الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السادس
(الأخلاق في القرآن الكريم (1))
الإيثار في كتب اللغة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاد له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
الأخلاق في القرآن الكريم:
الإيثار في كتاب اللغة:
صاحب معجم (مقاييس اللغة) ابن فارس الهمزة والتاء والراء له ثلاثة أصول: تقديم الشيء، وذكر الشيء، ورسم الشيء، قال الخليل: فالآثر الذي يُؤثر خُفَّ البعير، والأثير من الدواب العظيم الأثر في الأرض بخُفّه أو حافره، والأثير الكريم عليك الذي تُؤثره بفضلك وصلتك، ومعنى هذا عند ابن فارس: أن الكريم الذي تؤثره بفضلك وصلتك، هو كريم عليك تصنع به معروفًا له أثره، يبقى هذا الأثر في حياته معلمًا بارزًا كما ترى في خفّ البعير الذي يسير في الأرض فيترك فيها أثرًا، كما قال بخفه أو حافره.
أما صاحب (اللسان) الإمام ابن منظور فيقول: آثره أكرمه، ورجل أثير مكين مكرم، وآثره عليه فضله، وفي التنزيل {لَقَدْ آَثَرَكَ اللهُ عَلَيْنَا} (يوسف: 91) وآثرت فلانًا على نفسي من الإيثار، الأصمعي: آثرتك إيثارًا أي: فضلتك، فصاحب (لسان العرب) يُبيّن أن الإيثار معناه: أن تفضل واحدًا على نفسك.
أما صاحب (مفردات القرآن الكريم) فيقول: آثر الشيء حصول ما يدل على وجوده، والمآثر ما يُروى من مكارم الإنسان، ويستعار الأثر للفضل والإيثار للتفضّل، ومنه آثرته والاستئثار التفرد بالشيء من دون غيره.
وفي (المعجم الوسيط): آثاره إيثارًا اختاره وفضله، ويقال: آثره على نفسه، والشيء بالشيء خصَّه به، وجعله يتبع أثره، والإيثار تفضيل المرء غيره على نفسه، والإيثارية عند علماء الأخلاق مذهب يُعارض الأثرة، ويرمي إلى تفضيل خير الآخرين على الخير الشخصي، وعند علماء النفس اتجاه اهتمام الإنسان
وميول الحب فيه نحو غيره، وقبل ذاته؛ سواء أكان هذا عن فطرة أم عن اكتساب. على أية حال ما جاء في كتب اللغة يعني: أن الإيثار هو أن تُفضّل غيرك على نفسك بأن تكون محتاجًا لشيء، فتؤثر الآخرين بهذا الشيء، فهذا هو الإيثار كما جاء في كتب اللغة.
فإذا ما انتقلنا إلى الإيثار في القرآن فسوف نجد هذه المادة تُذكر في هذه الآيات الخمس: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} (النازعات: 37 - 39) وهذه الآية ليست في موضوعنا، وهو إيثار شخص على شخص من باب الأخلاق في القرآن، وإنما هذا بيان يُبين ويتحدث عن نوع من الناس آثر وفضَّل الحياة الدنيا على الآخرة، يقول تعالى في سورة "الأعلى":{بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (الأعلى: 16، 17).
الموضع الثالث في سورة "يوسف" يقول ربنا: {قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ * قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (يوسف: 90 - 92).
في سورة "طه" يقول ربنا في قصة أتباع موسى وفرعون وما كان من أمره: {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي
هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (طه: 72، 73) أي: لن نُفضّل عندك من الدنيا والمتاع والرفعة حين نكون على ما أنت فيه من كفر، ومن معصية لله ومن محاربة لشرع الله ودين الله وموسى عليه السلام فهذا الإيثار ليس هو الإيثار الذي نتحدث عنه.
لم يبقَ لنا سوى موضع واحد في سورة "الحشر" هو قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (الحشر: 9) وهذه الآية -كما سنرى في الأحاديث- نزلت في أبي طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- وما كان من أمره، وأنه آثر ضيفه على نفسه، وكان في أشدّ الحاجة هو وأهل بيته للطعام، لكنهم فضَّلوا إطعام الضيف على أنفسهم، فذكر ذلك الله في كتابه فقال:{وَمَنْ يُوْقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
هذا إذًا هو الإيثار الذي يريد أن نتحدث عنه في موضوعنا الإيثار في القرآن الكريم.
