المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر - التفسير الموضوعي ٢ - جامعة المدينة

[جامعة المدينة العالمية]

فهرس الكتاب

- ‌الدرس: 1 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من خلال الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌التعريف بالتفسير الموضوعي

- ‌الأخلاق في القرآن الكريم

- ‌الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

- ‌الدرس: 2 مفهوم العلة

- ‌الصفح" و"العفو" في معاجم اللغة

- ‌كلمة الصفح في القرآن الكريم

- ‌العفو في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 3 الإحسان إلى الوالدين

- ‌معنى كلمتي الإحسان والبر

- ‌الإحسان إلى الوالدين في القرآن الكريم

- ‌الإحسان إلى الوالدين في السنة المشرفة

- ‌الدرس: 4 إكرام الضيف

- ‌معنى كلمة الضيف

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في القرآن الكريم

- ‌حقوق وإكرام الضيوف في السنة المشرفة

- ‌إكرام الضيف عند الإمام الغزالي

- ‌الدرس: 5 التغاضي عن الجار ومواساته

- ‌المقصود بكل من: التغاضي - الجار - المواساة

- ‌المواساة بين الجيران من خلال السنة الشريفة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 6 الأخلاق في القرآن الكريم (1)

- ‌الإيثار في كتب اللغة

- ‌الإيثار في السنة وأقوال العلماء

- ‌الدرس: 7 الأخلاق في القرآن الكريم (2)

- ‌الصدق في اللغة

- ‌الصدق في القرآن الكريم والسنة المطهرة

- ‌أهل الصدق في القرآن

- ‌الدرس: 8 الآداب الاجتماعية في القرآن الكريم

- ‌تعريف الأسرة

- ‌الأسس التي بنى عليها الإسلام العلاقة الأسرية

- ‌الدرس: 9 عشرة الرجل مع أهله

- ‌المقصود بالعشرة

- ‌بداية العشرة الزوجية

- ‌الحقوق المشتركة بين الزوجين

- ‌الدرس: 10 الأحكام عند سوء العشرة أو الافتراق

- ‌الأسباب التي أدت إلى سوء العشرة

- ‌الحلول القرآنية للمشكلات الزوجية

- ‌الدرس: 11 أهمية القصة في القرآن الكريم

- ‌المقصود بالقصة وأمثلة لها في القرآن الكريم

- ‌قصة موسى، والدروس المستفادة من قصص القرآن

- ‌الدرس: 12 قصة أصحاب الكهف

- ‌الفرق بين تناول القصة في التفسير الموضوعي، وتناولها في الفن القصصي

- ‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر

- ‌الدرس: 13 قصة صاحب الجنتين

- ‌موقع القصة من الآيات التي سبقتها والآيات التي ستلحقها

- ‌قصة صاحب الجنتين

- ‌الدرس: 14 قصة موسى والخضر

- ‌بين يدي قصة موسى والخضر

- ‌رحلة البحث عن العبد الصالح

- ‌رحلة الأسرار مع العبد الصالح

- ‌علم الله المكنون وكشف الأسرار

- ‌الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر

- ‌الدرس: 15 قصة يوسف مع امرأة العزيز

- ‌بين يدي قصة يوسف عليه السلام

- ‌أحداث القصة

- ‌يوسف مع امرأة العزيز

- ‌الدرس: 16 قصة أصحاب الجنة

- ‌وجه ارتباط قصة أصحاب الجنة بمطلع السورة

- ‌أصحاب الجنة، وعاقبة فعلهم

- ‌الدرس: 17 الأمثال في القرآن الكريم، وتأثيرها على السامعين

- ‌المثل؛ تعريفه، وأهميته، وفوائده

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن في للكافرين، والمشركين، والمنافقين

- ‌أمثلة ضربها الله في القرآن للدنيا

- ‌الدرس: 18 منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله

- ‌الحكمة من خلق الإنسان

- ‌مسلك الأنبياء في تبليغ رسالة ربهم

- ‌الدرس: 19 أوصاف الداعية في القرآن ومسلكه في دعوته

- ‌أهم صفات الداعية

- ‌كيف ينجح الداعية في دعوته

- ‌الدرس: 20 دعوة نوح عليه السلام

- ‌التعريف بنوح عليه السلام ودعوته

- ‌رد قوم نوح عليه وكيفية استقبالهم لدعوته

- ‌الدرس: 21 دعوة إبراهيم وموسى عليهما السلام

- ‌دعوة إبراهيم عليه السلام

- ‌دعوة موسى عليه السلام

- ‌الدرس: 22 دعوة عيسى ومحمد عليهما السلام

- ‌دعوة عيسى عليه السلام

- ‌دعوة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم

الفصل: ‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر

الآية وما فيها من جمال لغوي، وبيان لألوان الهداية والرشاد، وكل هذه الألوان قريبة من بعضها، ولكن التفسير الموضوعي يأتي في قمتها؛ لأن المفسر للقرآن تفسيرًا موضوعيًّا، قد يحتاج إلى عرض آية بما فيها من روعة التعبير، وما تحمله من دروس وعبر.

