الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس العشرون
(دعوة نوح عليه السلام
التعريف بنوح عليه السلام ودعوته
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
نقف بإذن الله تعالى على نماذج من دعوة الرسل: نبدؤها بنوح عليه السلام:
من هو نوح؟ وفي أي عصر بعثه الله لقومه؟:
لعلكم تلحظون معي في سياق القرآن لقصص أنبيائه ورسله، أنه لم يذكر نَسَب أحد منهم أو تاريخ رسالته، إنما يسمي الأنبياء بأسمائهم، ولم يذكر إلّا يحيى وذكر أباه زكريا، على أن ذلك آية من آيات الله؛ إذ رزق بيحيى على الكبر بعد أن وهن منه العظم واشتعل الرأس شيبًا، ووصلت امرأته إلى سنِّ اليأس، ولذلك لما بشرها لله بيحيى قال:{رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتْ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} (مريم: 8)، وذكر القرآن عيسى وأنه ابن مريم، وهو بذلك آية من آيات الله، ولذلك لما بشّرها الله به قالت:{أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا} (مريم: 20، 21).
وإبراهيم ذكَر القرآن أن أباه آزر، وأيضًا ذكر إسماعيل وأن أباه إبراهيم عليهما السلام، فذكر نسب الأنبياء ليس من أغراض القرآن، إنما المقصود هو موطن العبرة في دعوته، وماذا فيها من معالم الهداية، وماذا كان من أمر هذا الرسول وأمر قومه.
فقد ذكر المؤرخون ومن يكتبون في قصص الأنبياء نسب هؤلاء الأنبياء وأين كانت دعوتهم، فذكر ابن كثير في قصص الأنبياء أنّ نوحًا هو نوح بن لامك بن متوشلخ بن خنوخ -وهو إدريس- بن يرد بن مهلاييل بن قنين بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر عليه السلام، وقد أرسله لقومه بعد أن تغيّرت معالم الحق،
وضلّ الناس طريق العبادة، وهذا شأن الله مع خلقه، لا يتركهم يتخبطون في دياجير الباطل، إنما يرسل إليهم رسل، وينزل إليهم الكتب، وكلما ذهب رسول وانحرف الناس بعده في فترة تطول أو تقصر، أرسل الله رسولًا آخر، إما على ما أنزل الله على الرسول السابق من كتاب، فيظهر حقائقه ويبين معالمه ويدعو أمته إلى العودة والالتزام بهذا الكتاب، أو ينزل الله على هذا الرسول كتابًا آخر، إلى أن ختمت الرسالات والنبوات بمحمد صلى الله عليه وسلم وختمت الكتب المنزلة بالقرآن الكريم.
فما هي المدة التي انقضت من آدم إلى أن بعث الله نوحًا، وفيها انطمست المعالم وعبِدَت الأصنام، ذكر ابن جرير الطبري أنّ مولد نوح كان بعد وفاة آدم بمائة وستة وعشرين عامًا، وأنه بعِثَ وهو ابن ثلاثمائة وخمسين، وقيل غير ذلك، وأنه عاش بعد الطوفان ثلاثمائة وخمسين، وقيل: إن مدة عمره ألف سنة إلّا خمسين عامًا قبل البعثة وبعدها وبعد الغرق، يقول ابن كثير: فالله أعلم.
وهذه المدة التي ذكرها ابن جرير قد يكون الأصح منها ما رواه ابن حبان وصححه، من حديث أبي أمامة:((أن رجلًا قال: أنبي كان آدم؟ قال: نعم)) وفي رواية: ((نعم نبي مكلّم)) أي: أن الله كان يكلمه، قال:((فكم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون)).
وأقرب ما قيل في مدة وعمر نوح ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "بعث نوح وهو لأربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا، وعاش بعد الطوفان ستين عامًا حتى كثروا وفشوا، والمدة المحققة التي لا شك فيها، هي مدة بعثته والتي وردت في قول الله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} (العنكبوت: 14، 15).
