الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (الأحزاب: 33)، قال تعالى لنوح عليه السلام:{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ} (هود: 40).
وقال أعز من قائل في لوط عليه السلام: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امرأتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} (هود: 81)، وقال سبحانه لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم:{وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} (طه: 132).
فإذا كنا نريد أن نتحدث عن نظام الأسرة في القرآن وما شرع الله لها في كتابه مما يضمن سعادتها وبقاءها، فإننا نستطيع ذلك من خلال الآيات التي وردت فيها كلمة الزوج والزوجة، والأب والأم، والوالدين، والأقارب على اختلاف درجاتهم من الأبناء والإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، ولكن هذا يحتاج إلى مؤلفات تبيِّن هداية القرآن في كل هذه العلاقات الثلاث، والمكتبة القرآنية عامرة بهذا الفيض بحمد الله.
الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية
ما هي الأسس التي بنا عليها الإسلام، وبنى عليها القرآن هذه العلاقة؟
الأساس الأول: يتمثَّل في هذا الإنسان الذي تربى في أحضان دين الله فأضحى هو الإنسان بالإنسان ينبض وجدانه وقلبه وكيانه إيمانًا بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا، ويتحرك أو يسكن وفق منهج الاستسلام لله والرضا به {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 162، 163). فكل خُلُق جميل، وكل قول
وكل فعل يشع نورًا من محيَّ الإنسان المسلم، وهذا الإنسان هو الذي يكوِّن الأسرة المسلمة، وهو الذي أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بتزويجه فقال:((إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، أو وفساد عريض)).
فإذا كان هذا هو الأساس الأول فإن الأساس الثاني يقوم على أن العلاقة التي ستكون بين الرجل والمرأة ليست كالعلاقة التي تقوم بين ذكر وأنثى في عالم الحيوان، والطيور، وما إلى ذلك، وليست لمجرَّد قضاء متعة ينطلق كل منهما لشأنه، فإذا ما كان هناك حملٌ وأبناء تولَّت الدولة القيام على أمرهم؛ ظنًّا منها أن هذا الأسلوب يُمكن أن يوجد أسوياء، وما علم هؤلاء أن الأبناء في عالم الإنسان في حاجة إلى دفء الأمومة ورعاية الأبوة، والتنشئة من خلال الأسرة الممتدة مع الإخوة والأخوات والأقارب والأهل، يقول أبو الأعلى الموجود في كتاب له عنوانه (نظام الحياة في الإسلام): إن البيت هو المؤسسة التي تدرّب فيها كل سلالة أخلافها؛ لتعدهم لتحمل تبعات التمدّن الإنساني العظيمة بغاية من الحب والمواساة والتودد والنصح.
فهذه المؤسسة لا تُهيّئ الأفراد لبقاء التمدن البشر ونموه فحسب، بل هي مؤسسة يودّ أهلها من صميم قلوبهم وأعماق صدورهم أن يخلفهم من هو خيرٌ منهم وأصلح شأنًا، وأقوم سبيلًا؛ فالحقيقة التي لا تُنكر على هذا الوجه أن البيت هو جذر التمدن البشري وأصله، وأنه يتوقف على صحة الجذر وقوته صحة التمدن البشري نفسه وقوته، ومن ثَمَّ نرى أول ما يهتم به الإسلام ويعتني به من وسائل الاجتماع إنما هو أن يقيم مؤسسة البيت، ويقرها على أصح الأسس وأقومها.
ويقول العقاد في (الفلسفة القرآنية): ليست العلاقة بين الرجل والمرأة صفقة تجارية بين شريكين في المعيشة، ولا ضرورة لإسكات صيحات الجسد والاستراحة من غوايته الشيطانية، ولا تسويغ الشهوة بمسوغ الشريعة، ولا هي علاقة عدمها خير من وجودها إذا تأتَّى للرجل أو للمرأة أن يستغني عنها.
أقول: ولكنها قبل هذا وبعده علاقة إنسانية جديرة بالاحترام والتقديس، فهي علاقة بين الزوج والزوجة، وبين الزوجين والأبناء، وبين هؤلاء جميعًا والأبوين، إلا أنها مع هذه العلاقات المتعدَّدة التي تُشكّل حجر الأساس في البناء الاجتماعي، وتشمل الزوجين والأبناء والآباء تبدأ في حقيقتها باجتماع رجل وامرأة في حياة واحدة ذات هدف مشترك، هو إسراء الحياة بمزيد من الحبّ والنسل الصالح.
