المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دعوة موسى عليه السلام - التفسير الموضوعي ٢ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌التعريف بالتفسير الموضوعي

- ‌الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 2 مفهوم العلة

- ‌الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة

- ‌كلمة الصفح في القرآن الكريم

- ‌العفو في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين

- ‌معنى كلمتي الإحسان والبر

- ‌الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم

- ‌الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 4 إكرام الضيف

- ‌معنى كلمة الضيف

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في القرآن الكريم

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في السنة المشرفة

- ‌إكرام الضيف عند الإمام الغزالي

- ‌الدرس: 5 التغاضي عن الجار ومواساته

- ‌المقصود بكل من: التغاضي - الجار - المواساة

- ‌المواساة بين الجيران من خلال السنة الشريفة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 6 الأخلاق في القرآن الكريم (1)

- ‌الإيثار في كتب اللغة

- ‌الإيثار في السنة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 7 الأخلاق في القرآن الكريم (2)

- ‌الصدق في اللغة

- ‌الصدق في القرآن الكريم والسنة المطهرة

- ‌أهل الصدق في القرآن

- ‌الدرس: 8 الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم

- ‌تعريف الأسرة

- ‌الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية

- ‌الدرس: 9 عشرة الرجل مع أهله

- ‌المقصود بالعشرة

- ‌بداية العشرة الزوجية

- ‌الحقوق المشتركة بين الزوجين

- ‌الدرس: 10 الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق

- ‌الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة

- ‌الحلول القرآنية للمشكلات الزوجية

- ‌الدرس: 11 أهمية القصة في القرآن الكريم

- ‌المقصود بالقصة وأمثلة لها في القرآن الكريم

- ‌قصة موسى، والدروس المستفادة من قصص القرآن

- ‌الدرس: 12 قصة أصحاب الكهف

- ‌الفرق بين تناول القصة في التفسير الموضوعي، وتناولها في الفن القصصي

- ‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر

- ‌الدرس: 13 قصة صاحب الجنتين

- ‌موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها

- ‌قصة صاحب الجنتين

- ‌الدرس: 14 قصة موسى والخضر

- ‌بين يدي قصة موسى والخضر

- ‌رحلة البحث عن العبد الصالح

- ‌رحلة الأسرار مع العبد الصالح

- ‌علم الله المكنون وكشف الأسرار

- ‌الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر

- ‌الدرس: 15 قصة يوسف مع امرأة العزيز

- ‌بين يدي قصة يوسف عليه السلام

- ‌أحداث القصة

- ‌يوسف مع امرأة العزيز

- ‌الدرس: 16 قصة أصحاب الجنة

- ‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة

- ‌أصحاب الجنة، وعاقبة فعلهم

- ‌الدرس: 17 الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين

- ‌المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن للدنيا

- ‌الدرس: 18 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله

- ‌الحكمة من خلق الإنسان

- ‌مسلك الأنبياء في تبليغ رسالة ربهم

- ‌الدرس: 19 أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته

- ‌أهم صفات الداعية

- ‌كيف ينجح الداعية في دعوته

- ‌الدرس: 20 دعوة نوح عليه السلام

- ‌التعريف بنوح عليه السلام ودعوته

- ‌رد قوم نوح عليه وكيفية استقبالهم لدعوته

- ‌الدرس: 21 دعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام

- ‌دعوة إبراهيم عليه السلام

- ‌دعوة موسى عليه السلام

- ‌الدرس: 22 دعوة عيسى ومحمد عليهما السلام

- ‌دعوة عيسى عليه السلام

- ‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌دعوة موسى عليه السلام

ومرت ساعات النهار وغابت الشمس، فلما أفلت كان قد تم له ما أراد، فإن الإله لا يغيب، وهناك إذًا الإله الذي يدبر هذه الكواكب، والذي أوجدها وأمدها بالضياء، لذلك قال:{يَا قَوْم إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} (الأنعام: 78) وأعلن لهم وجهته ومن يعبد فقال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام: 79).

ولم يقتنع قومه بهذا الدليل الساطع والبرهان القاطع، فأخذوا يجادلونه ويحاجونه قال:{أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} (الأنعام: 80 - 82) وقد عقب الله على ذلك فقال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} (الأنعام: 83).