أما ما قبل ذلك وما بعده ففيه هذا الخلاف الذي تراه، وموطن العبرة هو الذي يقصده القرآن، وذلك يتحقّق بذكر مدة بعثته، وأنها هذه القرون المتطاولة، ومع ما بذل نوح في دعوته من جهود، إلّا أن عدد المؤمنين به لم يتجاوز عدّ الأصابع، قال تعالى:{وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} (هود: 40) وكم في ذلك من تسلية وتسرية وتطمين لقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي آمن به مع قلة عدد السنوات التي أمضاها في مكة، إلى أن نزلت عليه سورة "العنكبوت" التي منها هذه الآية، بل إن منها من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم في سنوات معدودات، يصل إلى أضعاف من آمن بنوح عليه السلام.
ودرسنا ليس في نوح واسمه وعمره وكم لبث في قومه، إنما درسنا في عرض نماذج من دعوته عليه السلام ودعوته قد عرضها القرآن في كثير من آياته، من خلال عرض قصته مطوّلة مفصلة، أو مختصرة، أو عن طريق الإشارة إلى اسمه وحده، مع بعض صفاته، أو في جملة من أوحى الله إليهم، وللقرآن في طريق عرض قصصه بين الطول والقصر والإطناب والإيجاز أسرار تتفق مع الأهداف العالية التي تساق لها آيات السورة، وفي ذلك سر من أسرار إعجاز القرآن.
وقد ذكر اسم نوح في القرآن ثلاثًا وأربعين مرة، وبجمع الآيات التي ورد فيها الاسم نستطيع أن نعرض الكثير من نماذج دعوته، فنرى ما دعا إليه وكيف دعا قومه لذلك، فلنتابع الآيات، أو بعض هذه الآيات، كما جاءت في القرآن الكريم، بدءًا من أول ذكر لنوح إلى آخر مرة ذكر فيها، في سورة سميت باسمه وهي سورة "نوح"، وقد ورد أول ذكر لنوح في القرآن ثناءً عليه في جملة من أثنى عليهم ربنا؛ حيث قال:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران: 33، 34).
وهذا الاصطفاء اختيار من الله لمن ذكرهم -جلّ وعلا- لحكم يعلمها سبحانه، ومن اصطفاهم واستخلصهم من خلقه، أحاطهم برعايته وعنايته، حتى جعلهم أهلًا لحمل رسالته، فكان من أوائلهم بعد آدم نوح عليه السلام، بل إنه أول رسول أرسله الله لأهل الأرض، ولذلك جاء في حديث الشفاعة أن الناس في موقف الحساب يأتون آدم فيقولون: ((يا آدم، أنت أبو البشر؛ خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، وأسكنك الجنة، ألا تشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا؟ فيقول: رب قد غضب غضبًا شديدًا، لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله، ونهاني عن شجرة فعصيت، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبدًا شكورًا، ألا ترى ما نحن فيه، ألا ترى إلى ما بلغنا، ألا تشفع لنا إلى ربك عز وجل؟ فيقول: رب قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولا يغضب بعده مثله، نفسي نفسي
…
))، إلى آخر الحديث الذي رواه البخاري.
وفي سورة "النساء" يذكر الله نوحًا في جملة من أوحى إليهم بوحيه فيقول: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا} (النساء: 163).
والمقصود من الآية: إثبات صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلّغ عن ربه، وأنه ليس بدعًا من الرسل، فتاريخ الإنسانية كما يعلم كل إنسان شاهد بأن الله أرسل رسلًا وأنزل كتبًا، كما قال في هذا الموضع تعقيبًا على ما ذكر من هؤلاء الرسل:{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (النساء: 165)، فكان نوح أول رسول يذكر في سلسلة موكب الأنبياء.
وجاءت الإشارة إليه في قصة إبراهيم في سورة "الأنعام"، في قول الله تعالى:{وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ} (الأنعام: 83، 84) فأشار إلى نوح، وأنّ الله هداه إلى الحق وإلى طريق مستقيم، وعلى طريقه كان إبراهيم وبنوه وذريته، فما أعظمها من شهادة لهؤلاء، وأول حديث عن دعوة نوح نقرؤه في سورة "الأعراف"، وفي ست آيات يلخّص الله ما كان من أمر نوح، وما آل إليه حال قومه.
