الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثالث عشر
(قصة صاحب الجنتين)
موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فمن هو صاحب الجنتين؟ وماذا كان من أمره؟ وكيف كانت بدايته ونهايته؟:
قبل أن نجيب عن هذه التساؤلات، هيا لنعرف موقع هذه القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها، ففي ذلك ما يكشف سر ذكر الله لها في هذا الموضع من السورة، في الآيات السابقة يقرر الله قيمة عالية من قيم الإيمان قولًا وفعلًا وسلوكًا؛ لتكون هذه القيمة منارة يهتدي بها أهل الإسلام، بل منهجًا لا تصعد الإنسانية لغيره.
هذه القيمة هي الإيمان الذي يتمثل في إنسان مؤمن، بكل ما يتطلبه الإيمان من الكمالات، وما يعنيه هذا الإيمان في الإنسان المؤمن، بالنسبة لما يمتلكه الآخرون من متاع ومال، وما يتبع ذلك من رياش وفراش، وكلمة مسموعة ومكانة مرموقة، إن الإيمان والإنسان المؤمن هو الذي تصلح به الحياة، وهل تصلح الحياة بغير المساواة والعدالة والتواضع والحياء والخلق الكريم، وهي وأمثالها روافد الإيمان ومظهره المشرق في محيا أهل الإيمان، وهل يمكن أن تنتظم حياة الناس بالعنصرية والعصبية، والتعالي والتفاخر بالأحساب والأنساب والأموال والأولاد، وبخس الآخرين حقهم، في حياة كريمة يشعرون فيها بآدميتهم.
الآيات التي جاءت بعد قصة أصحاب الكهف تحمل هذه المعاني في وضوح، فبعد أن ختم الله قصة أصحاب الكهف بتقرير ما اتصف به من العلم بغيب السموات والأرض، وأنه السميع البصير {أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (الكهف: 26).
وأن من أشركوا به لا ناصر لهم من الله ولا معين، وأن الحكم في هذه الحياة
وغيرها له وحده، ولا يشرك في حكمه أحدًا، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يواصل تلاوته لما أوحاه إليه من كتاب ربه، إذ لا مبدل لكلماته، ولن تجد من دونه ناصرًا ولا وليًّا إن أنت بدلت كلماته، وفي هذا إشعار بحرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على تبليغ وحي الله دون تحريف أو تبديل.
وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه الرسالة وأدى الأمانة، فوصل إلينا هذا القرآن محفوظًا بحفظ الله، ومن جملة الأسباب التي أدت إلى حفظه اختيار الله لأناس حببهم فيه، واصطفاهم لصحبة نبيه، فكانوا نور الحياة وبهجتها، وحملة كتاب الله وقراءه، وهؤلاء هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أغنياء الصحابة كأبي بكر وعثمان وابن عوف وغيرهم، ومنهم الفقراء كابن مسعود وبلال والكثير من الصحابة من العبيد والموالي، ومن لا مال لهم، وكلا الفريقين من الأغنياء والفقراء سواء في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم تجمعهم أخوة الإيمان، ويضمهم هدف واحد هو نصرة هذا الدين، والعمل على حفظ كتاب الله ونشر مبادئه.
لكن المشركين لهم مقاييس مختلفة، فمقاييسهم قائمة على أساس من المال والجاه، فأصحاب المال والجاه أهل الحظوة والقرب والفضل والمكانة، قولهم مسموع وكلمتهم مطاعة، وغيرهم من الفقراء ومن لا مال لهم ولا جاه خدم لهم وعبيد لإحسانهم، ومكانهم خلف الصفوف، ولا يحق لهم أن يجلسوا في مجلس الأثرياء وأصحاب الأموال، وبهذه المقاييس الخاطئة حكموا على أقدار الناس ومنزلتهم، فكانت العنصرية البغيضة سببًا للفرقة وبابًا للأحقاد والبغض، وما بهذا كما قلنا تستقيم حياة الناس، ولا بهذا تنهض الأمم والشعوب.
