الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل الصدق في القرآن
نرجع إلى كتاب الله سبحانه وتعالى لنرى الآيات التي تختم ببيان أن هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات المعينة هم الصادقون، رأينا سورة "البقرة" وآية البر التي ذكرناها الآن، وفي نهايتها قرأنا قول الله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (البقرة: 177)، فهذا إذا تعريف الصادقين كما ذكرته سورة البقرة، والآية ذكرناها تجمع خمسة عشرة صفة هي صفات أهل الصدق.
نقرأ أيضًا في سورة "الحجرات" قول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحجرات: 15).
وفي سورة "الحشر" يقول سبحانه في صفة المهاجرين: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} (الحشر: 8).
وفي سورة "الحديد" يقول عز من قائل: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد: 18، 19).
وإذا كنا قد عرفنا ما في آية سورة "البقرة" من المعاني على وجه الإجمال، فلنقف عند ما جاء في سورة "الحجرات" من قول الله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15) فهنا نجد الصفتين: الإيمان، والجهاد: الإيمان بالله ورسوله إيمانًا جازمًا لا ارتياب فيه ولا شك فيه ولا شبهة،
والجهاد بالمال والنفس جهادًا مبرأً من كل هون، جهادًا خالصًا لله وفي سبيله، ومن أجل إعلاء كلمته.
وقد نزلت هذه الآية الكريمة في معرض الرّدّ على الأعراب من بني أسد، الذين ادَّعوا الإيمان دون أن يحقّقوه بالأعمال، فإنما الإيمان قول وعمل، فبين الله لهم الحق، وأوضح لهم الطريق قال تعالى:{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الحجرات: 14)، ثم قال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} (الحجرات: 15).
وقال ابن زيد في قوله: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا} قال: لم يُصدقوا إيمانهم بأعمالهم فردَّ الله عليهم: {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} ، وأخبرهم أن المؤمنين:{الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} صدقوا إيمانهم بأعمالهم، فمن قال منهم أنا مؤمن فقد صدق، قال وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل؛ فقد كذب وليس بصادق، فهذا تحديد جيد وتوضيح بين لمن هم الصادقون.
كذلك نجد في سورة "الحشر" بعض ملامح هؤلاء الصادقين؛ حيث يقول ربنا في صفة المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} ، فهنا أيضًا صفتان قريبتان من الصفات الأولى المذكورة في سورة البقرة والحجرات، فهؤلاء المهاجرون -رضوان الله عليهم- آمنوا بالله ورسوله إيمانًا لا تزحزحه العواصف، ولا تؤثر فيه وطأة الظالمين من جبابرة الكفر، إنهم بالإيمان عاشوا،
وعلى الإيمان ثبتوا، وإلى الإيمان ركنوا، وبه تعلقوا؛ فتحملوا في سبيل الله ذلك الإيذاء كل الإيذاء، لقد أُخرجوا من ديارهم وأموالهم أخرجهم الطغاة من بلدهم الحبيب مكة المكرمة، فتركوا ديارهم وأموالهم، وخرجوا ليس لهم من حُطام الدنيا شيء، لا يريدون بهذا كله إلا وجه الله والدار الآخرة، وهم بعد أن خرجوا قبل أن خرجوا إنما أوقفوا حياتهم على نُصرة الله ورسوله، ولذلك قال:{وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ} هكذا بالفعل المضارع الذي يدلّ على التجدّد والاستمرار، فهؤلاء وقفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لينصرونه بكل ألوان النصر قبل الهجرة وبعد الهجرة، فكانوا صادقين فيما فعلوا وفيما كانوا عليهم من ثبات على الإيمان، ولذلك خصَّهم الله بهذه الصفة حين قال:{أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} هكذا بتعريف الطرفين، وقوله:{هُمُ} التي تفيد حصر الصدق فيهم، وكأنهم هم الصادقون وحدهم.
كما نجد في سورة "الحديد" بعض ملامح صفات الصادقين ذلكم حين قرأنا {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} (الحديد: 18، 19) ففي هذا بيان قرآني يوضح لنا من هم الصادقون إنهم المؤمنون إيمانًا راسخًا ثابتًا بالله ورسله، والإيمان -كما نعلم- إذا استقر في القلب أثمر ثماره وآتى أكله:{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} (إبراهيم: 25).
هذه إذًا صفات الصادقين، وهؤلاء هم الصادقون، فماذا لهؤلاء الصادقين من جزاء في الدنيا، وفي الآخرة،
أشرنا فيما سبق إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة)) فهذا أول جزاء للصادقين في الدنيا إنه طمأنينة القلب، وإصلاح البال والشعور بالرضا والسكينة، وهناك أمر آخر جعله الله للصادقين، هذه البركة في الرزق والبركة في العمر والبركة في الأبناء والبركة في الحياة، وهذا ما يرشد إليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي خالد حكيم بن حزام رضي الله عنه حيث قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وإن كَتَما وكذبا مُحقت بركة بيعهما)) فانظر إلى المعاملات بين الناس لتعلم أن الصدق هو الأساس في التعامل بين البشر، مسلمهم وغير مسلمهم، وأن البيعان إذا صدقا وبيَّنا بُورك لهما في بيعهما، وليست البركة كلمة هائمة ليس لها حقيقة، وإنما هي واقع ملموس مشاهد، يُراه الفرد في واقعه وتعرف الأمم ذلك في حياتها، حين يشيع الصدق والإخلاص ترى نماءً في كل بين يديه وإشراقًا في كل ما حولك، وحين ينتشر الكذب ويغيظ معين الإخلاص يشعر الناس بوطأة الحياة، وضياع الأعمار، وذهاب الخير من نفوسهم ومما حولهم، وقال تعالى:{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (الأعراف: 96).