وتأتي قصته في السورة أوّل قصة لتتوالى بعدها قصص هود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام على اعتبار أنه أوّل الرسل، وقبل هؤلاء جميعًا، ولكنك تلحظ أنّ الحديث عن القصة يأتي مفصولًا عن الآيات السابقة فصلًا بيانيًّا، فيقول ربنا:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (الأعراف: 59)، أما بعد ذلك فترى واو العطف {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} (الأعراف: 65)، {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} (الأعراف: 73)، {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} (الأعراف: 80) {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} (الأعراف: 85)، {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى} (الأعراف: 103)، وكأنه بعد أن ذكر قصة آدم في أول السورة، ونادى أبناء آدم أربع مرات، وبَيّن أحوال أهل الجنة وأهل النار، وذكر قدرته في إرسال الرياح بشرًا بين يدي رحمته، وأن الأرض وهي تستقبل ماء المطر قد تكون أرضًا طيبة يخرج نباتها طيبًا زاكيًا بإذن ربها، وقد تكون أرض سبخة لا يخرج نباتها إلّا ضعيفًا هزيلًا، وهكذا البشر، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيثًا أصاب أرضًا، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان، لا تمسك ماء
ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)) متفق عليه.
بعد أن ذكر هذا كأن سائلًا سأل فقال: هل من أمثلة من الأمم التي أرسل الله لها الأنبياء، فاستجاب لهم من استجاب وكفر بهم من كفر، فقال تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} (هود: 25) فذكر قصته وما بعدها من هذا القصص العظيم، وفي الآيات التي ذكرت ما كان من أمر نوح على وجازتها، تلمح معالم دعوته وإلى ما دعا وكيف دعا، فأنت ترى في التعبير القرآني {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} (المؤمنون: 23) أنّ هذا التعبير يذكَر في عدة مواضع هنا في "الأعراف"، وفي "هود"، وفي "المؤمنون"، وفي "العنكبوت"، وفي "الحديد"، وأخيرًا في مطلع سورة "نوح"، وفي هذا التعبير ترى اللام الموطئة للقسم، وقد، وذلك لتحقيق وقوع ذلك، وفيه أيضًا إسناد الإرسال إلى ضمير المعظم لنفسه: أرسلنا، مما يدل على عظمة المرسِل وهو الله، المتصف بصفات الجلال والكمال.
وهذا أول معلم في معالم الدعوة، ألا وهي الاستناد إلى قوة القوي العزيز، الذي اختار رسله وأرسلهم إلى أممهم، وهذا المعلم يجب أن يكون نورًا هاديًا للدعاة والمرسلين، حين يستعلون بالحق الذي معهم، والسند الذي يركنون إليه، فلا يهون الواحد منهم، ولا يذل، ولا يشعر بالانكسار والدونية، إنما يشعر بالعزة المستمدة من عزة الله، كما قال تعالى:{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر: 10) وكما قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (المنافقون: 8) وقد ذكرت هذا كما تعلمون في صفات الداعية ومسلكه في دعوته.
والآيات هنا وفي كثير من المواضع، تذكر أن نوحًا أرسله الله إلى قومه فقال:{يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) والقوم مَن تستعين بهم من الأهل والعشيرة، ومن يكونون عونًا لك على الزمان وتقلبات الأيام، وفي هذا عدة دروس، منها: طريقة نوح، بل وطريقة الأنبياء في الدعوة إلى الله، بالتودد لهم، واستجاشة مشاعرهم، وتذكيرهم بحق القرابة، وما تفرضه من تناصر، وفي خذلان من يدعوهم إلى الخير ويرشدهم إلى ما فيه سعادتهم غصة وألم، كما قال الشاعر:
وظلم ذوي القربى أشد غضاضة
…
على النفس من وقع الحسام المهند
ولذلك جأر رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم إلى ربه، يشكو له هجر قومه للقرآن فقال ما ذكره الله تعالى:{وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَب إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} (الفرقان: 30).