وانطلاقًا من هذا الفهم لأقدار الناس ومكانتهم، طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهم مجلسًا يجلسون فيه معه، لا يجلس فيه أحد من هؤلاء الفقراء من
الصحابة؛ إذ لا يليق بسادة القوم أن يجلس معهم هؤلاء الضعاف والفقراء، مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل الوحي يرسي حقيقة الحياة بين الناس، ويبين أن القيمة الحقيقية للرجال في إيمانهم لا في أموالهم، ولا فيما ملكت أيديهم، وأن الإسلام ليس في حاجة إلى متكبرين ومتجبرين، يظنون أن قيمة الإنسان فيما يملك من حطام الدنيا، لا فيما استقر في وجدانه من معرفة الله، والعمل بكتابه وسنة نبيه.
فهذا الحق الذي جاء به الوحي أبلج، فيه الرشد والفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة، وقد أعطى الله الإنسان حرية الاختيار فيما يمكن الاختيار فيه، ومن ذلك اختياره للكفر والإيمان والحق والباطل والهدى والضلال، فأيهما يختار، لكن فليعلم أنه محاسب على اختياره، ولما كان المقام مقام إنذار وتخويف من الكفر وعاقبته، ذكر عاقبة من كفر أولًا، وسمى من كفر ظالمًا، وبيّن ما ينتظر هذا الظالم من سوء العذاب، فقال:{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} .
ثم ثنى بذكر جزاء من اختار الهدى ودين الحق، فقال:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} إلى قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا} .
وتأكيدًا لهذه الحقائق وتوضيحًا لها في صورة شاخصة، أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يضرب للمشركين وغيرهم مثلًا من واقع الحياة، يبين عاقبة من غره ماله وأعماه سلطانه، ولم يستجب لنصح الناصحين، ويذكر المثل اعتزاز المؤمن بدينه، واستعلاءه على ملذات الحياة وبهجتها بإيمانه.
لو تأملتم فيما استمعتم إليه من الآيات، لوجدتم أن القصة سارت في أشواطها دون أن تشعرك بالانتقال من شوط إلى شوط، أو فصل إلى فصل، إنما تنساب أحداثها حتى تختم
بنتيجتها: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا} وتأتي الدروس التابعة والنابعة منها في آيتين في قوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (الكهف: 45) الآية وما بعدها.
والشوط الأول يبدأ من: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} (الكهف: 32) إلى قوله: {وَأَعَزُّ نَفَرًا} (الكهف: 34) فيصور لنا الجنتين هذا التصوير الرائع، والشوط الثاني من قوله:{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} (الكهف: 35) إلى قوله: {مُنْقَلَبًا} (الكهف: 36) ليرسم لنا صورة لهذا الرجل المغرور المعجب بماله وجنتيه. أما الشوط الثالث فيبدأ من قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} (الكهف: 37) إلى قوله: {فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا} (الكهف: 41) فيذكر فيه المولى سبحانه وتعالى ما دار من حوار بين هذا الرجل المتكبر وصاحبه الفقير، وما كان من نصح هذا الفقير لذلك الغني الجاحد، وفي الشوط الرابع والذي يبدأ من:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} (الكهف: 42) إلى نهاية القصة، بيان لما انتهى إليه أمر هذا الرجل وجنتيه، وما في ذلك من الدروس النافعة والعظات البالغة.
ولكم تقف مشدوهًا تستولي آيات القرآن في القصة على أحاسيسك ومشاعرك، وأنت تتأمل أحداثها وكيف ساقها القرآن، فجلى هذه الأحداث، وانتقل بك من حدث إلى حدث كما قلنا في سلاسة ويسر، وبقي القرآن في آياته تمثل كل ثلاث آيات منه معجزة، يتحدى الله بها الثقلين:{قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء: 88).
فكم هناك من معجزات، وعلى عادة القرآن في قصصه لا يذكر أسماء، ولا يهتم بمكان القصة وأين جرت أحداثها، لا يذكر مِن هذا وذاك إلا ما دعت إليه الضرورة، وكان في ذكره