الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالطريق للاستفادة مما ضرب الله من الأمثال، لا يحتاج إلّا إلى العلم والتفكر والتذكر، ولو صدقت نية العبد في البحث عن سعادته في الدنيا والآخرة؛ لبذل الجهد فالتزم بما في كتاب ربه، واهتدى بهدي رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأمثال القرآن كثيرة يضربها الحق تبارك وتعالى لتحقق أهدافها في تثبيت الإيمان والدعوة إليه، والترغيب في الآخرة والعمل الصالح، والترهيب من حب الدنيا وما يصير إليه حال من ركن إليها وارتضى بها، إلى غير ذلك مما تراه في القرآن الكريم.
أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين
وهذه أمثلة لما نقول من القرآن الكريم: يقول الله تعالى في المنافقين: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 17 - 20).
فقد ضرب الله مثلين لصنفين من المنافقين:
الصنف الأول: لقوم آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا، والصنف الثاني: قوم مترددون، يظهر لهم الحق تارة فيطمئنون إليه، وتهجم عليهم الشكوك فينقلبون خاسرين، ولو أن الله ساق الحديث عن المنافقين هكذا، فبين أنهم صنفان؛ صنف آمن ثم كفر، وصنف شاك حائر لا يستقر على رأي
ولا يثبت على فكر، ولا يستريح قلبه للحق، لما كان له من الأثر ما نراه حين ضَرَب لكلٍّ منهما مثلًا، فكان المثل الأول كما ترى للصنف الأول: الذي آمن ثم كفر؛ إذ شبه حاله بحال الذي استوقد نارًا -أي: أوقدها- بعد بحث عنها وطلب لها، فلمّا أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
إنه نور الإيمان الذي بدد ظلمات الشك والوهم، وعرف به المؤمن لماذا خلق ولماذا يحيا وإلى أين يصير؟ وماذا يأخذ وماذا يدع؟ فاستقر قلبه وهدأ وجدانه واطمأنت نفسه، وبينما هو في سعادة الإيمان هبّت عليه عواصف الشك، وركبته الشياطين، فانطفأ في قلبه هذا النور، فذهب الله بنورهم، وتركهم في ظلمات لا يبصرون.
وكم في كلمة "تركهم" من تصويرٍ لما حلّ بهم من غضب الله ونقمته، وكم في قوله من ظلمات من دلالة على ما هم فيه من عمى؛ إذ لم تحط بهم ظلمة واحدة، إنما هي ظلمات، ولهذا جاء قوله:{لَا يُبْصِرُونَ} (البقرة: 17) يكمل هذه الصورة البشعة لهؤلاء المنافقين، ويبين أنّ الطرق كلها قد عميت عليهم، فلم يعودوا يرون شيئًا، فهم لذلك يتخبطون، ومما زاد هذه الصورة قتامة، هو ما ذكره الله من حالهم؛ حيث قال:{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} (البقرة: 18) صم لا يسمعون الحق، وبكم لا ينطقون بما ينجيهم من عذاب الله، وعمي لا يرون طريق الله، مع أنه واضح لا شبهة فيه، فهم لذلك لا يتوبون، ولا يتذكرون، إلى أن يموتوا، فبئس ما هم فيه وما صاروا إليه.
وقد أوضح هذا المثل ابن مسعود وغيره من الصحابة والتابعين، يقول ابن مسعود وناس من الصحابة: "قيل إنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبي الله صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد نارًا، فلما
أضاءت ما حوله من أذى، فأبصره، حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك؛ إذ طفئِت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، فبينما هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر".
ويرى ابن جرير وغيره أنّ هذه الظلمة التي اعترتهم بعد أن كانوا في النور، إنما هي تشبيه لهم بما يصير إليه أمرهم يوم القيامة، فيقول:"هذا مثل ضربه الله للمنافقين، أنّهم كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه".
وقال عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} (البقرة: 17) فهي لا إله إلا الله، أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وآمنوا في الدنيا، وأُنكحوا النساء، وحقنوا دماءهم، حتى إذا ماتوا ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون".
أما المثل الثاني: فهو مثل ضربه الله لأناسٍ من المنافقين، تتقطع قلوبهم ترددًا وشكًّا، فلا يقر لهم قرار، ولا تطمئن إليهم نفس، فانظر إلى روعة هذا المثل الذي ضربه لهؤلاء التعساء البؤساء، وكيف رسم صورة كأنك تراها رأي العين لهم، فأنت ترى أناسًا يسيرون في طريق يريدون أن يصلوا إلى غايتهم، وبينما هم كذلك؛ إذ بسحب السماء قد تجمّعت، وإذا بأمطارها قد هطلت، وإذا بالرعد يدوي بصوته، وبالبرق يلمع بضوئه، وقد وقفوا يرتجفون خوفًا، يحذرون أن تأخذهم صاعقة من هذه الصواعق، فتراهم وقد وضعوا أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، والبرق من شدته يكاد يخطف أبصارهم، كلما لمع
ببريقه مشوا خطوات، وإذا أظلم عليهم وقفوا، وما علموا أن الله محيط بهم، وأنه لو شاء لذهب بسمعهم وأبصارهم، إن الله على كل شيء قدير.