وفي طريقة إبراهيم في إقامة الحجة على المشركين، الكثير من الدروس النافعة التي لا يتسع الوقت لذكرها.

‌دعوة موسى عليه السلام

-

وقد ذكر موسى في القرآن ستًّا وثلاثين ومائة مرة، كالتالي:

إحدى وعشرون في "الأعراف"، ثماني عشرة في "القصص"، سبعة عشرة في "طه"، ثلاث عشرة في "البقرة"، ثماني مرات في كل من "يونس" و"الشعراء"، خمس مرات في "غافر"، ثلاث مرات في كل من "النساء" و"المائدة" و"الأنعام" و"هود" و"إبراهيم" و"الإسراء" و"النمل"، ومرتين في كل من "الكهف" و"المؤمنون"

ص: 390

و"الأحزاب" و"الصافات" و"الأحقاف"، ومرة واحدة في "آل عمران" و"مريم" و"الأنبياء" و"الحج" و"الفرقان" و"العنكبوت" و"السجدة" و"فصلت" و"الشورى" و"الزخرف" و"الذاريات" و"النجم" و"الصف" و"النازعات" و"الأعلى".

وبهذا الجمع لاسم موسى في القرآن، يتضح أنه ورد في أربع وثلاثين سورة من سور القرآن، التي تبلغ أربع عشرة ومائة سورة، وأنه ذكر في السورة المكية أكثر من السور المدنية، وما ذلك إلا لما في قصته من ألوان التطمين لفؤاد النبي صلى الله عليه وسلم والتسلية له، عما كان يجده من قومه، ولِما في تكرار الحديث عن موسى من بيان لما كان عليه قومه من سوء الطبع وانطماس الفطرة، وانحرافهم عن منهج الله، ولموقفهم الحاقد الحاسد من دعوة الإسلام، حين رأوا دفة الرسالة تتحول عنهم إلى العرب من أبناء إسماعيل، ويتولاها عَلَم فذ ليس له مثيل في الأنبياء.

فكل نبي قبله كان يبعث إلى قومه خاصة، وبعث هذا الرسول إلى الناس كافة، وكل رسول قبله كان يرسل لفترة محدودة من الزمان، تبقى رسالته لعدد من السنوات، فتتغير المعالم وتنطمس الحقائق، وتهجم الأهواء على ما أنزل الله على هذا الرسول من وحي، فلا يبقى من وحي الله إلا بصيص من نور، لا يكاد يتضح به الطريق، فيرسل الله رسولًا آخر، وهكذا إلى أن ختمت الرسالات والنبوات بالنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه وحيًا لا يمحوه الزمان، تكفل القوي القادر بحفظه فقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).

فلم تستطع قوة في الأرض أن تغير فيه حرفًا، مع ما اعترى أهل الإسلام من ضعف وعجز، واحتلال لديارهم وضياع لهيبتهم، ومع شراسة عدوهم، ومحاولة أعداء الله أن

ص: 391

يطمسوا معالم هذا القرآن، وأنى لهم ذلك؟! وعين الله حارسة لكتابه حافظة لدينه، فماذا كان من أمر موسى ودعوته، وماذا فيها من معالم الهداية الإلهية؟ إن الله إذا أراد أمرًا هيأ له الأسباب.

لقد ذكر الله في سورة "يوسف" ما كان من أمر يوسف عليه السلام وقدر الله الذي جاء به إلى مصر، حتى تسنَّم فيها ذُرى المجد، وآتاه الله النبوة والملك، وأنه قال:{اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} (يوسف: 93).

فجاء أبوه يعقوب عليه السلام وهو إسرائيل وأبناؤه، وقد كانوا عشرًا، وكان في مصر بنيامين ويوسف، جاءوا ومعهم زوجاتهم وأبناؤهم وأحفادهم، فاستقروا في أرض مصر وكثروا، وتولى ملك مصر أحد الفراعنة، وخشي على ملكه منهم، فسامهم سوء العذاب، وسخرهم في الأعمال الشاقة، وأخبره الكهنة بأن بني إسرائيل سيولد فيهم مولود، يكون على يديه زوال ملكه، فأطلق الفرعون جنوده تقتل كل مولود ذكر، وولد موسى في هذه المحنة، فأوحى الله لأمه أن تضعه في تابوت -أي: في صندوق من الخشب- وأن تلقيه في النيل، وألقى في روعها أن الله سيرده إليها، ويجعله من المرسلين، ودفعته المياه إلى قصر فرعون {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} (القصص: 8).