وإذا كان هذا هو جزاء الصادقين في الدنيا طمأنينة في القلب، وبركة في الرزق، فإن جزاءهم عند الله في الآخرة أعظم، فإن الصدق -كما ذكرنا- يهدي الإنسان إلى طُرق الخير، وهذا الطريق الذي هو طريق الخير يؤدِّي به إلى الجنة، كما ذكرنا في قوله صلى الله عليه وسلم:((عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة))، وفي كتاب الله عز وجل بشارات عظيمة للصادقين بما لا عينٌ ولا آذن
سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فلنلتقط من جواهر القرآن ولآلئه ما يبين ذلك، نقرأ في سورة "الأحزاب" قول الله تعالى:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا * لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} (الأحزاب: 7، 8).
فالله يسأل الصادقين عن صدقهم على رءوس الأشهاد ليعطي هؤلاء الصادقين؛ جزاء صدقهم، ودليل ذلك ما جاء في قوله وما نقرأه في ختام الآية:{وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} ، ومقتضى هذا أنه أعد للصادقين جزاءً عظيمًا.
أيضًا نقرأ في سورة "الأحزاب" قول الله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} (الأحزاب: 22 - 24).
فهؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم صدقوا ما عاهدوا عليه، {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي: قضى ما عليه فمات شهيدًا، ومنهم من يتشوف، ومن ينتظر أن يموت شهيدًا، إنها الغايات العظمى التي يحيا لها هؤلاء الرجال، ولذلك استحقُّوا نصر الله ومدد الله وتأييد الله، وما بدلوا تبديلًا، يقول ربنا:{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} لم يذكر لنا جزاء الصادقين هنا، وإنما سيذكره في آيات أخرى، ولكنه تركه هكذا لتذهب فيه النفس فيه كل مذهب حين تتخيل ما يمكن أن يعطيه الإله الكريم للصادقين مع الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
ومرة أخرى تعود سورة "الأحزاب" فتذكر لنا جزاء الصادقين، ولكنها في هذه المرة تضع هذه الصفة بين صفات كلها صفات عظيمة؛ حيث يقول ربنا:{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 35) فهذه عشر صفات في آية واحدة: الإسلام، والإيمان، والقنوت، وهو العبودية والطاعة لله وحده، والصدق، والصبر، والخشوع، وهو التواضع والخوف من الله، والتصدق، والصيام فرضًا ونفلًا، وحفظ الفروج عن الحرام، والإكثار من ذكر الله من جمع هذه الصفات العشر فلينتظر جزاءه الأوفى، ولينتظر منزلته العظمى {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} .
وأخيرًا نقرأ في نهاية سورة "الأحزاب" قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب: 70، 71) والقول السديد هو القول الصائب الذي لا يلتوي كالسهم يصيب الهدف في وضوح، ولذلك قالوا بأن القول السديد هو الذي يوافق ظاهره باطنه، وهذا هو الصدق بعينه، ومثل هذه الآية قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة: 119). والجزاء كما نرى هنا إصلاح الأعمال بتسديدها وتوفيقها، ومغفرة الذنوب، والفوز العظيم في الدنيا والآخرة.
أيضًا نقرأ في كتاب الله في جزاء الصادقين ما يستحق أن نقف عنده لنرى عظم ما فيه من الثواب، ذلكم ما نقرأه في أواخر سورة "المائدة" من قول الله تعالى:
{هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة: 119) الآية، {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} فأنت ترى أن الله منحهم جنات، وليست جنة واحدة، وفي حديث الإمام البخاري عن أنس قال:((أصيب حارثة يوم بدر وهو غلام، فجاءت أمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد عرفت منزلة حارثة مني، فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب، وإن تكن الأخرى ترى ما أصنع، فقال: ويحك أوجنة واحدة هي، إنها جنان كثيرة، وإنه لفي جنة الفردوس))، ومن طريق قتادة:((وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى)) إنها جنان كثيرة، وفي كل جنة ما لا عين رأت ولا أذنت سمعت ولا خطر على قلب بشر. وهي جنات يصفها الله سبحانه وتعالى بأنها تجري من تحتها الأنهار، فيها أنهار جارية، وقوله {مِنْ تَحْتِهَا} يشير إلى منازل أهل الجنة العالية، وأنهم في قصور قال تعالى:{لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} (الزمر: 20).
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة لا يتراءون أهل الغرف من فوقكم، كما يتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق -أي: الكوكب المضيء الذاهب بعيدًا في السماء من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم- قالوا: يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم. قال: بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدّقوا المرسلين)) وإذا كانت الأنهار تجري من تحت تلك القصور، فهي بلا شك أيضًا تجري بين الأشجار، وهي أنهار وليست نهرًا واحدًا؛ قال تعالى:{مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} (محمد: 15).
وأيضًا من جملة هذا النعيم هذا الخلود الذي لا يزول ولا يفنى، ولا يفنى أصحابه، كما قال ربنا وكما استمعنا في الآية:{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} ، فهم إذا في نعيم باقٍ، كما ورد في الحديث عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:((إذا دخل أهل الجنة ينادي منادٍ إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تصحُّوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تشبّوا -أي: تصيروا شبابًا- فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا))، وفي رواية:((فلا تبتئسوا)) فذلك قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف: 43).
هذه إذا منازل الصادقين وهؤلاء هم الصادقون، فهل لنا أن نكون من هؤلاء الصادقين الذين يقولون {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} (آل عمران: 16) إنهم كما قال ربنا: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} (آل عمران: 17)
…
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الصادقين.
والحمد لله رب العالمين.