الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الخامس عشر
(قصة يوسف مع امرأة العزيز)
بين يدي قصة يوسف عليه السلام
-
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فهذه قصة يوسف مع امرأة العزيز، من قصص القرآن العظيم، تأتي كسابقتها من قصة أصحاب الكهف، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى والخضر، لا تذكر في القرآن إلا في موضع واحد.
وفي قصة يوسف مع امرأة العزيز نجد أن الآيات التي تحدثت عنها لم تذكر في غير سورة "يوسف"، وذكرت في سياق الحديث عن يوسف عليه السلام حين تناولت آيات السورة قصة يوسف مع أبيه ومع إخوته، ثم مع امرأة العزيز، كما ذكرت حياته في السجن، وما كان من أمره، وذكرت خروجه من السجن، وتوليه وزارة المالية والاقتصاد والتموين، وأنَّ الله مكن له في الأرض، إلى آخر ما كان من أمره؛ حيث جمعه الله بأبيه وإخوته على أرض مصر {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} (يوسف: 100، 101).
القرآن حين يروي لنا أحداث هذه القصة، لا يرويها مجرَّد أحداث للتسلية والتاريخ، إنما يربطها بأهداف القصة في القرآن، ومنها: الدلالة على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغ عن ربه، وأنَّ هذا القرآن من عند الله، فإذا ثبت هذا كان لزامًا على مَنْ يسلِّم به أن يؤمن بهذا القرآن منهجًا ودليلًا، وبمن أنزله إلهًا معبودًا، وبمن نزل عليه اتباعًا وانقيادًا، ولذلك ترى في بداية القصة تحديد هذه
الأهداف؛ لتُبنَى عليها أحداث القصة، فيقول سبحانه في مطلع السورة:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 1 - 3).
ثم تبدأ القصة بقوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} (يوسف: 4) إلى آخر ما قال الله عز وجل، وفي نهاية القصة، بعد دعاء يوسف عليه السلام ربه فاطر السموات والأرض، بأن يتوفاه مسلمًا، وأن يلحقه بالصالحين، يقول تعالى إثباتًا وتحقيقًا لأهداف القصة:{ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102)، ثم تعقِّب الآيات على ذلك ببيان موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المشركين، وباستلهام العِبَر والعظات من القصة، إلى أن تختم بقوله:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111)، فكيف صارت أحداث قصة يوسف مع امرأة العزيز في جملة قصة يوسف مع أطراف أخرى ممن واكبوا مسيرة يوسف منذ طفولته إلى أن صار عزيز مصر، وإلى أن جمعه الله بأهله.
إن هذه القصة، لو تأمّلت فيها؛ لوجدتّ أنها تتألف من عدة حلقات أو فصول أو مشاهد، تبدأ من بداية السورة إلى أن تنتهي بإعلان براءة يوسف؛ حين جمع الملك النسوة ومعهنّ امرأة العزيز، وسألهن الملك:{قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ} (يوسف: 51) إلى قوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} (يوسف: 53) لتبدأ بعد هذه المحن أيام المنن والعطايا؛ حيث يكون يوسف من خاصّة الملك والمقرَّبين له، ويتولى خزائن الأرض، ويحتل المكانة العالية؛ فيتبوأ في الأرض منها حيث يشاء.
وتسير قصة يوسف إلى نهايتها لتكون نبراسًا يضيء الطريق للمظلومين والمستضعفين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأن النصر والتمكين لهم، وتلك سنة الله في عباده:{وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ * حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} (يوسف: 109، 110).
وحين نقول بأن قصة يوسف مع امرأة العزيز تتألّف من حلقات أو فصول أو مشاهد، لا نقصد هذا البناء في صياغة القصة من تقسيمها إلى فصول، ينتهي فصل فيقال: الفصل الثاني وهكذا، إنما تنساب الآيات رقراقة عذبة ممتعة، يأخذ سحرها بالألباب في روعة كلماتها، والانتقال معها من آية لآية، ليس لأحد دخل في بداية الآية أو نهايتها، إنما هذا وحي الله الذي أوحاه لرسوله صلى الله عليه وسلم، وكل ثلاث آيات معجزة يتحدّى الله بها الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فلم يفعلوا ولن يفعلوا، فأين أسلوب وبناء وتأليف القصص التي يصوغها الأدباء والكتاب من أسلوب وبناء القصة القرآنية؟ وأين الثرى من الثُّريّا؟!.
لكنّك لا تستطيع الحديث عما كان من أمر يوسف مع امرأة العزيز قبل أن تقف مع الأسباب التي ساقت يوسف إلى بيت عزيز مصر، لتعرف من هو يوسف، وماذا كان من أمره حتى كان عبدًا يباع في الأسواق وهو الكريم بن الكريم بن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل -عليهم جميعًا السلام.
تبدأ السورة كما ذكرنا بالحروف المقطعة {الر} ؛ لتقول: إنّ آيات القرآن المبين مؤلَّفة من هذه الأحرف، فليست من لغة غير اللغة العربية، وهذه الآيات المؤلفة من الحروف ثم الكلمات، تنطق بها فإذا هي كلمات كالكلمات التي ينطق بها
العرب، لكنها حين اجتمعت مع بعضها لم يستطع أحد أن يأتي بمثلها، ففيها سر الله وإعجازه للبشر، وما مثال ذلك إلّا هذه الصور التي تراها هنا وهناك، مما يصنعه الناس من صور الإنسان والحيوان والطيور، وإن كان تصوير ذلك غير جائز، لكنك تراه كما ترى صورًا للأشجار والنباتات، فهل في إمكان من صور ذلك أن يجعل هذه الصور عاقلة مدركة نامية، إنها خلت من سر الحياة، وسر الحياة هو الروح التي هي من أمر الإله الخالق {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).