وألقى الله محبته في قلب من رآه، حتى قالت امرأة فرعون:{قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} (القصص: 9) وأخذت أخت موسى تتبعه من لحظة إلقائه في اليم، إلى أن تم التقاطه منه، ولما جاءوا بالمراضع لترضعه لم يتناول ثدي واحدة منهن، فتقدمت أخته فعرضت عليهم أهل بيت يرضعونه لهم، ويحافظون عليه، فرد الله موسى لأمه {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (القصص: 13).

ص: 392

وشب موسى في قصر فرعون، فاطلع على كثير من الأحوال وألوان الظلم والجبروت، وبينما هو يسير في المدينة {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} (القصص: 15) فكان هذا سببًا لخروجه خوفًا على نفسه من القتل، وسار إلى مدين، وهناك التقى بشعيب بعد أن سقى لابنتيه ماشيتهما، وتزوج بواحدة من الابنتين، على أن يرعى الماشية لشعيب ثمانية حجج، فإن أتم عشرًا فهذا فضل منه.

وأتم موسى السنوات العشر واصطحب أهله لزيارة أهله وعشيرته وقومه في مصر، وبينما هو في سيناء والبرد قارص وقد ضل به الطريق {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ * اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} (القصص: 29 - 32) ومن هنا نصل إلى بداية رسالة موسى ودعوته، لنختار منها بعض النماذج التي تفصح عن طريقته في دعوته.

والمرحلة الأولى التي سبقت تكليفه بالرسالة فيها من الدروس والعبر، وتبين أن الله غالب على أمره، وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولكنا في هذا اللقاء نلتقط من واحة القرآن بعض ما في دعوة كل من إبراهيم وموسى من مناهج الهداية والرشاد.

وقد أرسل الله موسى لبني إسرائيل، ولكن بني إسرائيل مقهورون تحت إمرة فرعون في مصر، وليبلغ موسى رسالته لبني إسرائيل، لا بد من استخلاصهم من

ص: 393

قبضة فرعون، فلتتجه الدعوة أولًا لفرعون، وليطلب منه موسى أن يترك له بني إسرائيل، يبلغهم رسالة ربه، ولذلك نقرأ في "الأعراف":{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: 104، 105).

ونقرأ {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} (الأعراف: 134) أي: العذاب الوارد في الآية السابقة من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم {قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الأعراف: 134) وفي سورة "طه" يقول الله تعالى لموسى وهارون: {فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى} (طه: 47).

وفي سورة "الشعراء" نقرأ هذا المعنى يقول تعالى: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} (الشعراء: 16، 17) وإنما ذكرت ذلك لأبين صدق ما قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة.

ولذلك بدأ موسى بإثبات رسالته لفرعون، ليؤدي رسالته لقومه، ولذلك قال تعالى:{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا * قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا * فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا * وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} (الإسراء: 11 - 14).

فموسى إنما جاء لبني إسرائيل، ومثل ذلك ما قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْم لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} (الصف: 5)

ص: 394

فانظر كيف دعا موسى فرعون لإطلاق سراح بني إسرائيل؛ للعودة بهم إلى الأرض المقدسة، وفي إثبات أنه رسول الله دليل وحجة تقوم على فرعون وقومه، وعليهم أن يؤمنوا بما دعا إليه هذا الرسول، مِن إفراد الله بالعبودية، والانضواء تحت راية الإيمان، فإن لم يؤمنوا عاقبهم الله؛ لأن الله كما قال:{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} (الإسراء: 15) ولذلك قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} (النمل: 13، 14).

وآمن به مِن آل فرعون بعض مَن يكتم إيمانه، كما آمنت به آسيا امرأة فرعون، التي ضربها الله مثلًا للذين امنوا، فقال:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (التحريم: 11).