هذا هو المثل الذي ضربه الله لهؤلاء المنافقين في شكِّهم وترددهم، ومطابقة المثل لما هم فيه وعليه واضحة، فهؤلاء القوم جاءوا كغيرهم إلى هذه الدنيا، فنشئوا في بيئة جاهلية تعبد الأصنام والأوثان، وبينما هم كذلك إذ جاءهم رسول كريم ونبي عظيم، هو محمد صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الله الواحد الأحد، ويطلب منهم أن يؤمنوا به وبرسالته وما جاء به، ومعه صلى الله عليه وسلم من قوة الحجة ونصاعة الدليل ما يقنع العقل والقلب، فاستولت أدلة القرآن على عقولهم، وهذا هو البرق الذي يكاد يخطف أبصارهم، ولكنهم ينتكسون ويرجعون ويتوقفون ويعودون إلى الكفر، وهذا هو قوله:{يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (البقرة: 19).
أما قوله: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} (البقرة: 20) أي: وقفوا في مكانهم حائرين، فهذا هو القرآن الذي أوحاه الله لنبيه، شبّهه الله بالمطر والغيث الذي يحيي به موات القلوب، كما تحيي الأمطار الأرض الميتة بإذن ربها، فيه وعد ووعيد، وترغيب وترهيب، وهذه هي ظلماته ورعده وبرقه، يسمع المنافقون آياته تبرق تحذيرًا وتخويفًا، وتهجر بيانًا وحججًا، فينصرفون عن ذلك، ومثالهم كمن {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} .
وفي المثل يمتزج الممثَّل بالممثَّل به، مع الوعيد والتهديد الذي تراه في ختام الآيتين، {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة: 19، 20).
وفي مقام إثبات توحيد الله وما يكون عليه حال من أشرك به، يضرب الله الأمثال في كتابه، فيقول:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} (البقرة: 26) إلى آخر الآيات، فإن الله لما ذكر في كتابه الذباب والعنكبوت، فقال:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج: 73) وقال: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41).
قال المشركون: ما بال العنكبوت والذباب يذكران، فأنزل الله ردًّا عليهم:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} (البقرة: 26) فهو -جلّ وعلا- خالق هذه المخلوقات، وكم فيها من دلائل قدرته، ولكن لها من الصفات ما يجعلها مثلًا يُضرَب في الضعف والقلة، فذكر الله حال الأصنام في عجزها وضعفها، وأن هذه الأصنام لا تستطيع أن تخلق ذبابًا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئًا لا يستنقذوه منه، مع شدة ضعف الذباب، ومع ذلك لا تستطيع هذه الآلهة المدّعاة أن تسترد ما أخذه الذباب منها، وما ذلك إلّا لأنها أحجار لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، فكيف تكون آلهة تعبد مع الله أو من دونه.
يقول ربنا في بيان ما عليه هذه الأصنام من عجز وضعف: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ} (الأعراف: 195)
وقريب من هذا ما في قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا} (العنكبوت: 41) فهذا مثل لقلة جدوى عبادة الأصنام، ولعدم نفعها، ولشدة ضعفها، ولو قيل بأنّ اتخاذ هذه الأصنام لتعبد من دون الله لا تفيد من عبدوها شيئًا، لما كان له من الأثر في نفوس السامعين ما تراه في هذا التشبيه وهذا المثل، فقد شبّه ما أقامه المشركون حول أصنامهم من معتقدات جعلتهم يتقربون لها بألوان القربات، ويستشفعون بها عند الله، ويقدمون لها القرابين، بما تصنعه العنكبوت لنفسها من بناء بيت لا يثبت أمام لمسة لامس، أو هبة ريح، ولذلك قال تعالى:{وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} (العنكبوت: 41) فزاد المشركين تجهيلًا على تجهيل، وجاء هذا المثل بهذا البيان الشافي الكافي.
