المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم - التفسير الموضوعي ٢ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌التعريف بالتفسير الموضوعي

- ‌الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 2 مفهوم العلة

- ‌الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة

- ‌كلمة الصفح في القرآن الكريم

- ‌العفو في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين

- ‌معنى كلمتي الإحسان والبر

- ‌الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم

- ‌الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 4 إكرام الضيف

- ‌معنى كلمة الضيف

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في القرآن الكريم

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في السنة المشرفة

- ‌إكرام الضيف عند الإمام الغزالي

- ‌الدرس: 5 التغاضي عن الجار ومواساته

- ‌المقصود بكل من: التغاضي - الجار - المواساة

- ‌المواساة بين الجيران من خلال السنة الشريفة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 6 الأخلاق في القرآن الكريم (1)

- ‌الإيثار في كتب اللغة

- ‌الإيثار في السنة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 7 الأخلاق في القرآن الكريم (2)

- ‌الصدق في اللغة

- ‌الصدق في القرآن الكريم والسنة المطهرة

- ‌أهل الصدق في القرآن

- ‌الدرس: 8 الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم

- ‌تعريف الأسرة

- ‌الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية

- ‌الدرس: 9 عشرة الرجل مع أهله

- ‌المقصود بالعشرة

- ‌بداية العشرة الزوجية

- ‌الحقوق المشتركة بين الزوجين

- ‌الدرس: 10 الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق

- ‌الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة

- ‌الحلول القرآنية للمشكلات الزوجية

- ‌الدرس: 11 أهمية القصة في القرآن الكريم

- ‌المقصود بالقصة وأمثلة لها في القرآن الكريم

- ‌قصة موسى، والدروس المستفادة من قصص القرآن

- ‌الدرس: 12 قصة أصحاب الكهف

- ‌الفرق بين تناول القصة في التفسير الموضوعي، وتناولها في الفن القصصي

- ‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر

- ‌الدرس: 13 قصة صاحب الجنتين

- ‌موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها

- ‌قصة صاحب الجنتين

- ‌الدرس: 14 قصة موسى والخضر

- ‌بين يدي قصة موسى والخضر

- ‌رحلة البحث عن العبد الصالح

- ‌رحلة الأسرار مع العبد الصالح

- ‌علم الله المكنون وكشف الأسرار

- ‌الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر

- ‌الدرس: 15 قصة يوسف مع امرأة العزيز

- ‌بين يدي قصة يوسف عليه السلام

- ‌أحداث القصة

- ‌يوسف مع امرأة العزيز

- ‌الدرس: 16 قصة أصحاب الجنة

- ‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة

- ‌أصحاب الجنة، وعاقبة فعلهم

- ‌الدرس: 17 الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين

- ‌المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن للدنيا

- ‌الدرس: 18 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله

- ‌الحكمة من خلق الإنسان

- ‌مسلك الأنبياء في تبليغ رسالة ربهم

- ‌الدرس: 19 أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته

- ‌أهم صفات الداعية

- ‌كيف ينجح الداعية في دعوته

- ‌الدرس: 20 دعوة نوح عليه السلام

- ‌التعريف بنوح عليه السلام ودعوته

- ‌رد قوم نوح عليه وكيفية استقبالهم لدعوته

- ‌الدرس: 21 دعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام

- ‌دعوة إبراهيم عليه السلام

- ‌دعوة موسى عليه السلام

- ‌الدرس: 22 دعوة عيسى ومحمد عليهما السلام

- ‌دعوة عيسى عليه السلام

- ‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ * فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (آل عمران: 81، 82).

ولهذا يجد اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل ما أوحاه الله لموسى وعيسى، مِن بيان لصفات هذا النبي، ومن دعوتهم للإيمان به ونصرته. قال تعالى:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 158) ومع هذه الدلائل الواضحة والدعوة الهادفة، ردوا دعوته، وظنوا أن ما أتى به من المعجزات إنما هو من باب السحر. قال تعالى:{فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} (الصف: 6).

‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

-

وإذا كان هذا النموذج وما قبله من دعوة عيسى عليه السلام وكم في دعوة عيسى من النماذج، وكل نموذج منها فيه الكثير من الدروس النافعة والعظات البالغة، فإننا فيما تبقى لنا من الوقت نريد أن ننتقل للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم لنلتقط من دعوته بعض الجواهر الغالية، والنماذج المضيئة، ودعوته صلى الله عليه وسلم مليئة بهذه النماذج؛ لما امتازت به من الخصائص، فهي دعوة عالمية، فقد كان كل رسول يرسل إلى قومه خاصة، وأرسل محمد صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة، وهي كلمة الله الأخيرة للعالمين، فلا نبي بعد محمد ولا كتاب بعد القرآن العظيم.

ولعلنا لو تأملنا في كتاب الله لنأخذ بعض النماذج، التي توضح طريقة رسول الله في دعوته؛ لوجدنا القرآن نفسه في طريقة إنزاله، وما له من الخصائص، خير نموذج

ص: 408

لذلك، فالمعجزات التي أجراها الله على يد الأنبياء السابقين كانت لإثبات رسالتهم، ورسالة كل نبي غير معجزته، أما معجزة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فكانت عين رسالته.

كان القرآن الكريم هو المعجزة التي تحدى الله بها العرب الفصحاء؛ إذ طلب منهم متحديًا أن يأتوا بمثله فعجزوا، فطالبهم بعشر سور من مثله فعجزوا، فطالبهم أن يأتوا بمثل أقصر سورة فيه فلم يفعلوا، كما قال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (البقرة: 23، 24) فانظر إلى هذا المنهج في الدعوة وأنت تتأمل هذا التحدي بمراحله، إلى أن أفحمهم فلم يجدوا إلا اللجاج والعناد.

كما أن طريقة إنزال هذا القرآن، كانت أيضًا منهجًا عظيمًا في الدعوة، إذ لم ينزل هذا القرآن كالكتب السابقة دفعة واحدة، إنما نزل منجمًا في ثلاث وعشرين سنة، يتعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به بألوان من التربية والتوجيه والتثبيت والتطمين، وقد ذكر الأئمة وجوهًا كثيرة في حكمة نزول القرآن منجمًا، ومن هذا ما ذكره صاحب (مناهل العرفان في علوم القرآن) الذي أجاد وأفاد، ومن هذا يتعلم الدعاة كيف يأخذون الناس في رفق إلى الالتزام بهذا الدين، ولا يعني هذا أن ينتقل الداعية على طريقة نزول القرآن منجمًا، فيبدأ بالقول بأن الخمر حلال ثم يحرمها وقت الصلاة، ثم يحرمها تحريمًا عامًّا شاملًا كما فعل القرآن.

إنما يسوق ألوانًا من الترهيب والتخويف من شربها، والمتاجرة فيها وحملها وصناعتها، ويذكر جملة مما أعد الله للمتقين من ألوان الشراب في جنته، ويرغب في العمل الصالح، ويدعو إلى التمسك والاعتصام بحبل الله، ففي ذلك النجاة.

ص: 409

وهكذا فإذا ما تأملنا في القرآن نفسه، لنرى ما فيه من مناهج الدعوة، فسوف نراه سلك مسلكًا نورانيًّا ربانيًّا إلهيًّا في كل جانب دعا إليه، والقرآن كله يترجم دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آمن به لم يؤمن لأنه عجز عن معارضته في مقام التحدي، وإنما آمن به لما فيه من دعوة تقنع العقل والوجدان، وتأخذ بيد الإنسان إلى اطمئنان القلب وسعادة الروح، وحسن الصلة بالله والتراحم بين الناس.

فيرى أن هذا الذي جاء القرآن يدعو إليه واحة وارفة الظلال، تهدأ فيها الإنسانية بعد أن لفحها هجير الحياة، فتجد في ظلالها أمنها واستقرارها وسعادتها وخيرها، وتفصيل ذلك لا تحيط به العبارات ولا يتسع له الوقت، ولكن حسبنا أن نعرض بعضًا من ذلك، ونرى كيف دفع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القلوب فانشرحت لها واستقبلتها في شوق وحنين، ولم يبق معرضًا عنها إلا من أعمى الله قلوبهم عن الحق، فهم كما قال الله:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171).