والرسول وإن بعث إلى قومه خاصة، لكن الإيمان يلزم مَن تُعرض عليه الدعوة، ومن يكون في طريق هذا الرسول في لقاء أو ما شابه ذلك، فكان هذا من رحمة الله برسله، إذ لم يكلفهم بحمل عبء الدعوة العامة لكل البشر، لكن رحمة الله للعالمين كانت لمحمد صلى الله عليه وسلم الذي أهّله ربه لهذه المهمة، وقال له:{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا * فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} (الفرقان: 51، 52).

وهذا موسى ومعه أخاه هارون، يصلان إلى فرعون لتبليغ رسالة ربهما، فانظروا إلى المنهج الذي سلكاه في دعوة فرعون، إلى إطلاق سراح بني إسرائيل، ليذهبا مع موسى وهارون، وإلى إثبات ألوهية الله واستحقاقه أن يعبد وحده، والآيات تعبر عن خوف موسى وهارون من بطش فرعون، وكيف أذهب الله عنهما هذا الخوف، فتقول: {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ

ص: 395

طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى * قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه: 42 - 46) وقد ذكر الله مثل ذلك في سورة "الشعراء" وسورة "القصص"، فلم يتمكن فرعون ولا أحد من جنده من الاعتداء عليهما.

والآيات ترسم مشهدًا رائعًا، وتصور حروفها وكلماتها ثبات موسى وقدرته على الحوار، وترسم صورة لفرعون حائرًا لا يجد جوابًا، وموسى ينتقل به من دليل إلى دليل، حتى جاء بالآية الكبرى التي أذهلت فرعون وملأه، حين ألقى موسى عصاه، والتي هي ككل العصي في يد موسى عودًا من خشب، يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه، إلى غير ذلك مما تستعمل فيه العصا، فألقاها فإذا هي حية عظيمة مخيفة، تجري على الأرض هنا وهناك فاغرة فاها، مما أثار ذعر فرعون ومن معه، ومد موسى يده فأمسك بها فعادت عصًا كما كانت من قبل.

وأتبع موسى هذه المعجزة بمعجزة أخرى، إذ أخرج يده والتي هي يد ككل الأيدي، يحركها صاحبها حيث شاء، فما إن نزعها من جيبه حتى أضاءت المكان كله. يقول مجاهد:"كان موسى إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر". وقال الحسن البصري: "أخرجها والله كأنها مصباح". وقد روى ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه: "قال الله لموسى: انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني، وإن معك تأييدي ونصري، وإني قد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري، فأنت جند عظيم من جندي، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي، بَطِر نعمتي وأمِن مكري وغرته الدنيا عني، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي، وزعم أنه لا يعرفني". إلى آخر ما ورد في ذلك.

لكن فرعون استكبر عن الحق وادعى أن ما رآه سحر، واستشار الملأ من قومه، فما كانوا له ناصحين، إنما أعانوه على بغيه وطغيانه، وأشاروا عليه أن يجمع السحرة

ص: 396

ليبطلوا ما رأوه من موسى، وظنوا أنه سحر، أو هكذا قالوا، مع أن الله أخبر أنهم أيقنوا أن هذا ليس سحرًا، كما قال تعالى:{وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (النمل: 14) وطلبوا من موسى موعدًا فقال: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} (طه: 59).

وإنما أراد موسى ذلك ليكون خزي فرعون على ملأ من الناس، وليعلم الناس أن ما جاء به موسى ليس سحرًا، إنما هو آية من آيات الله، فلما جاء الموعد واحتشد القوم، وجاء السحرة ووعدهم فرعون بالجوائز والمناصب والدنيا، وسألوا موسى من سيلقي أولًا؟ فقال لهم:{أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} (الشعراء: 43، 44) فأجابهم موسى قائلًا: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (يونس: 81، 82){فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (الشعراء: 45 - 48).

وتوعدهم فرعون بالعذاب الشديد، فأوحى الله لموسى أن يخرج ببني إسرائيل، فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا، فأغرقه الله ونجا موسى ومن معه أجمعين. قال تعالى فيما حل بفرعون وجنوده:{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} (الأعراف: 136) ثم قال فيما مَنّ الله به على بني إسرائيل: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف: 137).

والله من وراء القصد.

ص: 397