الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والله يبين سنته في المكذبين، ويفتح لهم أبواب رحمته إن استجابوا لأمر الله، ومن رحمته أنه لا يعاجلهم بالعقوبة، إنما يؤخرهم لموعد لن يجدوا من دونه موئلًا، وإهلاكه لمن يهلكهم لا يكون باستعجال العذاب منهم استهزاء وسخرية، إنما لكل أمة أجل:{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} (الكهف: 59).
لما ذكر الله ذلك كله، وبين أن الأمور تجري في هذا الكون بعلمه وقدرته ومشيئته، وأن مرد الخلائق له ليحاسبهم على ما كان منهم في هذه الدنيا، لما ذكر ذلك أراد أن يضرب لنا مثلًا بما كان بين موسى وعبد صالح، آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من علمه؛ لنتعلم كيف يكون التواضع، وكيف نرد علم الأشياء إلى الله العليم الخبير، وما يجب على المتعلم مع معلمه من الصبر على طلب العلم، إلى غير ذلك مما توحي به هذه القصة، من قصص القرآن العظيم.
فكيف سارت أحداث هذه القصة؟:
لو تأملتم لوجدتم أن: الشوط الأول منها: يبدأ ب
رحلة البحث عن العبد الصالح
.
والثاني: رحلة الأسرار مع العبد الصالح.
والثالث: علم الله المكنون وكشف الأسرار لموسى، وفي الختام تأتي الدروس المستفادة.
رحلة البحث عن العبد الصالح
فلنبدأ بالشوط الأول في رحلة البحث عن العبد الصالح، وفي ذلك يقول ربنا:{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا * قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 60 - 64).
وقد جاءت الروايات توضح سبب هذه الرحلة، يروي الإمام البخاري وغيره عن سعيد بن جبير قال: "قلت لابن عباس: إن نوفًا البِكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر عليه السلام ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، فقال: كذب عدو الله؛ سمعت أبي بن كعب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قام موسى عليه السلام خطيبًا في بني إسرائيل، فسئل: أي الناس أعلم؟ فقال: أنا أعلم. قال: فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه: إن عبدًا من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك. قال موسى: أي رب كيف لي به؟ فقيل له: احمل حوتًا في مِكتل، فحيث تفقد الحوت فهو ثَمَّ فانطلق معه فتاه وهو يوشع بن نون، فحمل موسى حوتًا في مكتل، فانطلق هو وفتاه يمشيان حتى أتيا الصخرة
…
)) الحديث".
وابن عباس لا يقصد بقوله: "كذب عدو الله" سبًّا لنوف البكالي؛ لأن نوفًا هذا تابعي صدوق، وهو ابن امرأة كعب الأحبار، وإنما كذب ابن عباس ما رواه نوف عن أهل الكتاب، فهذا القول من ابن عباس إنما جاء على وجه التغليظ والزجر.
وفتى موسى ليس عبدًا له، كما رأى ذلك بعض المفسرين، إنما هو كما قال الإمام النووي صاحبه؛ لأن يوشع هو يوشع بن نون بن إفراييم بن يوسف عليه السلام، ومجمع البحرين الذي هو موضع اللقاء، هو هذا الموضع الذي أخبر الله موسى بأنه سيجد عنده العبد الصالح، لكن في أي مكان يلتقي البحران؟ عن قتادة قال:"بحر فارس والروم". وقيل: بحر الأردن والقلزم، أي: البحر الأبيض والأحمر، ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح، أو أنه مجمع خليجي العقبة والسويس في البحر الأحمر، كما ذكر ذلك صاحب (الظلال) وابن حجر في (الفتح).
وقال محمد بن كعب القرظي: "مجمع البحرين بطنجة". وعن أبي بن كعب قال: "بإفريقية". وهذه أقوال ضعيفة ولا تعبر عن الواقع؛ إذ كيف يسير موسى وفتاه إلى أقصى بلاد المغرب أو إلى إفريقية، والرحلة إلى المغرب أو إلى إفريقية تستغرق زمنًا طويلًا، فأقرب ما قيل هو ما ذكر أولًا، وأن مجمع البحرين في منطقة البحيرات، أو عند خليج العقبة، مما يدل على أن الرحلة كانت في داخل مصر.