ولنأخذ مثلًا من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الألوهية، والقرآن -وبخاصة في الفترة المكية- بدأ بتقرير ثلاث قضايا، ليقيم عليها ما أراد من بناء، هذه القضايا هي: التوحيد، والرسالة، والبعث، ولإثبات ذلك قدم كثيرًا من الأدلة، التي حاصرت العقول، ولم تُبقِ حجة يحتج بها مكابر ومعاند.

ففي مقام إثبات الوحدانية تراه يلقي جملة من الأسئلة، التي يسلِّم بها المشركون، ليأخذ منها دليلًا بل أدلة قوية على أنه الجدير بأن يفرد بالألوهية، وأن تدين له الإنسانية بالطاعة والعبودية، لا تعبد إلهًا معه أو سواه.

والمشركون لا ينكرون أن الله هو الرب، الذي ربى الخلائق على موائد كرمه، فهو الخالق الرازق المحيي المميت، الذي خلقهم وخلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر، وله من في السموات والأرض وهو رب العرش العظيم، بيده ملكوت كل شيء، وهو يجير ولا يجار عليه، والآيات الدالة على ذلك لا تخفى عليكم.

ص: 410

وفي منهج الدعوة تراه يستفيد من هذا الاعتراف ليقول لهم: ألا يستحق هذا الرب أن يعبد وحده؟! ويلفت أنظارهم إلى استحالة أن يكون مع هذا الإله المتصف بصفات الكمال إله آخر، ويتعجب من حالهم، وهو يذكر لهم ما لا يستطيعون أن ينكروه، حين يذكر لهم ما عليه معبوداتهم من عجز وضعف، وأنها لا تملك ضرًّا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا.

يقول جل جلاله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ * َمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمْ مَنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * أَمْ مَنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (النمل: 59 - 64).

هذا الأسلوب الفذ في إثبات الألوهية لله، يسوق مظاهر الطبيعة، وما يعتريهم من حالات الاضطرار والوقوع في مشكلات الأيام والزمان، وما يكون من دعائهم لربهم مخلصين له الدين، وكلما عرض شيء من ذلك أخذ يتساءل {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ، {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} ويعقب على ذلك بقوله كما رأيتم في الآيات:{بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} ، {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} ، {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} ، {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وأخيرًا يتحداهم أن يأتوا ببرهان واحد على صحة ما يعتقدون فيقول:{قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فما أعظم هذا البيان.

ص: 411

وهذا نموذج آخر لإثبات وحدانية الله، وأنه كما أنه متفرد بربوبيته وأسمائه وصفاته، هو كذلك متفرد في ألوهيته، مما يستوجب أن يكون هو وحده الإله المعبود والرب المقصود، هذا النموذج نقرؤه في آيات من سورة يونس. يقول المولى عز وجل:{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} (يونس: 31 - 36).

وهذه الآيات تحتاج إلى الكثير من الوقفات، فهي منهج متكامل في طريقة الدعوة إلى الله، في ست آيات ترى قول الله لرسوله ست مرات {قُلْ} وهذا الأمر يعني أنه مأمور من قبل مولاه، وأن هذا القرآن ليس من عنده، إنما هو كلام من أرسله، وما هو إلا مبلغ عن ربه، كما يعني هذا الأمر قوة الدعوة التي يدعو إليها هذا الرسول، وثقته المطلقة في عدالة قضيته، وارتكازها على الأسس التي لا تميل، فهي دعوة ربانية، مصدرها قيوم السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة.

وبعد الأمر الأول تتوالى الأسئلة التي تقررهم، فتسألهم عن من يرزقهم من السماء بالأمطار، ومن الأرض بألوان الثمار، وتسألهم عن من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر؟ فتكون

ص: 412

الإجابة الاعتراف بأنه كذلك، فيأمر الله رسوله أن يؤنبهم على هذا الخلل في تفكيرهم وسلوكهم، قائلًا لهم:{أَفَلَا تَتَّقُونَ} ثم يأخذ بأيديهم إلى طريق النجاة وهو يقول: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} .