وقد يعرض للقصة كما يعرض لها كتاب القصة، لكن القصص القرآني ليس فيه مجال لخيال، ولا استنطاق لشخصيات، ولا اختراع لحوارات، فكل شخصية يعرضها هي شخصية حقيقية، يعرفها الزمان والمكان، وكل كلمة تقال هي الصدق بعينه، لا مجال فيها لزيادة أو نقصان، ولذلك قال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ} (آل عمران: 62) وقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) وقال: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (يوسف: 111).

‌قصة أصحاب الكهف وما فيها من العظات والعبر

وعلى هذا سوف أبدأ بتوفيق الله في بيان قصة أصحاب الكهف، والتي بدأت في سورة "الكهف" في الآية التاسعة حيث يقول الله تعالى:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9) ولم ترد كلمة الكهف في القرآن إلا هنا في سورة "الكهف"، معرفة بأل في أربعة مواضع، ومضافة إلى ضمير من كانوا في الكهف في موضعين، أما كلمة الرقيم فلم تذكر أيضًا إلا هنا، وإن كانت قد وردت بصيغة اسم المفعول مرقوم مرتين في سورة المطففين في قول الله تعالى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 8، 9)، {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} (المطففين: 19، 20).

ص: 212

والكهف: غار في الجبل كغار حراء وغار ثور، إلا أن الكهف أكبر من الغار شيئًا، والرقيم: الكتاب، وكتاب مرقوم، أي: مكتوب فيه أسماؤهم.

قال سعيد بن جبير: "الرقيم: لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف، والذي كتب ذلك هم من شاهدوا ما كان من أمر الفتية، أو من جاءوا بعد ذلك، فبقي هذا الأثر شاهد صدق على قدرة الله على بعث خلقه، وعلى ما كان من إخلاص هؤلاء الفتية، الذين فروا بدينهم إلى هذا الكهف".

وللقرآن طريقته في عرض قصصه، فهو أحيانًا يوجزها ويلخصها لتكون بهذا الإيجاز أولًا، قبل بداية الحديث عن تفاصيلها درسًا مجملًا، يؤدي دوره في تثبيت الأهداف العالية التي ذكرت لها القصة، كما نشاهده في قصة أصحاب الكهف، وأحيانًا يذكر أولًا عاقبة القصة ومغزاها، ثم تبدأ القصة بعد ذلك من أولها وتسير بتفصيل خطواتها، وذلك كقصة موسى في سورة "القصص"، ومرة تذكر القصة مباشرة بلا مقدمة ولا تلخيص، كما ترى في قصة مريم عند مولد عيسى عليه السلام وكذلك قصة سليمان مع النمل والهدهد وبلقيس، فانظروا كيف بدأت القصة.

هذا تلخيص موجز تقرؤه في قول الله تعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكهف: 9 - 12).

في هذه الآيات الأربع يقول الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ولكل من يتأتى له الخطاب، من يوم نزول هذه الآيات وإلى آخر الزمان، يقول -جل وعلا- متسائلًا: أم حسبت أن أصحاب الكهف

ص: 213

الذين لبثوا فيه ما لبثوا، فلطول بقائهم فيه سماهم الله أصحابًا للكهف، وهم كذلك أصحاب الرقيم، هذا اللوح المكتوب به أسماؤهم علامة على مكان وجودهم، وما كان من أمرهم، هل تظن وتتوهم وتحسب أن قصتهم، وما حدث من بقائهم في كهفهم مئات السنين، ثم ما كان من بعثهم، وما كان من موتهم بعد ذلك فكانوا آية عظيمة من آيات الله، تدل على قدرته على إحياء المخلوقات بعد موتها.

لكن هذه الآية الباهرة هل تظن أنها أعجب الآيات وأعظمها؟ لا، هناك آيات كثيرة أعجب من ذلك، فانظر إلى ما حولك من السموات والأرض وما فيهما ومن فيهما، وقل لي بربك من خلقهما وخلق ما فيهما، وسخر الشمس والقمر والنجوم والكواكب؟ وما إلى ذلك مما تراه في صفحة هذا الوجود، أليست هذه آيات عظيمة أعجب مما حدث لأصحاب الكهف؟ وقال العوفي عن ابن عباس:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9) يقول: "الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم".

وقال محمد بن إسحاق: "ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم".

