سياق ذلك حديثا رواه البخاري أيضا عن جبير بن مطعم قال «قال النبيّ صلى الله عليه وسلم إنّ لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب» .
وحديثا آخر رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري جاء فيه «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمي لنا نفسه أسماء فقال أنا محمد، وأنا أحمد، والمقفّي، والحاشر ونبي الرحمة ونبي التوبة» .
وفي سورة الإسراء هذه الآيات قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا (108) حيث أريد القول والله أعلم أنهم رأوا في بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم تحقيقا لوعد الله الذي بشر به عيسى فما كان منهم إلا أن آمنوا وخشعوا.
ولقد جاء في آية سورة الأعراف [157] أن اليهود والنصارى كانوا يجدون النبي مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. وأن منهم من آمن برسالته واتبعوه نتيجة لذلك. وقد حكت آيات أخرى أوردناها في سياق تفسير الآية المذكورة «1» إيمان
(1) اقرأ آيات آل عمران [113- 115 و 199] والنساء [162] والمائدة [82- 84] والأنعام [114] والرعد [36] والإسراء [107- 108] والقصص [52- 53] والأحقاف [10] .
جماعات من اليهود والنصارى وتصديقهم أن ما نزل على محمد هو الحق وإعلانهم أنه متطابق لما عرفوا من الحق. حيث يكون في كل هذا وثائق لا تدخص على صدق ما أخبر به القرآن من ورود صفات النبي صلى الله عليه وسلم في أسفار الكتابيين ومن جملتها بشارة عيسى عليه السلام به مهما كابر المكابرون وتعنت المتعنتون. هذا مع التنبيه على أن ما جاء في القرآن ليس في حاجة عند المسلم إلى توثيق خارجي.
وعلى أنه لم يأت فيه في مناسبة موقف جدلي أو تقرير مسألة جدلية وإنما جاء بسبيل تقرير واقع معروف. ويصح أن نكرر هنا من قبيل المساجلة ما قلناه في سياق آية الأعراف من أن الآية التي نحن في صددها قد نزلت في وسط فيه يهود ونصارى وفيه مسلمون من اليهود والنصارى وفيه أعداء للنبي من العرب واليهود والنصارى يتربصون به ويعدّون عليه أنفاسه ليجادلوه ويكذّبوه. فلا يمكن أن تكون نزلت جزافا ولا بدّ من أن تكون الحقيقة التي تضمنتها معروفة غير منكورة في هذا الوسط. ولقد ذكرت البشارة والاسم بصراحة في إنجيل برنابا «1» . وإذا كان النصارى ينكرون هذا الإنجيل ففي الأسفار المتداولة المعترف بها كثير من الإشارات والدلالات والتعبيرات التي يمكن صرفها إلى تأييد ذلك مما أورد السيد رشيد رضا عليه الشواهد الكثيرة بأسلوب فيه من قوة الحجة ما فيه المقنع لغير المكابرين المتعنتين على ما نبهنا عليه في سياق تفسير آية الأعراف لأن السيد أورد ما أورده في سياق تفسيرها.
وفي الإصحاح السادس عشر من إنجيل يوحنا عبارات فيها تصديق لآية الصف بخاصة التي تحكي عن عيسى تبشيره برسول من بعده اسمه أحمد حيث جاء فيه (إن في انطلاقي خيرا لكم، لأني إن لم أنطلق لم يأتكم المعزّي ولكن إذا مضيت أرسلته إليكم. ومتى جاء يبكّت الناس على الخطيئة وعلى البرّ وعلى الدينونة. وإن عندي كثيرا أقوله لكم ولكنكم لا تطيقون حمله الآن. ولكن متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من عنده بل يتكلم
(1) ترجم هذا الإنجيل عن الطليانية من قبل الدكتور خليل سعادة وطبع في مطبعة محمد علي صبيح وأولاده في القاهرة عام 1326 هـ.
بكل ما يسمع ويخبركم بما يأتي) وكلمة (المعزّي) جاءت في الطبعة البروتستانتية (البار قليط) والباحثون المسلمون يقولون إنها كلمة تعني الحمد. والمبشرون يقولون إن البار قليط المبشر بمجيئه هو روح القدس. مع أن روح القدس عندهم صفة من صفات الله غير منفكة عن ذات الله وعبارة الإنجيل تفيد بقوة أنه شخص يأتي بعد عيسى ويبكت الناس ويهديهم إلى البرّ «1» .
ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات التي نحن في صددها بضعة أحاديث تفيد أن بشارة عيسى عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم مما كان متداولا على الألسنة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبيئته منها حديث عن كعب الأحبار رواه ابن أبي حاتم جاء فيه «أن الله يقول لعيسى عن محمد صلى الله عليه وسلم هو عبدي المتوكل المختار ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة. ولكن يعفو ويغفر، مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام. وأمته الحمادون. يحمدون الله على كل حال. وفي كل منزلة لهم دوي كدوي النحل في جو السماء بالسحر يعرضون أطرافهم.
ويأتزرون على أنصافهم في القتال مثل صفهم في الصلاة. رعاة الشمس يصلون حيث أدركتهم ولو على ظهر دابة» «2» ومنها حديث عن عبد الله بن مسعود أخرجه الإمام أحمد جاء فيه فيما جاء «أن عمرو بن العاص قال للنجاشي حينما جاء إليه موفدا من قريش للوشاية بالمهاجرين الأولين واسترجاعهم إنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم فقال لهم ما تقولون قال نقول كما قال الله عز وجل هو كلمة الله وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسّها بشر ولم يفرضها ولد فرفع عودا من الأرض ثم قال يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ثم قال لهم مرحبا بكم وبمن جئتم من عنده أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجد في الإنجيل وأنه الذي بشّر به عيسى ابن مريم. انزلوا حيث شئتم. والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمل نعليه
(1) انظر كتاب دليل الحيارى للإمام ابن قيم الجوزية.
(2)
تفسير ابن كثير.