المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة - التفسير الموضوعي ٢ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌التعريف بالتفسير الموضوعي

- ‌الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 2 مفهوم العلة

- ‌الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة

- ‌كلمة الصفح في القرآن الكريم

- ‌العفو في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين

- ‌معنى كلمتي الإحسان والبر

- ‌الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم

- ‌الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 4 إكرام الضيف

- ‌معنى كلمة الضيف

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في القرآن الكريم

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في السنة المشرفة

- ‌إكرام الضيف عند الإمام الغزالي

- ‌الدرس: 5 التغاضي عن الجار ومواساته

- ‌المقصود بكل من: التغاضي - الجار - المواساة

- ‌المواساة بين الجيران من خلال السنة الشريفة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 6 الأخلاق في القرآن الكريم (1)

- ‌الإيثار في كتب اللغة

- ‌الإيثار في السنة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 7 الأخلاق في القرآن الكريم (2)

- ‌الصدق في اللغة

- ‌الصدق في القرآن الكريم والسنة المطهرة

- ‌أهل الصدق في القرآن

- ‌الدرس: 8 الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم

- ‌تعريف الأسرة

- ‌الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية

- ‌الدرس: 9 عشرة الرجل مع أهله

- ‌المقصود بالعشرة

- ‌بداية العشرة الزوجية

- ‌الحقوق المشتركة بين الزوجين

- ‌الدرس: 10 الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق

- ‌الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة

- ‌الحلول القرآنية للمشكلات الزوجية

- ‌الدرس: 11 أهمية القصة في القرآن الكريم

- ‌المقصود بالقصة وأمثلة لها في القرآن الكريم

- ‌قصة موسى، والدروس المستفادة من قصص القرآن

- ‌الدرس: 12 قصة أصحاب الكهف

- ‌الفرق بين تناول القصة في التفسير الموضوعي، وتناولها في الفن القصصي

- ‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر

- ‌الدرس: 13 قصة صاحب الجنتين

- ‌موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها

- ‌قصة صاحب الجنتين

- ‌الدرس: 14 قصة موسى والخضر

- ‌بين يدي قصة موسى والخضر

- ‌رحلة البحث عن العبد الصالح

- ‌رحلة الأسرار مع العبد الصالح

- ‌علم الله المكنون وكشف الأسرار

- ‌الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر

- ‌الدرس: 15 قصة يوسف مع امرأة العزيز

- ‌بين يدي قصة يوسف عليه السلام

- ‌أحداث القصة

- ‌يوسف مع امرأة العزيز

- ‌الدرس: 16 قصة أصحاب الجنة

- ‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة

- ‌أصحاب الجنة، وعاقبة فعلهم

- ‌الدرس: 17 الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين

- ‌المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن للدنيا

- ‌الدرس: 18 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله

- ‌الحكمة من خلق الإنسان

- ‌مسلك الأنبياء في تبليغ رسالة ربهم

- ‌الدرس: 19 أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته

- ‌أهم صفات الداعية

- ‌كيف ينجح الداعية في دعوته

- ‌الدرس: 20 دعوة نوح عليه السلام

- ‌التعريف بنوح عليه السلام ودعوته

- ‌رد قوم نوح عليه وكيفية استقبالهم لدعوته

- ‌الدرس: 21 دعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام

- ‌دعوة إبراهيم عليه السلام

- ‌دعوة موسى عليه السلام

- ‌الدرس: 22 دعوة عيسى ومحمد عليهما السلام

- ‌دعوة عيسى عليه السلام

- ‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس السادس عشر

(قصة أصحاب الجنة)

‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، أما بعد:

ففي قصص القرآن عبرة لأولي الألباب، وبين أيدينا من هذا اللون قصة أخرى وردت في سورة {ن وَالْقَلَم} ، هي قصة أصحاب الجنة، والتي سندرسها على طريقة منهج التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وما دامت آيات القصة في موضع واحد -أي: في سورة واحدة- فالأمر كما تعلمون لا يحتاج إلى جمع آيات الموضوع من سور متعددة حتى تكتمل لنا صورته، فننظر فيها نظرة فاحصة متأملة؛ لنبرز الموضوع متسقًا متكاملًا.

أمّا في الموضوعات التي يذكر فيها الموضوع في سورة واحدة -كما ترى في هذه القصة التي سندرسها- فإن ذلك يكون من خلال ربط القصة بهدف السورة، وبيان ارتباطها بما سبقها من الآيات، وكيف أنها تفضي إلى ما بعدها من الآيات، مع عرض أحداث القصة ومشاهدها، وكيف حققت أهدافها.