لكن البداية بهذا الاستفهام التقريري، تبين أن أمر أصحاب الكهف والرقيم آية من آيات الله، تدعو إلى الدهشة والعجب، وتثير في النفس ألوانًا من التساؤلات، حول كل موقف من مواقف هذه القصة، تساؤلات لا من باب الإنكار، وإنما من باب الإعظام والإكبار والإجلال لهؤلاء الفتية، وما أقدموا عليه وما حدث لهم، ثم يأتي الحديث عنهم في قوله:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف: 10) فكأنه لما ذكر أنهم آية عجيبة

ص: 214

من آيات الله، كان السؤال: وماذا كان من أمرهم؟ فجاءت الإجابة: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (الكهف: 10)

أي: اذكر هذا الذي حدث لما فيه من العبرة والعظة، وقد سماهم ووصفهم بأنهم فتية، فدل ذلك على أنهم كانوا في مرحلة الشباب، فالتعبير بقوله:{أَوَى} ، ما يرشدك إلى أن الكهف مع ظلمته وضيقه وبعده عن العمران، وخلوه من كل ألوان الترف والنعيم، كان بالنسبة لهم مأوى ضمهم فأحسوا فيه بالراحة والسكينة، وما إن استقروا فيه حتى توجهوا إلى ربهم بهذا الدعاء الضارع: ربنا آتنا من لدنك رحمة ترحمنا بها، وتحفظنا من كيد أعدائنا، وتلهمنا بها رشدنا وتلم بها شعثنا، وترد بها الفتن عنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدًا، أي: اجعل عاقبتنا خير عاقبة فيها الخير كله.

وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تعلمون: ((اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وتوفنا على الإسلام والإيمان وأنت راضٍ عنا)) فانظر إلى هذا الإيمان الذي استولى على قلوب هؤلاء الفتية، حتى جعلهم يتركون النعيم والمتع، ويلجئون إلى غار في الجبل، ويسألون الله أن يهب لهم رحمة من لدنه، وأن ييسر لهم أمرهم وأن يجعل عاقبتهم حميدة كريمة.

ثم يقول تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} (الكهف: 11) فدلت الفاء في قوله: {فَضَرَبْنَا} ، على أنهم بمجرد دخولهم ناموا؛ لما بذلوه من جهد في الوصول إلى هذا المكان، الموحش البعيد عن العمران، وفي نومهم هذا ما يرشدك إلى ما وجدوه من السكينة وراحة النفس، لما كان منهم من انتصار على نفوسهم، وضعفها في مثل هذه المواقف، ولما ألهمهم الله من الهداية والتوفيق.

ص: 215

فلما ناموا ضرب الله على آذانهم، أي: ألقى الله عليهم النوم فناموا، ولكن نومهم طال أمده فلم يكن يومًا أو بعض يوم، إنما ناموا سنين عددًا، سيذكرها لنا بعد ذلك، وبعد مرور هذه السنين على نومهم بعثهم الله؛ ليظهر ما في علم الله من آياته، التي تتضح للمختلفين في أمرهم؛ حتى يعلموا من الذين أحصى مدة بقائهم في الكهف، وبالتالي من الذي ضرب عليهم النوم كل هذه السنوات، ثم من الذي أحياهم، ثم من الذي أماتهم، ومن فعل ذلك قادر على أن يبعثهم مرة أخرى، بل وقادر على أن يبعث عباده بعد موتهم.

وبعد هذا الإيجاز في القصة تبدأ أحداثها بقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) الآية، وإذا تأملت في الآية التي بدأت بها القصة، والتي لخصتُها ولخصتْها الآيات، ثم ما جاء من الآيات بعد ذلك، لوجدت أنها ترتبط بالمحور الذي تقوم عليه آيات هذه السورة، وتدور في فلك الموضوع الذي نزلت الآيات لشرحه وتوضيحه، ولعلمت أنها جاءت تحقق الهدف الذي تقصده الآيات، فليست المسألة مسألة قصة تروى أحداثها لتكون متعة للنفس، ومجالًا للتسلية، إنما هي قصة تساق لتحقيق أهداف وغايات عظيمة، جاءت آيات السورة كلها تؤكدها وتحققها.

وفي مقدمة هذه الأهداف توحيد الله عز وجل وأن الإيمان هو القيمة العالية التي لا يعدلها شيء من حطام الدنيا، وأن الإنسان عليه ألا يتخبط في متاهات الباطل، إنما يجب عليه أن يقيم فكره وحياته على علم ويقين، لا على جهل وعمى، ولذلك بعد أن ذكر الله في الآيات الثمانية الأولى، التي تسبق قصة أصحاب الكهف، ما ذكر من ثنائه على رسوله بأنه عبده الذي أنزل عليه الكتاب، وأن هذا الرسول جاء مبشرًا ونذيرًا، وأن إنذاره لمن قالوا بأن الله اتخذ له ولدًا، ليكون

ص: 216

هذا الولد إلهًا يعبد معه أو من دونه، وهذا القول لا دليل عليه عندهم ولا عند آبائهم من قَبل. قال تعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (الكهف: 5).