وهذا هو الأساس الذي وضعه الإسلام لنظام الأسرة في القرآن، والذي يتلخص في أن الزواج علاقة من نوع خاص، علاقة باقية وصحبة دائمة ممتدَّة عبر أيام الحياة وبعد الممات في دار الخلود، ولذلك سمى الزوجة صاحبة فقال:{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} (المعارج: 11 - 14)، وقال:{فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (عبس: 33 - 37).
وقال في إثبات وحدانيته، وأنه ليس له ولد؛ لأنه ليست له زوجة، ومحال أن يكون له زوجة وقد وصفها -جل وعلا- بأنها صاحبة فقال:{بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (الأنعام: 101). فأنت ترى لم يسمِّ أبًا ولا أخًا ولا ابنًا ولا أحدًا بأنه صاحب، إنما سمى الزوجة صاحبة.
أما الأساس الثالث: فهو الإحساس بعمق هذه العلاقة وأصالتها، وأنها علاقة يشعر فيها كل من الزوجين بأنه جزء من الأخر يحنّ إليه وينجذب إليه، فالرجل مهما حصل من مال وجاه، ووفر لنفسه من ألوان المتع المادية لا يستغني عن زوجة صالحة تعينه على أمر دينه ودنياه، وتؤنسه في وحدته، وتُذهب عنه وحشته، وكذلك الفتاة في حاجة إلى زوج تعيش معه أيام العمر، وإن عانت معه مشقات الحياة مع أن أبويها ربما كان على حال من اليسار فغمروها بالمال والمتاع، فليست في حاجة إلى مال ولا إلى متاع، ولكنها في الحقيقة في حاجة إلى شريك العمر تشاركه أيام عمرها، وأيام عمره، وقد جاءت الآيات تذكر أن الله خلق الناس من نفس واحدة، وأنه خلق منها أو جعل منها زوجها ليسكن إليها.
وقد ذكرنا الآية الأولى في سورة "النساء" والتي ينادي فيها ربنا الإنسانية لتئوب إلى واحة التقوى بتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن تلتزم بما ينبني على هذا التوحيد من أخلاق وآداب وعبادات ومعاملات، وما إلى ذلك مما جاءت به شريعة الله، وتوضح الآية سبب استحقاق الله لأن يعبد وحده، فتذكر أنه الخالق للناس وحده، وفي كيفية خلق الناس دليل على قدرته وعلمه وحكمته، وما اتصف به من صفات الجلال والكمال؛ إذ خلق الناس من نفس واحدة هي آدم عليه السلام وقد ذكر في عدة مواضع من القرآن كيف خلق آدم، ومن آدم خلق حواء، خلقها من ضلع آدم الأيسر فوجدها آدم بجانبه، فأنس لها وسكن إليها قال تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} (الأعراف: 189)، وقال:{خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر: 6).
وقال أعز من قائل: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} (النحل: 72)، إلى غير ذلك من الآيات التي تُبرز هذه الحقيقة؛ لتكون معلمًا يهدي السائرين إلى خالقهم، ويرشدهم إلى أن أمرهم كله بيده؛ لأنه هو الذي خلقهم على هذا النحو البارع، فعليهم أن يعبدوه وحده.
كما أن هذه الحقيقة منارة للزوجين، فتعلم الزوجة أنها جزء من زوجها، وهل يستغني الجزء عن أصله، ويعلم الزوج أن زوجه جزء انفصل منه فهو دائمًا يشعر بحاجته إلى أن يعود إليه هذا الجزء، وهذه هي الفطرة التي خلق الله الناس عليها، فمن تنكَّر من الزوجين لصاحبه ولم يشعر بحاجته إليه؛ فقد تنكر لهذه الفطرة. وهذا الذي قرره القرآن أساس مهم في بناء الأسرة في القرآن.