واصطحب موسى صديقه وصاحبه يوشع بن نون، وقال له:{لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} (الكهف: 60) حيث الموعد الذي ذكره الله لموسى أَوْ أَمْضِيَ سائرًا حُقُبًا، أي: زمنًا طويلًا مهما طال هذا الزمن، وفي السفر والرحلات تحسن الصحبة، وبخاصة إذا ما كانت الصحبة من أمثال يوشع بن نون في إخلاصه وحبه لموسى، واستعداده أن يتحمل معه مشقات السفر، وفي قوله موسى ليوشع بأنه لن يشغل نفسه بغير هذا الأمر، وسوف يبذل فيه كل ما عنده من قوى، حتى يتحقق له ما يريد، تصميم على بلوغ الهدف، وهكذا يكون من يريد تحقيق أهداف، وكلما سمت هذه الأهداف كلما سمت مقاصدها، وكلما عظمت المقاصد عظمت الوسائل.
والقصة تترك مساحة للتدبر لاستكمال الصورة، إذ قالت:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا} (الكهف: 61) وتستطيع أن تقول بأن موسى بعد أن أفضى لفتاه بما علمتَ، بدأ رحلتهما وسارا في جد ونشاط حتى وصلا مجمع البحرين، وهناك نسيا حوتهما، ولم يسبق للحوت ذكر كما ترى، لكن السنة أوضحت ذلك، وبينت أن الله أمر موسى أن يحمل معه حوتًا يضعه في مكتل، وفي رواية: حوتًا مالحًا، أي: مملحًا، ومعنى هذا أن الحوت كان مشويًا؛ لأنه لو كان حيًّا
فخرج من المكتل إلى البحر، لما كان هناك ما يدعو إلى العجب، لكن العجب أن يكون الحوت مشويًا فتدب فيه الحياة، وينطلق إلى البحر في قوة.
وهذا لا يتعارض مع ما ورد من أن الحوت كان ميتًا؛ لأنه تم شواؤه وهو ميت، بل إن الحوت حين انطلق إلى الماء، فعل ما لم يكن معهودًا في جريان الحيتان في الماء، فقد شق في البحر سربًا، أي: طريقًا كأنه السرداب في الجبل، إذ أمسك الله عنه كما جاء في الحديث جِرْيَة الماء في البحر، حتى كأن أثره في حجر، وإنما قفز الحوت إلى البحر وموسى نائم، أما يوشع فكان يقظان.
وما إن استيقظ موسى حتى واصل رحلته، فكان على عجلة من أمره، مما جعل يوشع ينسى أن يخبره بأن الحوت خرج من المكتل إلى البحر، وما إن جاوزا المكان حتى أحسا بالجوع، فقال موسى لفتاه:{آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} (الكهف: 62) ولم يشعرا بهذا النصب وبتعب المسير إلا بعد أن تجاوزا هذا المكان، فكان هذا أيضًا آية من آيات الله.
قال يوشع لموسى ما ذكره الله عز وجل: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} (الكهف: 63) فقد ذكر يوشع لموسى ما كان من أمر الحوت، وما أظهر الله فيه من عظيم آياته، إذ أحياه وكان ميتًا مشويًا، وانطلق في الماء، وإذا بالماء يتجمد حتى كأنه الصخور، والحوت قد شق له فيه طريقًا يبسًا، فكان ذلك مثار العجب، ولا عجب من قدرة الله، فسُر موسى بذلك، وعلم أنه قد قارب على وصول مبتغاه، فقال لفتاه:{ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} (الكهف: 64) أي: فرجعا يقصان أثرهما حتى وصلا إلى المكان الذي فقدا فيه حوتهما {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} (الكهف: 65).