وهنا يواسي ربنا رسوله وهو يعاتبه على حزنه لعدم إيمانهم، حتى ليكاد يقتل نفسه حزنًا عليهم، فيذكر له أنه -جل وعلا- جعل ما على الأرض زينة لها، اختبارًا لمن على وجه الأرض؛ ليظهر من شكر ومن كفر، ثم تكون النهاية بانتهاء الحياة وبعث الناس والحساب، وهنا سوف يكون حساب الله لهؤلاء الجاحدين المنكرين، بعد هذه الآيات تأتي قصة أصحاب الكهف تقرر هذه المعاني وتؤكدها، فتذكر أن الفتية آمنوا بالله الواحد الأحد فقالوا:{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف: 14).

وفي نهاية القصة تقرأ قول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 26) فهذا تقرير للوحدانية كما ترى إعلاء قدر الإيمان في أول آية في القصة: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} (الكهف: 10) فقد تركوا النعيم وزينة الحياة الدنيا وأحسوا بالراحة في الكهف، واتجهوا لربهم يدعونه بهذا الدعاء، الذي يحمل الكثير من حسن الإقبال على الله.

وهذا أيضًا ما تقرؤه في قول الله تعالى: {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (الكهف: 16)،

ص: 217

وفي مقابلة قوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} (النجم: 28) وأن العاقل لا ينطق ولا يعتقد إلا فيما قام عليه الدليل يأتي قوله في القصة: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الكهف: 15) ويأتي قوله فيمن يخوضون في عددهم: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 22).

وفي تفويض ما ليس للإنسان به علم إلى الله العليم الخبير، وهذا ما قاله الفتية حين استيقظوا من نومهم وتساءلوا كم لبثتم؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) ففوضوا علم ذلك إلى الله، وما قاله أيضًا مَن تذاكروا أمر الفتية، واختلفوا في أسمائهم وأحوالهم، وكم لبثوا في كهفهم فقالوا: ربهم أعلم بهم، ويمكن أن يكون هذا ردًا من الله على هؤلاء المتنازعين في أمرهم، وأن البحث في ذلك لا فائدة فيه، فليفوضوا علم هذا إلى الله وحده.

وفي آيات القصة النهي عن المراء والجدال فيما لا طائل تحته: {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا} (الكهف: 22) كما تقرأ تأكيدًا لقيمة إقامة فهم الإنسان ووقوفه على أرض الحقيقة، قبل أن يقول قولًا أو يعتقد اعتقادًا، تقرأ قوله:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} (الكهف: 26).

أرأيتم كيف جاءت آيات قصة أصحاب الكهف، تؤكد جملة من الحقائق وردت بها الآيات الأولى في السورة، فكانت مدخلًا للقصة تدل على براعة الاستهلال في القرآن

ص: 218

الكريم، ويبين لماذا أعجز هذا القرآن الفصحاء والبلغاء من يوم نزوله، إلى وقت الناس هذا، وسوف يظل كذلك إلى آخر الزمان، والآن إلى قصة أصحاب الكهف، فماذا فيها من حسن العرض وتوفية الغرض، وماذا فيها من الدروس النافعة والعظات البالغة؟.

إنها تُعرض في فصول متتابعة، لا على طريقة ما تراه في بناء القصة في غير القرآن، لكنها فصول ومراحل وفقرات تنساب في الوجدان، دون أن تلمح أثرًا لنبوة أو توقفًا أو انتقالًا من فصل إلى فصل، أو من مرحلة إلى مرحلة، إنما هي آيات تترى عذبة المعاني، حلوة الكلمات، في ألفاظها جمال اللفظ وروعته، تنتقل مع هذه الآيات في مراحلها، حتى توقفك في النهاية عند نهاية القصة، فتكشف لك اللثام عن نهاية كنت تنتظرها، وتتساءل عنها، فإذا بها تراها مشرقة في القلب والعقل، بكل ما في القصة من عبر ودروس، أراد الله أن نتعلمها وأن ننفعل بها لتكون لنا درسًا نافعًا وعظة بالغة.

لقد بدأ الشوط الأول في القصة بالتشويق، كما ذكرنا في هذا السؤال الذي يربط مطلع القصة وما فيها من أحداث، بما سبق في السورة من آيات، ذلكم حيث يقول ربنا:{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} (الكهف: 9) فهناك ما هو أعجب من ذلك فيما تراه كما قلنا من الآيات البينات، التي أوحيناها إليك في طريقة إنزالها ومجيء المَلك بها، وما فيها من ألوان الإعجاز البلاغي والغيبي والعلمي والتاريخي، وما إلى ذلك مما يدل على أنها من لدن العليم الخبير، وأنك رسول الله الذي أرسله للناس بشيرًا ونذيرًا.