الأساس الرابع: هو أن العلاقة التي تربط بين الزوجين ليست كما قال العقاد: صفقة تجارية يساوم كل منهما الآخر؛ لينال منه أقصى ما يستطيع من أرباح مادية، إنما هي علاقة السكن والمودة والرحمة، والقرآن حين يذكر ذلك يذكره في سياق بيان آياته في خلقه، والتي تُثبت أنه الإله الواحد الأحد، وأنه قادر على بعث خلقهم بعد موتهم يقول عز وجل:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم: 21)، والسكن راحة واطمئنان، والمودة محبة تجمع بين القلوب، والرحمة عطف وحنان ورعاية، وكل من الزوجين يؤدِّي هذا إلى صاحبه دون أن تكون هناك سابق معرفة من قرابة، أو رحم قبل الزواج، فلمَّا تمَّ هذا الارتباط بعقد الزواج كان ما ترى من التجانس والالتقاء والمحبة والرحمة، أليست هذه آية من آيات الله تدعو إلى التفكر في قدرة الله التي تُصرّف القلوب
وفق ما تشاء، وقد قالوا بأن المودة تكون في أيام الشباب، والرحمة في مرحلة الكبر، ولو أن هذه العلاقة كانت قائمة على مجرد استمتاع كل منهما بالآخر، وحاجة كل منهما لقضاء وطره؛ لما بقي بيت قائم، وإلا فماذا يكون عليه حال زوجين كبر سنّ واحد منهما، أو أصيب أحدهما بما يجعله غير قادر على إعطاء الآخر ما يطلبه من متعة الفراش، وكثيرًا ما يحدث فتور في هذا الأمر للانشغال بتربية الأولاد وكثرة مشاكل الحياة، فتبقى المودة التي جمعت بين الزوجين في سنوات الشباب نبراسًا يضيء جوانب الرحمة، ويدعو إليها وفاء لأيام وسنوات عمر خلت، فما أجمل هذا المنهج الرباني، وما أعظمه.
وقارن بين هذا الذي تراه من رعاية كلٍّ من الزوجين لصاحبه في سنوات العجز والكبر والمرض، وما هناك في دول تدَّعي الحضارة والمدنية من ضياع للكبار والمرضى، حتى أنشأت هذه الدول لهؤلاء دُورًا تُعرف بدور المسنين لرعايتهم، فهل تغني رعاية هذه الدور عن رعاية زوج لزوجته، أو زوجة لزوجها، وكل ما في هذه الرعاية من مودة ورحمة، واحترام لإنسانية الإنسان، وصون لكرامته، وهو بين زوجه وأبنائه وأحفاده وإخوته وأخواته، وأهله وعشيرته، وكل منهم حريص على أن يُقدِّم العون، ويواسي بالنظرة والكلمة، وما يستطيع من كل ما يخفّف الألم، ويدخل السعادة والسرور على القلوب.
هذه بعض الأسس التي تقوم عليها الأسرة في القرآن الكريم، فإن بداية تكوين هذه الأسرة يبدأ بالتفكير في الزواج، ومَن هذه التي تصلح لتكون رفيقة ضرب الحياة، وقد وضع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم مؤشرات ترشد من يريد الزواج إلى حسن الاختيار، فقال صلى الله عليه وسلم:((تنكح المرآة لأربع: لمالها، ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين الدين تربت يداك)) وجعل هذا الدين هو الأساس أيضًا
في الموافقة من جانب ولي الفتاة على من يتقدم إلى لخطبة ابنته، ذلكم في الحديث الذي ذكرناه من قبل، رواه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
وهذه المؤشرات التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة من يريد أن يتزوَّج الشاب بها، أو الرجل بها، وهي -كما نرى- لمالها ونسبها وحسبها وجمالها ودينها، فأوصى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتركيز على ذات الدين فقال:((فاظفر بذات الدين تربت يداك)) لكن هذا لا يمنع من أن يختار الإنسان الذي يريد الزواج مَن تتوافر فيها هذه الصفات أو بعضها؛ فالمال قد يكون مطلبًا لبعض الناس لتساعده هذه الزوجة على أعباء الحياة، لكن لا بد أن يكون معلومًا أن النفقة إنما هي على الزوج، وهي عنوان قوامة الرجل على المرأة، كما قال تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء: 34).