ومن هذه الدروس: أن كل نبي كان يرسل إلى قومه خاصة، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، ولهذا تلمح أن القرآن إذا ما تحدث عن الأنبياء غير محمد يقول: بأنه أرسل فلانًا الرسول إلى قومه، أما محمد فيقول فيه:{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} فهو مبعوث فيهم إلى الناس جميعًا كما ذكر الله ذلك في عدة مواضع؛ ومنها قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158) وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (سبأ: 28) وهذه أول ما وجهه إلى قومه فقال: {يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} (الأعراف: 59) فترى أنه بادر بتبليغ رسالة ربه كما تدل على ذلك الفاء في قوله: "فقال"، وناداهم مذكرًا لهم بما بينه وبينهم من أواصر القربى ووشائج المحبة التي جعلته يحرص على إنقاذهم من عذاب الله، وعلى إرشادهم لطريق الله، فأمرهم بعبادة الله، وذكر لهم على سبيل الحصر بأنهم لا إله
لهم غير الله، وعبادة الله التي أمرهم بها إفراده بالطاعة والمحبة والولاء والتعلق والخضوع، مما يقتضي التذلل في محرابه، والإقبال على طاعته، والالتزام بشريعته، والاقتداء بأنبيائه ورسله.
وقد قدم نوح كغيره من الأنبياء هذه الدعوة مشفوعة بدليلها، ودليلها في قوله لهم:{مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} ؛ لأن غيره لا يصلح أن يكون إلهًا، فالإله كلمة مأخوذة من وَلِهَ إذا تحير، والوله استيلاء الحب على قلب المحب وعقله وفؤاده، أو الإله من أله إلى فلان، أي: سكن إليه واطمأن، أو من أله إليه إذا فزع من أمر نزل به، وآلهه غيرهم إذا أجارهم، فهل تستطيع ذلك أصنامهم التي يعبدونها من دون الله، وهي أحجار نحتوها بأيديهم وناصبوها واعتقدوا أنها وسائط تقربهم إلى الله زلفى، فلو تأملوا أدنى تأمل لعلموا أن الخالق الرازق، المحيي المميت، من بيده ملكوت السموات والأرض، هو الإله المستحق للعبادة دون غيره، وهو الإله الذي يجدر أن تتعلق به القلوب، وأن تسكن إليه وتطمئن، ومن يجيب المضطر إذا دعاه.
ومن العجيب أنهم يعلمون ذلك ولا ينكرون ربوبيته، فهو ربهم، ولكنهم يرفضون ألوهيته فلا يتألهون له، إنما يتجهون بعبادتهم وحياتهم إلى غير الإله الحق، وهذا الذي بدأ به نوح دعوته هو الأساس الذي يشاد عليه البناء، وهو البداية التي تؤدي إلى حياة كريمة في الدنيا والآخرة، ولذلك أتى كل نبي ورسول يرُدّ أمته إلى هذا الطريق، ويدعوهم إلى عبادة الله وحده، كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء: 25) فهو اعتقاد يترتب عليه عمل، اعتقاد في الله ربًّا وإلهًا، وعمل يتمثل في العبودية لله.
يقول ابن القيم: "فاعلم أن سرَّ العبادة وغايتها وحكمتها إنما يطلع عليها من عرف صفات الرب عز وجل ولم يعطلها، وعرف معنى الإلهية وحقيقتها، ومعنى كونه إلهًا، بل هو الإله الحق، وكل إله سواه فباطل، بل أبطلُ الباطل، وأن حقيقة الإلهية لا تنبغي إلا له، وأن العبادة موجب ألوهيته وأثرها ومقتضاها، وارتباطها بها كارتباط متعلق الصفات بالصفات، وكارتباط المعلوم بالعلم، والمقدور بالقدرة، والأصوات بالسمع، والإحسان بالرحمة، والعطاء بالجود.