وهناك ما هو أعظم في التعجب منه من أمر أصحاب الكهف والرقيم، فيما تشاهده من آيات الله المبثوثة في الأنفس والآفاق، وبهذا التشويق تبدأ القصة،

ص: 219

فيلخصها القرآن في ثلاث آيات، يبين فيها أن فتية فروا إلى الله بدينهم، إلى كهف في جبل، وأنهم أخذوا في دعاء الله أن يهب لهم من عنده رحمة، وأن يهيئ لهم من أمره رشدًا، وأنهم ما إن دخلوا إلى الكهف حتى ناموا، فألقى الله النوم عليهم، وأبقاهم في نومهم سنين عددًا، سوف يكشف لنا في نهاية القصة عن عدد هذه السنين، وبعد هذه القرون التي كانوا فيها نيامًا، بعثهم الله من رقدتهم وأخبر بحقيقتهم، وبين مدة بقائهم في كهفهم، كما قال تعالى:{ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (الكهف: 12).

يقول ابن عطية: "والظاهر من الآية أن الحزب الواحد الفتية، أي: ظنوا لبثهم قليلًا، والحزب الثاني أهل المدينة الذين بُعث الفتية على عهدهم حين كان عندهم التاريخ بأمر الفتية، وهذا قول الجمهور من المفسرين".

وقصة أصحاب الكهف التي بدأت هذه البداية جاءت معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في جملة ما أخبر به، مما لا سبيل لمعرفته إلا عن طريق الوحي، كما أن المناسبة التي ذكرت من أجلها تبين مدى ما كان عليه اليهود من مكر ودهاء وصد عن هذا الدين، مع أنهم يعلمون أنه حق، ويقرءون في التوراة والإنجيل أن هذا المبعوث هو رسول الله حقًّا، كما قال تعالى في المتقين بأنهم:{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} (الأعراف: 157).

إذ ورد في سبب النزول أن قريشًا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة؛ ليسألوهم عن محمد وصفته، فإن اليهود في نظر قريش أهل الكتاب الأول، وعندهم من العلم ما ليس عند قريش، فماذا كان من أمر أحبار اليهود حين

ص: 220

سئلوا عن ذلك؟ قالوا: "سلوه عن ثلاث: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإن حديثهم عجب، وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح ما هي؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي وإلا فهو مُتَقَوِّل". أي: يقول كلامًا كذبًا.

فلما جاءا وأخبرا قريشًا بما قال لهما أحبار اليهود، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:((أخبركم بذلك غدًا)) ولم يقل: إن شاء الله، فلبث الوحي خمسة عشر يومًا لا ينزل عليه بذلك، مما أثار الأقاويل كيف كان يقول: سأخبركم غدًا، وها هو ذا لم يأته خبر بذلك طوال هذه الأيام، ونزل القرآن بعد هذا الغياب يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24).

وجاءه خبر ما سألوا عنه، فذكر الله في سورة "الكهف" قصة أصحاب الكهف، كما ذكر الرجل الطواف بالمشارق والمغارب وهو ذو القرنين، وذكر في الإسراء إجابة سؤالهم عن الروح فقال:{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} (الإسراء: 85).

فدل هذا التأخير في نزول الوحي على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يقول هذا القرآن من عنده، وإنما هو وحي الله إليه، كما دل نزول هذه الآيات بإجابة المشركين، على عناية الله برسوله، حيث رد كيد اليهود في نحورهم، وأحبط خطة قريش في محاولتها إحراج رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الواجب على من سألوا عن ذلك، وشاهدوا صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفيئوا للحق، وأن يعلنوا اعترافهم به، وأن يكونوا من حماته والمصدقين به، ولكنهم لم يسألوا ليؤمنوا، وإنما سألوا كبرًا وعنادًا، فلم تنشرح صدورهم للحق وظلوا في غيهم وكفرهم سائرين.

ص: 221

وتبدأ القصة بعد هذه المقدمة، بكلمات تنبئ عن الحقيقة سافرة مضيئة، كالشمس في رابعة النهار، فيقول عز من قائل:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ} (الكهف: 13) فدل قوله: {نَحْنُ} ، وقوله:{نَقُصُّ} ، بنون المعظم لنفسه، على أن الذي يذكر ذلك هو الله العظيم، المتصف بكل صفات الجلال والكمال، فما يخبر به منبثق من باب العليم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علمًا، وفي توجيه الخطاب من الله لرسوله في قوله:{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} (يوسف: 3) إيناس له وعناية به وتطمين لقلبه.

وبخاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في مكة لا دولة له ولا سلطان، كان هو وأصحابه يلقون العنت والإيذاء من كفار قريش، وكان عليه الصلاة والسلام وأصحابه ممنوعين من رد هذا الإيذاء ولو بكلمة، فكانوا وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة إلى هذا التطمين وذلك الإيناس.