ومن المعلوم أنه لا حق للزوج في مال زوجته مهما بلغ هذا المال، إلا أن يكون ذلك عن طريق الرضا، فهذا جائز كما قال ربنا:{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} (النساء: 4)، كما أن الجمال أيضًا مطلب، ومن حق من يريد أن يقترن بفتاة أو امرأة أن يختار ذات الجمال؛ ليكون في هذا ما يُعينه على العفَّة، لكن هذا الأمر أيضًا لا بد أن يكون في حدود المطلوب الذي يؤدِّي إلى غضّ البصر، وألا يكون هو المطلب الأساسي في الموضوع؛ لأن هذا قد يكون فيه ما فيه من الخطر عليه. فلا بد أن يكون هذا الجمال محصنًا بالدين، وإلا كان أمرًا خطيرًا كما هو معلوم.
أما الحسب والنسب فمن شأن الإنسان أن يطلب الأسرة الأصيلة الكريمة التي تشتهر بأدبها وأخلاقها وحسبها ونسبها، لكن يجب ألا يكون هذا المطلب مطلب
من المطالب الأساسية، فقد يختار الرجل فتاة أو امرأة من بيت مغمور فقير، لا جاه له، فيكون في هذا الاختيار، وفي هذه الفتاة، وفي هذه المرأة الخير والبركة، لكن الأساس الذي يجب أن يكون هو المطلب الأساسي الذي يحمي هذه الأشياء، هو الدين؛ فبالدين تطيب الحياة، وفي ظلال الدين يتربَّى الأبناء وتحلو الحياة مع زوجة تعرف حق ربها، فتعرف حق زوجها؛ ليكون من ذلك السعادة في الدنيا وفي الآخرة.
فإذا ما اقتنع الشاب أو الرجل ووجد المرأة الصالحة بادر فتقدم لوليّها؛ لتتم الخطبة، وليتم الزواج بإذن الله تعالى، هذا الذي تقدم إلى وليّ الفتاة كما ذكرنا أيضًا من الواجب على وليّ الفتاة أن يُحسن اختيار من يتقدَّم لخطبة ابنته والزواج منها؛ لأن الإنسان الذي يتزوج من السهل عليه أن يغيِّر وأن يطلق، لكن الفتاة إذا ما ارتبطت كرجل كان من الصعب عليها أن تفارقه، ولهذا كان السلف يعرضون بناتهم على الصالحين؛ لأنهم يبحثون عن أهل الصلاح، ولا حرج في ذلك. فالأساس هو هذا الذي ذكرناه، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يُعلّم أصحابه هذا اقرؤوا في (صحيح البخاري) ما ورد من أنه:((مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع. قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حريّ إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع ألا يشفع، وإن قال أن لا يُستمع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا)) وهذا الذي ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم تقرير لأهل الإسلام بأن الواجب عليهم أن لا يأخذوا الناس بما ظهر منهم، وإنما عليهم أن يبحثوا عن الصلاح فإن وجدوا الرجل صالحًا؛ كان هذا الرجل حريًّا إن خطب أن يُنكح وإن شفع أن يُشفع، وإن قال يستمع لقوله.
وللخطبة -كما أوضح الإسلام- آداب منها أنه لا يجوز أن يخطب على خطبة أخيه، كما ورد من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه قال:((لا يبع حاضر لبادٍ، ولا تناجشوا، ولا يبيع الرجل على يبيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكفأ ما في إنائها))، وحدثنا -هكذا يقول البخاري- مكي بن إبراهيم حدثنا ابن جريج قال: سمعت نافعًا يُحدّث أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يقول: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيع بعضكم على بيع بعض، ولا يخطب الرجل على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله، أو يأذن له الخاطب))، فقد ورد هذا النهي، وهذا التوجيه النبوي في عدة أحاديث، منها ما رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يَخْطِب الرجل على خطبة أخيه، ولا يسوم على سوم أخيه، ولا تُنكح المرأة على عمتها، ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها، ولتنكح -أي: ولتتزوج- فإنما لها ما كتب الله لها))، ومثل هذا الحديث رواه أيضًا البخاري في ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يخطب الرجل على خطبة ولا يسوم على سوم أخيه، ولا تُنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ صحفتها، ولتنكح فإنما لها ما كتب الله لها)).
وروى الإمام الترمذي بسنده عن أبي هريرة قال: قال قتيبة: يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أحمد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه)) قال -أي: الإمام الترمذي-: وفي الباب عن سمرة وابن عمر قال أبو عيسى -أي: الترمذي-: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح. قال مالك بن أنس: إنما معنى كراهية أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، إذا خطب الرجل المرآة فرضيت به؛ فليس لأحد أن يخطب على خطبتها.