والهدف أو المحور الذي تقوم عليه سورة "القلم" هو إيناس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسليته، وتطمين قلبه وتثبيت فؤاده، ببيان منزلته، والرد على أعدائه، وأن العاقبة له، وأن الخسران والبوار والهلاك للمكذبين برسالته، ولكم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه بحاجة إلى هذا الإيناس وذلك التطمين والتثبيت، بعد أن كشّر الكفر عن أنيابه، وانبرى المشركون يكيدون للإسلام وأهله كيدًا يزلزل الجبال، فقد رأوا في هذا الدين خطرًا على ما هم فيه من عقائد فاسدة، وأحوال كاسدة، وعادات بالية، وأوضاع اجتماعية مزرية، مكنت للسادة منهم أن يفرضوا سيادتهم على رقاب المستضعفين، وأن يمتصوا دماءهم، وأن يقودوهم إلى حيث يريدون، ولهذا عظُم هول المعركة.

ص: 285

ومع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان من الشرف والمكانة في قريش، فهو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، خيار من خيار من خيار، فهو من أعلى قريش نسبًا وحسبًا، إلّا أنه لم يكن من أصحاب الأموال والتجارة، وهي مقاييس العظمة في كل بيئة تخلو من الدين الصحيح، ولهذا قالوا:{لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} (الزخرف: 31).

وأخذ المشركون كل ما لديهم من مكر ودهاء وحيل للقضاء على دعوة الحق، اتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون، وطاردوه وطاردوا دعوته والمؤمنين معه في كل مكان، ورموهم بكل نقيصة، وأنزلوا بالمستضعفين منهم كل ألوان العذاب، ولم يسلم من عنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبار أصحابه، وكان من أمر الله وحكمته أن منع المسلمين من رد هذه الإساءات ولو بكلمة، إنما أمرهم بالصبر على ما ينزل بهم إلى أن يأتي نصر الله، ومرت الأيام بل والسنوات، والمشركون يزدادون عنفًا، إلى أن أذن الله لرسوله والمؤمنين بالهجرة إلى المدينة المنورة.

ومن أراد أن يعرف ما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة من عَنَت وتَعَب ومشقة، فليقرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرة أصحابه في هذه الفترة العصيبة، فكانت آيات القرآن تنزل تحيي موات القلوب، وتبعث على الرضا، وتثبت الأقدام على طريق الحق، ومن هذه الآيات ما نقرأه في هذه السورة المباركة، سورة "ن والقلم"، فلنتأمل في مطلعها، والآيات التي وردت في بدايتها؛ لنرى وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بهذا المطلع وتلك الآيات.

بدأت السورة بقوله: {ن} وهي حرف من الحروف المقطعة التي وردت في افتتاح بعض سور القرآن كقوله تعالى: {ص} ، {ق} وكقوله:{حم} أو {حم عسق}

ص: 286

أو {الم} أو {المر} ، وما إلى ذلك، وقد وردت في بيانها أقوال كثيرة منسوبة لبعض الصحابة ولكثير من المفسرين، وأقرب ما قيل فيها -كما سبق أن ذكرت- أنها حروف ساقها الله على سبيل التحدي؛ كأنه يقول لمن نزل القرآن بلغتهم: هذه هي الحروف التي تؤلّفون منها كلامكم، فاصنعوا منها كلمات وضموها لبعضها، وعارضوا بها هذا القرآن، وانظروا إلى كلامكم وما جاء به وحي الله؛ لتعلموا أن هذا أفق عالٍ لا سبيل إلى الوصول إليه، {فَإِنْ ل َمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 24)، فثبت عجزهم وانقلبوا صاغرين، وكم في هذا من نصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو نصر يتجدد كلما نزلت آيات من كتاب الله، وكم في ذلك من تطمين وتثبيت.

ثم يقسم الله بالقلم وما يسطرون، على أنّ اتهام المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنون اتهام باطل، وأنّ الله أعدَّ له أجرًا عظيمًا على قيامه بحقِّ الله عليه، وأنه صلى الله عليه وسلم متمكِّن من ذُرا الأخلاق العظيمة، وفي هذا القسم بالقلم وما يسطرون بالقلم، وفي بداية السورة بحرف من حروف الهجاء "ن"، ما يدل على تعظيم الإسلام للقراءة والكتابة، فهي مفتاح التقدم، وباب الحضارة، وأساس التمدن، وهذه أول الآيات نزولًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم تأمره بالقراءة باسم ربه:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق: 1 - 5).