أما قوله: {نَبَأَهُمْ} ، فهو دليل على أن هذا ليس مجرد خبر يقال، إنما هو نبأ عظيم وقصة فيها الكثير من الدروس النافعة، ومما يضيف إلى ما سيذكره ربنا من نبئهم قوله: بالحق، فالحق لُحْمَته وسُدَاه وبدايته ونهايته، كل كلمة يقولها سبحانه صادرة من جناب الحق، لا مجال فيها لتزوير أو تلفيق أو كذب، أو أخبار وأقوال مِن نسج الخيال، كما قال ربنا:{وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} (الإسراء: 105) وكما قال: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} (الأنعام: 57).

فما أعظم هذه البداية، التي تجعلك تلقي السمع لما سيقصه الحق -جل وعلا- من نبأ هؤلاء الفتية، وبدأت القصة وما زلنا في شوطها الأول وبدايتها، فتصف هؤلاء بأنهم فتية، وقد سبق في مطلع القصة هذا الوصف في قوله:{إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} (الكهف: 10) وقد تبين لنا من هذا الوصف أنهم شباب في سن الفتوة والقوة، وهذا يرشدنا إلى أن الشباب أقرب إلى التغيير والتحول،

ص: 222

بخلاف الطاعنين في السن الذين ألفوا ما هم عليه، ويصعب تغييرهم إلى الأحسن أو إلى طريق الرشاد، مما ينبه الدعاة إلى توجيه همتهم إلى الشباب، فهم الذين يستقبلون الدعوة بالاستجابة والإيمان بها، وعلى سواعدهم تبنى الأمم وتنهض الشعوب.

وقد وصف الله هؤلاء الفتية بأنهم آمنوا بربهم، وأن الله بفضله زادهم هدى، ولكم تشعرون معي بما في اختيار لفظ الربوبية، وإضافتها لضميرهم في قوله:"آمنوا بربهم"، من إحساس هؤلاء الفتية بربوبية الله لهم، والربوبية تعني كما تعلمون: العطاء بكل ألوانه، وفي مقدمة عطاء الله هدايته وتوفيقه، وقد كان لهم من ذلك النصيب الأوفر، وهذا ما يوحي به إسناد زيادة الهدى لله بأسلوب نون العظمة، وتنكير كلمة "هدى" التي يفيد التعظيم والتكثير، وأنه هدى لا يُقادَر قدره، إذ بلغ من العظمة منتهاها ومن الخيرات أعلاها.

وفي إطلاق الهدى ما يرشد إلى إحاطة هداية الله لهم بكل أمورهم وحياتهم، وأمر آخر في قصة هؤلاء هو أن الله قال:{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: 14) والربط على القلوب تصوير لتوثق عرى الإيمان في قلوبهم، وكأن الإيمان بالله حين أودعه الله في قلوبهم ربط عليه برباط محكم، فلا سبيل لحله وإخراج الإيمان من هذه القلوب، وكان هذا الربط على قلوبهم في موقف يحتاجون فيه إليه، إنهم حين نما خبرهم في المدينة استدعاهم الملك دقيانوس، وكان ملكًا جبارًا يدعو الناس إلى عبادة الأصنام، فسألهم: من ربكم؟ قالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الكهف: 15).

ص: 223

فأمهلهم مدة ليراجعوا أنفسهم، فتمكنوا من الفرار، وساروا في الجبال بعيدًا عن هذه المدينة، وما فيها من كفر وضلال، إلى أن وجدوا هذا الكهف فدخلوا فيه، وكان من أمرهم ما كان، ألا ترون هذا الموقف الشجاع لهؤلاء الفتية، لم يكتموا إيمانهم ولم يجاملوا الملك فيما هو فيه من عبادة غير الله، إنما أعلنوها صيحة مدوية أمام الملك، وحوله حاشيته وجنده وأتباعه، من الذي يطيق ذلك إلا الأفذاذ من الرجال، الذين استولى الإيمان بالله الواحد الأحد على أفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم، فلم يبالوا مَلكًا ولا مُلكًا ولا سلطانًا ولاة قوة من قوى الأرض، مهما عتت وبغت.

وفي قولهم: {رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (الكهف: 14) إحساس عظيم بربوبية الله لهم وعظيم عطائه إليهم، وهيمنته وتصريفه وحده لأمورهم، وأن ربهم الذي عرفوه فعبدوه هو رب السموات والأرض، فجميع ما فيها ومن فيها، بل السموات نفسها والأرض نفسها ملك له وحده، ملكًا وتصريفًا وتدبيرًا، وما دامت هذه ربوبيته لنا وللسموات والأرض، فلن ندعوا من دونه إلهًا، فوصلوا بهذا من توحيد الربوبية إلى توحيد الألوهية، والتي هي محل النزاع بين الرسل وأممهم عبر مراحل التاريخ، فكثير من الأمم يعترفون بالله ربًّا خالقًا رازقًا، ولكنهم لا يفيئون له بالعبودية والطاعة والمحبة، فيشركون معه أو يعبدون من دونه آلهة أخرى لا تضر ولا تنفع.