وفي بيان أثر الشرك في المشركين، يضرب الله هذا المثل فيقول:{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} (الحج: 31) فتأمّل معي روعة هذا المثل، وهذه اللوحة الرائعة التي رسمتها كلماته، وأنت تتصور رجلًا كان قد ارتفع إلى أجواز الفضاء، فخانته قواه، فسقط من هذا الارتفاع الشاهق، فتلقفته طيور السماء الجارحة، فتوزّعته إربًا، أو واجهته وهو يهوي إلى الأرض ريح عاصفة، فهوت به وألقته في مكان بعيد بعيد، ولو عُدت للمثل لترى هذه الصورة المنتزعة للمثَّل والممثَّل به لتشكل هذه اللوحة، فستجد أن السماء التي ارتفع إليها هي سماء الإيمان، في سموه ورفعته، وأن الشرك بالله هو الوهن والداء الذي أضعف قوى هذا الرجل، فخارت قواه، فلم يلبث أن سقط من سمائه، والتعبير بقوله:{خَرَّ} يدلك على سرعة وقوة سقوط هذا المشرك، والطير الذي تخطفه هي الشياطين التي توزعته ومزقته، فلم
يهدأ له بال، ولم يطمئن إليه قلب، ولم يقر له قرار، والريح التي ألقت به في مكان سحيق هواه الذي سيطر عليه فعصف به، فأبعده عن الحق وضيائه إلى الكفر وظلمته.
وهذا مثال آخر لما في الشرك من ضياع وخسران، يقول تعالى:{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} (الزمر: 29) وهذه الآية تأتي بعد قوله سبحانه: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} (الزمر: 27، 28).
فانظر بعين بصيرتك إلى هذه الصورة التي أوضحها هذا المثل للمشرك والمؤمن، والمثل منتزع من البيئة التي نزل فيها القرآن؛ حيث كان الرق شائعًا في أنحاء الأرض، إلى أن أشرق الإسلام على دنيا الناس، فاتخذ من الوسائل ما أدَّى إلى إغلاق هذا الباب، والقضاء على الرق، ليبقى الناس جميعًا أحرارًا، وكان هناك من يكون له عبد خالص لخدمته، يقوم بأمر سيده، وسيده قائم بأمره، وهناك من يشتري مع غيره عبدًا ليخدمهم جميعًا، وهذا العبد يبذل قصارى جهده في خدمة سادته، ولكنه لا يستطيع إرضاءهم جميعًا، وإذا أراد طعامًا أو شرابًا أو شيئًا، لا يدري من المسئول عنه في هؤلاء السادة.
وقد ضرب الله الأوّل مثلًا للعابد للإله الواحد الأحد، فوجهته واحدة، يطلب منها ما يطلب من خيري الدنيا والآخرة، فهو لذلك مطمئن سعيد {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (الرعد: 28) كما ضرب الثاني مثلًا للمشرك، يعبد عدة آلهة، فيجتهد في عبادتها، ولكنه لا يرضي أحدًا من هؤلاء الآلهة، كما أنه لا يدري ممن يطلب حاجته، بل إن هذه المعبودات
لا تدري عن عابديها شيئًا، إنها أحجار صماء، صنعها هؤلاء الجاهلون بأيديهم، ثم نصبوها وعبدوها.
وهذا مثل آخر لِمَا عليه الكفار من عمى وجهل، يذكره الله تعالى بعدما ذكر حال المشركين في رفضهم لدعوة الحق، لا لشيء إلّا اتباع ما كان عليه آباؤهم، يقول ربنا:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة: 170) وكما قال في آبائهم بأنهم لا يعقلون شيئًا، أيّ شيء نافع، ولا يهتدون لطرق السداد والرشاد، قال فيهم:{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171).
والمثل ينقلك إلى صورة واقعية في مجتمع تقوم فيه الحياة على الرعي، فترى أن القطيع من الأنعام إبلًا أو بقرًا أو غنمًا، يسوقه راعيه بعصاه، ومن في القطيع من هذه الأنعام لا يفهم لغة، إنما يسمع صوتًا يناديه بالسير أو التوقف أو الورود لموضع المياه أو الكلأ، ولكن هذه الأنعام لا تفهم ولا تعقل، والقرآن يأخذ هذه الصورة التي يشاهدها العربي في بيئته، ويراها الناس في كل زمان ومكان، ليشبه بها هؤلاء المشركين في انقيادهم لقادة الكفر والضلال، وأنّ هؤلاء المشركين ينصرفون بتوجيهات هؤلاء القادة دون عقل أو تدبر، انصراف الأنعام السائمة في حركاتها دون فهم أو وعي.
وقد روي عن ابن عباس أن قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} (البقرة: 170) الآية. "نزلت في طائفة من اليهود، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فقالوا:{بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا} (البقرة: 170) ثم ضرب لهم مثلًا لما هم فيه من الغي والضلال والجهل، بالدواب السارحة التي لا تفقه ما يقال لها، بل إذا نَعَق
بها راعيها -أي دعاها إلى ما يرشدها- لا تفقه ما يقول ولا تفهمه، بل إنما تسمع صوته فقط.