فمع أول شعاع الوحي ترى الدعوة إلى العلم؛ ليكون نبراسًا يهتدي به الإنسان في دنياه وأخراه، وليكون أمضى الأسلحة في المعركة مع الكفر والكافرين، وأمةٌ بلا علم أمة ينخر الجهل في عظامها، ومصيرها إلى الفناء، والعلم الذي تسطِّره الأقلام ليس قاصرًا على علوم الدين وحدها، إنما يشمل علوم الدين والدنيا،

ص: 287

والأقلام التي تسطِّر إنما تسطر ما وصل إليه الفكر والعقل من بحث وتجربة، وقد أثبت التاريخ أنه لا مكان لأمة جاهلة بين الأمم، ومع أدوات العلم هناك الأخلاق، والتي تسلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذراها، وأمته مكلفة بالاقتداء به، فإذا اجتمع لها العلم والأخلاق المبنية على الإيمان بالحقّ سادت وسعدت، وهذا ما تحقق -كما تعلمون- في الرعيل الأول، الذي حمل لواء الحق والعدل والخير والحب والسلام، فرفرف به في كل مكان من أرض الله.

ولهذا جاء التهديد للمكذبين المعاندين {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (القلم: 5، 6) أي بظهور عاقبة الأمر بغلبة الإسلام وانقلابهم أذلة صاغرين، وما كان للإسلام أن يظهر على الكفر والمسلمون جهلة لا علم لهم بدين أو دنيا، وما كان لهم أن يسودوا وتعلو كلمتهم، ويلتف الناس حولهم وهم أصحاب أخلاق وبيئة وصفات ذميمة، ولهذا جاء قوله:{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (القلم: 7) شهادة للمؤمنين المهتدين، وتهديدًا للمعاندين الضالين، ومن منطلق القوة في العقيدة والخلق وحسن الصلة بالله، والتمكن من الحق، يأتي التوجيه القرآني لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون تبع له:{فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 8، 9) أي: لا تطعهم فيما يدعونك إليه من التنازل عن دعوتك، وفي مهادنتهم وتركهم في عبادتهم الباطلة، وهم مستعدون لذلك {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (القلم: 9).

والآية حَدّ فاصل بين الكفر والإيمان، وأنه لا التقاء بينهما، وما كان لأصحاب الدعوة أن يغمضوا أعينهم عن الباطل وأهله إيثارًا للسلامة، وبعدًا عن وعورة الطريق، إنما هناك الحق الواضح الذي لا يقبل التنازل، وتأكيدًا لهذا المعنى في عدم الانقياد والرضوخ للمكذبين يأتي النهي عن الانقياد لقادة الضلال منهم،

ص: 288

أصحاب الأخلاق الرديئة، يقول ربنا:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} (القلم: 10 - 13) وما أسوأها من صفات يتّصف بها أهل الكفر والضلال، ثم يقول تعالى مهددًا ومتوعدًا ومعجِّبًا من حال الواحد من هؤلاء الذين أنعم الله عليهم بالمال والبنين، فكفر بأنعم الله، وردَّ وحي الله، وقال في القرآن قولًا يدل على جهله وحمقه:{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} (القلم:14، 15){سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (القلم: 16) أي: سنجعل له علامة في وجهه يعرف بها في الدنيا والآخرة.

ففي الدنيا يضرب بالسيف فيترك السيف علامة في أنفه يُعَرف بها، وفي الآخرة:{تَرَى الَّذِينَ كَ ذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (الزمر: 60)، وإذا علمنا أنّ هذه الآيات من أوائل ما نزل في مكة، أدركنا ما تحمله من بشرى النصر للمؤمنين، وأنهم سيلقون المشركين، ومنهم أصحاب المال والأولاد في معركة من معارك الحق؛ ليكون للمؤمنين نصر الله، وقد حدث هذا في بدر، وهذا كقوله تعالى:{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} (القمر: 45) ولما نزلت تعجب عمر رضي الله عنه فقال: أي جمع يهزم؟! أي جمع يغلب؟! قال عمر: "فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}، فعرفت تأويلها يومئذ".

