الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس السابع عشر
(الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين)
المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين، أما بعد:
فموضوع حديثنا عن الأمثال في القرآن الكريم وتأثيرها على السامعين:
فما هو المثل في لغتنا العربية؟ وما أهميته؟ وما هي فوائده؟:
يقول ابن فارس: "مثل، الميم والثاء واللام، أصل صحيح يدل على مناظرة الشيء للشيء، وهذا مثل هذا أي نظيره، ويقول: والمثل المضروب مأخوذ من هذا؛ لأنه يذكر مورًّى به عن مثله في المعنى".
ويقول ابن منظور: "مثل، كلمة تسوية، يقال: هذا مثله ومثله، كما يقال: شبهه وشبهه، بمعنًى". قال ابن بري: "الفرق بين المماثلة والمساواة، أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين؛ لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار، لا يزيد ولا ينقص، وأما المماثلة فلا تكون إلا في المتفقين، تقول: نحوه كنحوه، وفقهه كفقهه، ولونه كلونه، وطعمه كطعمه، فإذا قيل: هو مثله على الإطلاق، فمعناه: أنه يسد مسده، وإذا قيل: هو مثله في كذا، فهو مساوٍ له في جهة دون جهة" ثم يقول: "والمثل الشيء الذي يضرب بشيء مثلًا، فيجعل مثله".
وفي (الصحاح) ما يضرب به من الأمثال، ومثل الشيء أيضًا صفته، وقد يكون المثل بمعنى العبرة، ومنه قوله عز وجل:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} (الزخرف: 56)، ويكون بمعنى الآية كما قال تعالى في صفة عيسى -على نبينا وعليه الصلاة والسلام-:{وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: آية تدل على نبوته.
وذكر الراغب في (مفردات ألفاظ القرآن) قريبًا مما ذكره ابن فارس وابن منظور، وإن كان قد توسّع في الاستشهاد بالآيات، ومما قال:"المثل عبارة عن قول في شيء يشبه قولًا في شيء آخر، بينهما مشابهة؛ ليبين أحدهما الآخر ويصوره".
ويقول أبو حيان في (البحر المحيط): "المثل القول السائر الذي فيه غرابة من بعض الوجوه، وقيل المثل ذكر وصف ظاهر محسوس وغير محسوس، يستدل به على وصف مشابه له من بعض الوجوه، فيه نوع من الخفاء؛ ليصير في الذهن مساويًا للأول في الظهور من وجه دون وجه"، ثم يواصل أبو حيان حديثه فيبين أهمية المثل وفوائده فيقول:"والمقصود من ذكر المثل أنّه يؤثّر في القلوب ما لا يؤثّره وصف الشيء في نفسه؛ لأن الغرض من ضرب المثل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقًا للعقل".
ويقول عبد القاهر الجرجاني في (أسرار البلاغة): "اعلم أنّ ما اتفق العقلاء عليه هو أنّ التمثيل إذا جاء في أعقاب المعاني، أو برزت هي باختصار في معرضه، ونُقِلَت عن صورها الأصلية إلى صورته، كساها أبهة، ورفع من أقدارها، وضاعف قواها في تحريك النفوس لها"، ويشرح عبد القاهر ذلك فيقول:"فإن كان مدحًا كان أبهى وأفخم وأنبل في النفوس، وأسرع للإلف، وأغلب على الممتدح، وأوجب شفاعة للمادح، وإن كان ذمًّا كان مسه أوجع، وميسمه ألذع، ووقعه أشد، وحده أحد، وإن كان حجاجًا، كان برهانه أنور، وسلطانه أقهر، وبيانه أبهر، وإن كان افتخارًا، كان شأوه أبعد، وشرفه أجد، ولسانه أند، وإن كان اعتذارًا كان إلى القبول أقرب، وللقلوب أخلب، وللسخائم أسل، وإن كان وعظًا، كان أشفى للصدر، وأدعى إلى الفكر، وأبلغ في التنبيه والزجر".
وإذا أجلنا النظر فيما وَرَد في القرآن من أمثال، وفي الحكمة من إيرادها، سوف نرى أن الله يسوقها تذكرة وعبرة وعظة لمن كان له عقل يفكِّر، وقلب خافق يشعر
وينفعل، واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى:{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (الزمر: 27) ويقول: {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 25) فبيّن في هذه الآية والتي بعدها، أنه سبحانه ضرب للناس في هذا القرآن من كل مثل؛ ليكون في ذلك ذكرى لمن يتذكرون، وعبّر بالمضارع {يَتَذَكَّرُونَ} ليدلَّ على تجدد هذا التذكر؛ ليكون مواكبًا لمسيرة الإنسان في هذه الدنيا، فيبقى على صلة دائمة بربه.
ويقول ربنا: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} (العنكبوت: 43) فأوضح أنه يضرب الأمثال يستمع إليها الناس جميعًا، لكن لا يستفيدوا منها ولا يعقلوها، ويدركوا مراميها، إلّا من آتاه الله العلم النافع والبصيرة المهتدية بنور الحق، ويقول:{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر: 21) قال هذا بعد قوله في صدر الآية: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (الحشر: 21) فضرب بذلك مثلًا لما للقرآن من تأثير في الجمادات، والأولى بهذا التأثر الإنسان العاقل، ولكنّ الأمر يحتاج إلى إجالة الفكر، وعمق النظرة للاهتداء إلى سبل الرشاد، ولو تفكر الإنسان وتدبّر؛ لعلم أن سبيل ذلك هو القرآن العظيم، وهو عصمة لمن تمسَّك به، ونجاة لمن اهتدى بهديه.
ولعلنا لاحظنا التعبير بـ"لعلّ" في قوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (البقرة: 221)، {لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الأعراف: 176) والتعبير بذلك يدل على أنّ هذا أمر سهل الحصول؛ لأن "لعلّ" كما علمتم في لغتنا العربية حرف ترج، بخلاف ليت فهي للتمني، والترجي إنما يكون في الأمر القريب الحصول، السهل الوقوع، والتمني في الأمر الذي يصعب تحقيقه، كما في قول الشاعر:
ليت الكواكب تدنو لي فأنظمها
…
عقود مدح فما أرضى لكم كلمي