وفي عدم فهم ووعي اليهود نجد عدة أمثلة، منها ما يدل على قسوة قلوبهم وعدم انصياعها للحق، وفي ذلك يقول الله تعالى:{ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 74).
وهذه الآية تأتي بعد ما ذكر الله من عناد بني إسرائيل ومماحكاتهم في البقرة التي طلب موسى عليه السلام منهم أن يذبحوها، وأن يأخذوا منها عضوًا يضربون به رجلًا قتل، ولم يعرف من قتله، وذكر الله أنه حين يُضرَب بهذا العضو سوف تعود له الحياة، ويخبر عمّن قتله، فأخذوا يسألون موسى عن هذه البقرة ومواصفاتها، وبعد جهد وعناء جاءوا ببقرة، وفعلوا ما أمرهم به نبيهم، {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} ، يقول تعالى:{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (البقرة: 72، 73) ثم يقول: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} (البقرة: 74).
وكان على مَنْ رأى هذه الآية العظيمة على قدرة الله على البعث، أن يزداد إيمانًا، وأن يأخذ العدة للقاء ربه، ولكنّ اليهود تولوا عن ربهم، وغيروا معالم دينهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا النبيين بغير الحق، ولهذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباءوا بغضب من الله، وقد ضرب الله مثلًا لقسوة قلوبهم بالحجارة، بل ذكر أنّ قلوبهم أشد قسوة من الحجارة؛ لأن الحجارة جزء من هذا الكون المسبح لله، قال تعالى:
{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} (الإسراء: 44) ومن المعلوم أنّ الحصى سُمِعَ تسبيحه في يد المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الجذع حنَّ إليه عليه الصلاة والسلام.
وقال عليه الصلاة والسلام في جبل أحد: ((أحد جبل يحبنا ونحبه))، ولذلك ذكر في الآية ما عليه الحجارة من انقياد لأمر الله فقال:{وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} (البقرة: 74) ثم قال مهددًا ومتوعدًا: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة: 85).
وهذا مثال آخر لعدم فهم اليهود، يقول فيه ربنا:{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5) فقد شبههم بالحمار الذي يحمل الكتب من مكان إلى مكان، فهل يدرك الحمار شيئًا مما في هذه الكتب التي على ظهره، وهذا هو حال اليهود، كلفهم الله بالعمل بما في التوراة، وكم في التوراة من هدى ومن نور، فقرءوها وعلموا ما فيها، ولما رأوا أنها تقف في وجه شهواتهم وتمنعهم من أكل الحرام، غيروا فيها وبدلوا وحرفوها وكتموا منها ما يتعارض مع مصالحهم، فلم يستفيدوا منها شيئًا، شأن الحمار الذي يحمل على ظهره الأسفار، وما أشنعه من مَثَل، ولذلك قال تعالى:{بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (الجمعة: 5).
وهذا رجل من اليهود، باع دينه بدنياه، فضرب الله له مثلًا شنيعًا؛ إذ شبهه بالكلب، إن تحمل عليه يلهث، وإن تتركه يلهث، فقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (الأعراف: 174 - 178).
وهذا الرجل كما روي عن ابن مسعود: هو بلعم أو بلعام بن باعوراء، من بني إسرائيل، وقال مالك بن دينار:"كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدّمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله، فأقطعه، أي خصص له أرضًا، وأعطاه -أي: مالًا- فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام".
فانظر إلى تعبير القرآن عن ترك بلعام لدينه وأنت تقرأ: {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} أي: خرج من آيات الله ودينه بالكلية، فتسلّط عليه الشيطان، فكان من الغاوين، يقول ربنا:{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} (الأعراف: 176) أي بهذه الآيات، فلم يخضع لكيد الشيطان، ولم يستطع الشيطان أن يصل إليه؛ لأن الله قال منذ فجر الخليقة:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (الحجر: 42)، ولكن بلعام أخلد إلى الأرض واتبع هواه، فمال إلى الدنيا والمتاع، ولم ينظر إلى أعلى، إنما انكبَّ على شهواته وأطماعه، فهو متشبث بالأرض، لا يلتفت إلى سواها، وقد شبهه الله بالكلب اللاهث، الذي يندلع لسانه من العطش عند شدة العَدْو أو شدة الحر.
يقول الإمام الفخر الرازي: "واعلم أن هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلاب، وإنما وقع بالكلب اللاهث، وأخس الحيوانات هو الكلب، وأخس الكلاب هو الكلب اللاهث، فمن آتاه الله العلم والدين فمال إلى الدنيا وأخلد إلى الأرض، كان مشبهًا بأخسّ الحيوانات، وهو الكلب اللاهث".