قال الشافعي: معنى هذا الحديث ((لا يخطب الرجل على خطبة أخيه)) هذا عندنا إذا خطب الرجل المرأة فرضيت به وركنت إليه؛ فليس لأحد أن يخطب على خطبته.
فأما قبل أن يعلم رضاها أو ركونها إليه فلا بأس أن يخطبها، والحجة في ذلك حديث فاطمة بنت قيس:((حيث جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أن أبا جهل ابن حذيفة ومعاوية بن أبي سفيان خطبها، فقال -أي: رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما أبو جهل فرجل لا يرفع عصاه عن النساء، أي: كثير الضرب إلى النساء، وأما معاوية فصعلوك أي: رجل فقير لا مال له، ولكن انكحي أسامة)) أي: تزوجي أسامة، فمعنى هذا الحديث عندنا -والله أعلم- أن فاطمة لم تخبره برضاها بواحد منهما، ولو أخبرته لم يُشر عليها بغير الذي ذكرت؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال بأنه لا يخطب الرجل على خطبة أخيه. فهذه توجيهات من رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
أيضًا يُشترط أن تكو ن من يريد خطبتها ألا تكون معتدَّة عدَّة رجعية، فقد يراجعها زوجها، ولا في عدة وفاة؛ حفاظًا على حق الأخوة إلا أن يكون ذلك تلميحًا لا تصريحًا في عدة الوفاة، كما قال تعالى:{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (البقرة: 235)
فإذا ما اتضح أنه ليس هناك مانع من الخطبة بدأ كلٌّ من الخاطب والمخطوبة ووليها في البحث عن مدى صلاحية كل منهما للآخر؛ ليكون زوجًا لها، فإذا ما توافرت الشروط، واقتنع كل منهما بالآخر تمت الخطبة، وهي طلب والتماس من خاطب من وليّ الفتاة يطلب منه أن يزوجه ابنته،
وهذه الخطبة مشروعة لمن أراد الزواج، وهي في الحقيقة من الأمور المستحبة، ووجه الاستحباب فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها في زواجه من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها؛ حيث خطبها من أبي بكر رضي الله عنه كما خطب عليه الصلاة والسلام أم المؤمنين حفظة رضي الله عنها، فهذا وجه الاستحباب في هذه المسألة، وهي في الحقيقة فترة مهمة؛ لأنها هي الطريق ليتعرَّف كل من الخاطبين على الأخر، إذ تتيح الفرصة لمعرفة أخلاق وطبائع وميول الطرفين، ولكن هذا لا بد أن يكون في حدود ما جاءت به شريعة الإسلام.
والتعدي في هذه المرحلة على حدود الله، والخروج عما جاء به دين الله يؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه، فما هي الأسس والمبادئ والأخلاق التي وضعها ربنا سبحانه وتعالى، وجعلها رسولنا صلى الله عليه وسلم منهجًا للطرفين حتى تتمّ أيام الخطبة فتؤدي إلى النتيجة المرجوة من زواج قائم على هدي الله، وعلى دين الله سبحانه وتعالى.