وتأتي السنة المشرفة وهي باب واسع، لتبيّن هذا الإيثار وكيف يكون، والدواعي التي تدعو إليه:
نذكر من البخاري ما رواه بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: ((أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلنا: ما معنا إلا الماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يظن أو يضيف هذا؟ فقال رجل من الأنصار: أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني. فقال: هيِّئي طعامك، وأصبحي سراجك، ونوّمي صبيانك إذا أرادوا عشاءً، فهيَّأت طعامها، وأصبحت سراجها، ونومت صبيانها، ثم قامت كأنها تُصلح سراجها فأطفأته،
فجعل يريانه أنهما يأكلان، فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكم، فأنزل الله:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} )).
هذا أبو طلحة الأنصاري -رضي الله تعالى عنه- وما كان من أمره وأمر أهل بيته -رضوان الله عليهم جميعًا.
ويروي الإمام البخاري في باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، ومن تصدق وهو محتاج أو أهله محتاج أو عليه دين، فالدين أحق أن يقضى من الصدقة والعتق والهبة، وهو ردٌّ عليه ليس له أن يتلف أموال الناس، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((من أخذ أموال يريد إتلافها؛ أتلفه الله، إلا أن يكون معروف بالصبر، فيؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة)) كفعل أبي بكر رضي الله عنه حين تصدَّق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، فليس له أن يضيّع أموال الناس بعلة الصدقة.
وقال كعب بن مالك رضي الله عنه: ((قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قلت: فإني أُمسك سهمي الذي بخيبر))، ففي هذا الذي ذكره الإمام البخاري ما يُبيّن ما كان من أمر أبي بكر -رضي الله تعالى عنه- وأنه آثر رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام، ودعوة الإسلام بماله، فتصدق به كله صدقة لله -فرضي الله عنه وأرضاه-، كما أن الأنصار أيضًا آثروا المهاجرين كما سنرى في أحاديث تالية بإذن الله.
كذلك أيضًا في هذا السياق يروي الإمام أحمد بسنده عن أبي سعيد الخدري قال: ((اجتمع أناس من الأنصار فقالوا: آثر علينا غيرنا -أي: آثر علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرنا- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجمعهم ثم خطبهم فقال: يا معشر الأنصار، ألم تكونوا أذلة فأعزكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله، قال: ألم
تكونوا ضلالًا فهداكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله قال: ألم تكونوا فقراء فأغناكم الله؟ قالوا: صدق الله ورسوله، ثم قال: ألا تجيبوني ألا تقولون أتيتنا طريدًا فآويناك، وأتيتنا خائفًا فأمناك، ألا ترون أن يذهب بالشاء والبقران -يعني: البقر- وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم فتدخلونه بيوتكم، لو أن الناس سلكوا واديًا أو شعبة وسلكتم واديًا أو شعبة سلكت واديكم أو شعبتكم، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، وإنكم ستلقون بعدي أثرًا، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)).
يروي لنا الإمام الدارمي بسنده عن سعيد بن عامر عن هشام صاحب الدستوائي قال: قرأت في كتاب بلغني أنه من كلام عيسى يقول عيسى عليه السلام لأصحابه أو لبني إسرائيل: "تعملون للدنيا وأنتم ترزقون فيها بغير عمل، ولا تعملون للآخرة، وأنتم لا ترزقون فيها إلا بالعمل، وإنكم علماء السوء الأجر تأخذون، والعمل تُضيّعون، يوشك رب العمل أن يطلب عمله، وتوشكون أن تخرجوا من الدنيا العريضة إلى ظلمة القبر وضيقه، الله نهاكم عن الخطايا كما أمركم بالصلاة والصيام، كيف يكون من أهل العلم من سخط رزقه، واحتقر منزلته، وقد علم أن ذلك من علم الله وقدرته، كيف يكون من أهل العلم من اتهم الله فيما قضى له، فليس يرضى شيئًا أصابه، كيف يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من أخرته، وهو في الدنيا أفضل رغبة، كيف يكون من أهل العلم مَن مصيره إلى آخرته، وهو مقبل على دنياه، وما يضره أشهى إليه، أو قال: أحب إليه مما ينفعه، كيف يكون من أهل العلم من يطلب الكلام ليُخبر به، ولا يطلبه ليعمل به، فنسأل الله السلامة والعافية". والشاهد في هذا الحديث هو قول عيسى عليه السلام: "كيف من يكون من أهل العلم من دنياه آثر عنده من آخرته"، وكنا نذكر في آيات القرآن قول الله تعالى