وكم في هذه الكلمات من دعوة للرجوع للحق، لعلك تلمح معي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذ بأيديهم في رفق لتضعها على الحقيقة التي لا سبيل إلى إنكارها، ليقول لهم: فذلكم الرب الذي اعترفتم بأنه الرازق المهيمن، القوي القادر، الذي يدبر أمر الخلائق، هو الله الذي رباكم على موائد كرمه، وهو ربكم الحق.

ثم يسألهم مخوفًا من عاقبة إنكارهم، وأنه ليس هناك بعد الحق إلا الضلال ويقول لهم:{فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} إن الطرق كلها مسدودة إلا هذا الطريق، طريق الحق، فأين يذهب هؤلاء! ويختم هذه الجولة بتهديدهم من الحرمان من شرف الإيمان، إن استمروا على عنادهم فيقول:{كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} .

ثم يعود ليسير بهم ومعهم جولة أخرى، حين يأمر الله رسوله أن يسألهم سؤال تقرير وتوبيخ قائلًا:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} وهم يقرون أن شركاءهم ضعاف لا يقدرون على ذلك، ويوالي القرآن أسئلته موبخًا لهم وهو يقول:{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .

فانظر إلى قوله: {فَمَا لَكُمْ} وهذا السؤال:

ص: 413

{كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وما في ذلك من تجهيل لهم، وبيان لحكمهم المخالف للفكر السليم والرأي الرشيد، وهكذا يحكم الله على عقائدهم بأنها لا تقوم على دليل، وما هي إلا ظنون وأوهام، والظنون والأوهام لا تصلح في مجال المقارنة بالحق، وعليهم أن يدركوا أن الله عليم بما يفعلون، وسوف يحاسبهم على ذلك حسابًا عسيرًا، فهل يدرك ذلك الكافرون.

وآيات القرآن في مثل ذلك كثيرة، ومنهج القرآن الذي رأيناه في إثبات العقيدة، هو ما نراه في إثبات البعث وإثبات الرسالة، بل هذا هو منهجه في دعوته لمكارم الأخلاق، والالتزام بما شرع الله، وكل جانب من هذه الجوانب يحتاج إلى لقاءات وكتابات ومحاضرات.

وهذه آيات في إثبات البعث، تقرؤها من سورة "ق"؛ حيث يقول ربنا:{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ * بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ * قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ * بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} (ق: 1 - 6) إلى أن يقول ربنا سبحانه وتعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (ق: 10، 11).

فترى أنه سبحانه وتعالى يسوق كلام المشركين وتعجبهم في موقف الإنكار، حين يقولون:{هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} فظنوا أن هذا من الأمور التي لا يصدقها عقل، ولكن الله القوي القادر القاهر قال:{قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} فكل ذرة من ذرات هذا الجسد، ذهبت في ذرات التراب، الله سبحانه وتعالى يعلمها، وسوف يجمعها ليعيد بناء الإنسان من جديد ليحشر وليحاسب.

ص: 414

ولفت أنظارهم إلى قدرة الله في هذا الوجود، هؤلاء الذين لم يتأملوا فيما فوقهم من السماء، وكيف بناها الله وكيف زينها بقدرته وما لها من فروج، ولم يتأملوا في الأرض التي يسيرون عليها، وما فيها من جبال راسيات، وما فيها من نبات، تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، وهذه الأمطار تنزل من السماء ماء مباركًا، فماذا يكون من آثارها، ألا ترون أن الله كما قال:{فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} (ق: 9 - 11).

والذي قدر على ذلك قادر على بعث خلقه، فهل يعقل ذلك هؤلاء الكافرون الجاحدون؟! إنها مناهج في الدعوة، يتعلمها الدعاة ليصلوا إلى إقناع العقول والقلوب.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 415