وهذا الذي كانت عليه أمم الأرض في الفصل بين الربوبية والألوهية، مخالف للعقل والواقع، ومن يفعله فقد اشتط في الحكم، وبنى القضية على غير أساس، ولهذا قال هؤلاء الفتية:{لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} (الكهف: 14) ثم قالوا للملك: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} (الكهف: 15) فبينوا للملك

ص: 224

وحاشيته بأن قومهم قد أشركوا بالله آلهة لا تستحق العبادة، وأن هذا الذي فعلوه لا يستطيعون أن يأتوا بدليل واحد على صحته، وبالتالي فهم قد ظلموا أنفسهم، وظلموا خالقهم حين عبدوا معه آلهة أخرى لا دليل عليها، ولهذا قالوا:{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} (الأنعام: 144) وكم في هذا التعبير القرآني في القصة من أسرار لا يتسع الوقت لبيانها.

وخرجوا من ساحة الملك وأعوانه للمهلة التي أعطاهم الملك ليراجعوا أنفسهم، فقال بعضهم لبعض:{وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (الكهف: 16) فتواصوا فيما بينهم أن يخرجوا من مدينتهم، بكل ما فيها من البهجة والأنس، إلى حيث لا يعرفهم أحد، بأن يأووا إلى الكهف، وكأن هذا الكهف كان معروفًا لهم من قبل، يعرفون موقعه وأنه في مكان لا يصل إليه أحد، فلن يعرف أحد مكانه، وقد أحسوا قبل أن يصلوا إليه ببرد قرارهم هذا، وسرت نسمات السعادة في جوانحهم، وقالوا:{فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا} (الكهف: 16).

فالكهف على وحشته وضيقه، وخلوه من كل أسباب الراحة، تنتشر في جنباته رحمات الله، فيشعرون بها، وكم هناك ممن يسكن في القصور والأبراج العالية، فلا تغنيه عما هو فيه من هموم، فيظل ليله ساهرًا لا تطرف له عين، في سهاد وأرق وتعب، وكأن هذا القصر بغرفه الفسيحة وصالاته الواسعة سجن لا يطيق البقاء فيه، وكم من أناس يعيشون في الأكواخ والبيوت الفقيرة، التي خلت من كل متاع، تراهم ينامون الليل ملء جفونهم، وهم راضون عما قسم الله لهم.

وفي التعبير بالفعل المضارع في "ينشر" و"يهيئ"، دليل على التجدد والحدوث، وأن الله سينشر لهم رحمته في الحال والمآل، وأنه سيهيئ لهم من

ص: 225

أمرهم مرفقًا، أي: أمرًا فيه الرفق بهم، والعناية بأمرهم حالًا ومآلًا، فهو رجاء منهم وثقة في فضل الله لهم وعليهم، لما كان منهم من إخلاص له وعبودية له ومفارقة لقومهم.

وإلى هنا تنتقل القصة إلى مشهد آخر، بعد أن تترك مساحة للعقل ليتدبر ويتساءل: ماذا كان من أمرهم؟ فيتصور أنهم لما قالوا ذلك وعزموا عليه، ولم تكن أمامهم فرصة للبقاء في المدينة، وهم على دينهم دين التوحيد لله رب العالمين، وأن الملك قد أمهلهم فترة ليرى ماذا سيصنعون، لا بد لهم إذًا من تنفيذ قرارهم على وجه السرعة حتى لا ينالهم سوء، فخرجوا ووصلوا إلى الكهف، ويبدو أن المسافة بين المدينة والكهف كانت شاسعة، فوصلوا إليه مجهدين، وما إن مست جنوبهم الأرض في الكهف حتى ضرب الله النوم عليهم، فعند ذلك تترك القصة المجال لكل هذه المشاهد لتصورهم في كهفهم وهم رقود، يغطون في نومهم، فتقول:{وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} (الكهف: 17) الآية والتي بعدها.

وتعجز آلات التصوير وفنانو الإخراج عن تصوير هذا المشهد، وإخراجه بهذه الطريقة الفذة التي صورها القرآن وأخرجها، فالآيتان تخاطب كل من يتأتى له الخطاب، وكأنها تضع الإنسان أي إنسان في كل زمان ومكان، أمام هذا المشهد، فتتجه بالخطاب إليه وتقول:{وَتَرَى الشَّمْسَ} (الكهف: 17) أي: إذا كنت حاضرًا عند هذا المكان، فإنك ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه، فباب الكهف كان مفتوحًا إلى جهة الشمال، فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على شماله، فضوء الشمس لم يكن يصل إلى داخل الكهف، إنما يصل إليه الهواء العليل، ذلك الذي كان دليل قدرة لله سبحانه وتعالى، فذلك آية من آيات الله؛ إذ

ص: 226

حفظ أجسامهم وثيابهم ومناظرهم من البلى والتعفن كل هذه القرون، فسبحان الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.