وبيانًا لحال المشركين أصحاب الأموال والأبناء والذين لم يشكروا الله على ما أنعم به عليهم، فكان لهم عقاب الله وعذابه في الدنيا والآخرة، يسوق الله قصة أصحاب الجنة فيقول:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ * إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (القلم: 17، 18) إلى أن يقول: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (القلم: 33) فكيف عرض القرآن هذه القصة؟

ص: 289

إنها قصة ليست قصة من وحي الخيال، جاء بها القرآن فاختلق شخصياتها، ورتب أحداثها، وأجرى الحوار بين المشاركين فيها إبرازًا لمعنًى من المعاني، وضربًا لمثل من الأمثال، دون أن يكون لذلك وجود واقعي في الحياة، إنما يعبِّر القرآن عن واقع حيٍّ ملموس، ويذكر تاريخًا لأناس حدث منهم ذلك، ولعلكم تلمحون معي أنه لم يذكر من حدث لهم هذا الأمر، على طريقته في عرض موضع الحكمة مما يسوق من قصة أو حدث، فلا يعنيه أن يذكر الأسماء، فذكرها لا يغيّر من الحقيقة شيئًا، مع أن الروايات قد وردت ببيانهم، فذكر بعض السلف أنّ هؤلاء كانوا من أهل اليمن، قال سعيد بن جبير:"كانوا من قرية يقال لها ضروان، على ستة أميال من صنعاء" وقيل: كانوا من أهل الحبشة، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة، وكانوا من أهل الكتاب، وقد كان أبوهم يسير فيها سيرة حسنة، فكان ما يستغلّ منها يرد فيها ما تحتاج إليه، ويدخر لعياله قوت سنتهم، ويتصدق بالفاضل، فلما مات وورثه بنوه قالوا: لقد كان أبونا أحمق؛ إذ كان يصرف من هذه شيئًا للفقراء، ولو أنا منعناهم لتوفّر ذلك علينا، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية، رأس المال والربح والصدقة، فلم يبق لهم شيء.

والقرآن حين يعرض هذه القصة يعرضها -كما تعلمون- بأسلوبه المعجز، مكتملة البناء القصصي في التشويق والحبكة القصصية، مع أنها قصة تساق من خلال آيات بينات، تتوالى هذه الآيات في عذوبتها ورقتها وروعتها، فما أعظمها من آيات.

وتبدأ القصة مرتبطة بما ورد في صدر السورة من بيانٍ لحال المشركين في عتوهم ورفضهم لدعوة الحق، مع نصاعتها وقوتها في ذاتها، ومن حملها إليهم، هذا النبي الكريم، صاحب الخلق العظيم، الملقب فيما بينهم بالصادق الأمين، فحالهم في رفضهم لدعوة الإسلام وكفرهم بالله ورسوله حال أصحاب

ص: 290

الجنة، الذين لم يؤدوا حق الله فيما أعطاهم، والقرآن يعبِّر عن هذا وذاك بأنه ابتلاء، فيقول:{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (القلم: 17) والابتلاء ليس مجرد امتحان واختبار، إنما هو امتحان ببلاء يحدث للإنسان، وقد يكون هذا في الخير أو الشر، وكما قال تعالى:{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} (الأنبياء: 35).

يقول الراغب الأصفهاني: "والقيام بحقوق الصبر أيسر من حقوق الشكر، فصارت المنحة أعظم البلاءين، وبهذا النظر قال عمر: "بلينا بالضراء فصبرنا، وبلينا بالسراء فلم نصبر"، ولهذا قال أمير المؤمنين -يقصد عليًّا -كرم الله وجهه-: "من وسّع عليه دنياه فلم يعلم أنه قد مُكِر به، فهو مخدوع في عقله".

وإذا كان هذا الابتلاء بالنعمة من الله، وكان التعبير عن ذاته -جل وعلا- بقوله:"نا"، {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} (القلم: 17) علمنا أن هذا ابتلاء شديد؛ لأن الله بعظمته وما له من صفات الكمال والجلال هو الذي يفعل ذلك بعباده، فكم من نعمة أنعمها على المشركين، كان عليهم أن يشكروا الله على نعمه الكثيرة بالإيمان به والتصديق برسوله والانقياد لأمره، ولكنهم كفروا بالله وحاربوا رسوله، وصدوا عن دينه، فلم يجتازوا هذا الاختبار، ومَثَلهم كمثل أصحاب الجنة، ابتلاهم الله بأن أنعم عليهم ببستان فيه ما فيه من ألوان الفاكهة، والتعبير بالصحبة في قوله:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} (القلم: 17) دليل على ملكيتهم لجنتهم، وكثرة ترددهم عليها، وأنها كانت موضع بهجتهم وسعادتهم، يغدون عليها ويروحون، نجح أبوهم ورسبوا، فالقصة ترغيب وترهيب، والقصة بهذه البداية تجعلك تشرئب وتتطلع لمعرفة ما كان من أمر هؤلاء، فيأتيك بيانه في قوله:{إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (القلم:17، 18).