وهذه الروح هي الفارق بين كلام المخلوق وكلام الخالق، ولذلك سمَّى الله قرآنه روحًا فقال:{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (الشورى: 52، 53) ولذلك قال عز من قائل: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (يوسف: 2)
فدلّ التعظيم في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} على أنّ هذا القرآن قد صدر من إله عظيم متَّصف بصفات الجلال والكمال، نزل من الروح المحفوظ في ليلة مباركة هي ليلة القدر، إحدى ليالي شهر رمضان، فأودع في السماء الدنيا في بيت العزة، ثم نزل به جبريل نجومًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، في مدة ثلاث وعشرين سنة، بلسان عربيٍّ واضح بَيِّن، يتحدى به الفصحاء والبلغاء؛ ليكون في نزوله باللسان العربي حجة على العرب {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم: 4).
فلمّا كان القرآن بلسانهم كان ذلك شرفًا لهم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف: 44) وليكون في نزوله عربي اللسان، واضح البيان، ما يدعو
إلى فهمه وتدبره، ولما سأل الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقص عليهم من قصص القرآن ما يسرّي عنهم، نزلت الآيات تذكر لهم قصة يوسف، وبدأت بقول الحق تبارك وتعالى:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} (يوسف: 3) أي: لا علم لك به من قبل، أما وقد علمته، فهذا دليل على أنه من عند الله، وأنك رسول الله.
أوجه أن قصة يوسف من أحسن قصص القرآن، اشتمالها كما يقول العلامة الألوسي:"على حاسد ومحسود، ومالك ومملوك، وشاهد ومشهود، وعاشق ومعشوق، وحبس وإطلاق، وخصب وجدب، وذنب وعفو، وفراق ووصال، وسقم وصحة، وحلٍّ وارتحال، وذل وعز، وقد أفادت أنه لا دافع لقضاء الله تعالى، ولا مانع من قدره، وأنه سبحانه إذا قضى لإنسان بخير ومكروه، فلو أن أهل العالم اجتمعوا على دفع ذلك لم يقدروا، وأن الحسد سبب الخذلان والنقصان، وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن التدبير من العقل، وبه يصلح أمر المعاش، إلى غير ذلك مما يعجز عن بيانه بنان التحرير".
وبعد هذا الاستهلال للقصة، تبدأ القصة بقول الله تعالى:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (يوسف: 4)، فتلفت الأنظار إلى أهمية القصة، وأنها جديرة بأن تبقى دائمًا في الذاكرة، يستلهم منها أهل الإيمان من العبرة والعظة الكثير، ذلكم أن قوله:{إِذْ قَالَ يُوسُفُ} كلمة "إذ" منصوبة بإضمار اذكر، أي: اذكر وقت إذ قال يوسف لأبيه، والمقصود من ذكر الوقت -كما تعلمون- ذكر ما حدث فيه، وما حدث فيه أمر عظيم، يبدأ في تلك الرؤية التي قصّها يوسف على أبيه يعقوب، والتي ذكرتها الآية.
ولم تذكر الآيات أن يعقوب فسر هذه الرؤيا لابنه، إنما نصحه أن يكتمها عن إخوته حتى لا يكيدوا له كيدًا يضره، فهو -أي: يعقوب- يرى من أبنائه
حسدهم من محبة أبيهم ليوسف وأخيه، وبقيت هذه الرؤيا تفسّرها الأحداث عبر رحلة يوسف، إلى أن جاء ختام الأحداث باجتماع يوسف مع أبويه وإخوته في أرض مصر {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا} (يوسف: 100) فكان ذلك من روعة سياق القصة في القرآن، وقد ذكرت السورة رؤيا لكلٍّ من صاحبيْ يوسف في السجن، وقد فسرها لكلٍّ منهما، كما ذكرت رؤيا الملك والتي لم يستطع المؤولون من المقربين للملك أن يفسروها له، ففسرها يوسف، وكان ذلك سببًا في خروجه من السجن، ومحبة الملك له، وتوليه أمور البلاد الاقتصادية.
لكن بناء القصة إنما قام على رؤيا يوسف التي قصّها على أبيه، وكان منها بداية الخيط التي ارتبطت به، ما كان من أمر يوسف في كلّ مراحل حياته، وكل مرحلة تحقِّق جانبًا من هذه الرؤيا، وقبل أن ينتقل القرآن إلى مرحلة الحديث عن إخوة يوسف، يشوقنا إلى ذلك بما يذكره من نصيحة يعقوب لابنه، ألّا يقص رؤياه على إخوته، وأن الشيطان قد يسول لهم أمرًا {إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} (يوسف: 5) وبما يفضي به يعقوب ليوسف من أنه يتوقّع له مستقبلًا عظيمًا؛ إذ يرى أن الله سوف يختاره نبيًّا ويعلمه من تأويل الأحاديث، ويتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم وإسحاق، إن ربك حكيم عليم.
فكانت هذه بشرى ليوسف بالنبوة والعلم والحكمة وإتمام النعمة، ولكنّه يخشى عليه من إخوته، وحين ذكر ذلك يعقوب تشوّفت النفس لمعرفة ما كان من أمر هؤلاء الإخوة، ويبدأ الحديث عنهم بقول الله تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} (يوسف: 7) وفي هذا الابتداء -كما ترون- تشويق لمعرفة ما حدث، وأنّ ما حدث في كل مرحلة من مراحله آية وعلامة بارزة على قدرة الله، وأنه غالب على أمره، لمن يسألون عن هذه القصة، ويودون أن يعتبروا بما فيها.