هناك بعض الجاهلين بدينهم قد يُبيحون لبناتهم الخلوة، وأحاديث لهوًا لتستطيع الفتاة أن تختار عن معرفة بمن تُريد أن ترتبط به برباط الزواج، وقد لا تتم الخطبة فتصل إلى نهايتها، والبعض لا يتورَّع عن ذلك إذا تمت الخطبة، فترى الخاطب يخلو بمخطوبته ويخرج بها، ويسافر هنا وهناك، وقد لا يتمّ الزواج لأمر ما، فيكون الندم والتعاسة والضياع، ولات ساعة مندم؛ فقد حدث ما لا تُحمد عقباه، وبعض أولياء أمور الفتيات يسارعون بعقد الزواج؛ خروجًا من هذا الحرج، وهذا مر جيد لو تم الدخول بعد العقد بوقت قصير، ولكن الدخول قد يتأخَّر لزمن بعيد، لما اعترى المجتمعات الإسلامية من ظروف اقتصادية، وقد تجدّ مشكلات تؤدِّي إلى الانفصال، فماذا تصنع الفتاة، وماذا يصنع أهلها؟ والرجل الذي ارتضوه لابنتهم يُنكره أنه دخل بها، حتى لا يتحمل ما يلزم الزواج من حقوق، وقد تكون حملت منه وهو يُنكر هذا، والعرف قد جرى أن الرجل لا
يدخل بمن عقد عليها إلا في جوّ من الفرج والبهجة والسرور، وإقامة وليمة تُعرف بوليمة العرس يحضرها الأهل والأحباب، فإذا حدث لقاء بين الزوجين قبل هذا الإعلان؛ فهذا أمر مستعجل لما فيه من ضرر بالغ، إذ كيف يكون الحال وقد انتقلت المرأة إلى بيت زوجها وهي حامل فوضعت مولودها بشهور قلائل، وما هو أشد أن يحدث خلاف فيتم الطلاق، وينكر الزوج أنه قد دخل بها؛ لذلك كثيرًا ما أنصح أولياء الأمور بأن يؤخروا عقد الزواج إلى قُبيل الزفاف حتى لا يكون هذا العقد بابًا للوقوع في الكثير من المشاكل. فقد أصبحت بهذا العقد حلالًا له، وقد لا يصبر إلى أن يُعلن دخلوهما، فيحدث ما لا نُحبه وما لا نرضاه.
ومن الآثار المترتبة على هذه الخطبة أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى مخطوبته؛ لأن هذا النظر مما يحببه ويرغّبه في الزواج منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه:((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))، لكن لا بد أن يعلم هذا الخاطب، وأن تعلم المخطوبة، وأن يعلم الجميع أن هذه الفتاة ما زالت أجنبية عن هذا الخاطب، فهي تُعامل كما تُعامل المرأة الأجنبية. بمعنى: أنه لا يجوز له أن يخلو بها، ولا أن يسافر معها، وأن يخرج معها إلا إذا كان هناك محرم، وإذا حدَّثها حدثها في حدود الضوابط الشرعية التي فيها قول الله تعالى:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} (الأحزاب: 32).
وأن هذه المحادثة وهذا الخروج وهذه الخلوة في وجود المحرم إنما تتمّ إذا كان الخاطب عازمًا على خطبته لا لاهيًا ولا عابثًا، فهذه مسألة شاعت في هذا الزمان في بعض الشباب يُريد المتعة، وأن يحقق رغبة، وليس عازمًا على الزواج.
يبقى في مسألة الزواج أمر على جانب كبير من الأهمية، وهو التعرف على المخطوبة عن طريق الوسائل الحديثة، ومن ذلك مثلًا النظر إلى الصورة
الفوتوغرافية للمخطوبة، يجوز للخاطب أن ينظر للصورة الفوتوغرافية للمخطوبة؛ بشرط أن تكون الصورة لا تُظهر إلا الوجه والكفين؛ لأن هذا سوف يدخل في توجيه النبي صلى الله عليه وسلم:((إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلي ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل)).
لكن لا بد أن ننبّه إلى أن هذه الصورة يمكن أن تنتقل إلى عدد كبير من الأشخاص، فالأمر لا يقتصر على الخاطب إنما سوف يرى هذه الصورة أمه وأخته وخالته وعمته وغيرهم من الرجال، وفي هذا -كما ترى- ضررٌ كبير للمخطوبة وأسرتها، وهناك أمر آخر وهو ما يكون محادثة بين المخطوبة وخطيبها، وهذه مسألة لا بد أن نعرف ما فيها من خطر، ولنبتعد عن هذا الخطر، لا بد أن تكون المحادثة جادة، وتؤدِّي إلى المقصود، وأن تكون بعلم وليّ الفتاة، بل وبحضور واحد منهم أثناء المحادثة، ومن الواضح أن المحادثة التي تكون بعيدة عن معرفة الأهل، وعلمهم تجلب الشك والظنون، كما أن الشيطان قد يلعب، وقد يتلاعب بعقول الخاطب ومخطوبته؛ فيؤدّي إلى ما لا تُحمد عقباه، لذلك لا بد أن نكون على بينة من أمرنا.
هذه هي بعض الأمور المتعلقة بالخطبة وما فيها من آداب، وما جاء فيها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا ما تمَّت هذه الخطبة، واقتنع كل من الطرفين بصاحبه، بدأت إجراءات عقد الزواج.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدَا وعلى آله وصحبه وسلم.