ويقال بأن الشمس إذا طلعت منع الله ضوءها من الوقوع عليهم، وكذلك وقت الغروب، فكان هذا آية من آيات الله، وتعليقًا على هذا الجزء من المشهد يقرر الله أن ذلك آية من آياته، كما يقرر أن الهداية بيده، فكما هدى هؤلاء الفتية إلى طريقه، يهدي من يشاء من عباده، ومن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا.

ثم ينتقل المشهد لتصويرهم في كهفهم، بأنك لو رأيتهم ونظرت إليهم، يخيل إليك أنهم متيقظون، فقد قيل بأن عيونهم كانت مفتوحة ولم تنطبق؛ لئلا يسرع إليها البلى، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها، ولكن الإله القادر على حفظ أجسادهم وملابسهم وهيئاتهم، قادر على حفظ أعينهم وإن كانت غير مفتوحة.

وزيادة في حفظهم يقول: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ} (الكهف: 18) لئلا تؤثر الأرض في أجسامهم، وقد أضاف للمشهد صورة لكلب كان قد تبعهم، فنام في فناء الكهف كأنه على بابه كما تنام الكلاب:{بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} (الكهف: 18) فقد جعل الله هذا المنظر مشهدًا لأناس نائمين أعينهم مفتوحة، وكلبهم ماد وباسط ذراعيه بمدخل الكهف؛ ليكون هذا المنظر سببًا في رد وصد كل من حاول أن يقتحم هذا المكان، ليعرف ما فيه حتى يتم الله أمره.

وينتقل المشهد إلى مشهد آخر، ويترك القرآن مساحة للمشاهدين ليتساءلوا: ماذا كان من أمر هؤلاء، الذين ضرب الله النوم عليهم فناموا على هذه الهيئة المرعبة المخيفة، هل ما زالوا إلى الآن كذلك؟ هنا يخبرنا الله عما كان من أمرهم، لقد رد

ص: 227

الله أرواحهم إليهم شأن النائم إذا استيقظ، والله يقول:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الزمر: 42).

وتصور كلمات الآيتين في هذا المشهد حالهم بعد أن قاموا من نومهم، وأنهم أخذوا يتساءلون فيما بينهم:{قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} (الكهف: 19) وهنا يبدو أثر الإيمان في اهتمام أصحابه بالمفيد، وترك ما لا دليل عليه لله وحده، ولذلك قالوا:{رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} (الكهف: 19) ولما استيقظوا وجدوا أنفسهم في حاجة إلى الطعام، وكان معهم بعض المال الذي حملوه معهم إلى الكهف، فطلبوا أن يذهب واحد منهم بما معه من المال:{فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا} (الكهف: 19، 20).

وذهب هذا الذي أرسلوه ليشتري لهم طعامًا، ولكن أمره قد انكشف وأُخذ إلى الملك، فذكر له ما كان من أمرهم، وعلم هذا الرسول أن الملك قد تغير أمره، ولم يعد هو الملك الكافر، إنما هذا ملك مسلم، فذهب الملك ومعه حاشيته إلى مكان الكهف، ورأوا هؤلاء الفتية، ولما رأى هؤلاء الفتية ورآهم من معه، ألقى الله سبحانه وتعالى مرة أخرى النوم على هؤلاء الفتية، ولكن هذا النوم هذه المرة ليس كسابقه، إنما هو موتهم وقبض أرواحهم، كما يموت كل الناس، ولذلك قال ربنا:{وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} (الكهف: 21) فقد اختلفوا في أمر هؤلاء الفتية، فوصل قرارهم بأن يقيموا على هؤلاء مسجدًا يكون علامة على وجودهم.

وهنا تكون قد انتهت القصة، ولكن الله يتبعها ببعض الدروس والعبر، فيذكر أقاويل الناس في عدد هؤلاء الفتية، فيقول: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ

ص: 228

وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} (الكهف: 22) فرجح سبحانه وتعالى أن عدد هؤلاء كانوا سبعة، وأوصى رسوله عليه الصلاة والسلام وقال له: فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرًا ولا تستفت فيهم منهم أحدًا؛ لأن معرفة هذا العدد لا فائدة منه، كما يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يجعل كل شيء مرهونًا بمشيئة الله، فقال:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا * إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِي رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} (الكهف: 23، 24).

ثم بين لنا مدة مكثهم في كهفهم فقال: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} (الكهف: 25) فجمع بين التقدير بالسنين القمرية والسنين الشمسية، ومع ذلك قال:{قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} (الكهف: 26).

هذه هي قصة أصحاب الكهف ملخصة موجزة.

والحمد لله رب العالمين.

ص: 229