فتأمل طريقة الأنبياء في الدعوة إلى الله، وكيف يبدءون بالأهم، بل بما لا فائدة لقول أو عمل إلا به، وأن طريقتهم في دعوتهم تقوم على الدليل، الذي يحاصر العقل فلا يجد له مناصًا إلّا أن يسلّم به ويستسلم، ولا يرفض ذلك إلّا من لا عقل له، ولذلك ترى القرآن حين يعرض أدلته، ويذكر إعراض المشركين عنها يقول:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} (الحشر: 14) أو يقول: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} (البقرة: 171) أو يقول: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} (الأعراف: 179)، ويقول:{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ} (الأنفال: 22) ويقول: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} (الفرقان: 43، 44).
والأمر الثاني الذي دعا إليه نوح عليه السلام هو الإيمان باليوم الآخر، وله في الدعوة إلى ذلك طريقة فذة، هي طريقة أنبياء الله ورسله في إيقاظ العقل والقلب والمشاعر؛ لتؤمن بالبعث بعد الموت، وما يسبق البعث من لحظات الانتقال من الدنيا، والانتقال للقبر وما يكون فيه، ثم ما يكون في البعث من حشر للمخلوقات،
وميزان وسؤال وصراط وجنة ونار، ترون طريقة نوح في ذلك في قوله لقومه:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 135) فدعاهم إلى العبودية لله وألا يتخذوا من دونه آلهة، وخوفهم من عذاب الله يوم القيامة بما أعده الله للمشركين، فأثبت بذلك الإيمان بيوم البعث والحساب، وساق ذلك في أسلوب الحريص عليهم، الذي يخاف على قومه من سوء الحساب.
وإذا كان الإنسان إذا ما نزل ظلم بأحبابه من الأهل والعشيرة يحزن لذلك ويتألم، ويبذل قصارى جهده في دفع هذا الضر، مع أنه ضرر في أمر من أمور الدنيا من صحة أو مال أو ولد، وهذه قد تمر بالصبر عليها ولا يترتب عليها كبير ضرر، حتى لو كان الضرر كبيرًا فهو إلى نهاية، أما أن يعبر الإنسان قنطرة الحياة، ويرد على الكبير المتعال مشركًا به، لا يؤمن بهذا اللقاء، فإن خسارته لا عوض عنها، قال تعالى:{قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} (الأنعام: 31)، وقال:{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (يونس: 45).
والآيات في ذلك كثيرة،
وفي مقام تخويفهم يذكر نوح أنّ عذاب هذا اليوم عظيم، وكلمة اليوم في هذا السياق تعني الزمن المتطاول، الذي يكون فيه إحياء الناس من قبورهم، وما يحدث بعد ذلك حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، ولكنه مع طوله يوم وأيّ يوم، وقد خوفهم نوح بعِظَم هذا اليوم، ولو تأملت لرأيت أن هذا العظم إنما هو للعذاب، لا لليوم الذي فيه العذاب، فهذا من باب المبالغة، وكأنّ العذاب قد انتقلت شدته وعظم ما فيه من الأهوال إلى اليوم نفسه، فإذا أضفت إلى هذا ما تعنيه حروف العين والظاء والميم، من بلوغ الأمر إلى منتهاه، وأضفت إليه وضع هذه الحروف في صيغة المبالغة عظيم؛ لاستطعت أن تتخيل مدى قوة هذا العذاب وهوله.
والمقام لا يتسع لأعرض عليكم، ولنتذاكر معًا ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما أعده الله للكافرين من ألوان العذاب النفسي والبدني، من أول لحظات مفارقتهم للدنيا وملائكة العذاب يقبضون أرواحهم يضربون وجوههم وأدبارهم ويقولون لهم:{أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} (الأنعام: 93) إلى أن يلقوا في السعير؛ حينذاك يسمعون لها تغيظًا وزفيرًا {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا} (الفرقان: 13)، فيأتيهم الرد الذي يحمل السخرية والتأنيب، لتزداد حسراتهم فيقال لهم:{لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} (الفرقان: 14)، فقول نوح لقومه:{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (الشعراء: 135) أسلوب في الدعوة عظيم، فيه نظرة من يرى بنور الله، ومن يحمل رسالة الخير لقومه، ومن يعلم أن الخسارة في الآخرة هي الخسارة الحقة، وأن العذاب فيها لا يعدله عذاب.