ص: 291

ولم يذكر الله ما كان يحدث من أبيهم من إكرام للفقراء وبرٍّ بالمساكين، وما ترتَّب على ذلك من بركة في رزقه، ووفرة في إنتاج حديقته؛ لأن المثل يُضرَب لمن كفر بأنعم الله، وهذا هو موطن العظة، والقرآن يتخطّى الأحداث التي سبقت قسمهم هذا؛ ليترك لك مساحة تُعمِلُ فيها فكرك، فتقول وتتخيل هؤلاء الأبناء في حياة أبيهم يرونه يجود بجزء من ثمار حديقته للفقراء، ويرون ما تجود به جنتهم من وفرة في هذه الثمار، وقد كبروا وصار لهم أبناء، وهم ينظرون إلى فعل أبيهم، فيظنون أن ما يفعله إسراف لا يليق، وأنه لو حَرَم المساكين ومنعهم من أخذ شيء من ثمارها لكان ذلك أولى؛ لأنهم سوف يكون لهم ما تنتجه جنتهم بالكامل.

ولذلك ما إن صارت الحديقة لهم بعد وفاة أبيهم حتى عقدوا هذا الاجتماع، وتداولوا فيما بينهم، فاتفقوا على الخطة التي سيسلكونها لمنع الفقراء والمساكين من الحصول على شيء من ثمار هذه الحديقة، يتخطّى القرآن كل هذه الصور ليعرض صورة لأبناء الرجل الصالح، وقد سيطر عليهم الغضب، وتملكتهم ثورة عارمة وحنق على ما أضاع أبوهم خلال سنوات قلائل، وقالوا ما سمعتم، لقد كان أبونا أحمق، وإن فعلنا ما كان يفعل ضاق علينا الأمر ونحن أصحاب عيال.

وتوثيقًا وتأكيدًا لما اتفقوا عليه أقسموا أن يقطعوا ثمارها في الصباح الباكر، قبل أن يعلم الفقراء والمساكين بخروجهم وقطعهم لثمار حديقتهم، وتعبير القصة عن منعهم الفقراء له طعمه ودلالته، فقد بدأ ذلك بالقسم، تأكيدًا لما عزموا عليه، ولم يذكر ما أقسموا به ليجعلك تتخيل كل عظيم لديهم يمكن أن يقسموا به، وإن كانت

ص: 292

الآيات قد دلّت على أنهم كانوا يؤمنون بالله، مما يرجِّح أنهم كانوا من أهل الكتاب، فقد ذكرت في نهاية القصة قولهم:{عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} (القلم: 32) فيفهم من ذلك أنهم أقسموا بالله، وانظر إلى ما أقسموا عليه، إنه يجمع بين أمرين: الفعل والزمن، أما الفعل فهو في قوله:{لَيَصْرِمُنَّهَا} (القلم: 17). وأما الزمن فهو في قوله: {مُصْبِحِينَ} (القلم: 21) وصرم الشيء قطعه، وهذا ليس مجرد قطع لشيء من شيء، إنما قطع لا يبقى شيئًا.

يقول الراغب: "الصارم الماضي، وناقة مصرومة كأنها قطع ثديها، فلا يخرج لبنها حتى يقوى، وتصرمت السنة وانصرم الشيء انقطع، وأصرم ساءت حاله"، أما الزمن ففي قوله:{مُصْبِحِينَ} أي داخلين في وقت الصباح الباكر، وأضاف إلى ما عزموا عليه وأقسموا عليه قوله {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} (القلم: 18)، وهذا معناه: أنهم لم يقولوا: إن شاء الله، أو أنهم لم يستثنوا أحدًا من الفقراء يجدون أنه مسكين يستحق الصدقة، إنما أصروا على منع كل فقير ومسكين، وكلا المعنيين جائز.

فكم من أناس يدبرون أمرهم ويحكمون خطتهم لفعل شيء ما، ويوقنون أنهم لا بُدَّ واصلون لتحقيق غايتهم، وما علموا أن مدبِّر الأمر هو الله، فإليه يرجع الأمر كله، ومع اتخاذ الأسباب يفوّض العبد الأمر لله فيقول: إن شاء الله، وقد قال الله لرسوله -كما رأينا في قصة أصحاب الكهف-:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ * وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24) وهذا بعض ما يفهم من قول الله تعالى في ختام سورة هود: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (هود: 123).

ص: 293